القيم فى عصر ما بعد الحقيقة

القيم في عصر ما بعد الحقيقة

أ. يارا عبد الجواد*

المقدمة

  “ما بعد الحقيقة” مفهوم جاء ليعبر عن واقع حالة يعيشها عالمنا اليوم، ولقد برز هذا المفهوم وشاع منذ خمس سنوات عندما اختير من قبل قاموس أكسفورد عام 2016م ككلمة العام، وعرفته أكسفورد بأنه مفهوم يشير إلى “الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية ذات تأثير أقل على الرأي العام من تأثير الانفعال العاطفي والاعتقاد الشخصي”.

“Relating to or denoting circumstances in which objective facts are less influential in shaping public opinion than appeals to emotion and personal belief”[1]

  يطرح هذا المفهوم العديد من الأسئلة حول معنى الحقيقة وعن مستقبلها وعن مستقبل الثابت والمتغير والنسبي والمطلق، وحول تجليات هذه الظاهرة وحول مستقبل الإنسانية في ظلها. وفى هذا السياق يبرز واحد من أهم الأسئلة التي يجب البحث عن إجابة عليها، وهو سؤال القيم باعتبارها معايير ثابتة مطلقة في ظل عصر يطلق عليه بأنه عصر “ما بعد الحقيقة” أي ما بعد الثابت والمطلق والموضوعي.

 إن واقع القيم اليوم يحتاج إلى نظر دقيق وذلك لمحورية المنظومة القيمية في حياة المجتمعات والأمم من ناحية، ولما تواجهه هذه المنظومة من هجوم يهدد وجودها من ناحية أخرى، نظرا لهيمنة النسبية والعدمية -اللتان تولدتا في ظل الرؤية الفلسفية لما بعد الحداثة- ولفقدان الحقيقة وضياعها في ظل سيادة الكذب والتشكيك ضمن حالة من الإغراق والعشوائية المعلوماتية، إلى جانب بعض الأسباب الأخرى المتعلقة بالنظام الدولي ببعديه السياسي والاقتصادي.

  القيم هي مجموعة المعايير والضوابط التي بها يتشكل وجدان المجتمعات والأمم وتوجه سلوك الأفراد ويتحاكمون إليها وتعبر عن هويتهم، وبالتالي فهي لا يمكن أن تكون إنتاجا ذاتيا، بل هي مرجعية خارجة عن الذات الفردية. ونستطيع القول بأن الكثير من الأزمات التي تعانيها مجتمعاتنا اليوم هي في أصلها أزمة قيم تكبر وتنمو في ظل عالم أصبح الاستهلاك سمة أساسية فيه ويعاني من عولمة قيمية إذ يهيمن عليه نموذج قيمي واحد هو النموذج الغربي، في الوقت الذي يتم تهميش القيم التي تنتمي لحضارات وثقافات أخرى، فالعولمة وإن كان يروج لها على أنها تواصل حضاري وحوار بين الثقافات إلا أنها في الحقيقة قولبة لقيم العالم في قالب المنظومة القيمية الغربية المهيمنة، وهذا مما يهدد طبيعة العيش الإنساني الحضاري.[2]

ومن هنا تكون محاولة فقه واقع القيم اليوم في ظل عصر “ما بعد الحقيقة” واحدة من إشكاليات الفكر ما بعد الحداثي التي تطفو على السطح مرة أخرى، ولكن في شكل جديد أكثر عمقا وتعقيدا.

“ما بعد الحقيقة Post-Truth“: التعريف بالمفهوم:

بعض الظواهر تفصح عن نفسها بصخب بحيث يلتفت لمصدرها الكثير، ونستطيع القول بأن “ما بعد الحقيقة” هو أحد المفاهيم الحديثة التي جذبت الانتباه إليها بشدة، وهذ يرجع لكونه لامس شيئا في واقع عالمنا المعاصر بات منتظرا لمفهوم يعبر عنه، حيث ظهرت تجلياته على مدار السنوات الماضية.

