التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
مقاربة منهجية*
أ. الحسان شهيد**
أولا: مقدمات أساسية
المقدمة الأولى: في اختيار العنوان المناسب
بعد الفراغ من رسم المعالم الكبرى لهذه الورقة ملكتني حيرة وساورني تردد في البحث عن عنوان يليق بها، فاخترت في البداية “حاجة العلوم الإسلامية إلى مناهج العلوم الاجتماعية”، فاحترزت منه للفصل بين النوعين بصفة الإسلامية من جهة دلالة افتقار الأولى إلى الاجتماعية، ثم غيرته إلى “التكامل المعرفي بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية”، إلا أنه لم يكن مظنة ارتياح لدي لسحب صفة الشرعية عن الاجتماعية، وغياب الاجتماعية عن الشرعية، وهكذا إلى أن استقر رأيي على عنوان “التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون، مقاربة منهجية معرفية”، لثقتي أن العلوم كلها معارف مطلوبة إما بالقصد الأصلي أو بالقصد التبعي، وإما بالواجب الضروري أو بإتمام الواجب بحسب الاختصاص، وكلما أسندت خدمة للمعرفة الإنسانية فهي كذلك بصرف النظر عن اختصاصها المجالي وحيا كان أو كونا أو إنسانا.
المقدمة الثانية: في ضرورة التكامل المعرفي
إن التكامل المعرفي كما كان في العصور الأولى لتأسيس المعرفة الإسلامية، والذي تجسد خصوصا في العقل الموسوعي الشامل لشتى المعارف؛ أي الفقيه المجتهد المبنية ثقة إنتاجه الاجتهادي على شرط الإلمام بعلوم متنوعة، منها ما يتعلق بالوحي ومنها ما يرتبط بالمكلف ونفسيته، ومنها ما يتعلق بالواقع المعيش ومتغيراته الإنسانية، فإنه قد أضحى ضرورة ملحة والحاجة إليه واردة خصوصا في العصر الحاضر المتسم بالتطور السريع والمتشعب بتعدد التخصصات الدقيقة، ومن هنا وجب التأكيد على هذا التكامل ليس من باب استفادة علوم المجال النصي من علوم المجال الكوني والإنساني فحسب، بل من باب إمداد تلك العلوم الأخرى بأدوات ومناهج وكليات المعرفة العلمية في مجال الوحي.
المقدمة الثالثة: في علل المعرفية للبناء التكاملي
تقوم هذه المقدمة على العلل المعرفية للبناء التكاملي للعلوم المختلفة، أي أن هناك دواع تتراوح بين الضرورة الوجودية والحاجات الإنسانية في إجراء ثورة علمية على مستوى الإمداد والاستمداد بين مختلف العلوم، بحيث لم يعد هناك متسع من التفكير في مدى الاستعانة بعلوم أسدت خدمات عظمى للعقل الإنساني، كالمعرفة الاجتماعية السوسيولوجية، والمعرفة النفسية السيكولوجية، وكذا التاريخية، وقد وجبت الاستفادة من مناهج النظر والقراءة المختلفة لنجاعتها في الرصد والتتبع، بداعي المنفعة والمصلحة المتحققة للإنسان في الكون، كما أن التناسب الكبير الذي يظهر بين العلوم المختلفة يلزم استثماره في قراءة العلوم النصية.
ثانيا: في بيان مفهومي:
1- في مفهوم المنهج: METHODE
وردت كلمة منهج في القرآن الكريم بصيغة منهاج، وذلك في قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)[1] ولهما نفس المعنى، إذ المنهاج هو الطريق الواضح في الدين[2]، وجاء في الإتقان أن نافعا سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن قوله تعالى: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)[3]، قال: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهو يقول:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى وبين للإسلام دينا ومنهاجا[4].
وقال العز بن عبد السلام: “الشرعة والطريق والسبيل والصراط والشاكلة والمنهاج بمعنى واحد، وهي الطرق، ويعبر عن كل عمل أدى إلى خير أو شر”[5].
وقد تطور لكلمة منهج، من الدلالة على الطريق المرسوم حسب تركيبته المادية، أو المسلك المعتمد في بلوغ غاية معينة أو هدف محدد إلى دلالات أخرى.
والمنهج بحسب المفهوم الاصطلاحي تتقاطع فيه أربعة أبعاد تشكل دلالته الاستعمالية، فهو يدل:
أ: على الأساس، أي المنطلق العلمي المعتمد عليه في معالجة الموضوع قيد الدراسة، أو يعني نمطا من أنماط تفسير الأمور، ومعالجة القضايا المعقدة التي تحتاج إلى تحليل ودراسة، فيلجأ إلى منهج من المناهج المناسبة في تحقيق ذلك، ومثال ذلك المنهج الاستنباطي والمنهج الاستقرائي أو القياسي أو الرياضي..
ب: على المسلك، أي الطريق المعتبر في الاستدلال والنظر في مباحث وقضايا الموضوع. وكذا الشاكلة العلمية المستند إليها في تناول موضوعات البحث بشكل عام، بمعنى هو “الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته، حتى تصل إلى نتيجة معلومة”[6].
جـ: على الخلفية المذهبية والخصائص المرجعية التي تحكم اتجاهات النظر وأدبيات البحث في الموضوع، يقول محمد محمد أمزيان: “المنهج حسب هذا السياق يعني العقل الذي تشكل وتكون عبر سيرورة تاريخية، حتى أصبح مع الزمن سلطة يفرض نفسه في كل مجال من مجالات المعرفة”[7].
د: الغاية والمقصد أي الكليات الكبرى المقصودة بالدراسة العلمية والأبعاد القيمية المرامة من البحث.
فيكون مفهوم المنهج المقصود على سبيل الإجمال، هو: ذلك التصور العام الذي يحكم البحث في الموضوع إلى جانب الأسس المستند إليها والمسالك العلمية المعتبرة في دراسته.
2- في مفهوم علوم الوحي:
والمقصود بعلوم الوحي تلك العلوم الناظرة في النصوص الشرعية أي الوحي سواء كان قرآنا أو سنة، ونتجت عنها علوم متعددة لصيقة بها كعلم الفقه والأصول والحديث والتفسير والكلام وما شاكلها من العلوم.
3- في مفهوم علوم الكون:
المقصود بعلوم الكون، هي العلوم الباحثة في الظواهر الخاصة بالكون بما فيها الإنسان وغيره من المخلوقات وكذا الطبيعة، أي العلوم الطبيعية والنفسية والاجتماعية بكل أصنافها دون تحديد متعين، بما في ذلك علم التاريخ أو العمران أو علم الاجتماع أو السوسيولوجيا بأنواعها، الاجتماع البشري أو الاجتماع السياسي أو علم النفس سواء التربوي أو الإنساني.
4- في مفهوم التكامل العلمي:
يعنى بالتكامل العلمي ذلك التمادد في الخدمات والتبادل في المنافع العلمية بين العلوم، أي هو ما يعبر عنه بثنائية الإمداد والاستمداد في كل علم مستند إليه في بناء معرفة مفيدة؛ تعود على الإنسان والكون بالصلاح والنفع.
ثالثا: الاجتهاد والتكامل المؤسساتي
إذا أجمعت الدوائر العلمية المختصة على ضرورة اللجوء إلى الاجتهاد المؤسساتي على المستوى الفقهي، والبحث عن الأحكام الشرعية المناسبة للوقائع المتجددة، فإن حاجة أصول الفقه المعاصر إلى ذلك التكامل المؤسساتي أضحى من باب أولى، بالنظر إلى خطورة ذلك المجال التقعيدي في تقوية الاجتهاد الفقهي وتأهيله والاستناد إلى مبادئه وتقريراته.
