السنن الربانية

السنن الربانية*

راشد سعيد شهوان**

إن من حكمة الله وتفضله علينا أن سخر لنا الكون وهيأه التهيئة الصالحة، وجعله مناسبًا لقدرات الإنسان ومستجيبًا لمطامحه وأهدافه، وشكَله وفق صيغ ومعادلات تُمكِن الإنسان من أداء دوره الحضاري والقيام بأعباء الاستخلاف المطلوب.

ولم يشأ سبحانه وتعالى أن يكشف للإنسان عن سننه وقوانينه ونظمه وأسراره، لأن ذلك يكل الإنسان الى السلبية، كما أنه نقيض عملية الاستخلاف والابتلاء والمسؤولية التي تتطلب عملًا وجهدًا ونشاطًا وكدحًا وسعيًا وحركة.

ولعل من الموضوعية أن نقول إن العقل الغربي الحديث قد أبدع في اكتشافه قوانين الكون، وأبدع كذلك في تحويل هذه القوانين الى تطبيقات علمية وتكنولوجية، ولكنه أخطأ في تفسير علاقة العناية والتسخير، وضل كثيرًا عن أهدافها وغاياتها الصحيحة. ولكن مع هذا فإن من سنة الله في هذه الحياة أن تظل هذه الأرض معمورة ماضية في أخذ زينتها وزخرفها، خاضعة لسنة التطور العمراني حتى تقوم الساعة، أي لابد من أمم وجماعات تقود حركتها المعاشية والعمرانية. فإذا كان المؤمنون مستحقين للاستخلاف استُخلفوا، وإلا فإن الاستخلاف يكون لغيرهم –ممن أخذوا بسنن العمران- لتستمر الحياة. ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد 38]. لأن السيادة لا تكون للمستضعفين الغافلين الذين تحوَل إسلامهم في حياتهم الى مظاهر تفصل واقعهم السلوكي عن قواعد الإيمان وحقائقه ومتطلباته.

أنواع السنن

 يمكن تقسيم السنن الربانية إلى أربعة أنواع، وهي السنن الكونية، والسنن التاريخية، والسنن التشريعية، والسنن الإنسانية، فنفصل هذه الأنواع على الوجه الآتي:

السنن الكونية:

يمكن تعريف السنن الكونية بأنها مجموعة القوانين التي يسير وفقها الكون، والتي يستفيد منها الكائن الحي، إنها نُظُم الكون المفتوح بما فيه ومَن فيه المسيرة له، وفق ما أراد الله تعالى، مجالها الواسع السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما[1].

-والناظر في القرآن الكريم يجده فياضًا بالسنن الكونية، وقد جاءت تلك السنن في كثير من النصوص بلفظ «الآية» أو «الآيات» قال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ [الروم 22]، وقال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءُ وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السَّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [يونس 5 ]، وقال تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ…﴾ [فصلت ٥٣].

-كما يمكن تلمس السنن الكونية في كثير من النصوص التي جاءت بلفظ «ألم تر» أو «ألم تروا» ونحوهما، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا* وَاللَّهُ أَنبَتَكَم مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتا* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا* وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا* لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [نوح 15: 20]، وقال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يجعله ركامًا فَتَرَى الْوَدْق يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ، وَيُنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالِ فِيهَا مِنْ بَردٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفه عن من يشاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِيه يَذْهَبُ بِالْأَبْصَرِ* يُقَلِبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبَرَة لِأُولِي الْأَبْصَرِ﴾ [النور 43- 44].

-كما يمكن أن نلحظ السنن الكونية من خلال الآيات التي جاءت بصيغة «التسخير»، قال تعالى﴿وسَخرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُ بِأَمْرِهِ﴾ [النحل 12] وقال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تلبسونها وترى الفلكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلَتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَأَلْقَى في الْأَرْضِ رَوَاسِى أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلَمَاتِ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل 14: 16].

-كما ترد السنة الكونية بلفظ النظر والتدبر، قال تعالى ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج* وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَالْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتَنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج﴾ [ق، 6- 7] وقال تعالى ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجَبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية، 17: 20].

-كما ترِد السنة بصيغة مباشرة من مثل قوله تعالى ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات 49]، وقال تعالى ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد ٢٥] وقال تعالى ﴿وَأَرْسَلْنَا الريح لَوَاقِحَ﴾ [الحجر ٢٢] وقال تعالى ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَرْنَهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس 38: 40] إلى غير ذلك من الآيات …

إن معرفة الإنسان للسنن الكونية طريق لتحقيق سعادة الإنسان، ولقد أعطى القرآن الكريم نماذج للسنن الكونية من أجل أن يكون الكَون مدرسة يتعلم فيها وميدانًا يهتدي الإنسان فيه إلى قوانين التسخير.

إن القرآن الكريم ليس كتابًا فلكيًا بالمعنى المطابق لهذا الاسم، ولهذا فإنه لا يهتم بتفاصيل الكون وسننه الدقيقة، وإنما يستعرض العلاقات الكبرى فيه من أجل تكوين بيئة عمل وإنجاز تضمن الشروط التي تُمكِن الإنسان من استنطاق السنن والنواميس المبثوثة في الآفاق والأرجاء[2].

وتأتي مهمة التوكيد على الإنسان المسلم في إدراك سنن هذا الوجود ونواميس الله، فالله تعالى ربط صَلاته بحركة الأرض مع الشمس قال تعالى ﴿أَقِمِ الصلوة لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قرآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء 78]، وربط صومه بحركة القمر قال عليه الصلاة والسلام (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)[3]، ولأن إدراك السنن والنواميس يعزز تحقيق الأمانة الموكولة إليه على سائر الناس في عمارة هذا الكون باعتباره خليفة الله، ولأن المسلم ابن الأمة الخافقة لا الأمة الغافلة قال تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لقوم يتفكرُونَ﴾ [الروم 21]، وقال تعالى ﴿وإن في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم 24] وقال تعالى ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئْكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء 36]، وقال تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان 73].