فالمفهوم يشير إلى الاعتماد على التفسيرات غير الدقيقة والادعاءات والمزاعم في الخطاب العام وعدم الاعتبار للحقيقة، فهناك سيطرة للعواطف على حساب المعرفة، وهذا الأمر هو مسألة اختيار بين الحقيقة وبين ما يفضله الإنسان أو ما يريد أن يؤمن به.[3] فكلما كانت الحقائق مؤلمة أو غير متسقة مع الأهواء يفقد الإنسان الرغبة في معرفتها وأصبح الكذب أفضل لديه من الحقائق المزعجة. وتجدر الإشارة الى أن هذا المفهوم وإن كان يظهر بقوة في المجال السياسي إلا أنه يتعداه إلى المجال الاجتماعي والمعرفي والثقافي.

فمفهوم “ما بعد الحقيقة” يزيل الفوارق بين مجموعة من الثنائيات، فهو يزيل الفارق بين الواقع والخيال، الحقيقة والكذب، الموضوعية والذاتية.

 ومن الأمثلة المعبرة عن ” ما بعد الحقيقة” في المجال السياسي نذكر استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016م وكذلك الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016م، فهذان نموذجان يعبران بشدة عن هذه الظاهرة حيث تفاعلت الشعوب في هذين النموذجين بنوع من العاطفة متجاهلين الحقائق. ففي استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدا اعتماد الجماهير على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر للمعلومات رغم عدم دقتها واختلاط الحقائق فيها بالكذب، ويعود هذا إلى ضعف ثقة الجماهير في مصادر الإعلام التقليدية وأيضا ضعف الثقة في النخبة السياسية الديمقراطية، ومن ثم كان تصويت الجماهير نحو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي غير مبني على حقائق بقدر ما هو مبني على تحيزات عاطفية مرتبطة بالقومية الشعبوية  التي تروج إلى مبدأ “نحن أولا” وتلغى الكثير من القيم الديمقراطية المبنية على التعاون والانفتاح  العالمي وتقبل الآخر. هذا أيضا ما حدث في الانتخابات الأمريكية عام 2016 حيث فاز دونالد ترامب المرشح الجمهوري على هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي من خلال شحن الجماهير بمبدأ “أمريكا أولا” ومن ثم كان الحافز العاطفي قويا لدى الجماهير، كما وجهت لفيس بوك حينها اتهامات واسعة بأن الأخبار المزيفة التي انتشرت من خلاله لعبت دورا كبيرا في التأثير على الرأي العام لصالح ترامب. ومنذ ذلك الحين زاد الاهتمام الاعلامي بما يعرف بـ “سياسة ما بعد الحقيقة”Post-Truth Politics.[4]

ولكن مآلات مفهوم ما بعد الحقيقة أكثر عمقا وتتعدى بطبيعتها الساحة السياسية فمصطلح “ما بعد” لا يعنى “بعد” ولكن يعنى أن ما كان لم يعد، إذن ما بعد الحقيقة تعنى أن الحقيقة لم تعد ذا أهمية الآن.[5]

وقد ناقشت الفيلسوفة حنة أردنت هذه الفكرة في مقالة لها عام 1967م حيث قالت فيها “أن الحقيقة والصدق لم تكن من بين فضائل السياسي وأن الكذب كان يعتبر دائما أداة ضرورية ومبررة في أيدى السياسيين ورجال الدولة”، ولكن الجديد في عالمنا اليوم –وفقا لأرندت أيضا- ليس انتشار الكذب والخداع وإنما التنافس الحاصل بين الحقيقة وبين الرأي،[6] حيث أن الحقيقة لم تعد موجودة أصلا وإنما الأمر كله أصبح مجرد آراء ووجهات نظر، ومن ثم فالكذب لم يعد يسمى كذبا فقد تجرد من كونه باطلا وتحول إلى مجرد رأى أو وجهة نظر، ومن ثم اكتسب شرعية ونفى عنه كونه من الرذائل، وهذا أخطر ما يمكن أن يضر منظومة القيم عندما تٌـفقد المعاني وتنتشر الضبابية وعدم الوضوح.