ولأن الوقت المعاصر أصبح زمن التخصصات الدقيقة والمتعددة المعتمدة على المناهج العلمية التحقيقية، فإن العلوم الإسلامية محتاجة أكثر من غيرها إلى الاستفادة من تلك العلوم، لأنها تمس مواقع الوجود البشري لاتصافها بالسمة العلمية وارتباطاتها المباشرة بالواقع الإنساني، ولا ريب أن هذا أمر يحتاج تحقيقه إلى جهد جماعي متضافر عليه[8].
لذلك فإن الأصل في هذا الضابط العلمي والمنهجي هو عالم الفقه وأصوله، وغيره من علماء باقي التخصصات الذين يشكلون معه مؤسسة تجديدية يستمد منهم العون في تأسيس القواعد والمبادئ على نحو سليم؛ يراعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والمتغيرات الطارئة العارضة للإنسان المعاصر، وهذا لا يشكل أبدا تعارضا مع ضابط التخصص، “فالواقع المعاصر اليوم يعرف تطورا كبيرا في العلوم بقسميها الإنساني والطبيعي، والفقيه في أمس الحاجة إلى معرفة هذه العلوم في بناء فتاويه واجتهاداته، وإذا استعصت عليه هذه المعرفة كان من الواجب عليه الاستعانة بالعلماء المتمكنين بمجال تخصصهم”[9]، كما أن حضور باقي التخصصات التي تشكل مؤسسة التجديد الفقهي إنما هو حضور عون واستعانة واستمداد؛ في إطار التكامل العلمي بين علم الفقه وباقي العلوم الأخرى، على مستوى التقعيد والتأصيل “فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما للأول وفي استنباط الأحكام ثانيا، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط، فلذلك جُعل شرطا ثانيا، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة، لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها، وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها، وتارة يكون غير حافظ ولا عارف إلا أنه عالم بغايتها، وأن له افتقارا إليها في مسألته التي يجتهد فيها بحيث إذا عنَّت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة، فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث والشافعي في علم الأصول فلا إشكال، وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي وأبي حنيفة في علم الحديث فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده؛ وإن كان القسم الثالث فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك فكالثاني وإلا فكالعدم”[10].
ولا بد، إذن، من ضرورة الاعتبار للوضع العلمي المعاصر، الذي يقوم على العمل “المؤسسي”؛ لعدم قدرة النشاط الفردي على إتمام مهامه المنوطة به، والاجتهاد أولى بذلك الاجتماع في الأفكار والآراء في صيغة مؤسسة علمية تضم مختلف التخصصات العلمية المعاصرة، تهتم بالتخريجات الاجتهادية؛ وذلك لتشعب الاختصاصات العلمية من جهة، ولما يترتب عن كل اجتهاد فقهي من آثار في حياة الفرد والمجتمع ككل؛ “ذلك أن المجتهد المطلق لم يعد موجوداً، كما أنه لم يعد من المنتظر وجوده، وإنما الذي يوجد الآن أو يتصور وجوده هو المجتهد الجزئي، أي الذي يتمكن من استنباط الحكم في مسألة دون غيرها أو في باب فقهي دون غيره”[11].
وقد أصبح هذا التوجه ضرورة ملحة، رغم ما يواجه ذلك من إشكالات عميقة تتمثل في التناسل العلمي المتواصل لبعض التخصصات الدقيقة، وقصور العقل الاجتهادي عن استيعاب هذه المعارف المتعددة والمتنوعة، مما يدعو الى توسيع مفهوم الاجتهاد وفقًا لهذا التقدير بحيث “ينسجم مع مقاصد الاسلام والذي يمكن أن نتعامل به مع الظواهر المختلفة، آنذاك ربما يكون لدينا فقه من نوع آخر، ليس الفقه في الأحكام الجزئية الشرعية المعروفة وإنما فقه نستطيع أن نسميه فقه الواقع، فالدراسات الاجتماعية المختلفة تعد نوعا من فقه الواقع”[12]، كما أن هذه الضرورة لا تتعلق بكثرة المشكلات والوقائع الجزئية التي ليس لها أحكام فحسب، وإنما لوجود الظواهر المعقدة، والأوضاع العامة، التي هي فوق جزئيات تلك المشاكل والوقائع[13]، الأمر الذي يدعو إلى التفكير في صيغة مستقبلية أخرى مناسبة لمؤسسة الاجتهاد “على أن تجزؤ الاجتهاد في العصر الحاضر ينبغي أن يقصد به ما يعرف بالتخصص، فالمجتهد مع توفره على شروط الاجتهاد يكون متخصصاً في جانب فقهي، ولذلك يمكن أن يقسم المجتهدون إلى مجموعات متخصصة، كل واحدة منها تنظر في باب من أبواب الفقه أو من القضايا المعاصرة المطروحة”[14].
رابعًا: تمثلات التكامل المعرفي
تتعدد إمكانات أوجه التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الحقل الكوني بشتى تلاوينه وأطيافه المختلفة، بالنظر إلى الرؤى التصورية والغايات المعرفية الطموحة في خدمة الإنسان في علاقته بالكون لديها جميعا، ولأن قيام كل تلك العلوم على تكامل داخلي مشخص في الأساليب منهجا وفي المعارف علما وفي الغايات مقصدا وفي القضايا موضوعا، فإن خصوصيات هذا التكامل الخارجي تقوم على ذلك المقتضى التفصيلي، وبناء على ضرورات الفصل بين ما هو منهجي وموضوعي وعلمي وغائي؛ في حالات وإمكانات ذلك التكامل. وسأقف عند بعض العناصر في كل مكون من تلك المكونات لبيان المقصود لصعوبة اقتفاء كل ما يليق بالدرس، وأبدأ بالتكامل المنهجي.
1- في التكامل المنهجي:
من بين ما هو متعارف عليه في الأوساط العلمية والأبستمولوجية أن الفصل بين ما هو منهجي وعلمي معرفي في العلوم المختلفة من أكبر التحديات العظمى، ليس لصعوبة ذلك على الوجه الآلي والترتيبـي، وإنما للترابط الوثيق والتمازج العضوي بينهما، بحيث يصبح المنهج لصيقا بالنتائج وتبعا للموضوع، لكن كل ذلك لا يمنعنا من الفصل بينهما، كلما وجدنا إمكانية حقيقية ومجدية في ترسيخ ذلك التكامل، وبما لا يشعرنا بعوده على العلوم الإسلامية بالضرر.
وحينما تحاول علوم الوحي أن تقتسم مع العلوم الاجتماعية بعض مناهجها؛ لا يعني بالضرورة أنها لم تستثمر فيها تلك المسالك المنهجية، أو أنها كانت متأخرة في ذلك، بل قد تكون هي السباقة إلى ذلك، إنما ننبه هنا على هذه الآليات باعتبارها أساليب في فقه الظواهر الاجتماعية والنفسية خصوصا لتيسير فهم الواقع وفقه النصوص الشرعية على ضوء تلك الوقائع، لأن النص صامت في أصله من حيت التنـزيل حتى تستنطقه الوقائع والقضايا وتحركه.
أ- المنهج التجريبي:
ليست التجربة آلية منهجية اختص بها النظر العلمي في المعارف الطبيعية والكونية فحسب، حتى لا يمكن الإفادة منها في قضايا الاجتماع والإنسانية، بحجة اختلاف نتائجها المعرفية من حقل الطبيعة إلى مجال الإنسان، إنما يبقى للتجربة بُعدها الإنساني عبر التاريخ في فقه الظواهر والمسائل التي عايشها الإنسان عبر مراحله، وقد وظفها علم الاجتماع تأسيسا مع ابن خلدون الذي أورد في مقدمته كلاما فيه ما يشبه تعريفا للتجربة، إذ يقول: “التجربة تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن”[15]، وإذا كانت التجربة المتواترة في صفحات التاريخ والمتكررة في صنائع الانسان، والمعروفة في سنن الكون تنتج حكما علميا، فإنها في شأن الصنائع الانسانية، والحضارة الكاملة تفيد عقلا حسب رأيه” فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا، والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة، فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا”[16].