إن السنن الكونية طريق ترشيد سعادة الإنسان، وأن مزيد كشف السنن الكونية والنواميس الإلهية والقوانين التي تحكم الأشياء، يؤدي إلى مزيد سعادة الإنسان وتحقيق إنسانيته وخلافته، وبقدر ما تكشف أية أمة عن تلك القوانين والسنن، وبقدر إحرازها لفهم أكبر في تسخيرها والاستفادة منها وتطبيق أدق لها، تتبوأ مكانتها على الأرض وتصبح قوية بقوة الطاقات الكونية الجبارة المحايدة التي يحويها هذا الكون العريض، وبقدر نقصها في الفهم والعمل والتسخير والتقصير ينعكس ذلك على سيرها سلبًا وانحطاطًا[4].

حتى السنن الكونية التي تبدو في ظاهرها حتمية كالموت والحياة، وجه الإسلام الإنسان للعمل على ترشيدها لمصلحته، فأوجب التداوي قال «تداووا فإنه ما من داء إلا وجعل الله له دواء إلا الهرم»[5]، وحثّ على شروط السلامة قال تعالى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُم إلى التهلكة﴾ [البقرة ١٩٥] والتعامل مع القَدَر الإيجابي الذي يتلمس اتصال الأسباب بمسبباتها، لا القَدَر السلبي القائم على الاستسلام والقعود والخمول.

ويستوي في هذه النتيجة أن يكون الإنسان مؤمنًا أو كافرًا، فالإنسان – أي إنسان – إذا أهمل اكتشاف تلك القوانين وأهمية استخدامها يصبح ضعيفًا ولو كان مؤمنًا، والإنسان الذي يكتشف تلك القوانين ويسخرها يصبح قويًا ولو كان كافرًا[6].

على أنه يجب الانتباه إلى أن كشف السنن والنواميس الكونية لا يكفي وحده لبلوغ سعادة الإنسان، وإنما يجب أن تقام السنن الكونية على قيم من الأخلاق العليا، كما يجب أن تقوم الأخلاق على سلم من العلم بنواميس الكون، ولهذا فإن الأمم التي تقدمت في اكتشاف السنن الكونية بمعزل عن الأخلاق بلغت رقيًا ماديًا أدى إلى اصطناع حضارة شقية، كما أن الأمم التي حافظت على أخلاقها وغفلت عن السنن والنواميس الكونية أمست هزيلة ذليلة.

السُنن التاريخية:

تعرف السنن التاريخية بأنها مجموعة القواعد والقوانين التي تحكم سير الأمم في بقائها أو زوالها، وفي صعودها أو انحطاطها وفق عادات الله تعالى ومشيئته المطلقة[7].

ونستطيع أن نقف على مفهوم السنن التاريخية من خلال لفظ «السنة» التي جاءت مضافة إلى الله تعالى في آيات قرآنية متفرقة، قال تعالى ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب 62] أو مضافة إلى غيره من قبيل الملابسة[8]. من مثل قوله تعالى ﴿وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنتُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال 38]، قال العلامة الألوسي: وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله تعالى ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قبلك من رُسُلنا﴾ [الإسراء ٧٧]، فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى[9].

كما نقف على مفهوم السنن من خلال لفظ «آية» أو «آيات» ففي معرض القصص القرآني عن فرعون قال تعالى ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً﴾ [يونس 92] أي لتكون لمن بعدك من الناس عبرة وعظة[10]. وكذلك في قصة شعيب قال تعالى ﴿فكذبوه فأخذهم عَذَابُ يوم الظُّلَةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء 189- 190]، وكذلك في قصة نوح ﴿فَأَنجَينَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاها ءَايَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت 15]، وقوله تعالى ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَرْنَهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بيُوتُهُمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل 51- 52].

كما تعتبر مسيرة المسلمين أنفسهم عبر تاريخهم المتواصل مجالًا خصبًا لاستنباط سُنن التاريخ منذ قيام الخلافة الراشدة وحتى عصرنا الحاضر، مرورًا بالأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين والصوفيين والتيموريين.

وبالجملة فالسُنن التاريخية مدرسة الاعتبار الزمني في مساحة التاريخ، وينبغي بل يجب أن يكون لمفكري المسلمين وعلمائهم وفقهائهم ومؤرخيهم وحكمائهم وقفات دراسية جادة يستخلصون فيها دروس التاريخ البليغة ومنطق السنن الإلهية السارية في الأمم. إن السنن التاريخية تعلمنا أن التاريخ البشري لا يتحرك فوضى ولا على غير هدف، وإنما تحكمه قوانين ونواميس كتلك التي تحكم الكون والحياة والإنسان والأحياء والأشياء سواء بسواء، وأن الوقائع التاريخية لا تخلق صدفة ولا تمضي لهوًا ولعبًا وعبثًا، وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك وتوجهها صوب هذا المصير أو ذاك. ونقف على معنى السنن التاريخية من خلال قصص القرآن في أخبار الأمم السابقة، قال تعالى ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائهَا﴾ [الأعراف ۱۰۱]، وقال تعالى ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قبلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِبِينَ﴾ [آل عمران 137]، وقال تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَاب﴾ [يوسف ١١]، وقال تعالى ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف 176].

كذلك نقف على مفهوم السنن التاريخية من خلال حديث القرآن عن بعض الأقوام والجبابرة وبيان مصيرهم الحضاري والأخروي، ففي صراع موسى مع فرعون يقول الله تعالى ﴿فأنجينَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَونَ وَأَنتُمْ تَنظرُونَ﴾ [البقرة ٥٠]. وفي مصير عاد وثمود يقول الله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخلَق مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جابوا الصخر بالواد* وفرعونَ ذِي الْأَوْتاد* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبَلَدِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد* فصَبَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر6: 13]. وفي قصة سبأ يقول الله تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلوا مِن رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلَدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَلنَاهُم بجنتيهم جنتينِ ذَوَاتى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثلِ وَشَيءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجازي إِلَّا الكفور﴾ [سبأ 15: 17]، وقال تعالى ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ففَسَقُوا فِيهَا فَحَق عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمرْنَاهَا تَدْمِيرا﴾ [الإسراء ١٦].