إن ظاهرة “ما بعد الحقيقة” تدور حول التركيز على فكرة الكذب والميل نحو تغليب المشاعر عوضا عن الحقائق، فهي ظاهرة تشير إلى انتشار الخداع و تآكل الثقة على عدة مستويات، ويعد العالم الرقمي اليوم أحد أهم العوامل التي أعطت لمفهوم ما بعد الحقيقة هذا الزخم نظرا لما يطرحه من إشكاليات تعود إلى سرعة التدفق المعلوماتي وصعوبة تحرى الدقة وكذلك صعوبة فهم الواقع بشكل صحيح حيث تـُفقد الحقائق في ظل هذه العشوائية المعلوماتية، وفى هذا السياق يظهر مفهوم “الخداع الرقمي” والذى يعرفه هانكوك بأنه التحكم المتعمد في المعلومات بهدف خلق اعتقاد خاطئ لدى متلقى الرسالة بهدف الحصول على ثقته من خلال التفاعل العاطفي وليس عن طريق التفكير الموضوعي، فعلى سبيل المثال في نموذج الانتخابات الامريكية 2016 حاول ترامب ترسيخ فكرة الخوف من الإرهاب الإسلامي وأنه تهديد متصاعد يمثل خطرا على العالم الغربي، وكان موقع تويتر هو المنصة الرقمية التي يطلق من خلالها ترامب أغلب ما يريد أن يروج له، وفى هذا السياق قام باستهداف الصدى العاطفي لدى المتلقين من أجل الحصول على ثقتهم بأنه الشخص المناسب القادر على مواجهة هذه المخاطر.

 ومن هنا فإن العلاقة الوثيقة بين الحقيقة والثقة وأن الحقيقة هي السبيل الوحيد للحصول على الثقة لم تعد كذلك حيث أصبحت الثقة هدفا تبذل المساعي للوصول إليه بسبل أخرى بعيدة عن عرض الحقائق، ويعد العالم الرقمي الذي بات سمة العصر سببا رئيسيا في ازدهار مثل هذه الممارسات التي تجعل من الحقيقة سلعة نادرة يصعب الوصول إليها.[7]

ظاهرة ما بعد الحقيقة: جذورها وأسبابها

 إذا أردنا تتبع جذور ظاهرة “ما بعد الحقيقة” فإننا نجد عدة أسباب متداخلة تنتمي لعدة حقول ومجالات: أولا: التحولات الكبيرة التي حدثت في اقتصاديات المعلومات كنتيجة للتطور التكنولوجي الهائل، وما يرتبط به من سرعة تدفق المعلومات وظهور ما يعرف بالإغراق المعلوماتي وانتشار الأخبار التي تفتقد للمصداقية والموثوقية.

ثانيا: من جانب آخر يرى بعض علماء الأنثروبولوجي أن أحد أسباب هذه الظاهرة تتعلق بالإنسان المتلقي نفسه انطلاقا من فرضية أن الإنسان ليس مجردا تماما من التحيزات المعرفية والقيمية ومن ثم فهو يقبل ما يوافق معتقداته وقيمه ويتعامل معها كحقائق.

ثالثا: لا يمكن فهم ظاهرة “ما بعد الحقيقة” بمعزل عن نظرية “ما بعد الحداثة” والتي رسخت لفكرة النسبية والفهم الذاتي، حيث يقول بيتر بوميرانتسيف بأن كل رواية للحدث هي مجرد سرد آخر، ومن هنا تبرر الأكاذيب بأنها مجرد وجهة نظر أو رأى بديل لأن كل شيء نسبى وكل إنسان يمتلك حقيقته الخاصة،[8] ويؤكد الفيلسوف لي ماكنتاير بأن فكر “ما بعد الحداثة” هو رائد ظاهرة “ما بعد الحقيقة”.[9]

إن أهم سمة تميز ما بعد الحداثة هي كونها ترتبط بعدم وجود معاني نهائية أو حقائق مطلقة، فالحقيقة تخضع للتفسيرات وكذلك القيم الأخلاقية ومعايير الخير والشر، فالمعرفة والقيم والحقائق كلها نسبية، وهذا قد يؤدى بطبيعة الحال إلى التناقض في تفسير الواقع وإلى تضارب معاني القيم، حيث إن أهم خصائص ما بعد الحداثة كرؤية فلسفية تتمثل في السيولة والنسبية ورفض الحقائق الكلية على اختلافها.[10]