وكثيرا ما يندرج الفكر التجريبي عند ابن خلدون ضمن مستنداته الاستدلالية على القوانين العلمية كما هو الشأن في مسألة “اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم”[17]، يقول عن أهل الأقاليم المعتدلة”.. فألوانهم أصفى وأبدانهم أتقى وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات، هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم”[18]، وقال أيضا في فصل خاص بالاحتكار” ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران”[19]، ونلاحظ هنا الحضور الديني والاعتقادي في النتائج التجريبية عند ابن خلدون، لذلك فإن التكامل المنهجي في مسلك التجربة كان حاضرا منذ مدة في الفكر الاسلامي قبل تطوير السوسيولوجيا المعاصرة.
وإلى ذلك نلحظ أحد الأصوليين المقاصديين – وهو أبو إسحاق الشاطبي- يستند إلى التجربة في التأسيس لكلية “العلم المعتبر شرعا ما بعث على العمل المانع صاحبه من اتباع هواه”، فيقول ردا على أحد الاعتراضات: “أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه، وبدليل التجربة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا “[20].
وفي هذا السياق يمكن للمنهجية التجريبية استثمارها ضمن القضايا الانسانية، واعتبار نتائجها ضمن منظومة الاجتهاد والتأسيس لقواعد ومبادئ علمية مفيدة ونافعة للمجتمع، لكن ما ينبغي الإشارة اليه هو أن علوم الوحي تمتلك توجيها خاصا عليه الاستناد في تحقيق المراد موازاة مع البحث الاجتماعي، يقول محمد أمزيان: “وعلى سبيل المثال فقد ذكر أحد الكتاب أن عالم الاجتماع إذا أراد أن يتأكد مثلا من جدوى الاختلاط في ميدان التعليم، وارتأى أن هذا الاختلاط قد يخفف من حوادث الشذوذ الجنسي والانحرافات المترتبة عنه، يلجأ الى اختيار مدينة معينة أو قرية يطبق فيها هذه التجربة، وذلك بأن يقبل في هذه المدرسة من الجنسين ثم يراقب بعد ذلك نتائج التجربة، فإذا نجحت عممت على المجتمع كله، والملاحظ أن النتائج التي تنتهي إليها هذه التجارب إذا نظرنا إليها من الوجهة الإسلامية نجد أنها محسوسة من البداية، وليست للباحث الاجتماعي فيها رأي معتبر لتعلقها بالأخلاقيات العامة التي يجب احترامها[21].
ب- المنهج الاستقرائي:
تعتبر قاعدة الاستقراء إحدى الدعائم الكبرى التي قام عليها العمران الأصولي خصوصا، وقد اعتمدها علماء الاجتماع والتاريخ أيضا وخاصة ابن خلدون، بحسبانها الأنسب في البحث والأجدى في الوصول إلى النتائج المرجوة من حيث القطع والعلمية أو الصدق والصواب.
أما بالنسبة للأصوليين فنجد أبو إسحاق قد اعتمد على الاستقراء بشكل أوضح من أن يستدل عليه لمن طالع مصنفه الموافقات، وهو الذي يذكر غير ما مرة أن دليله على مسائله الاستقراء، كقوله: “والثالث أن الاستقراء دل على أن..”[22]، “وهذا النظر يعضده الاستقراء أيضا..”[23]، “هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل”[24]، “أولها الاستقراء..”[25]، “.. منها الاستقراء..”[26].
وإن المتأمل في فلسفة البحث والنظر عند الأصوليين من خلال كتاباتهم العلمية، سيتضح له بجلاء، أنها قائمة في أساسها على بعد منهجي صرف، حتى اشتهرت مدرسة خاصة ضمن المدارس الأصولية عرفت بمدرسة المتكلمين الذين بنوا قواعدهم الأصولية على منهج استقراء النصوص الشرعية وتتبع الفروع الفقهية.
أما فيما يخص المعرفة التاريخية وفلسفتها فإن طبيعة الاختصاص التاريخي من تواتر الأحداث وكثرتها عبر أزمنة متكررة يستدعي ضرورة استحضار البعد الاستقرائي والتواتري في قراءة الأحداث وتعليلها، والكشف عن أسباب وقوعها، يقول ابن خلدون: “ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السؤم فأنشأت في التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا وفصلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسبابا”[27].
وليس في إمكان مؤرخ مهتم بالأحداث التاريخية وإدراك تلك العلل والأسباب المؤثرة في العمران البشري كابن خلدون إلا بتتبع الأحداث واستقرائها والاعتبار بها بابا بابا، كما أن استخلاصه لتلك الكليات الكبرى والفوائد العامة ومن ثم الاستدلال عليها بالجزئيات الواقعية لدليل واضح على اشتغاله الاستقرائي البين.
ج- قانون السببية:
تشكل العلاقة السببية في الظواهر الاجتماعية أحد أهم المسالك البحثية في فقه تلك الظواهر ودراستها، وقد كانت مجمل اعتماد السوسيولوجيين في تفسيراتهم، يقول دوركايم: “فيجب حينئذ على من يحاول تفسير إحدى الظواهر الاجتماعية أن يبحث عن كل من السبب الفعال الذي يدعو إلى وجود هذه الظاهرة والوظيفة التي تؤديها، عن كل من هذين الأمرين على حدة”[28]، وإن هذه المسلكية ليست بدعا منه في البيان العلمي لأنها شكلت أحد الأصول العلمية عند الفقهاء والأصوليين في المجال الإسلامي، كما عند المؤرخين أمثال ابن خلدون الذي يقول في معرفة النتائج المبنية على الأسباب المتعينة المعلومة “أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها وهذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم، وأما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته”[29].
ويبدو هذا التفسير السببي متناسبا مع النظر الأصولي الذي يستند إلى قاعدة السببية واعتبارها قانونا عاما مطردا، مع ضرورة استحضار المعطى الغيبي وعدم تغييبه في النتائج، يقول الشاطبي رحمه الله: “فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب، لأنه معقوله، وإلا لم يكن سببا، فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى، فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب وعند عدمه، فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب، لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقْد المسبب مؤثرا ومنكرا، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه، وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب”[30].
أما تطور العلوم الاجتماعية الحديثة بفرط توظيفها للقوانين الطبيعية المادية فإنها غالت في تفسير الظواهر الاجتماعية بإقصاء تام لكل ما هو غيبـي أو روحي، يقول إميل دوركايم: “ومن الطبيعي جدا أن يبدأ المرء بالبحث عن السبب في وجود إحدى الظواهر قبل أن يحاول تحديد النتائج التي تترتب عليها، ومما يدل على مطابقة هذه الطريقة للمنطق أشد المطابقة هو أن حل المشكلة الأولى يساعدنا في كثير من الأحيان على حل المشكلة الثانية وفي الواقع تتصف العلاقة الوثيقة التي توجد بين السبب ونتيجته بهذا الطابع الذي لم يعترف الناس به اعترافا كافيا، وهو أنها علاقة متبادلة”[31].
د- منهج البحث التاريخي:
يقوم النظر الاجتماعي وحتى النفسي في رصده للظواهر والقضايا على البحث في تاريخها ورصد مدى التطور الحاصل في بنياتها صعودا وأفولا، وتفسير الاختلافات الناشئة عن ذلك التحول فيها، وهذا من شأنه أن يفيد العلوم الشرعية وخاصة الاجتهادية -كالفقه والأصول- في التأسيس للقواعد العلمية والكليات المعتبرة في الاجتهاد، سواء من حيث القيم أو من حيث الزمان والمكان والإنسان، فمثلا سن الزواج تغير وفق البيانات السوسيولوجية من قرون ماضية حتى الواقع المعاصر، فلم يعد العقد الأول من عمر الفتاة متاحًا وممكنًا بنيةً ووعيًا وقدرةً على الزواج في الوقت المعاصر، كما كان في زمن مضى، والمجتهد أو الفقيه يلزمه استثمار المنهجية البحثية التاريخية في مثل هذه القضايا الإنسانية حتى يكون على بينة من الأمر في إطلاق الحكم الشرعي المناسب، وقِس على ذلك كل المسائل الأخرى التي تتطلب رصدًا وقياسًا تاريخيًّا. وفي مثل هاته القضايا يقول دوركايم: “وقد اعتقد هؤلاء حينما نهجوا هذا النهج أنه من الممكن القول بأن ضعف العقائد الدينية أو أي نوع من التقاليد، لا يمكن إلا أن يكون ظاهرة عابرة في حياة الشعوب، وذلك لأن هذا الضعف لا يظهر إلا في آخر مرحلة من مراحلها التاريخية، وهو لا يظهر إلا لكي يختفي بمجرد ابتداء تطور اجتماعي جديد”[32].
