الصفحات التالية من كتاب “خرافة التنمية”* لأزوالدو دي ريفيرو**
هذا الجزء المختار لنشره من كتاب : The Myth of Development – The Non – Viable Economics of the 21st Century. التي صدرت الطبعة الأولى منه عام 2001، وصدرت الطبعة باللغة العربية عام 2011، بترجمة عمر سعيد الأيوبي تحت عنوان: خرافة التنمية: الاقتصادات غير القابلة للحياة في القرن الحادي والعشرين
الداروينية الدولية
في كتاب ” أصل الأنواع ” (1859)، أكَد تشارلز داروين أن قانون الانتخاب الطبيعي يقضي بألا يتمكن من التكاثر والعيش سوى الأنواع الأقدر على المنافسة للبقاء. ولم يكن داروين يتوقَع أن تطبَق السوق العالمية والثورة التكنولوجية بعد ذلك بنحو 140سنة، في فجر القرن الحادي والعشرين، القاعدة نفسها، ما يسمح فقط ببقاء الأشخاص والشركات والاقتصادات الوطنية الأفضل. وهكذا فإن الأقل قدرة على المنافسة يهمَشون ويعتبرون أنواعاً غير ملائمة للبقاء اقتصادياً. الفارق الوحيد بين الداروينية المعاصرة القائمة على الاقتصاد والتكنولوجيا والقانون الطبيعي أن الأخير نبذ الأنواع غير الملائمة على مرَ ملايين السنين، في حين أن عملية الانتقاء الراهنة المدفوعة بالسوق والتكنولوجيا تستطيع إخراج الآلاف من العمل خلال أشهر، وطرد الشركات المنافسة من السوق في سنتين، ولا تستغرق أكثر من عقد من الزمن لتحويل العديد من الدول إلى اقتصادات غير قابلة للحياة.
في سنة 1989، عندما انهار جدار برلين وبدأ النظام السوفيتي في السقوط بدأت سياسات حرية النشاط الاقتصادي تسود العالم، فأحيى آدم سميث المنسي منذ حقب طويلة لتذكير كل البشر على الأرض بأن لا وجود للمجتمع، وأن السوق وحدها هي الحقيقة، والسوق التي تتواجه فيها المصالح الفردية المتمحورة حول الذات بعضها مع بعض لجلب السعادة للجميع.
اليوم ينظر إلى آدم سميث بأنه الملهم للنظام الاقتصادي العالمي الجديد. ففي عمله الأكثر شهرة، “ثروة الأمم”، حاول إظهار أن السعي وراء مصلحة الفرد تفيد المجتمع بأكمله غير أن هذا العمل ليس بأي حال تبريراً لسيادة قوى السوق في الاقتصاد. فقد كان آدم سميث يؤمن بأهمية الجوانب الاجتماعية والاهتمامات الأخلاقية.
لم يهمل الاقتصاديون والسياسيون الذين يسايرون الموضة ويجلََّون آدم سميث الإطار الأخلاقي والاجتماعي الذي كُتب فيه هذا العمل فحسب. بل تقدَموا خطوة إلى الأمام عن طريق محاولة التعبير بدلالات رياضية عن استعارة يد السوق الخفية، التي استخدمها آدم سميث ليظهر أن السوق الحرَة تستعيد دائماً التوازن بين العرض والطلب، وأن ذلك كما يعتقد يضمن إشباع الأولويات الحقيقية للمستهلك دائماً. لقد صاغت نظرية الاقتصاد الكلاسيكي الحديثة حسابات العرض والطلب الرياضية بذريعة جعل السياسة الاقتصادية علماً بحتاً.