إن المبدأ الأساسي الذى ترتكز عليه ما بعد الحداثة والتي بالتالي تتأثر به ظاهرة “ما بعد الحقيقة” يتمثل في هدم كل أنواع السلطة وهذا يشمل سلطة التاريخ، السلطة السياسية، سلطة الخطاب، سلطة المجتمع والأسرة، وكذلك سلطة العقل والحقيقة، فالحقيقة مثلا بالنسبة لنيتشه كلمة مضللة فهي تنفى الاختلاف، وقد تابعه على ذلك مجموعة من المفكرين مثل دولوز الذي نفى فكرة وجود حقيقة متعالية وكذلك رفض الأنساق الكلية الشمولية، ومن هنا يغيب مفهوم العقل والحقيقة والنسق والمعيار، وبالتالي فإن القيم الأخلاقية المعيارية تتآكل وتصبح مفاهيم الخير والشر مفاهيم نسبية تظهر في سياق زماني ومكاني معين وبإطار تفسيري ما، ومن ثم نجد أن قيم العدل والحرية والمساواة وغيرها ليس لها مكان لأنها تنطلق من فرضية مفادها وجود قاسم مشترك بين البشر، فالإنسان-حسب- ما بعد الحداثة لا تحكمه سوى قوانين الربح والخسارة والقيم الاستهلاكية، أما مفهوم الفطرة الإنسانية والمشترك الإنساني فلا وجود له.[11]

رابعا: ولم يكن مفهوم “ما بعد الحقيقة” ليظهر إلا محاطا بإطار اقتصادي نابعا من الليبرالية الجديدة؛ التي تقوم على تفكيك كل ما هو مجتمعي لصالح الاقتصادي فتلغى الصالح العام ليحل محله مفهوم الحرية الفردية التي لا تحدها حدود والموجهة نحو الأهداف المادية الربحية فقط، وبالتالي فهي تحوِل المجتمع إلى سوق ليس له ضوابط، منزوع القيم، ولا يحركه سوى الربح، فيصبح مجتمعا نسبيا سائلا لا تحكمه قوانين ومن ثم لا مكان فيه للحقيقة التي هي من طبيعتها مطلقة وثابتة[12]. إذن فقد نزعت الليبرالية الجديدة القدسية عن كل الحقائق المطلقة والقيم الثابتة في مقابل حرية السوق التي هي في حقيقتها تحِد من حرية الأفراد في الاختيار رغم تصورهم أنهم أحرار، وفي مثل هذا المجتمع لا مكان للحقيقة ولا للقيم ولا لحقوق الإنسان[13]

ويمكننا رصد أثرما بعد الحقيقة على المجتمعات وقيمها عندما نضع المفهوم في سياق أوسع يقوم على فكرة الترويج، حيث يشير إلى حالة تتجلى فيها العلاقات السلعية وقيم السوق الممتدة لتشمل كل مجال من مجالات الحياة، فبمجرد هيمنة  المنطق الاستهلاكي تصبح فكرة الترويج فكرة مركزية ويصبح الشخص نفسه وعلاقاته مع الآخرين والبيئة المحيطة به تتسم بسمات “ما بعد الحقيقة”، حيث تختفى المعاني الأصيلة المحددة للصدق والكذب والأمانة والأصالة ومن ثم يصبح كل شيء ترويجيا ذاتيا، ففي ظل مجتمعات تتسم بالمنافسة والتفاخر والمبالغة في ذلك، نجد أن المجتمع كله ينغمس في سلسلة من ألعاب “ما بعد الحقيقة” والتي تتضمن بطبيعتها نسج الروايات المختلفة من البيانات والمعلومات المتاحة وذلك من أجل الحصول على نتيجة مرغوبة وفى ظل هذا تـُفقد الكثير من القيم التي ترتكز عليها المجتمعات.[14]