إن تفسير الظواهر والبحث لها عن معالجات متعينة تفي بالغرض المطلوب اجتماعيا، وما تعلق به يلزم بحثها في ضوء سياقها التاريخي عادة ورصد تطورها ومتغيراتها وما ثبت فيها من أصول، حتى تكون الدراسة أشمل وأكثر استيعابًا، لذلك فـ “إن التاريخ يعتبر المادة الخام التي يستقي منها علم الاجتماع معلوماته لفهم الظواهر الاجتماعية الحالية لوجود علاقات سببية بين الأنماط الاجتماعية بين الماضي والحاضر. فالتاريخ يقوم بأدوار متنوعة بالنسبة لعلم الاجتماع فهو من جهة يقدم الوثائق التاريخية حول القضايا المطروحة، ومن جهة ثانية يعتبر بمثابة المختبر الذي يستطيع فيه عالم الاجتماع أن يستقرئ الأحداث الاجتماعية والتغيرات التي طرأت عليها والعوامل المؤثرة فيها”[33].
ر- القياسات:
يحضر القياس بشكل قوي باعتباره أداة يستعان بها في البيان والاستدلال على المطالب المختصة عند الفقهاء والأصوليين، ويظهر ذلك مثلا؛ في استدلالهم على الحجية القطعية لدليل الاستقراء في الكشف عن الأصول الفقهية كالإجماع والقياس والمصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع ونحوها في غياب الدليل المتعين، وكذا الاستدلال على قطعية المقاصد الكلية، ليتحصل لهم القطع في المسألة بشكل مناسب ومجدي، لذلك نجد الامام الشاطبي قد انتبه إلى دليل الاستقراء قياسا على المعرفة التواترية في الخبر، فإذا كان التواتر يفيد القطع في الأخبار، فإن الاستقراء اللفظي والمعنوي للنصوص والجزئيات له نفس الإفادة لاتحادهما في نفس علة الإعمال، وهي إنتاج المعرفة القطعية، يقول الشاطبي: “وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق، فخبر واحد مفيد للظن مثلا فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن، وهكذا خبر آخر وآخر، حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض، فكذلك هذا إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار”[34].
وفي نفس السياق وجه انتقاده للأصوليين الذين تهاونوا في الأخذ بدليل الاستقراء، حتى يقطعوا ببعض الأدلة الأصولية كالإجماع مثلا، ولو قاسوا استقراء النصوص الدالة على قطعية المعنى وصحته، على احتجاجهم بالتواتر المعنوي في القطع بالأخبار، لحصل لهم القطع في حجية الإجماع، بناء على ذلك التشابه المسلكي، فقال منبها: “وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجة ظني لا قطعي؛ إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفرادها ما يفيده القطع، فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة ومن بعده “[35].
ومن القياس المنطقي الواضح والجلي في الاستعمال ما استهل به إحدى المسائل الكبرى من كتاب المقاصد؛ حيث قرر على طريقة المناطقة الكبار المتمرسين قائلا: “كل من ابتغى في تكاليف ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له، فعمله باطل”[36].
والقياس عند علماء التاريخ أيضا اعتبر أحد الأدوات الأساسية في النظر التاريخي والاعتبار العمراني، فهذا ابن خلدون يوجه انتقاده للمؤرخين الذين وقعوا في مغالط ومذلات بناء على إغفالهم القياس والاعتبار، يقول: “فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس”[37].
وإغفال الاستناد إلى القياس من قبل المؤرخين في رواياتهم يوقعهم في المغالط لا محالة “لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق”[38].
وقد اعتمدت العلوم الاجتماعية الأخرى -كعلم الاجتماع وعلم النفس- على قاعدة القياس من خلال ربط الحالات الاجتماعية والنفسية بغيرها، لاشتراكهما في العلة الواحدة أو السبب الواحد أو المقتضى الواحد، وذلك في اطار التشخيص والتفسير لتلك الحالات، لكن سؤال القياس في مثل هذه الحالات يجعلنا نتساءل عن مدى قطعية التفسير الموحد لتلك الظواهر والتشخيص المشابه اللذان يفضيان الى نتائج مطابقة من جهة، وعن مدى صلاحية الحلول والمعالجات المنقولة من حالة الى حالة مشابهة في الفضاء المجتمعي أو المجال النفسي، بالنظر الى الاعتبار المزدوج والمتعدد للتكوين الانساني الروحي والمادي والنفسي، عكس القضايا المادية والعلمية التي أثبتت صلاحية القياسات في حقولها المعرفية.
2- في التكامل الموضوعي:
إن من مهمات الاجتهاد الفقهي تصريف الأحكام الشرعية العملية بعد العلم بها من الأدلة التفصيلية وفق مواقع الوجود التكليفي للإنسان، مما يقتضي ضرورة مرور ذلك الفقه بإدراك حقيقي لطبيعة الإنسان المكلف، وحالاته ونـزعاته الفردية على المستوى الجزئي ونـزعاته الجماعية على الصعيد الكلي، وتلك مهمة تحليلية للواقع المعيش، إذا أراد المجتهد تقريب النصوص والأحكام من الأداء التكليفي، وفي هذا البيان الإدراكي تتقاطع علوم كثيرة على مستوى موضوعاتها ومحالها وجب استحضارها، واستدعاء أساليبها ونتائجها العلمية لتيسر تلك المهمات، فما هي تجليات ذلك التقاطع أو التكامل.
– فقه نفس الإنسان:
إن المكلف المخاطب بفروع الشريعة المستندة إلى أصولها وأدلتها يشكل أحد الأقطاب الكبرى في تنـزيل الأحكام الشرعية، كما أنه محل ومناط ذلك التنـزيل، وعليه فإن المجتهد مطالب بإيلائه الأهمية القصوى في الاعتبار الفقهي والاجتهادي عموما، ولاستكمال النظر الفقهي حري المجتهد إدراك الخصوصيات الإدراكية والنفسية والتربوية للإنسان المكلف، وحتى غير المكلف المشمول بخطاب التكليف لدى المكلف المسلم؛ أي وفق الاعتبار الدعوي، ومن أهم العلوم المعاصرة المسهمة في ذلك علم النفس، الذي يقوم في دراساته على مناهج علمية طورت من مردوديته في فقه النفس البشرية، كالتجريبية النفسية والاستقراءات الميدانية، والاستطلاعات الاجتماعية، ويمكن لعلماء الشريعة – فقهاء وأصوليين- استلهام هذه التجارب العلمية والمنهجية والاستعانة بها في فقه حال الإنسان، وبناء القواعد الأصولية المناسبة له في تخريج الحكم الشرعي الملائم له، والذي سيحقق مصلحته التي أرادها له الشارع، وكذا في إدراك ما يمكن أن يؤول إليه في تصرفاته التكليفية.
