الصفحات التالية من الكتاب القيم جدد حياتك* لمحمد الغزالي**
كثيرا ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته، ولكنه يقرن هذه البداية المرغوبة بموعد مع الأقدار المجهولة، كتحسن في حالته، أوتحول في مكانته.
وقد يقرنها بموسم معين، أو مناسبة خاصة كعيدميلاد، أو غرة عام مثلا.
وهو في هذا التسويف يشعر بأن رافدا من روافد القوة المرموقة قد يجئ مع هذا الموعد، فينشطه بعد خمول ويمنيه بعد إياس.
وهذا وهم. فإن تجدد الحياة ينبع قبل كل شئ من داخل النفس.
والرجل المقبل على الدنيا بعزيمة وبصر لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت، ولا تصرفه وفق هواها. إنه هو الذى يستفيد منها، ويحتفظ بخصائصه أمامها، كبذور الأزهار الى تطمر تحت أكوام السبخ، ثم هى تشق الطريق إلى أعلى مستقبلة ضوء الشمس برائحتها المنعشة!! ، لقد حولت الحمأ المسنون والماء الكدر إلى لون بهيج وعطر فواح … كذلك الإنسان إذا ملك نفسه وملك وقته، واحتفظ بحرية الحركة لقاء ما يواجه من شئون كريهة، إنه يقدر على فعل الكثير دون انتظار أمداد خارجية تساعده على ما يريد.
إنه بقواه الكامنة، وملكاته المدفونة فيه، والفرص المحدودة أو التافهة المتاحة له يستطيع أن يبني حياته من جديد.
لا مكان لتريث، إن الزمن قد يفد بعون يشد به أعصاب السائرين في طريق الحق، أما أن يهب المُقعد طاقة على الخطو أو الجرى فذاك مستحيل.
لاتعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير.
الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التي بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التى تلتف حواليك، هى وحدها الدعائم التي يتمخض عنها مستقبلك. فلا مكان لإبطاء أو انتظار، قال صلى الله عليه وسلم : ” إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل” (مسلم).
ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة الكابية التى تبغى الخلاص منها، وبقاءك مهزوما أمام نوازع الهوى والتفريط.
ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى والطويلة المدى ليتخلص من هذه الهنات التى تُزرى به.
في كل بضعة أيام أنظر إلى أدراج مكتبى لأُذهب الفوضى التي حلت به من قصاصات متناثرة، وسجلات مبعثرة، وأوراق أدت الغرض منها.
يجب أن أرتب كل شئ في وضعه الصحيح، وأن يستقر في سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به.
وفي البيت، إن غرفه وصالاته تصبح مشعَّثة مرتبكة عقب أعمال يوم كامل. فإذا الأيدى الدائبة تجول هنا وهناك لتنظف الأثاث المغبر، وتطرد القمامة الزائدة، وتعيد إلى كل شئ رواءه ونظامه.
ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد؟. ألا تستحق نفسك أن تتعهد شئونها بين الحين والحين لترى ما عراها من اضطراب فتزيله، ومالحقها من إثم فتنفيه عنها مثلما تنفى القمامة عن الساحات الطهور؟!.
ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غُنْم أو غُرْم؟ وأن نرجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجَّتها الأزمات، وهزها العراك الدائب على ظهر الأرض فى تلك الدنيا المائجة؟…
إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب فى أرجاء نفسه وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك.
ذلك أن الكيان العاطفى والعقلى للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات … فإذا ترك لعوامل الهدم تنال منه فهى آتية عليه لا محالة، وعندئذ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه …
وهذا شأن (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف – 28) كما يقول الله عزوجل.
وكلمة “فُرُط” هذه ينبغي أن نتأمل فيها. فالعامة عندنا يسمون حبات العنب الساقطة من عنقودها أو حبات البلح الساقطة من عرجونها “فرطا”.
وانتزاع حبات الأذرة من كيزانها المتراصة تمهيدا لطحنها تشتق تسميته من المادة نفسها.
والنفس الإنسانية إذا تقطعت أواصرها، ولم يربطها نظام ينسق شئونها ويركز قواها؛ أصبحت مشاعرها وأفكارها كهذه الحبات المنفرطة السائبة لاخير فيها ولا حركة لها.
ومن ثم نرى ضرورة العمل الدائم لتنظيم النفس وإحكام الرقابة عليها.
والله عز وجل يهيب بالبشر – قبيل كل صباح – أن يجددوا حياتهم مع كل نهار مقبل.
فبعد أن يستريح الأنام من عناء الأمس الذاهب، وعندما يتحركون في فرشهم ليواجهوا مع تحرك الفلك يومهم الجديد.
في هذه اللحظة يستطيع كل امرئ أن يجدد حياته، وأن يعيد بناء نفسه على أشعة من الأمل والتوفيق واليقظة.
إن صوت الحق يهتف في كل مكان ليهتدي الحائرون ويتجدد البالون. قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : ” إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فيعطى؟. هل من داع فيستجاب له؟. هل من مستغفر فيغفر له؟ .. حتى ينفجر الفجر” (مسلم). وفي رواية : “أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل” (الترمذي). فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن.
إنها لحظة إدبار الليل وإقبال النهار، وعلى أطلال الماضى القريب أو البعيد يمكنك أن تنهض لتبني مستقبلك.
ولا تؤودنك كثرة الخطايا، فلو كانت ركاما أسود كزبد البحر ما بالى الله عزوجل بالتعفية عليها إن أنت اتجهت إليه قصدا وانطلقت إليه ركضا.
إن الكنود القديم لا يجوز أن يكون عائقا أمام أوبة صادقة…
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) (الزمر 53 – 54).
ووظيفة الدين بين الناس أن يضبط مسالكهم وعلائقهم على أسس من الحق والقسط حتى يحيوا في هذه الدنيا حياة لا جور فيها ولا جهل …
فالدين للإنسان – كالغذاء لبدنه – ضرورة لوجوده ومتعة لحواسه.
وإن هذه العودة الظافرة التي يفرح الله بها هى انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول، وسحقه لجراثيم الوضاعة والمعصية, وانطلاقه من قيود الهوى والجحود، ثم استقرارفى مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان، والنضج والاهتداء.
هذه هى العودة التي يقول الله في صاحبها:
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه – 82).
إنها حياة تجددت بعد ما بلى ، ونقلة حاسمة غيرت معالم النفس، كما تتغير الأرض الموات بعد مقادير هائلة من المياه والمخصبات.
****
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (الذاريات 50 – 51)
هي عودة تتطلب – كما رأيت – أن يجدد الإنسان نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقة أفضل، وعملا أكمل, وعهدا يجرى على فمه هذا الدعاء: ” اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفرلى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”. (البخاري).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد الغزالي (2005). جدد حياتك. القاهرة. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع. 206 ص.
** محمد الغزالي (1335 هـ / 1917م – 1416 هـ / 1996م) عالم ومفكر إسلامي مصري، يعد واحد من أهم دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، عُرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي وكونه من “المناهضين للتشدد والغلو في الدين”، كما عُرف بأسلوبه الأدبي الرصين في الكتابة واشتهر بلقب أديب الدعوة.