والنظم التي تسير بموجبها الأمم تخضع لسنة التداول، قال تعالى ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ ندَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ﴾ [آل عمران ١٤٠]، بمعنى أن التاريخ في حركة دائمة كما يقول ابن خلدون[11] “أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة والانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة، سنة الله التي قد خلت في عباده”.

فالأمم بإيجابياتها واستكناه سنن تاريخها تستطيع أن تمد من عمر حضارتها وتضع حدًا لقوارع الدنيا والآخرة، وبسلبياتها تستطيع أن تعجل بسقوطها الحضاري وأفولها الدنيوي وخسارتها الأخروية، يستوي في ذلك أن تكون الأمم مسلمة أو كافرة[12]. قال تعالى ﴿ذلك بأن الله لَمْ يَكُ مغيرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال ٥٣].

ومسئولية الأمة المسلمة في فقه التاريخ من أعظم مسئوليات الأمم، لأن القرآن الكريم قدم لنا أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري والانتقال بهذا المتعامل من مرحلة العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص العبر والقوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية والتاريخية[13].

فالقرآن يؤكد أكثر من مرة على أن التاريخ لا يكتسب أهميته الإيجابية إلا بأن يُتخذ ميدانًا للدراسة والاعتبار تستخلص منه القيم والقوانين التي لا تستقيم أية برمجة للحاضر والمستقبل إلا على هداها[14].

وعلى هذا فالسنن التاريخية ليست أوامر ونواهي بالمعنى التشريعي، وإنما هي تذكر واعتبار ومدرسة كاملة وديوان ذكريات أقدار البشر ومصيرهم في التقدير والجزاء، وبمقدار العبرة يكون التوفيق والنجاح.

السنن التشريعية:

يمكن تعريف السنن التشريعية بأنها “مجموعة القواعد التي رسمها الله تعالى لعباده من أجل صلاحهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة على مقتضى حكمته ومشيئته[15]. وسمیت هذه السنن بالتشريعية من باب التغليب اللفظي، أو بالمعنى العام للشريعة، وإلا فتدخل فيها العقيدة من باب أولى، لأن العقيدة أساس البناء التشريعي، حيث لا يتصور في الإسلام شرع عملي إلا على أساس عقدي.

وتأتي السنن التشريعية في كثير من النصوص القرآنية متلبسة بلفظ «آية» أو «آيات» كما تقدم في السنن الكونية والتاريخية، وذلك من مثل قوله تعالى «ومن آياته أن خَلَقَ لكم من أنفسكم أَزْوجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً» [الروم ۲۱] فهذه سنة تشريعية في انتظام قانون الحياة الاجتماعية والعلاقات الزوجية بين الذكر والأنثى، يثرى ويزداد من خلالها النوع، وتستقر بها النفوس وتتحدد الاختصاصات والالتزامات، ويوم تحيد البشرية عن هذه السنن التشريعية والاجتماعية، يضيع النسل وتختلط الأنساب وتتفشى فيهم أمراض الزهري والإيدز.

-ومن السنن التشريعية الاجتماعية قوله تعالى ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمنَة خيرٌ من مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبَدٌ مُّؤْمِنُ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أَوْلَئكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة 221] فهذه سنة إلهية في عدم مناكحة الكفار ولو كانوا على درجة من الجمال، لأن المشرك خطر على عقائد الأطفال والمسلمين بعامة، ولأن الجمال الحقيقي جمال الأخلاق لها جمال الأشكال والمال، ولأن الجمال يتناقص أو يتلاشى، بينما الأخلاق تبقى أو تزيد.

ومن السنن الاجتماعية أيضًا قوله تعالى ﴿وَإذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَئذَن الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءاياَتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور 59]، وقوله تعالى ﴿فإذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحيَّةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَرَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبين الله لكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور 61]، فهاتان الآيتان سنتان إلهيتان وآيتان تشريعيتان اجتماعيتان في تنظيم علاقات المسلمين في منازلهم وزياراتهم.

ومن السنن الاجتماعية قوله تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بنعمته إخوانا وَكُنتُم عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقذكم منها كذلك يبين اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران 103]، فهذه سنة تشريعية اجتماعيـة بـل سياسية تتعلق بوحدة الأمة واعتصامها بحبل الله، وما دامت الوحدة مهيمنة على المسلمين فهم في طليعة الأمم، وإن فقدوا قانون الاعتصام ذهبوا في غثاء السيل مصداقًا لسنة أخرى في قوله ﴿وَلَا تَنزَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال ٤٦]، وليس غريبًا بعد هذا أن تتكالب الأمم على المسلمين اليوم بعد أن تنازعوا وفكوا عروة الاعتصام مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: “توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها»، قلنا: أو من قلة يومئذ يا رسول الله؟ قال «كلا إنكم كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، قلنا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”[16].

-ومن السنن التشريعية الاقتصادية قوله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركت مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف ٩٦]، وقوله تعالى ﴿وَالَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقيْناهُم مَاءً غدقا﴾ [الجن 16]. وقوله تعالى ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقَعُدَ مَلُومًا محسُورًا﴾ [الإسراء 29]، وقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج 24- 25]. إلى غير ذلك من الآيات… فهذه سنن اقتصادية تبين أثر التقوى في سعة النعمة ومدى أهمية التكامل الاجتماعي في الحياة الاقتصادية.