إضافة إلى ذلك، فإن علم النفس البشري بإمكانه التعرف بوسائله وآلياته العملية المنهجية في معرفة مدى قدرات الإنسان، واستطاعته في تصريف الأحكام الشرعية التكليفية، والقدرة والاستطاعة أحد الشروط الأساسية في الاعتبار التكليفي، فإذا قلنا مثلا “المشقة تجلب التيسير” باعتبارها قاعدة أصولية، فللمجتهد أن يكون مدركا لبداية المشقة ونهايتها، وفي الوقت المعاصر لا تنحصر أبعاد المشاق في الجوانب المادية الجسدية، بل يمكن لها أن تلحق الجوانب النفسية وما شاكل وجودها؛ من أمراض نفسية خطيرة، قد تتجاوز آثارها من حيث المشقة الآثار الناجمة عن مشقة الأمراض العضوية.
كما تتعدد الموضوعات والمطالب المختصة بعلم الإنسان؛ سواء في شقه النفسي بكل فروعه المتناسلة في الوقت المعاصر؛ من أمراض كالاكتئاب والوسواس القهري أو الجنون أو ما يسمى يمرض الزهايمر؛ أو حالات إنسانية طارئة كالنسيان والعجز وانعدام القدرة، وهذه كلها مواصفات أمراض أو حالات تخص طبيعة المكلف ودرجات تصرفه؛ وفق التكاليف الشرعية تراعيها الشريعة في التكليف الشرعي، وكما يحتاج الفقيه إلى معرفتها حالة حالة، ومرضا مرضا، عليه مراعاتها باعتبار اختصاصه الأصولي في تقعيد القواعد أو ترسيخ الاستثناءات الشرعية في تنـزيل تلك القواعد.
وتلك نماذج فحسب من المباحث المرغوب الاستعانة بها في تكميل ما يمكن اعتباره نقصا في الوقت المعاصر، تقاس عليها حالات وأمراض أخرى في باقي العلوم المختصة بفقه الإنسان المكلف ككل؛ من علم نفس تربوي وتعليمي وطب مادي، وكل علم له صلة بالإنسان مناط التكليف يفيد الأصولي في بناء القواعد الأصولية وتفعيلها على مستوى التنـزيل.
– فقه الظواهر الاجتماعية وبيان حقيقتها:
إن البحث في الظواهر الاجتماعية تحيل على ربط العلوم ذات الصلة المباشرة بالاجتهاد بمواقع الوجود البشري حتى يتم إحياء غرضه ومقصده من الإنشاء الأول، لذلك فإن هناك علومًا إنسانية مطلوبة بالقصد التبعي للإسهام في إنجاز مهامه المنوطة به، وخاصة العلوم الاجتماعية منها كعلم الاجتماع الإنساني وعلم النفس بتعدد شعبهما.
ويمكن الاستفادة من علم الاجتماع من خلال مناهجه العلمية المستثمرة في التأسيس للنتائج؛ كمنهج الاستقراء والتتبع والاقتفاء للحالات والقضايا المعروضة اجتماعيا، وكذا من التجارب السننية والاجتماعية في معرفة الخيوط الرابطة بين المقدمات والملاحظ و النتائج، هذه كلها آليات منهجية للمجتهد أن يستفيد من نتائجها، أولا في بناء القواعد واستنباط الأحكام الملائمة، ويفيد أيضا من آلياتها ومسالكها وتطبيقها على النصوص الشرعية بحسب الجواز والمناسبة، لأن “منظومة الأحكام والتصورات المستنبطة من الوحي باعتباره مصدرا معرفيا غير كافية لتأسيس الفعل، وذلك لسببين:
الأول: أن المنظومة المذكورة تتألف من قواعد عامة كلية، وبالتالي فإن تنـزيلها على حالات جزئية وخاصة يتطلب مزيدا من النظر والتحديد، وهذا يستدعي بدوره مزيدا من البحث والدراسة لفهم طبيعة وآليات الفعل الفردي والتفاعل الجماعي.
الثاني: أن تطبيق القواعد الكلية يتطلب إدراك الحيثيات القائمة والظروف المستجدة، ذلك أن تطبيق هذه الأحكام يتوقف على تطابق شروط الفعل النظرية وظروفه العملية”[39].
ولا شك أن استثمار المعرفة الاجتماعية والإنسانية هي من صميم فقه الواقع الذي نعتبره ضابطا أساسيا في النظر الاجتهادي، لذلك فإنه “عندما تغير الواقع وتغير البرنامج اليومي نشأت مجموعة من العلوم الاجتماعية والإنسانية باعتبارها أداة لإدراك الواقع، لكنها نشأت من نموذج معرفي مختلف عن النموذج المعرفي الإسلامي، ومن هنا أردنا أن نبني نموذجا معرفيا إسلاميا يوجه العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويعالج مسائلها ومواضيعها، ثم يستفيد الأصولي من هذه العلوم الاجتماعية المنبثقة من النموذج المعرفي الإسلامي، باعتبارها أداة في يده وشرطا من شروطه لإدراك الواقع”[40].
كما أنه في إمكان الفقيه اعتماد بعض القواعد الاجتماعية والعمرانية المنتجة اجتماعيا في تطبيق قواعده الأصولية. وكذا بعض الأعراف الاجتماعية التي ينبغي اعتبارها في تشغيل القواعد الأصولية وتطبيق الأحكام الشرعية بناء على قاعدة المعروف عرفا كالمشروط شرطا، وكذا التقاليد القبلية والاجتماعية ونحو ذلك.
فإذن يحتاج علم الاجتهاد إلى أدوات معرفية أخرى تيسر عمل الفقيه في التواصل مع الواقع، فهو “ليس له أداة جيدة في ذلك، ولكن ليس له أداة للوصل بين الحكم الذي توصل إليه وكيفية تنفيذه في الواقع المعيش، فهاتان النقطتان تحتاجان إلى أدوات، وهذه الأدوات هي عبارة عن مسائل العلوم الاجتماعية والإنسانية التي لا يمكن أن نأخذها على علاتها، لأنها منبثقة من نموذج معرفي آخر غير النموذج المعرفي الذي نؤمن به”[41].
كما أن العلوم الاجتماعية والإنسانية تساعد على تشغيل القواعد الأصولية في استنباط الأحكام الشرعية المناسبة والملائمة للمكلفين، وذلك من خلال موضوعات ذات العلاقات المشتركة؛ كمسألة رصد التغيرات الاجتماعية التي تؤثر على تحول سلم الأولويات في التمثلات الاجتماعية، والضروريات في المصالح الإنسانية التي ينبغي للأصولي استحضارها في التقعيد للقواعد والتقرير للمبادئ المتغيرة على الأقل في مرحلة متعينة، وفي هذا السياق الدامج بين علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية يقول الدكتور علي جمعة: “نحن ندعو للاستفادة المتبادلة: أن يفيد علم الأصول من المناهج الجديدة، وأن تفيد العلوم الاجتماعية والإنسانية من منهج أصول الفقه نفسه، باعتباره منهجا يبحث عن مصادر البحث، وطرقه وشروط الباحث بهذه العقلية التي يبحث عن الحجية، والتوثيق والفهم مع مراعاة الظني والقطعي ومَرتَبة كل منهما، وكذلك المقاصد والمآلات والتعارض والترجيح، وقضايا الإلحاق، وكيف يستفاد من كل ذلك في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو أمر سينتج عنه تطوير ذلك العلم حين يكون قابلا للهجرة إلى عقول علماء تلك العلوم”[42].
إلى جانب ذلك؛ فإن القواعد العلمية المقعدة لفقه الخطاب الشرعي وتنـزيله، كما أنها تخاطب المكلف الفرد فإنها تخاطب المكلفين على صيغة الجماعة والمجتمع ككل، الأمر الذي يدعو الأصولي إلى الاستعانة بالمقدمات العلمية والنتائج الاجتماعية في تشغيل الأدلة الأصولية، وتنـزيلها على مواقع الوجود البشري.