إن تقديم الاقتصاد كعلم بحت، والسوق كقانون طبيعي محايد أخلاقياً تقرر أي شخص أو شركة أو بلد ملائم للمنافسة وأيها غير ملائم، بصرف النظر عن البطالة أو الفقر أو درجة تخلًف كل بلد، يعني تحويل وصف آدم سميث للحرية الاقتصادية والمسئوولية الأخلاقية إلى داروينية السوق العالمية. والواقع أن التعليل الاقتصادي الكلاسيكي الأساسي الذي اتبعه السياسيون المفرطون في الليبرالية في نهاية القرن يستخدم غريزياً المسلَمات الأساسية التي طرحها داروين: الثنائية والصراع والتطَور.
“الثنائية” بالنسبة إلى داروين هي النقيض بين الأنواع، من جهة، والبيئة، من جهة أخرى. الأنواع تتكيَف باستمرار مع البيئة في مسعى للبقاء. ووفقاً للتفكير الاقتصادي الليبرالي الحالي، السوق العالمية هي البيئة الطبيعية التي يجب أن يتكيَف معها المرء من أجل البقاء. ويعاقب الأشخاص أو الشركات أو الاقتصادات الوطنية التي تفشل في التكيَف وتدُفع إلى الهامش كأنواع غير قابلة للحياة من الناحية الاقتصادية. ويلي ذلك أن السوق ليست من صنع الإنسان، وإنما بيئة طبيعية خارجة عن إرادتنا: يد خفية مجرَدة من الأحكام الأخلاقية، وقانون انتقاء طبيعي يمكن أن يلغي الوظائف والمخازن والشركات ويجعل الاقتصادات الوطنية غير قابلة للحياة. وكل المشاكل تحلَها قوى السوق الطبيعية. فهي التي تنتقي الأشخاص أو الشركات أو الاقتصادات الوطنية التي تتسم بالكفاءة، مثلما تنتقي الطبيعة الأفضل بين الأنواع وتنبذ غير الملائم.
“الصراع” بالنسبة إلى داروين هو الحالة الطبيعية التي تعيش فيها كل المخلوقات: مثل الحيوانات مفترسة. ويعني ذلك البقاء والتكاثر. يجب أن تكون الشركات والاقتصادات الوطنية المفترسة أيضاً (نموراً)، وأن تمارس أقسى منافسة اقتصادية. ولا تسود إلا الاقتصادات القوية التى تتكاثر عبر الحدود، وتضاعف العوائد المتأتية من نموَها. ويجب أن تصبح المضاربة المالية، مع أنها لا تستحدث الوظائف، والتكنولوجيا، ومع أنها تدمَر الوظائف، وسيلة لتحقيق أعلى الأرباح الممكنة ومراعاة الطفرة نحو الأنواع القوية والملائمة اقتصادياً.
“التطوَر”، وفقاً لداروين، يغَير الأنواع من الأشكال البدائية إلى أشكال أكثر تعقيداً وذكاء عبر مراحل مختلفة من الطفرة. تمكَن هذه القدرة على الطفرة الأنواع من الانتصار والدوام على مرَ القرون في نهاية المطاف. وتستطيع الأنواع التي تتسم بحسن التكيَف تكرار نفسها والتكاثر. وقد انتقلت هذه المسلَمة العلمية أيضاً إلى التفكير الاقتصادي المعاصر. على الشركات والاقتصادات الوطنية التكيَف (الابتكار والتطوَر) لكي تنتصر في البيئة الاقتصادية وتسود ككيانات اقتصادية تتسم بالكفاءة و”قابلية الحياة”. لا تستطيع الشركات التطوَر والتكاثر إلا من خلال التحوَلات التكنولوجية لكي تنجح في السوق العالمية، وتحقَق الازدهار والأرباح الفاحشة. أما البلدان التي لم تستكمل عملية التطوَر بعد فإنها تفعل ذلك عبر السوق العالمية الحرة إلى أن تتحوَل إلى اقتصاديات رأسمالية حديثة ومتطوَرة.