-ومن السنن السياسية قوله تعالى ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خبالًا وَدُّوا مَا عَنِتُم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُم تعقلون﴾ (آل عمران 118)، فهذه سنة عظيمة في الحكم تتفق مع قوله تعالى ﴿ولا تؤمنوا إلا لمَن تبع دينكم﴾ [آل عمران: ۷۳]، وقوله تعالى ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة ٥١]

ومن السنن السياسية الكبرى الإعداد والجهاد لاستمرار عزة الأمة الإسلامية، قال ﴿وَأعِدُوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللَّهِ وَعَدُوكُمْ﴾ [الأنفال ٦٠]. ومن السنن الكبرى قاعدة الشورى، قال تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ [الشورى ۳۸]. ومنها قيمة العدل وعدم الظلم، قال تعالى ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئانُ قَوْمٍ عَلى ألا تعدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة ۸]، وقال تعالى﴿… وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبن الذين ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال 25]، وذلك لأن الظلم من أعظم السنن التي تزول بسببه الأمم، ولم يحفظ التاريخ اسم دولة كانت ظالمة ثم دامت وعمَرت طويلًا، فالظلم يدمر الدول ويقوض الحضارات، قال تعالى ﴿وَسَكَنَتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وتبين لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ [إبراهيم 45].

-ومن السنن الخلقية قوله تعالى ﴿قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغضُوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور ٣٠]، وقوله تعالى ﴿وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبَصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور ۳۱]، وقوله تعالى ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة ٢] وقوله عليه السلام «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»[17]، وقوله «أنا وكافل اليتيم في الجنة»[18].

-ومن السنن العقائدية قوله تعالى ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه 123- 124]، وقال تعالى ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَ مِنَ السَّمَاءِ فتخطفه الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح في مكان سحيق﴾ [الحج 31)، وهذه السنة مشاهدة في تلك الأمم التي سلكت مسالك الشيطان وتركت مناهج الرحمن فاستولى عليها الضياع والحيرة وهَوَت في أتون الدمار.

ومن السنن التشريعية الزمن وقيمة الوقت والنظافة وغير ذلك من السنن المتعلقة بقواعد السلوك والأخلاق الفردية والاجتماعية في معناها الواسع، وليست هذه القوانين للابتلاء الإنساني فحسب ولكنها قبل ذلك وبعده الإطار الذي يضبط الفرد والمجتمع في أنشطته المتعددة.

والناظر في السنن التشريعية التي جاءت بها الرسل وخُتمت بها الرسالة المحمدية يجدها منسجمة مع فطرة الإنسان وناموس الكون مكملة لهما في الجانب الاختياري الحر، مضيئة للعقل سبل الحقائق، عاصمة له من كل التيه والضلال، محققة له السعادة في الدارين، لأن الإنسان بحاجة إلى قانون هداية أعلى، خارج نطاق العقل المحدود حتى لا يضل ولا يشقى كما شقيت الأمم الأرضية من خلال تشريعاتها الوضعية قال تعالى ﴿فإما يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة 38]، ولهذا فمن سار على هدي سنن التشريع، مضى على سنن الفطرة في النفوس، ومن خرج عن سنن التشريع خرج عن سنن الفطرة، وهنا تكون له سنن الله بالمرصاد، لأن قانون بقاء الأمم وعلو مكانتها في الأرض هو قانون “الصلاحية العامة” الذي تتفوق به أية أمة على غيرها على درجة الفعالية، وهكذا تدور الحضارات حسب قانون الصلاحية العامة[19]، بأمر الله تعالى قال سبحانه ﴿الَّذِينَ إن مَّكْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاة وءاتوا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا مَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الأمور﴾ [الحج 41]

السنن الإنسانية:

يمكن تعريف السنن الإنسانية بأنها «مجموعة القوانين المتعلقة بالطبيعة البشرية التي تحكم الإنسان وتنظمه في داخله وفي خارجه بجوانبه المتعددة وفق ما أراد الله تعالى[20]. فالإنسان مركب من جوانب متعددة ومتشابكة، وهي الجانب الروحي والجانب العقلي والجانب الجسمي، والجانب النفسي، والجانب العاطفي والجنسي …

فإذا كشفنا عن السنن التي تحكم تلك الجوانب، والتي بمقتضاها يسير الإنسان، نستطيع أن نسخر أحواله وهمومه وآماله في إيجاد الإنسان المستخلف الوادع الأمين، فالسنن إذن مفتاح العقول والنفوس والأجسام والعواطف وغير ذلك. وفي الإسلام دعوة جادة لحثّ الإنسان على معرفة نفسه، واقتحام ذاته، قال تعالى ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبصِرُونَ﴾ [الذاريات ۲۱].

-إن أول جانب وأعلاه وأرقاه في الإنسان هو الجانب الروحي، “فهو القاعدة التي يستند إليها الكيان كله، إنه المهيمن الأكبر على حياة الإنسان، إنه الموجه إلى النور، لأنه يمثل الصلة بالله”[21]

فالإنسان كائن ديني مفطور على العبودية لله، قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظهُورِهِمْ ذُرِّيَّتهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهدنا﴾ [الأعراف ۱۷۲]، وقال تعالى ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم ٣٠].

ومن هنا عني الإسلام عناية فائقة بتربية الجانب الروحي وربطها بعقيدة الإيمان بالله، وعمل على إيجاد الصلة المستمرة بين القلب البشري وبين الله تعالى، بالعبادة الدائمة، والعبودية الشاملة، واستشعار الوجدان الإيماني بوجود الله تعالى من خلال آيات الكون الكبرى في الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي النجوم المسخرات، وفي الشجر والنبات والحيوان، وفي الجبال وفي الفُلك التي تجري في البحار والأنهار.