والقرآن الكريم طافح بالآيات التي تتحدث عن البعد الجماعي والاجتماعي في الإنسان في معالجته للقضايا الكبرى، وذلك بأساليب تفسيرية عقلانية تستند إلى الشواهد التاريخية الاستقرائية وقواعد علمية و”القرآن كأول مرجع للحضارة الإسلامية، فإنه:
أ- تبنى منهجا وضعيا وعقلانيا يستند إلى الملاحظة والواقعية وذلك في تفسيره للظواهر وفي طرح حججه للجنس البشري.
ب- أكد مباشرة أو بالإشارة في نحو سدس آياته الأهمية القصوى للمعرفة والعلم لبني البشر.
ج- تحاشى استعمال الحجج أو التفسيرات الفلسفية في محاولاته، مثلا لإقناع غير المؤمنين بوجود الإله الواحد”[43]، فلا بد إذن، من وصل هذا الرصيد المعرفي والمنهجي القرآني بالإنتاج العلمي الاجتماعي داخل المجتمعات البشرية. حتى يستفيد منه العمل التجديدي الأصولي في إرساء قواعد تراعي تلك المتغيرات.
إضافة إلى ذلك؛ يسهم فقه تلك التغيرات الاجتماعية في إدراك العلل العلمية أو التاريخية التي كانت وراء تلك التحولات والأسباب المؤثرة فيها، مما سيفيد في ربط تلك العلل بالعلل الشرعية، والتأسيس لقواعد مناسبة للتغيرات الاجتماعية، “لأن عملية التعليل أكثر أهمية لفهم النصوص المتعلقة بالفعل الاجتماعي والسياسي، نظرا لأنها تساعدنا على التحرر من الخصوصيات الاجتماعية والتاريخية، ولعل آيات القتال في القرآن الكريم تزودنا بأمثلة هامة بالترابط بين النصوص القرآنية والظروف الاجتماعية، إذ يجد القارئ لكتاب الله توجيهات تحض المسلمين على المبادرة إلى قتال أعدائهم، بينما تأمرهم آيات أخرى باختيار السلام إذا جنح إليه الأعداء، لذلك فإن تطوير فهم واضح لغايات القتال وشروط السلام يتطلب عملية تعليل منضبطة ودقيقة لآيات القتال”[44].
وإذا تحدثنا على الجانب الاجتماعي في الأسرة، فسيساعدنا علم الاجتماع من خلال الدراسات المنجزة حول الأسباب الداعية إلى الطلاق مثلا وآثاره على وضع أسس علمية أصولية، يعتمد عليها في إصدار الفتاوى المراعية للمقاصد الشرعية والأحكام المناسبة المرتبطة بالشأن الأسري للتقليل من ذلك، وكذا المبحوثة حول أسباب العزوف عن الزواج، أو ظاهرة شيوع الزنا والمحارم الاجتماعية الأخرى، وكذا إنجاز بحوث حول الظواهر البدعية كزيارة القبور والسحر والشعوذة وانتشار ذاكرة المواسم وتأثيراتها على المجتمع والعقل الجمعي، كل ذلك يستفيد منه المجتهد او القانوني في إعداد مذكرات قانونية وتشريعية تراعي خطورة تلك الظواهر على التدين السليم ونقائه لدى المسلم.
فهذه أمثلة فقط؛ يقاس عليها غيرها من الظواهر التي تفيد لا محالة في تجديد النظر الأصولي من خلال جوانب التكميل والتطعيم.
ولا شك أن العلـوم الاجتماعية -بمسحها الاجتماعي المكثف لعدد من الظواهر الإنسانية سواء الحادثة أو المستحدثة أو التي هي قابلة للحدوث- من شأنها أن تسهم في تنبيه القيمين على الشأن الاجتهادي أو الفقهي على استحضارها في البحث عن الأحكام الملائمة والمناسبة أو التفكير المستقبلي في بناء فقه ذرائعي للحد من الظواهر مرتقبة التوقع والحدوث.
– رصد منظومة القيم:
إن من المطالب الاجتماعية السوسيولوجية إجراء دراسات علمية لموضوعات لصيقة بالفعل الإنساني وأهمها القيم الإنسانية، من حيث أنواعها وأجناسها والنافع فيها والضار، وإذا كانت من فوائد علمية تعود على الفكر الإسلامي في هذا الاتجاه فهي استحضار تلك النتائج العلمية في عمليات الإصلاح وخصوصا المناهج التغييرية، لأن ذلك يشكل جزءا قويا من الواقع الذي يعيشه الإنسان ككل، كما أن تلك الخلاصات المعرفية تعين أهل العلوم الإسلامية في بناء نظر اجتهادي جديد يتوافق مع الواقع القيمي، مع احترام القيم الأخرى لدى غير المسلم، كقيم الحرية والحقوق الإنسانية التعبيرية والفنية، التي قد يكون بينها وبين المجال الإسلامي بونا شاسعا، وهنا نستحضر الاختلاف القيمي العريض بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات الأخرى، كالأوروبية والأمريكية التي يعيش فيها المسلمون، من حيث ضرورة الاعتبار الحقيقي لذلك الاختلاف في فقه الدعوة والبيان لغير المسلمين.
وعديدة هي القيم الإنسانية التي تمنح لها الدراسات الاجتماعية أو الإسلامية بعدا تكامليا سواء من حيث الرصد أو البحث أو التقييم أو التنبيه على خطورة غيابها داخل المجتمع البشري، أو الأخطار التي تحدق في مسها بالنوع البشري على وجه الخصوص، كقيم العدل بين الناس والحرية والأمن وتماسك الأسرة والتربية وغير ذلك كثير.
– فقه الأعراف والتقاليد:
لقد أصبح للأعراف الاجتماعية والتقاليد الإنسانية الاعتبار القوي في المنظومة الفقهية تفعيلا وتصريفا، والأصولية تقعيدا وتأصيلا، حتى اعتبرت ضمن القواعد الأصولية الواجب استحضارها واحترامها في النظر الاجتهادي، وحتى يتسنى الوصول إلى تلك المقتضيات المنهجية والاعتبارية في النظر الاجتهادي أصبح من الاعتبارات الواجبة والمؤكدة قراءة الواقع الإنساني قراءة تبين الأعراف الحقيقية المشروطة في الاجتماع البشري والمعتبرة في التواصل الإنساني، لتحصيل سلامة النظر في اعتبار ما هو ضروري لا يعود على ضروري آخر بالنفي أو بالإلغاء، ومعرفة ما هو حاجي أو تحسيني كمالي لا يخرم حاجيا إنسانيا أو كماليا، ولعل العلوم الاجتماعية لها من الوسائل والمناهج التي برعت في رصد تلك الأعراف والقيام بعمليات مسح اجتماعي، كما أن العلوم التاريخية تفيد أيضا في بناء تسلسل تاريخي لتلك الأعراف ومدى ثبات قوتها عبر الأزمان التاريخية، وقد أصّل العلماء المسلمون ضمن نظرياتهم الأصولية قواعد عرفية أمثال “المعروف عرفا كالمشروط شرطا”، “والعادة محكمة” ونحوها من الأصول العرفية والعادية.
3- في التكامل الغائي:
مبلغ غاية العلوم عموما والإنسانية والاجتماعية على وجه التحديد الكشف عن الحقائق الإنسانية بغية توصيف المعالجات الخادمة للمصالح الإنسانية، وتحسين نمط حياته المعيشية في الدنيا، وتلك مقاصد وغايات لا تتنافى مع جميع التشكيلات الثقافية والحضارية المتنوعة في الكون، لذلك نرى ضرورة الاهتمام بتحصيل الغايات الكبرى من العلوم، ولو على اختلاف مناهجها، واستثمار ذلك في التأسيس لقواعد علمية أو لأحكام اجتهادية أو قانونية تخدم الإنسان في مستقبل حاضره.
أ- فقه مستقبل المكلف:
يعتبر فقه مستقبل الإنسان في مجال التكاليف الشرعية؛ أحد الأسس المهمة في بناء الأحكام وتخريجها بشكل سليم؛ يتوافق مع المقاصد الشرعية سواء في العاجل أو الآجل، وقد عبر عن ذلك الأصوليون بقاعدة اعتبار المآل، أي ما ستؤول إليه الأمور بعد التصرف التكليفي، وخير من عبر عن ذلك الشاطبي حين قال: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل”[45].