إن فقدان قيمة الصدق يعنى فقدان الحقيقة، وهذا بالطبع يخلق عالما مجردا من الثقة والاحترام، عالم ينفي ثنائية الخير والشر، ليصبح التفكير وطرح الأسئلة الوجودية والسعي للوصول للحقائق المطلقة أمرا تتحداه طبيعة العصر

“ما بعد الحقيقة” والإعلام:

إن تعريف مفهوم “ما بعد الحقيقة” كما قدم من قبل قاموس أكسفورد يفيد بأن الناس أصبحوا يصدقون ما يشعرون أنه الصواب حتى وإن كان بدون دليل منطقي يدل على أن ما يصدقونه هو الحقيقة، وهذا مما يساهم في تآكل المنظومة القيمية حيث تفقد المعاني الأصيلة والمحددة للأشياء كما ذكرنا.

والإعلام -وخاصة الإعلام الرقمي- يعد المؤثر الأكبر في بروز ظاهرة ما بعد الحقيقة، فقد خلق الإعلام عالما افتراضيا موازيا للواقع يعيش فيه الناس ويتلقون منه مختلف الأخبار ويتعرضون فيه لسيل من المعلومات المحملة بالكثير من الأفكار التي تبنى قيما معينة وتهدم أخرى، وهذا يعود إلى أن الإعلام أصبح أداة للقوى السياسية والشركات الرأسمالية الكبرى والتوجهات الفكرية.[15]

وتعد منصات التواصل الاجتماعي أحد أخطر الأدوات الإعلامية التي تعمق من ظاهرة ما بعد الحقيقة وتعكسها بشكل كبير فالخوارزميات التي تستخدمها شركات مواقع التواصل الاجتماعي في توجيه المستخدمين تقف عائقا أمام خلق مجتمعات واعية خاصة مع كونها أصبحت المصدر الأول للمعلومات لدى الكثير وخاصة لدى الشباب، هذا بالإضافة إلى الطرق التي أصبحت تستخدم من قبل البعض في الحكم على موثوقية الأخبار وهى في الحقيقة طرقا غير علمية، حيث أجريت دراسة تشير إلى أن الكثير من المستخدمين لمنصات التواصل الاجتماعي  يحكمون على بعض الأخبار أو يختارون قراءة بعض الأخبار بناءً على تعليقات البعض عليها، أو بناءً على الشخص الذى شارك هذا المحتوى، وغيرها من الطرق التي تفتقد المعايير الصحيحة في الحكم وتفتقد أيضا الكثير من القيم المرتبطة بذلك كقيمة الصدق والحرية والإنصاف.[16]

ومن هنا تأتى أهمية محو الأمية الإعلامية التي لابد من الدعوة إليها كفكرة وثقافة وذلك من خلال اكتساب مجموعة من المهارات التي تساعد الفرد على نقد المحتوى الإعلامي المقدم عن طريق تفكيك الأفكار وتحليل ونقد الأيديولوجيات التي ينطلق منها والقيم التي يستند إليها، لكي يتمكن الفرد من تقييم ونقد وتمحيص ما يتلقاه بوعى وبقدر من الحرية التي تمكنه من التفرقة بين الحقيقة والكذب في ظل انتشار التضليل.[17]، كما يجب لفت أنظار مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الى ضرورة الخضوع وتقبل الحقائق حتى وإن خالفت رغباتهم الذاتية.