إن الداروينية التي تقوم عليها الرسالة الكلاسيكية الحديثة الفائقة الليبرالية التي تلهم العولمة الرأسمالية اليوم، تحوَل الاقتصاد إلى عامل أسمي لتحديد كل الخيارات الأخرى، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم حتى ثقافية؛ فالنموذج الأولي هو”الهوموإكونوميكوس”[1]، الذي يشكَل المال والقدرة على استهلاك المزيد من السلع المادية دافعه الوحيد، ويتسم بالتنافسية العدوانية، كأنه مفترس طليق في غابة داروينية متحرَرة من القيود الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذه الغابة، ليس على كل شركة أن تكون الأفضل والأحسن فحسب، وإنما على كل فرد وكل مجموعة اجتماعية أيضاً. ويجب نبذ كل من هو غير قادر على المنافسة من الحلبة الاقتصادية، بصرف النظر عن العواقب الاجتماعية أو الأخلاقية أو البيئية. إنها لعبة تربح فيها ما يخسره الآخر. أي ليس فيها تعاون. فإما أن تربح وإما أن تخسر.
إذن عندما ينزع البعد الأخلاقي من قوانين الاقتصاد، تصبح قوى السوق مساوية لقوى الطبيعة، أي لا أخلاقية.
وهذا المفهوم الفائق الليبرالية بأكمله أقرب إلى بيولوجيا تشارلز داروين من السياسة الاقتصادية لآدم سميث.
الغابة العالمية:
لايوجد شيء أكثر ابتعاداً عن المبادئ الأخلاقية والليبرالية التي تقوم عليها السياسة الاقتصادية لسميث أو أكثر قرباً إلى الغابة التي يحكمها قانون الانتقاء الطبيعي لداروين من عملية العولمة الراهنة. فالسوق العالمية تعمل في الواقع مثل قانون الانتقاء الطبيعي الذي لا يمكن أن يهرب منه أحد، سواء أكان شخصاً أم شركة أم أمة. وعلى الجميع الإذعان للتكيَف مع هذا القانون، وقبول البطالة، ومشاهدة مسح قطاعات بأكملها من الاقتصاد الوطني، والترحيب بتعميم أنماط الاستهلاك التي لاتستطيع النظم الإيكولوجية للأرض احتمالها. البلدان المختلَفة التي تفشل في التحديث التكنولوجي ليست الوحيدة غير الملائمة في هذه الغابة الداروينية العالمية، بل أيضاً الأفراد والمجموعات الاجتماعية ذات المهارة المتدنية في استيعاب التكنولوجيا الحديثة واستخدامها. وهكذا فإن 30 بالمئة من القوة العاملة العالمية تعاني من البطالة أو البطالة الجزئية، كما ازداد الفقر والتباين الاجتماعي سوءاً في كل أنحاء العالم. وتكمن نقطة ضعف الاقتصاد العالمي، في أثناء تحوَله إلى سوبر ماركت عالمي، في افتقار العالم المتخلَف إلى القدرة الشرائية.
وليس من سمات الغابة العالمية أنها تنتج المزيد بعدد أقل من الوظائف لأقلية من سكان العالم فحسب، وإنما أيضاً أنها استحدثت داراً للقمار تضم العالم أجمع. في هذا الكازينو العالمي، يمارس كل يوم العديد من الألعاب المبتكرة في المضاربة المالية، يشارك فيها المستثمرون، وصناديق الاستثمار المشتركة، وبورصات الأسهم، وأسواق العملات، والسندات، والأوراق المالية. وتجرى صفقات بمليارات الدولارات يومياً، وتريليونات الدولارات سنوياً، دون أن تكون ذات صلة بالتجارة أو الاستثمارات عبر الوطنية المباشرة لاستحداث فرص العمل. وتعادل قيمة صفقات المضاربة في أسواق العملات العالمية في أسبوع القيمة الإجمالية التراكمية للتجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية في سنة.
