العلمانية: رؤية بنيوية

العلمانية: رؤية بنيوية

أ. مهجة مشهور *

الواقع الإنساني يتكون من بنيتين: البنية الظاهرة والبنية الكامنة، ويمكن النظر إلى البنيتين باعتبارهما دائرتين متداخلتين، الأولى الصغيرة ( ونشير إليها بالجزئية )، والأخرى كبيرة (ونشير إليها بالكلية أو الشاملة)، ويمكن القول بأن الأولى إن هي مجرد إجراءات وأفعال تشكل تجليًا للثانية، ولايمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل، لأن هذه الدائرة الأكبر هي البنية الكامنة والمرجعية النهائية.

وفي حالة العلمانية يشكل الفصل بين الدين من جهة والدولة وسلوك الناس في بعض مجالات الحياة العامة من جهة أخرى الدائرة الصغيرة الجزئية الإجرائية، وهي دائرة لا يمكن فهم ما يجري فيها دون العودة إلى الدائرة الأكبر التي تشمل الأمور النهائية والمنظومات المعرفية أي التي تحوي النموذج الإجرائي الأساسي.

إذن فهناك علمانيتان، الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة فحسب وإنما عن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، بحيث تنزع القداسة عن العالم ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى.

وقد يكون من المفيد أن نبدأ بحقيقة بديهية وهي أن كل الأشياء المحيطة بنا، المهم منها والتافه، تجسد نموذجًا حضاريًا متكاملًا يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية. فإن كانت هذه الأشياء تجسد الرؤية العلمانية الشاملة فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان الناس وأحلامهم ورغباتهم وتعلمنهم بشكل شامل وكامل، دون أن يشعروا بذلك، ومن خلال عمليات تبلغ الغاية في التركيب والكمون. فالعلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية وأفكار شائعة وتحولات اجتماعية تبدو كلها في الظاهر بريئة أو مقطوعة الصلة بالعلمانية، ولكنها في واقع الأمر تخلق جوًا خصبًا مواتيًا لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، فلا يمكن استخدام هذا المنتج وتبني هذه الأفكار دون أن يجد الإنسان نفسه متوجهًا توجهًا علمانيًا شاملًا، ولذا سميت بالبنيوية.

ومن أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم هي الإعلانات التليفزيونية التي تروج رؤية للعالم عمادها الجنس والاستهلاك.

ونذكر هنا بعض الأفكار العلمانية التي تبدو محايدة ولا علاقة لها بأية أيديولوجية رغم كونها تحتوي على الرؤية العلمانية كنموذج كامن: القول بوحدة العلوم – فكرة نهاية التاريخ – خطاب التمركز حول الأنثى، وغيرها كثير.

ويتميز المجتمع العلماني بملامح خاصة يمكن تلخيصها في الانتقال من الإنساني إلى الطبيعي – المادي، أي الانتقال من مركزية الإنسان وخضوع الطبيعة له، إلى مركزية الطبيعة وإذعان الإنسان لها.

ومن أهم المصطلحات المستخدمة للتعبير عن الرؤية العلمانية:

التطبيع: بمعنى رد الظواهر إلى الطبيعة – المادة أو إلى القانون الطبيعي، باعتباره مرجعية نهائية كامنة وقانونًا عامًا.

التحييد: أي تحييد العالم وتعني أن العالم يصبح مادة محضًا لا تحوي غرضًا ولا غاية ولا هدفًا ولا معنى ولا مركزًا، ولا علاقة لها بعالم القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية أو أية معيارية.

التعاقدية: تحول العلاقات بين البشر من علاقات إنسانية تراحمية لا تخضع تمامًا لحسابات الربح والخسارة إلى علاقات تعاقدية مضبوطة. ويصبح العالم بأسره أشبه بالسوق.

الحوسلة: وهي تحويل الشئ إلى وسيلة، فالإنسان والطبيعة هما في هذه الرؤية العلمانية مجرد مادة استعمالية يمكن توظيفها في أي هدف أو غرض.

التكنوقراطية : فإدارة المجتمع تتم من خلال نماذج بيروقراطية كمية في صورة مؤسسات ضخمة لا تكترث كثيرًا بخصوصيات الأفراد وسماتهم المتعينة.

العقل الأداتي: هو ذلك العقل الذي يلتزم بالمستوى الشكلي وبالإجراءات دون تساؤل عن مضمون الغايات التي يسعى لتحقيقها، أي هو العقل الذي يقوم بالترشيد الإجرائي الأداتي انطلاقًا من نموذج عملي مادي.

التسلع: مصطلح يشير إلى أن السلعة وعملية تبادل السلع تصبح هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان.

التشيؤ: أي تحول العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء ( علاقات آلية غير شخصية )، ومعاملة الناس باعتبارهم موضعًا للتبادل.

الاغتراب: أي احساس الإنسان باللامعيارية وغياب المعنى، وشعوره بالعجز وعدم القدرة على التأثير في المجتمع.

التنميط: وهو وضع معايير ومقاييس محددة للإنسان في المجتمع حتى للتطلعات والأحلام وأنماط السلوك.

نهاية التاريخ: أي أن التاريخ سيصل إلى نهايته في لحظة ما فيصبح سكونيًا خاليًا من التدافع، وسيسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وعلى نفسه، وسيجد حلولًا نهائية حاسمة لكل مشكلاته.  

فكرة العلمانية: رؤية بنيوية معروضة بشكل مفصل في:

  • العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. 2ج./ عبدالوهاب المسيري.ـــــ ط. 1. ـــــ القاهرة: دار الشروق؛ 2002 .ـــــ 2ج. ، 24 سم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

بين الإسلام والعروبة

أ. أحمد عبد الرحمن خليفة

يندرج كتاب "بين الإسلام والعروبة" للمستشار طارق البشري (1933: 2021م) بجزئيه ضمن مجموعة مؤلفات البشري التي عُنيت بتحليل قضية "الجامعة السياسية".

المدخل المقاصدي للخطاب العلماني: دراسة نقدية

د. أحمد إدريس الطعان الحاج

يتداول العلمانيون في خطابهم مفاهيم متعددة مثل: المقاصد والمصالح والمغزى والجوهر والروح والضمير الحديث والضمير الإسلامي والوجدان الحديث والمنهج والرحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.