د. مصطفى محمود
أ. د. نعمت عبد اللطيف مشهور*
يظل الدكتور مصطفى محمود ظاهرة فريدة جمعت بين الإيمان بالله تعالى من ناحية ومجالات الأدب والطب والفلسفة والفكر، والعطاء الخيري الثري من ناحية أخرى مما يجعله شخصية ملهمة على مر الأجيال يجدر أن نسلط الضوء عليها.فرغم أنه كان شخصية معروفة إعلاميا إلا أن أكثر الناس لا يعرفون عمق هذه الشخصية وثرائها.
من هو د. مصطفى محمود الإنسان؟
مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ ( 27ديسمبر 1921 – 31 اكتوبر 2009)، المعروف باسم د. مصطفى محمود، هو طبيب ومفكر وفيلسوف وكاتب.
- ولد في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، ويمتد نسبه إلى على زين العابدين.
- تخرج من كلية الطب عام 1953، وتخصص فى الأمراض الصدرية .
- تفرغ للكتابة والبحث منذ عام 1960
- تزوج مرتين وله ولدين أمل وأدهم.
أولا: العطاء الفكري:
تظل مؤلفات د. مصطفى محمود الفكرية وحلقاته التليفزيونية ومناظراته ومناقشاته علامة بارزة فى تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر ، ويبقى الدكتور مصطفى محمود القيمة والقدوة والرمز المضئ الذى أفنى حياته باحثا ومنقبا ومجتهدا.
فجاءت كتاباته واجتهاداته شاهدة على إنسان يبحث عن الحقيقة دون ملل أو تهاون، يرفض الاتباع الأعمى دون اقتناع قلبى عميق.
لقد قضى الدكتور مصطفى محمود تجربة طويلة على مدى ثلاثين عاما من المعاناة والشك والنفى والإثبات بحثا عن الله، وقرأ وقتها عن البوذية والبرهمية والزراد شتية، ومارس التصوف الهندوسي، إلا أنه طوال فترة شكه لم يلحد، فلم ينف وجود الله بشكل مطلق، ولكنه كان عاجزا عن إدراكه، عاجزا عن التصور الصحيح لله. ومما لا شك فيه أن هذه التجربة صهرته بقوة وصنعت منه مفكرا دينيا خلاقا.
يقول الدكتور مصطفى محمود عن هذه المرحلة من حياته : “احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق فى الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين”.
وقد قال عنه الشاعر كامل الشناوي ” إذا كان الدكتور مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة، كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شئ، وعندما خاب ظنه مع العلم، أخذ يبحث فى الأديان بدءا بالديانات السماوية، وانتهاء بالأديان الأرضية، ولم يجد فى النهاية سوى القرآن الكريم”
لقد انتهت هذه السنوات الثلاثين بأروع كتبه وأعمقها: “حوار مع صديقي الملحد”، “رحلتي من الشك إلى الإيمان”، “التوراه”، “لغز الموت”، “لغز الحياة”، وغيرها من الكتب شديدة العمق فى هذه المنطقة الشائكة.
كثيرا ما اتهم الدكتور مصطفى محمود بأن أفكاره وآراءه متضاربة إلى حد التناقض، إلا أن اعترافه بأنه على غير صواب فى بعض مراحل حياته هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدرة على نقد الذات.
ألف الدكتور مصطفى محمود 89 كتابا، منها العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية والسلاسة والبساطة .
ولقد حازت روايته ” رجل تحت الصفر” بجائزة الدولة لعام 1970 .
وقد تعرض مصطفى محمود للعديد من المشكلات نتيجة آرائه وكتاباته:
فقد تعرض لأزمة فكرية بسبب كتاب ” الله والإنسان”، وتم تقديمه للمحاكمة، إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب، وبعد ذلك أخبره الرئيس أنور السادات انه معجب بالكتاب وقرر طبعه مرة أخرى.