لاتغلق دار القمار هذه البتة. عندما يتوقَف الاتجار في أوروبا، يفتح في نيويورك، ويليه في طوكيو وهونغ كونغ. وعن طريق نظام اتصالات عالمي مرتبط بالأقمار الاصطناعية، يراهن آلاف السماسرة والمصرفيين والمستثمرين ومدراء رؤوس الأموال والمدراء التنفيذيين وحتى الأفراد العاديين بمليارات الدولارات على نطاق عالمي، بدلاً من لعب البوكر والبلاك جاك والروليت، فيشترون عبر شاشات حواسيبهم الأسهم ويبيعون السندات، ويضعفون قيمة عملة ما، ويحدَدون أسعار العقود الآجلة، ويلعبون بالأوراق المالية المشتقة ويمارسون مختلف المضاربات المالية المعقَدة والمتقلَبة. والغاية كسب كثير من المال بسرعة.
الاختلاف الرئيسي بين هذا الكازينو العالمي والكازينو العادي أنه يؤثَر حتى على الذين لا يراهنون. فحدوث تغَير في قيمة عملة ما أو المضاربة بسعر مادة خام يمكن أن يحقَق مكاسب هائلة، لكنه يمكن أن يتسبَب بهروب رأس المال أو انهيار في بورصة أسهم، ويمكن أن يدفع شركات إلى الإفلاس ويقود إلى صرف العمال
الغابة العالمية ليست داراً للمقامرة فحسب، وإنما تعمَم الأنماط الاستهلاكية التي لا تتوافق مع التوازن الإيكولوجي للأرض. فكل الأنماط الاستهلاكية المعاصرة تستند إلى نموذج اقتصادي ينظر فيه إلى الطبيعة كأنها مادة خام أخرى يجب استهلاكها. فتتراجع مساحة الأرض الزراعية أمام توسَع العمران، ويقل إنتاج الأغذية. ويستنزف فرط صيد السمك الثروة السمكية. وتلوَث انبعاثات غازات الدفيئة الهواء ما يؤدي إلى تغيَرات مناخية وجفاف وفيضانات. ولا تزال الصناعات النووية والكيميائية تدفن مخلَفاتها السامَة في الأرض وتشحن السلع في كل أنحاء العالم مغلَفة بكيلومترات من الورق والكرتون المصَنع من الخشب بإزالة الغابات.
تتعولم النفايات مع عولمة الأنماط الاستهلاكية. فيتم بصورة منهجية شحن جبال من المخلَفات النووية والكيميائية السامة، إلى مكبَات النفايات العالمية الجديدة في العالم المتخلَف.
الأرض بعيدة عن التحوَل إلى قرية عالمية تتقاسم فيها كل الأمم الازدهار والمحافظة على البيئة وفقاً لنموذج العولمة عبر الوطنية الحالي. بل هي مثل سلسلة من المعازل (جمع غيتو) التي يتقاسم فيها الأغنياء، المستهلكون في الاقتصاد العالمي، أنماط الاستهلاك نفسها ويدمَرون البيئة.
فمن لوس أنجلس إلى فلاديفوستوك ومن ريو دي جانيرو إلى مانيلا، تعيش الغالبيات الفقيرة والعاطلة عن العمل والتي لا يتوقَع أن تتمكَن من زيادة دخلها، بجوار النخب الصغيرة في ملكياتها المسوَرة التي تحرسها قوات شرطة خاصة وتستهلك كل أنواع السلع العالمية الدخيلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أزوالدو دي ريفيرو (2011). خرافة التنمية: الاقتصادات غير القابلة للحياة في القرن الحادي والعشرين/ ترجمة عمر سعيد الأيوبي. أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث “كلمة”.
** أزوالدو دي ريفيرو (1936م) دبلوماسي متقاعد من بيرو، له كتابات عديدة في مجال التنمية.
[1] Homo sovieticus(الإنسان السوفياتي) و homo economicus(الإنسان الاقتصادي). وهذا المصطلح منحوت جرباً على homo erectus (الإنسان المنتصب) و homo sapiens (الإنسان العاقل)، وهما نوعان ظهرا في مسيرة تطور الإنسان. ونحن ننتمي إلى النوع الأخير – المترجم.