فالكشف عن هذه السنن الإنسانية الهادية يمضي بنا إلى الاعتراف بأن ترقية الطبيعة الإنسانية، يقتضي العمل باستمرار على ترقية الطبيعة الإيمانية في الإنسان، وتعزيز مظاهر التعبد فيه وتوفيرها، وإيجاد بيئة دينية تعينه على استكمال الغذاء الروحي.

كما يؤدي الكشف عن السنن الروحية في الإنسان إلى بطلان الفرضيات العلمانية، والفلسفات الإلحادية التي دعت إلى إسقاط الدين ونكران وجود الله، وعملت على حرمان الإنسان وقهره الروحي، والقناعة بأن توجيه الإنسان ضد الفطرة الدينية عبث لا طائل له.

-أما جانب الإنسان العقلي، فلا شك أن العقل يشكل أكبر تميز في الإنسان عن غيره من المخلوقات، قال تعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ منها وحملها الإنسانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب 72]. ولهذا نجد القرآن الكريم يستثير العقل ويحثه على التدبر والتفكر، قال تعالى ﴿إن في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قيامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ [آل عمران ۱۹۰ – ۱۹۱].

ولا شك أن دراسة العقل ومركباته، والاستعانة بالخبرة التربوية والتشريعية على معرفة أجزائه، والكشف عن سنن الله في فاعليته، يصل بنا إلى معرفة قوانين التفكير والذكاء، ومن خلال تلك السنن، نستطيع الوصول إلى طرائق التعلم الصحيحة، وقياس الذكاء، وبناء المناهج وطرق التدريس على أسس منهجية صحيحة. كما أن الوقوف على طوائف العقل العددية واللغوية والاستدلالية والخيالية، يعيننا على إدراك مهارات الإنسان، وتبرير الفروق الفردية، وقيام التخصص الدراسي على أكمل وجه، كما يعيننا على حل مشكلات الضعف الدراسي والتخلف العقلي.

-أما جانب الإنسان الجسمي، فهو البدن، وهو محتاج إلى الغذاء والكساء والشراب والنظافة والنوم والعمل والراحة وغير ذلك، وكلها سنن أكد الإسلام عليها وعمل على تعزيزها من أجل مسعادة الجسد لا قهره وفنائه، قال تعالى ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة ١٦٨]، وقال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام ٦٠]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنّ لبدنك عليك حقًا..)[22]، وقال أيضًا: (الطهور شطر الإيمان)[23]

فالكشف عن السنن الجسمية يصل بنا إلى بناء الجسم السليم في مظهره ومخبره، كما يصل بنا إلى تلبية الحاجات الأساسية في حفظ الجسم خاليًا من الأمراض، قائمًا بواجبات الزمان والمكان، كما يقف بنا على أهمية الاعتدال في سنن الطعام والشراب، والتوسط في العمل واللعب والنوم وسائر سلوك الإنسان، قال تعالى ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسرفوا﴾ [الأعراف ۳۱]، وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)[24]. وقال أيضًا: (إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت)[25].

 كما أن الكشف عن السنن الإنسانية يصل بنا إلى معرفة معايير النمو الجسمي في الإنسان ومراحله المتعددة، وتوجيهها التوجيه الصحيح[26]، أضف إلى ذلك أن كشف سنن التركيب الجسمي في أجهزته المختلفة يساعد على امتداد مراحل الشباب وتأخير سن الشيخوخة ومعالجة شذوذ النمو. فالكشف عن جهاز الدورة الدموية يساعد على توقي أزمات القلب، ومعالجة الجلطات، وإتقان نقل الدم، وحفظ توازن. والتعرف على الجهاز الهضمي، يساعد على معرفة أحوال المعدة والمرارة والبنكرياس، ومعالجة مرض السكر واستئصال الأمراض السرطانية. والتعرف على سنة الجهاز البولي، يساعد على توازن الأملاح ومعالجة حـصـوتي الكليـة والمثانة وزرع الكلى أو استئصالها، وغير ذلك من السنن الأخرى.

-وأما الجانب النفسي في الإنسان، فقد تناوله القرآن الكريم، وتحدث عن صفات النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، والنفس الأمارة بالسوء، وقال تعالى ﴿يأيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئنَةُ﴾ [الفجر 27] وقال تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ ربي﴾ [يوسف ٥٣]، وقال تعالى ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة 2]. وبيَن الحق سبحانه وتعالى أن النفس الإنسانية مزودة بحرية الاختيار، ملهمة بالصواب والخطأ، مسئولة عن القدَر، قال تعالى ﴿ونَفسٍ وما سواها* فألهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقُواهَا﴾ [الشمس 7، 8]. كما يشير القرآن الكريم على أهمية توجيه النفس نحو الخير قال تعالى ﴿وأَما مَن خافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الجنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات 40، 41].

من هذه الآيات وغيرها نرى مساحة النفس الإنسانية ممتدة في القرآن الكريم، وترى هذا التمايز بين النفوس والطباع، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن هنالك نفسًا مطمئنة هادئة تتزين بالإيمان، وأن طبائع الإنسان في منطلقاتها الأولى طبائع الخير، وهذه الحقيقة الربانية تكشف لنا عن سنة قيمة وهي أن الأصل في الطبيعة البشرية هو الخير، وليس الإنسان شرًا يولد مسربلًا بالخطيئة والآثام ….

فالكشف عن السنن النفسية ودراستها، يعيننا على مداراة النفوس وتوجيهها نحو الصراط المستقيم فقد تتغير النفوس الحميدة بالمرض وبالفقر وبالغضب وبالهرم وبالتعاصي على واهبها تعالى[27]، كما يفيدنا في تنهيج التربية، ومراعاة ميول الأفراد وتحديد المثيرات والاستجابات الصحيحة في سلوكهم، ودراسة الدوافع والميول والاتجاهات لدى الأفراد، وكشف أسباب الانحراف والاضطراب والشذوذ السلوكي ووضع المعايير النفسية في علاج ذلك.