كما تعرض لأزمة كبيرة بسبب كتاب “الشفاعة” (وهى شفاعة رسول الإسلام محمد في إخراج العصاة من المسلمين من النار وإدخالهم الجنة)، عندما قال أن الشفاعة الحقيقية غير التى يروج لها علماء الحديث، وأن الشفاعة بمفهومها المعروف أشبه بنوع من الواسطة والاتكالية على شفاعة النبى محمد عليه السلام وعدم العمل والاجتهاد، أو أنها تعنى تغيير لحكم الله في هؤلاء المذنبون، وأن الله أرحم بعبيده والأعلم بما يستحقونه، وقد هوجم بألسنة حادة وصدر 14 كتابا للرد عليه، واتهم بأنه مجرد طبيب لا علاقة له بالعلم الدينى، إلا أن فضيلة الدكتور نصر فريد واصل تفاعل بحيادية مع الموضوع فقال عنه:
“الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الاطلاع والغيرة على الإسلام، فما أكثر المواقف التى أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين، وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلامية من الشوائب التى علقت بها، وشهدت له المحافل التى صال فيها وجال دفاعا عن الدين. ذلك أنه لم ينكر الشفاعة أصلا، ولكن رأيه يتلخص فى أن الشفاعة مقيدة أو غيبية إلى أقصى الحدود، وأن الاعتماد على الشفاعة لن يؤدي إلا إلى التكاسل عن نصرة الدين والتحلي بالعزيمة والإرادة فى الفوز بدخول الجنة، والاتكال على الشفاعة هو ما يجب الحذر منه”.
حلقات العلم والإيمان:
قدم الدكتور مصطفى محمود 400 حلقة من برنامج ” العلم والإيمان” أشهر البرامج التليفزيونية وأوسعها انتشارا على الإطلاق على مدى 28 سنة(من عام 1971 إلى عام 1999). وكان البرنامج يهدف إلى تناول العلم على أسس إيمانية، والمزج بين عجائب وغرائب هذا الكون، وبين الإيمان بوجود الله وقدرته وكان يسعى هذا البرنامج الى دفع الإنسان إلى التأمل فى قدرة الله سبحانه وتعالى.
فلسفته في الحياة:
لقد كان مصطفى محمود إنسان يميل إلى التأمل والتفكر، يرفض الإجابات السطحية للأسئلة الكبرى في الحياة، ولم يهدأ إلا عندما توصل إلى الإجابات الشافية التى حققت له توازنه النفسي. وقد بث هذه الإجابات فى كتاباته الفلسفية والأدبية.
ومن مقولاته العميقة:
” إن السعادة في معناها الوحيد الممكن هي حالة الصلح بين الظاهر والباطن، بين الإنسان ونفسه والآخرين، وبين الإنسان وبين الله تعالى، فينسكب كل من ظاهره وباطنه فى الآخر كأنهما وحدة، ويصبح الفرد منا وكأنه الكل. وكأنما كل الطيور تغنى له وتتكلم لغته”.
” الكراهية تكلف أكثر من الحب … لأنها إحساس غير طبيعي .. إحساس عكسي مثل حركة الأجسام ضد جاذبية الأرض … تحتاج إلى قوة إضافية وتستهلك وقوداً أكثر”.
” لماذا اليأس وصورة الكون البديع بما فيها من جمال ونظام وحكمة وتخطيط موزون توحي بإله عادل لا يخطئ ميزانه … كريم لايكف عن العطاء”.
لماذا لا نخرج من جحورنا ونكسر قوقعاتنا ونطل برؤوسنا لنتفرج على الدنيا ونتأمل”.
” الإنسان هو إنسان فقط إذا استطاع أن يقاوم ما يحب ويتحمل ما يكره، وهو إنسان فقط إذا ساد عقله على بهيميته، وإذا ساد رشده على حماقته، وتلك أول ملامح الإنسانية “.
” الإسلام ليس ألغازاً وليس بلوغاريتمات، ولايحتاج منا إلى كل تلك الفتاوي … والنبى صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله عن الإسلام، فقال في كلمات قليلة بليغة : قل لا إله لا الله ثم استقم .. هكذاببساطة، كل المطلوب هو التوحيد والاستقامة على مكارم الأخلاق .. إنها الفطرة والبداهة التى نولد بها لا أكثر”.
” جرب ألا تشمت ولا تكره ولا تحسد ولا تيأس ولا تتشاءم .. وسوف تلمس بنفسك النتيجة المذهلة .. سوف ترى أنك يمكن أن تشفى من أمراضك بالفعل … إنها تجربة شاقة سوف تحتاج إلى مجاهدات مستمرة ودائبة مع النفس ربما لمدى سنين وسنين”
” لو أنى أصغيت الى صوت الفطرة، وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسى من عناء الجدل ولقادتني الفطرة إلى الله”.
ثانيا: العطاء الخيري:
” قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته “.
تقول ابنته أمل ان هذه الكلمة ترسم صورة واقعية عن الدكتور مصطفى محمود، فهى تمثل مبدأه فى مشوار حياته، والمقصود هنا ليس المجد الأدبي والمادى، بل العطاء الإنساني لوجه الله تعالى فى صورة الخير والمساندة للغير.