وهذا جانب مهم لا يبعد كثيرا عن المباحث العلمية لما يسمى حاليا بعلم المستقبل أو المستقبليات، فلا ضير؛ بل من الواجب اهتمام الأصوليين الفقهاء بهذا العلم، وتكميل النقص الحاصل في القواعد المعتبرة؛ من حيث الآليات المعتمدة في رصد مستقبل الإنسان، وما ستؤول إليه أحواله، حتى تنضبط الأحكام الفقهية لسنن المقاصد الشرعية، ولهذا فإن اشتغال الفقه الإسلامي بالمستقبليات سيدفعه إلى الاهتمام بالكليات والقضايا الكبرى، “عوض الانشغال بالجزئيات وأحكامها فقط، أيضا يسمح استيعاب الدراسات المستقبلية في الفقه الإسلامي بفروعه المختلفة بالبحث الواعي والمنضبط في قضايا تشهد تغيرات كبرى، وتشرف على الدخول في مرحلة جديدة”[46].
ولا ريب أن ما تطور عليه الأمر من إحصائيات علمية ودراسات منطقية عقلية مفيد في رصد تلك التطورات المستقبلية للإنسان على جميع الأصعدة؛ سواء البيئية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، كل هذه المجالات أعملت فيها بعض المناهج العلمية الواجب استثمارها في الاستدلال الفقهي والإعمال الأصولي، وفقه المستقبل ضرب من المعرفة الخاصة بالتوقعات الممكن حدوثها، فيعمل الإنسان على تدبير مصالحه الخاصة والعامة وفق تلك التوقعات، سواء على المستوى الاجتهادي أو غيره، يقول المهدي المنجرة وهو أحد المختصين في علم المستقبليات: “إن دور المستقبلية لا يكمن في إصدار نبوءات، إذ يتجلى هدفها في تحديد الاتجاهات، وتخيل مستقبل مرغوب فيه، واقتراح استراتيجيات لتحويله إلى مستقبل ممكن، فالأمر يتعلق بتسليط الأضواء على الاختيارات قصد مساعدة صانعي القرارات للتوجه نحو الأهداف الطويلة المدى، مع اطلاعهم على التدابير الواجب اتخاذها في الحين قصد الوصول إليها”[47].
وإن مجالات التنـزيل الفقهي المستند إلى الأدلة والقواعد الأصولية الصحيحة تتعدد بتوسع مجالات الحياة الإنسانية العملية في مواقع وجوده، وعليه؛ فإن كل تلك المجالات التي يطولها علم المستقبل حري بالأصولي الفقيه الاستفادة منه في معالجتها، وتحرير النظر الفقهي فيها، سواء كانت اقتصادية بمعرفة التوقعات الاقتصادية للإنسان؛ فردا أو جماعة أو دولة أو العالم ككل إذا تعلق الأمر بأحكام شرعية تخص الإنسانية جمعاء، أو كانت سياسية بمحاولة إدراك وفهم محتوى الدراسات العلمية المنجزة في شأن التغيرات السياسية الطارئة، وخلق تكييف شرعي يتناسب والمرحلة السياسية المعتبرة، أو كانت بيئية بالوقوف عند أهمية البيئة وعلاقاتها المتشابكة مع حفظ النفوس البشرية، ومدى منحها الأولوية في التشريع المقاصدي، حتى لا يقع الاختلال في ثبات الحياة الإنسانية، أو كانت اجتماعية بالتأمل مليا في التغيرات الاجتماعية الطارئة سواء على مستوى الفرد ومعرفة ضرورياته الواقعية واحتياجاته الإنسانية، وأيضا على مستوى الأسرة كإدراك التوقعات الأسرية في رصد عدد نسبة الطلاق مثلا، وخطورة الموقف في حفظ النسل وموضوعات ظاهرة العنوسة، وأطفال الشوارع واليتامى، ونحو ذلك مما له ارتباط بالأسرة، وبناء قواعد أصولية معتمدة في التخفيف من ذلك، ولنا في أصل سد الذرائع والمصلحة المرسلة الاعتبار المناسب والأكيد في هذا الصدد كما ثبت عند الأصوليين، وبناء على هذا كله فإن الوحي يشكل دافعا أساسيا في توجيه الأنظار العلمية سواء الفقهية أو الاجتماعية الواقعية إلى فقه مستقبل الإنسان في خضم قضاياه ومشاكله، يقول أمزيان: “إن الوحي له أهمية فائقة في توجيه نظرة الباحث المسلم المستقبلية، وهذا التوجيه يعطيه قوة دافعة ليجدد الأمل في نفوس الأمة بمستقبلها ويعيد إليها روح الحركة والانطلاق، وهو في نفس الوقت دليل على أن الحياة صراع وأن الخنوع والركون ليسا سبيل التغيير، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالوحي حافز إلى التغيير، ورؤية مستقبلية، ولكن الإنسان نفسه هو الذي ينجز خطوات هذا المستقبل”[48].
كما يعتبر أحد الباحثين المهتمين بفقه المستقبل أن الاجتهاد الفقهي سيجد منافع عدة في إيلاء العناية بهذا الجانب البحثي، حيث يقول: “أن العقل الفقهي المعاصر سيستفيد بدوره أشياء كثيرة لو اتصل بالدراسات المستقبلية وخاض في بعض مواضعها وإشكالاتها، إن عملية الاجتهاد لا تَنصبّ على الماضي فقط ولا الحاضر فقط، بل إنها تشمل المستقبل أيضا، وكثير من الأسئلة الفقهية ترتبط زمنيا بالمستقبل، وما قاعدة سد الذرائع أو فتحها – المتفرعة عن أصل اعتبار المآلات- إلا مثال واضح يؤكد هذا الالتفات الفقهي إلى الزمان الآتي وما يحويه من وقائع وأحداث”[49].
ب- تعليل الأحداث والظواهر:
إن الحديث عن التعليل هنا ليس ما قيل عن السببية هناك لحصول فرق دقيق بينهما، فإذا كان السبب هو العامل الأساس في حدوث الظاهرة، والبحث عنه منصب حول التفسير السببي للظاهرة، فإن العلة هنا هي ما بعد السببية، أي البحث في مدى صدقية الحدث ومدى إمكانية ربط سبب الظاهرة بنتيجتها، وقد أبدع ابن خلدون قبل غيره من المهتمين بالعلوم التاريخية والاجتماعية في مسألة تعليل الأحداث التاريخية من خلال مقدمته، يقول: “فأنشأت في التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا وفصلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسبابا، وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعذار، وملأوا أكناف الضواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف لهم من الملوك والأنصار”[50]، ويضيف مبينا قصده من تأليف المقدمة: “فهذبت مناحيه تهذيبا وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا وطريقة مبتدعة وأسلوبا، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمنعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتى تنـزع من التقليد يدك وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك”[51].
وينبه المؤرخ والناقد لفلسفة التاريخ ابن خلدون إلى الأخطاء والمغالط التي وقع فيها المؤرخون من خلال النقل دون تحري الصواب أو تعليل لصدقيتها، يقول: “وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً، أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط”[52].
“العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار، وفي السّيِر والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب، من الوفاق أو بون ما بينها من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم؛ حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر، وحينئذٍ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإنْ وافقها وجرى على مقتضاها كان، وإلا زيفه واستغنى عنه”[53].