وأما الجانب الغرائزي، فإن الله تعالى طبع الإنسان على غرائز أساسية لا يستقيم حاله دونها، وعلى رأسها سنة الاجتماع البشري، فالإنسان مدني بالطبع[28]، وهو يبحث عن سنة الاجتماع البشري لتلبية حاجة الانتماء والشعور بالأمن، قال تعالى ﴿وَجَعَلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا﴾ [الحجرات ١٣]. كذلك يبحث عن سنة الإشباع الجنسي، تحقيقًا للسكن النفسي قال تعالى ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم ٢١]. فالوقوف على سنة الغريزة الجنسية فيه توكيد على مشروعية الزواج والقناعة بحكمته وضرورته الإنسانية.

وفي الختام، فإن دراسة السنن الإنسانية في ضوء السنن الأخرى وربطها جميعها بمنهج الله، خليق بإيجاد الإنسان المستخلف، المتفاعل مع الحياة، المقبل على الله، المتمتع بقلب هادئ ونفس مطمئنة، وعقل فاعل وإرادة ماضية، وآمال ممتدة، وسلوك قويم وحياة طيبة أمينة، وصدق الله العظيم حيث يقول ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ سوَاءً مَحيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية ٢١].

خصائص السنن

من خلال استعراضنا لأنواع السنن، وذكرنا لبعض النصوص القرآنية الكريمة التي وضحت فكرة السنن الكونية والتاريخية والتشريعية والإنسانية وأكدت عليها، يمكننا أن نستخلص من خلال المقارنة بين هذه الأنواع وتلك النصوص أن السنن لها سمات تميزها، منها: الربانية، وأنها مسخرة للبشر وقابلة للكشف، والثبات والاطراد، والتلازم، والتوازن والاتساق. وفيما يلي كلمة مفصلة لكل سمة من هذه السمات:

أولًا-الربانية:

الخصيصة الأولى من خصائص السنن هي الربانية، والربانية معناه الانتساب إلى الرب، أي الله سبحانه وتعالى. والتصور الإسلامي للسُنن – باعتبارها فرعًا منبثقًا عن النظرة الشاملة للكون والإنسان والحياة – تصور مستمد من القرآن والسنة، فهو تصور اعتقادي موحى به من الله سبحانه باعتباره هو الذي أوجدها في كونه وشرَعَها لعباده بوصفه ربًّا لهم. وهو وحده التصور الباقي بأصله الرباني، وهذا ما يميزه ويفرده عن سائر التصورات الوضعية والفلسفية في كثير من النواحي، وهذا مما يجعله في مجال الثقة والطمأنينة في التلقي من الله تعالى، قال سبحانه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى﴾ [النجم 3- 4]

 وخصيصة الربانية تبصرنا أن كل شيء في هذا الكون له هيئته وخواصه وحكمته وغاياته، ولا مكان للعبث والهوى والصدفة العمياء في هذا الكون، قال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خلق الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم 8]. وهكذا يتأكد لنا من هذه الخصيصة أن السنن بجميع أنواعها إلهية المصدر والمنهج ربانية الغاية والوجهة، وأن خاصية الربانية هي الخاصية التي ترتكز عليها الخصائص كلها وتنبثق منها.

ثانيًا- مُسَخَرة للبشر وقابلة للكشف:

الخصيصة الثانية من خصائص السنن هي التسخير وقابلية الكشف، والتسخير هو خلق الكون وإعماره وخضوعه لله، وتهيئته للاستفادة منه ليكون مستجيبًا لقدرات الإنسان وأهدافه وحاجاته، وملبيًا لمتطلبات خلافته في الأرض، فقد تم تهيئة كل عناصر الكون لكي يستخدمها الإنسان في مجالات حياته المختلفة وينتفع بها في المعاش. ولعل من أبرز خصائص السنن التي أكد القرآن الكريم عليها خاصية تسخير السنن وقابليتها للكشف، فهذه الخاصية نجدها تتردد في القرآن الكريم في مساحات كبيرة، باعتبارها قاعدة هامة يوجه القرآن -العقل الإنساني إليها.

وقد دعى الله تعالى الإنسان دعاه إلى الكشف عن أسرار الكون وما أودع الله فيه من قوى واستغلال ذلك في سبيل نفعه وسعادته، فقوانين هذا الكون لم يخترعها أحد من البشر لأنها فطرة الله منذ بدء الخليقة وكل عمل الإنسان فيها أنه اكتشفها أو يكتشفها بما وهبه الله من سلطان العقل والحواس والمدركات[29]. وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في كثير من الآيات، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتجرىَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم ۳۲: ٣٤] ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ ما طَرِيًا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل 14]، ﴿اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِياحَ فَتثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطهُ فِي السَّمَاءِ كَيف يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [الروم ٤٨].

والآيات في هذا المجال يطول ذكرها. ولا شك أن الانتفاع بأي من هذه السنن التي امتن الله بخلقها وتسخيرها للإنسان يقتضي أن يتعرف الإنسان على فوائدها وحقائقها، وينظر ويتأمل تفصيلاتها ويختبرها ويجربها، فالبحث في حقائق الموجودات وسيلة إلى استخلاص أكبر قسط من المنافع المادية والروحية، والعلم بسنن الله تعالى الكونية العامة طريق إلى العلم بسنن الله الخاصة في الوجود الإنساني أو المجتمع البشري[30].

ومن حكمة الله تعالى أنه لم يشأ أن يمهد العالم تمهيدًا كاملًا ويكشف للإنسان عن قوانينه وأسراره بالكلية لأن في ذلك حملًا للعقول على تبني حقائق علمية دون السلوك إليها في سبيل براهينها المنسجمة معها من التجارب والمشاهدات وهذا ما لا يحمل القرآن أحد من الناس عليه تكريمًا للعقل وإطلاقًا للمنهج التجريبي[31]، كما أنه نقيض عملية الاستخلاف والإبداع التي تتطلب مقاومة وتحديًا واستجابة ودأبًا.