الخاتمة

إن ظاهرة ما بعد الحقيقة وإن كانت ليست جديدة من حيث أنها تقوم على فكرة الخداع إلا أنها تحمل للإنسانية إشكاليات جديدة ترتبط بالظروف والسياقات التي نشأت فيها والمتمثلة في الليبرالية الجديدة كإطار اقتصادي، و انتشار الشعبوية السياسية ، وكذلك  التطور التكنولوجي والإغراق المعلوماتي وإشكاليات الإعلام السيبراني، هذا إلى جانب الجذور التي نبعت منها حيث الرؤية الفلسفية لما بعد الحداثة التي تقوم على الذاتية والنسبية والعدمية وتلغى مفهوم الفطرة والحقائق الكلية المطلقة ومن ثم المعايير والقيم العليا المتجاوزة للإنسان. من هنا تأتى ظاهرة ما بعد الحقيقة لتعمق التحدي الذى تواجهه منظومة القيم، ففقدان الحقيقة يعنى افتقاد المفاهيم والقيم  والأخلاق لمعانيها الأصيلة الثابتة وانتشار الشك وتآكل الثقة وهذا مما يدمر الإنسان وفطرته ومن ثم يدمر المجتمعات والأمم ، وبالتالي فإن السبيل للخروج من هذه الأزمة يبدأ بالوعى بها وفقه الواقع الذى نحيا فيه والتركيز على التربية كمحور رئيسي يبدأ بالأسرة مرورا بالمؤسسة التعليمية وأخيرا التربية الإعلامية وهذا بدوره يمثل خطوات أولى أساسية في سبيل  إحياء دور القيم  ومواجهة خطر “ما بعد الحقيقة”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية

[1] Oxford Languages, Word of the year 2016, available at: https://languages.oup.com/word-of-the-year/2016/

[2] حسن الخطيبي، القيم إلى أين، البيان، سبتمبر 2016، متاح على الرابط التالي: https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=5298

[3] Ignas Kalpokas, A political theory of post-truth, (Lithuana: Palgrave pivot, 2019).

[4] Hannah Marshall and Alena Drieschova, Post-Truth Politics in the UK’s Brexit Referendum, Interdisciplinary Journal of Central & East European Politics and International Relations, vol.26, no.3, 2018.

[5] Subby Szterszky, Oxford’s word of the year: post-truth, Focus on the family, April 2021, available on:

https://www.focusonthefamily.ca/content/oxfords-word-of-the-year-post-truth

[6] أميرة سامي، فلسفة ما بعد الحقيقة، مجلة تدوين، عدد1، يوليو 2020.

[7] Peter Jandric, post-truth and critical pedagogy of trust, (in): Micheal A. Peters, Sharon Rider, Mats Hayvonen, and Tina Besley (ed.), Post-truth, Fake news, (Singapor: Springer, 2018).

[8] Peter Jandric, post-truth and critical pedagogy of trust, (in): Micheal A. Peters, Sharon Rider, Mats Hayvonen, and Tina Besley (ed.), Post-truth, Fake news, (Singapor: Springer, 2018).

[9] أميرة سامي، فلسفة ما بعد الحقيقة، مرجع سابق.

[10] Susana Salgado, Online media impact on politics view on post-truth politics and post modernism, International Journal of media and cultural politics, vol.14, no.3, September 2018.

[11] بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، مؤسسة هنداوي، 2018.

[12]Debbie Sonu, The Sociality of Post-Truth: Neoliberal Culture and its Rationality, Canadian Social Studies, Vol. 50, No. 2, 2018.

[13] W. Brandely Wendel, Truthfulness as an ethical form of life, Cornell Law Faculty publications, July 2019.

[14] Ignas Kalpokas, A political theory of post-truth, Op.cit.

[15] فتحي حسن ملكاوي، تربية القيم في عصر ما بعد الحقيقة، مرجع سابق.

[16] Rebecca C.nee, Youthquakes in a post-truth era: exploring social media news use and information verification actions among global teens and young adults, Journalism and Mass communication Educator, vol.74, no.2, 2019.

[17] Colin C Barton, critical literacy in the post-truth Media landscape, Policy futures in education, vol.17, no.8, 2019.

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

الجمال بين الرؤية الإسلامية والعولمة

أ. د. زياد خليل الدغامين

تعد مواجهة التحديات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية، ومسخ قيمها، والعبث بمفاهيمها الدينية والثقافية من الضرورات الملحة التي تفرض نفسها على واقع الأمة.

البيئة الثقافية للصناعة والتقنية

أ. د. ممدوح عبد الحميد فهمي

لا أستطيع أن أبدأ هذا البحث قبل أن أُعرِّف القارئ بنفسي وبعلاقتي بموضوع البحث. ولدت في الجيزة وتلقيت تعليمي الجامعي في هندسة الطيران وفي الرياضيات في جامعة القاهرة في الستينيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.