ج – الإصلاح والتغيير:
تتغيى المعرفة السوسيولوجية وحتى السيكولوجية وباقي العلوم اللصيقة بالفعل الإنساني تحقيق مصالحه واعتبار ما يليق بخدماته الوجودية، إلا أن النـزعات الفردية التي ما فتئت تطغى على فلسفات البحث الاجتماعي والإنساني، جعلت العقل الإنساني النازع إلى الفلسفة الجمعية والمجموعاتية يشكك في قدرتها على إسداء تلك الخدمات وتحسين الوضع الاجتماعي والمجموعات البشرية، من هذا الجانب يصعب التسليم بالاشتراك المعرفي وحتى المنهجي بين العلوم الإسلامية وتلك العلوم أو استثمار مكوناتها المعرفية في هذا المجال، لأنها مبنية على التكوين الجماعي والفلسفة الجمعية في تفسير الظواهر والبحث لها عن حلول تعود بالنفع على المجتمع ككل، لكن في المقابل إن كل ذلك لا يمنع من الإفادة من تلك العلوم في تحقيق المصالح الفردية التي لا تربطها وثاقة صلة بالمجتمع أو التي يحتاجها الإنسان على سبيل الانفراد، كتحقيق النظر وتركيز البحث على بعض الظواهر الفردية الخاصة كالأزمات النفسية ورصد المعطيات حولها من حيث النسب والانتشار وتأثيراتها على الحياة العادية للفرد ومن ثم الخلوص إلى حلول ملائمة لها، وفي هذا الصدد يقول محمد أمزيان معلقًا: “إن دوركايم نفسه لم يمل من التصريح بأن مهمته إصلاحية تتمثل في استبعاد المثل الدينية لتحل محلها المثل العلمانية، إن دوركايم يؤمن بالتقدم الأخلاقي ويعتقد وصوله في دراساته الاجتماعية إلى منظومة جديدة يمكن أن تكون صحتها مؤيدة بالعلم”[54].
خاتمة:
لمقاربة موضوع التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون من الزوايا القاصدة حاولت الدراسة النظر في أهم القضايا الرئيسية فانطلقت من البحث في الأسس العلمية والمنهجية لذلك التكامل المعرفي محددة إياها في أساس القراءة: قراءة الوحي وقراءة الكون، ثم في أساس المصلحة أي ما يقترن بالمنفعة الإنسانية ومصلحة الإنسان، ثم في أساس الاحتياط: وتحديدا الاحتياط في المنهج والموضوع والغايات، ثم في أساس التناسب: أي الاجتهاد وفق الواقع وتفاصيل المجتمع، معرجة على الربط بين مسألة العلاقة التي توثق بين مسألة الاجتهاد الفقهي ونظرية التكامل المؤسساتي دون أن تغفل إشكالية حاجة المتغيرات الاجتماعية إلى التكامل المعرفي في تجسير الهوة بين الواقع الوجودي والنصوص الشرعية، وللبحث من زاوية التجليات والتمثلات المتعلقة بالتكامل المعرفي بين الجنسي من العلوم تم تقسيمها إلى تمثلات منهجية ويقصد بها آليات المنهجية الآتية من المنهج التجريبي، ثم المنهج الاستقرائي ثم قانون السببية ثم منهج البحث التاريخي وأخيرا القياسات، أما فيما يخص التمثلاث الثانية وهي التمثلات الموضوعية وتعزى إلى فقه النفس الإنسانية ثم فقه الظواهر الاجتماعية وكذا رصد منظومة القيم وأخيرا فقه الأعراف والتقاليد، أما الثالثة وهي تمثلات غائية وقد تم حصرها في فقه مآل مستقبل المكلف ثم تعليل الأحداث والظواهر، وأخيرا الإصلاح والتغيير.
كانت هذه أهم القضايا المعروضة التي تحسبها الدراسة وفية بالأغراض والمقاصد المطلوبة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البحث منشور في مجلة المسلم المعاصر. ع. 150 (2013). ص ص. 155-188.
** كاتب عام- جمعية البحث في الفكر المقاصدي بالمغرب.
[1]المائدة، 48.
[2]الكشاف، 1/618.
[3]المائدة، آية 48 (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً).
[4]الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، 1/120.
[5] الإمام في بيان أدلة الأحكام، العز بن عبد السلام، دراسة وتحقيق: مختار بن غريبة، ص. 262.
[6] مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، ص. 5.
[7] منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص. 7.
[8] انظر السريري، تجديد علم أصول الفقه، ص. 119.
[9] بعمر، محمد، من الاجتهاد في النص، إلى الاجتهاد في الواقع، دار الكتب العلمية، ط. 1، 2009، ص. 133.
[10] الموافقات، 4/99.
[11] عطية، جمال الدين، “تجديد الفكر الاجتهادي”، مجلة قضايا إسلامية معاصرة. خاص بفلسفة الفقه، ع. 13 (1421/2000) ص. 181.
[12] العلواني، طه جابر، عن إبراهيم عبد الرحمن رجب، التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، دار عالم الكتب، الرياض، ط. 1، 1416/1996، ص. 201،202.
[13] أحميدان، زياد محمد. مقاصد الشريعة الاسلامية، ص. 406.
[14] الروكي، محمد. الاجتهاد الفقهي، منطلقاته واتجاهاته، الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد”. ندوة من تنسيق الرباط المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط. 1، 1996. ص. 99. انظر أيضاً: الاجتهاد الفقهي، منطلقاته واتجاهاته، في المرجع نفسه. ص. 34.
[15] المقدمة، 574.
[16] المصدر نفسه، 475.
[17] نفسه، 97.
[18] المقدمة، 97.
[19] نفسه، 440.
[20] الموافقات، 1/50.
[21] منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص. 197.
[22] الموافقات، 4/12.
[23] المصدر نفسه، 3/113.
[24] نفسه، 3/102.
[25]نفسه، 2/232.
[26] نفسه، 2/228.
[27] المقدمة، 6.
[28] قواعد المنهج في علم الاجتماع، إيميل دوركايم، ترجمة: محمود قاسم، 1974، مكتبة النهضة المصرية، ص. 201.
[29] المقدمة، ص. 131.
[30] الموافقات، 2/147.
[31] قواعد المنهج في علم الاجتماع، إيميل دوركايم، ترجمة: محمود قاسم، 1974، مكتبة النهضة المصرية، ص. 202.
[32] قواعد المنهج في علم الاجتماع، إيميل دوركايم، ترجمة: محمود قاسم، 1974، مكتبة النهضة المصرية، ص. 272.
[33] منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص. 176.
[34] الموافقات، 1/39- 40.
[35] الموافقات، 1/28.
[36] الموافقات، 2/252.
[37] المقدمة، 31.
[38] المقدمة، 10.
[39] صافي، لؤي، نحو منهجية أصولية للدراسات الاجتماعية، مجلة إسلامية المعرفة، ع. 1، س. 1، 1416/1995، ص. 48.
[40]جمعة، علي، تجديد علم أصول الفقه، مرجع سابق، ص. 56/ 36.
[41]جمعة، علي، تجديد علم أصول الفقه، مرجع سابق، ص. 36.
[42] جمعة، علي، تجديد علم أصول الفقه، مرجع سابق، ص40.
[43] محمد الذوادي، المقاربة العمرانية الخلدونية للتغير الاجتماعي، عالم الفكر، مج. 39، ع. 1، يوليو/سبتمبر، س. 2010، ص. 171.
[44] صافي، لؤي، نحو منهجية أصولية للدراسات الاجتماعية، مجلة إسلامية المعرفة، ع. 1، س. 1، 1416/1995، ص. 48.
[45] المرجع السابق 4/140.
[46] بلكا، إلياس، تجديد علوم الفقه والمقاصد في ضوء المستقبل، مجلة التسامح، ع.20، 1428/2007، ص. 255.
[47] المنجرة، المهدي، الحرب الحضارية الاولى، مستقبل الماضي وماضي المستقبل، عيون، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص277.
[48] منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص197.
[49] بلكا، إلياس، تجديد علوم الفقه والمقاصد في ضوء المستقبل، مجلة التسامح، ع20، 1428/2007، ص254.
[50] المقدمة، 10.
[51] المقدمة، 10.
[52] المقدمة، 10.
[53] المقدمة، 31.
[54] منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص. 226.