ثالثًا- الثبات:

الخصيصة الثالثة من خصائص السنن الربانية هي الثبات. فالسنن الكونية ثابتة مستقرة، ولكن هذا الثبات لا يمنع من كسر تلك القوانين وخرقها في بعض المرات لحكم يقتضيها أمر الله تعالى. وكذلك السنن الإنسانية فهي ثابتة ولكنها تخرق في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله، فمثلًا مكوث يونس عليه السلام في بطن الحوت جاء خلافًا لقانون التنفس الطبيعي. ومنع احتراق ابراهيم عليه السلام بالنار جاء خلافًا لقانونٍ ثابت.  

أما عن خصيصة الثبات في السنن التاريخية، فالسنن التاريخية ثابتة وما عرفنا خرقًا لها جرى في الماضي والحاضر، فالمتأمل في سيرة الأمم الماضية والمتفحص للتاريخ، يجد أن هناك قوانينًا وسننًا ثابتة تحكم حركة التاريخ والتغيرات الاجتماعية التي تمر بها الأمم والشعوب وفق تعاملهم مع منهج الله ونظامه الذي ارتضاه للناس. وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة وأكد عليها في أكثر من آية، قال تعالى ﴿سُنة الله في الذين خلَوا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب 62].

رابعًا- الاطراد والتلازم:

الخصيصة الرابعة من خصائص السنن الربانية، الاطراد والتلازم، والاطراد يعني وجود الحكم مع وجود العلة، والعكس تخلف الحكم لتخلف العلـة، وبعبارة أخرى كلّما وجد المؤثر حصل الأثير[32].

تشير آيات كثيرة في القرآن الكريم إلى وجود القانون والحكمة والغاية والاطراد في نظام الكون وهذا ما تدل عليه كلمة «بالحق» التي ترد كثيرًا في القرآن الكريم، والتي تحتاج إلى استقراء شامل لاستجلاء كل ما تشير إليه. ويترتب على وجود مفهوم القانون والانتظام في الأشياء الطبيعية ضرورة خضوعها لسنن وقواعد مطردة لا تتخلف ما دام النظام الكوني قائمًا على ما هو عليه وما دامت إرادة الله تعالى وقدرته متعلقتين ببقائه على هذا الوضع. ويدل على اطراد القوانين هذا الانتظام في أشياء الطبيعة، ولفظ «سخّر» الذي يرد كثيرًا في القرآن الكريم – كما تقدم – ومفهوم التسخير» في القرآن هو المقابل لمفهوم «الحتمية» أو «الضرورة» في التصورات العلمية الحديثة. ولو لم يكن هذا الكون قائمًا على الحق، وقائمًا على حقائق علمية ثابتة ودقيقة مقننة تحكمها قوانين مطردة قابلة للكشف وقابلة للظهور بظواهر علمية يستطيع العقل أن يدركها ويفهمها ما استطاع الإنسان أن يستشف من هذا الكون شيئًا على الإطلاق ولوجد أمامه عالمًا مقفلًا غامضًا مسدودًا، فلم يشاهد الإنسان منذ أن فتح عينيه على الوجود أن حادثًا حدث من غير سبب حتى أضحى العقل يسلم بهذا المبدأ تسليمًا قاطعًا. على أنه ينبغي أن يلاحظ أن القرآن الكريم لم يستعمل لفظ السببية، وإنما عرض لصورة الكون بما يدل على الاقتران المنتظم المطرد، يقول تعالى ﴿المَ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فترى الوَدَق يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور ٤٣]

وقد جاءت نصوص كثيرة تؤكد طابع الاستمرار والاطراد في سنن الله وتستنكر أن يكون هناك استثناء لأحد، ومن هذه النصوص قوله تعالى ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء 123]، ﴿أم حسبتم أن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مستهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُول وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة 214].

فسنن الله مطردة في التزامها في تحقيق الجزاء وهي ماضية لا تتوقف ولا تستثني أحدًا ولا تحابيه سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا أو مسلمًا من خير أمة أخرجت للناس أو من أي ملة وشعب.

خامسًا- التوازن والاتساق

الخصيصة الخامسة من خصائص السنن هي التوازن والاتساق. فالعالم الذي نعيش فيه بكل ما يحويه من كائنات حية وغير حية، محكوم بدقة فائقة لأنظمة وقوانين وسنن تضبط سيره وسلوكه من أصغر ذرة فيه الى أكبر مجرة سماوية، مما يثير فينا الدهشة والإجلال لما فيه من روعة وانسجام واتساق تفوق تصوراتنا، وتضعف قدراتنا حيالها، ولهذا وصفه القرآن بأنه «موزون» وفي هذا دليل على التناسق في الخلق الدال على الحكمة الإلهية البالغة والقدرة العجيبة التي تعين كل شيء بمقدار وتزن كل موجود بميزان، بحيث تتحقق فيه المنفعة التي أرادها الله لعباده، قال تعالى ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَالْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتَنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيٍء موزون* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ* وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزِلَهُ إِلَّا بقدر معلوم﴾ [الحجر 19: 21].

 إن توازن السنن والقوانين وتناسقها في هذا الكون يظهر التدقيق الذي يعجز البشر، وكلما تقدم العلم، فكشف عن بعض جوانب هذا التناسق العجيب في قوانين الكون وسننه، اتسع تصور البشر لهذه الحقيقة، قال تعالى ﴿صُنع اللَّهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شيء﴾ [النمل ۸۸]. ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خلقه﴾ [السجدة 7]. ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر 49]،﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدرَهُ تقديرًا﴾ [الفرقان 2].  

ولا ننسى ما في سنن الله التشريعية من تناسق واعتدال تتوازن فيها مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَب وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد ٢٥]، سنن تتوازن فيها مطالب الدنيا والآخرة وتتناسق فيها الروحية والمادية في صورة مثلى وفق منهج الإسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* راشد سعيد شهوان (2009). السنن الربانية في التصور الإسلامي. ج. 1. ط. 1. عمان: الأكاديميون للنشر والتوزيع. ص ص.85- 135.

** رئيس قسم الدعوة وأصول الدين بكلية أصول الدين الجامعية. جامعة البلقاء التطبيقية. الأردن.

[1] على مشارف القرن الخامس عشر الهجري دراسة) للسن الإلهية والمسلم المعاصر): إبراهيم ابن علي الوزير (ص ۱۱) بتصرف قليل طبعة أولى دار الشروق ۱۳۹۹هـ.

[2] انظر حول إعادة تشكيل العقل السليم د. عماد الدين خليل (ص٤٧) بتصرف.

[3] أخرجه أحمد في «المسند» والنسائي (١٥٣/٤، ١٥٤)، والبيهقي (٢٠٧/٤)، شرح السنة (٣٣٢/٦) رقم (١٧١٦).

[4] «دراسة للسنن الإلهية»: ابن الوزير (ص۱۳) بتصرف.

[5] أخرجه أحمد في «المسند» (۲۷٨/٤)، وأصحاب السنن الأربعة.

[6] انظر: «المسلم المعاصر»: مقالة بعنوان سنن الله: جمال الدين بن عطية (ص ٦) العدد ١٧ – ۱۳۹۹هـ – الكويت.

[7] بتصرف انظر حول إعادة تشكيل العقل المسلم»: د. عماد الدين خليل (ص ٥١-٥٢) الطبعة الأولى كتاب الأمة عدد ٤، ويسميها القانونية التاريخية.

[8] انظر: «روح المعاني»: (٢٠٦/١٠).

[9] انظر: «روح المعاني»: (٢٠٦/١٠).

[10] انظر: «المصحف المفسر الميسر» (مختصر تفسير الإمام الطبري (ص٢٤٠) طبعة دار الشروق.

[11] مقدمة ابن خلدون» (ص۲۲).

[12] انظر: «التفسير الإسلامي للتاريخ د نعمان عبد الرزاق السامرائي (ص ١٢٤) وما بعدها، طبعة أولى ١٤٠٦هـ، مكتبة المنار الأردن.

[13] انظر: «حول إعادة تشكيل العقل المسلم»: د. عماد الدين خليل (ص٥١).

[14] المرجع السابق (ص٥٢).

[15] «المسلم المعاصر» (ص ۷) لعدد ١٧ سنة ١٣٩٩هـ – الكويت.

[16]رواه أبو داود في سننه»: (۱۱۱/٤) ح (٤۲۹۷)، ورواه الإمام أحمد في «مسنده».

[17] اخرجه البخاري في الأدب باب الوصاة بالجار»، ومسلم في «البر والوصية، انظر: «شرح السنة (١٧/١٣) رقم (٣٤٨٧).

[18] اخرجه البخاري في «الطلاق» باب اللعان، ومسلم في «الزهد» بـاب الإحسان إلى الأرملة والمسكين، انظر: «شرح السنة» (٤٣/١٣ رقم ٣٤٥٤)

[19] انظر: «ابن الوزير» (ص ۱۷) (مرجع سابق).

[20] انظر: «علم النفس»: د. فاخر عاقل (ص)(١٥) وما بعدها، طبعة خامسة، دار العلم للملايين بيروت

[21] «منهج التربية الإسلامية»، محمد قطب (٤۷/۱) دار دمشق للطباعة والنشر طبعة ثانية.

[22] أخرجه البخاري (٤٤٦/٣)، مسلم (۸۱٥/٢) تحقيق فؤاد عبد الباقي رقم ١٨٦، والنسائي (٢١٥/٤)، وأحمد (١٩٤/٢، ٢٠٠).

[23] «المسند» (٣٤٢/٥).

[24] فتح الباري» (٥٣٦/٩).

[25] «سنن ابن ماجه (۱۱۱۲/۲)، دار الفكر العربي.

[26] انظر: «علم نفس النمو»، د: حامد عبد السلام زهران (۱۲-١٥) «عالم الكتب» ط٤ القاهرة ١٩٧٧.

[27] الأخلاق والسير في مداواة النفوس»: ابن حزم (ص۷۳)

[28] «الحسبة في الإسلام»: الإمام ابن تيمية (ص (۱٥) منشورات المؤسسة السعدية بالرياض.

[29] انظر: “الإسلام عقيدة وشريعة” للشيخ محمود شلتوت (ص٤٧). دار الشروق.

[30] انظر: الكون والإنسان في التصور الإسلامي (ص۸۷)، د. حامد صادق، الطبعة الأولى مكتبة الفلاح، الكويت سنة ١٤٠٠هـ.

[31] «كبرى اليقينيات الكونية»: د. محمد سعيد رمضان البوطي، (ص٢٤) الطبعة السادسة، دار الفكر سنة ١٣٩٩هـ.

[32] انظر: ابن قدامة وآثاره الأصولية»: د. عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد (۳۰۸/۲) مطابع الرياض ۱۳۹۷ه.

عن راشد سعيد شهوان

شاهد أيضاً

في محراب طه عبد الرحمن بمنظور فقه الحياة

أ. منال يحيى شيمي

يعد مشروع طه عبد الرحمن أحد المشاريع النهضوية الواعدة المطروحة على الساحة الإسلامية. وهو مشروع يقوم بالأساس على إحياء "الأخلاق الإسلامية" وإحلالها محل "أخلاق الحداثة".

سنن العمران البشري في السيرة النبوية

تأليف: د. عزيز البطيوي

عرض: أ. يارا عبد الجواد

يخوض الكاتب مغامرة بحثية جادة وضرورية، حيث يسعى من خلال صفحات هذا الكتاب إلى استنباط مجموعة من سنن العمران البشري من خلال القراءة التاريخية الدقيقة في جزئيات السيرة النبوية، ومن ثم الصياغة العلمية لهذه القواعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.