والحقيقة أن من العسير حصر كل ما قدمه الدكتور مصطفى محمود على مستوى العطاء التكافلي الخيري، من خلال جمعيته الشهيرة ومسجده، والمشروعات التى انبثقت عنها لتحقق الحياة الكريمة لآلاف من البشر، وعلاجهم، وإطعامهم، وكسوتهم، ورعاية الأيتام والأرامل، والقيام بالمشروعات الإنتاجية الداعمة للحياة الكريمة للأسر المحتاجة.
أ- الجمعية والمسجد والمراكز الطبية:
لقد وجد الدكتور مصطفى محمود ضالته لخدمة الناس في تأسيس جمعية عام 1975، ثم مسجدا باسم والده،( مسجد محمود)، الذى يقف منارة في حي المهندسين، ليمتد خيره في أحياء أخرى، وفي محافظات عديدة، وقد استغرق بناء المسجد 3 سنوات، وكان الدكتور مصطفى محمود قد اشترى قطعة الأرض من عائد أول كتبه ” المستحيل” وأنشأ عليها المسجد.
يتبع المسجد 3 مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، ويقصدها الكثير من أبناء مصر نظرا لسمعتها الطيبة، كما يضم 4 مراصد فلكية ومتحفا للجيولوجيا يقوم عليه أساتذة متخصصون، ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة، وبعض الكائنات البحرية.
ولم يكن الدكتور مصطفى محمود يملك ما يستطيع به تشييد المشروعات التى كان يحلم بها، لكن ما أن امتدت يده للبناء حتى امتدت الآف الأيدي متبرعة، كل يريد المشاركة وكانت 70% من التبرعات من المصريين، و30% من الأخوة العرب، والمدهش انه وجد تسهيلات لاحصر لها لإعداد الصروح الطبية والمشروعات والخدمات الهائلة.
لقد تطور هذا العمل المتواضع من عيادات تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة إلى مدينة طبية مركزها مسجد محمود بوحداته العلاجية المتعددة، ثم المركز الطبى بعمارة الكوثر بشارع جامعة الدول العربية، ثم مستشفى محمود بميدان لبنان بالمهندسين.
ب- القرض الحسن الدوار:
لما تنامت إمكانيات الجمعية الخيرية التى أسسها الدكتور مصطفى محمود، والتى تتم من خلال لجنة الخدمات الاجتماعية التابعة للجمعية، والتى تقدم خدمات لآلاف الأسر فى نطاق القاهرة الكبرى، شرعت اللجنة منذ عام 2000 في البحث عمن هم أحق بالمساعدة فى المناطق النائية.
انطلاقا من هذه المسئولية ولد المشروع الرائد ” القرض الحسن الدوار”، وهو إقراض للمحتاجين لإقامة مشروع إنتاجي تتابعه الجمعية وترعاه، حتى يتم سداد القرض وبدون فوائد، وهذا السداد يذهب لفقير آخر، وهكذا تدور عجلة المشروع بتحويل الفقراء إلى وحدات إنتاجية، وأشخاص فاعلين في المجتمع.
بدأ المشروع عام 2000 بميزانية 27 ألف جنيه، تخدم 6 أسر فقيرة فى واحة الخبر، وهى من أفقر المناطق فى الواحات البحرية، ويمتد المشروع الآن إلى أكثر من ألف أسرة مستفيدة فى 7 محافظات، وتعدت ميزانيته 12 مليون جنيه .
ويشرف على هذا المشروع خبراء متطوعون فى الزراعة والطب البيطري والبشري.
ويتعامل مشروع القرض الحسن الدوار مع الفقراء دون النظر إلى دياناتهم بالرغم من أن الجمعية اسمها ” جمعية مسجد محمود”، لأن الدكتور مصطفى محمود كان دائما يذكر أن ضرورة إطعام المساكين، التى ذكرت 12 مرة فى آيات القرآن الكريم، ولم يذكر فى أي منها أن المسكين يجب أن يكون مسلما.
ح- التكامل الاجتماعي:
لقد تطور هذا العمل الخيري الذى بدأ بسيطا لعدد من نشاطات التكافل الاجتماعي:
- معاشات ومساعدات في المصروفات لأكثر من 8500 أسرة فقيرة من الأرامل والأيتام وأصحاب العجز والمرض المزمن، وللمصروفات المدرسية وعلى معارض لملابس الأيتام ومساعدة الغارمين.
- موائد الرحمن على 3 مستويات:
- خيام تستقبل 2000 صائم
- توزيع خارجي لوجبات على المحاور والطرق السريعة والمستشفيات الحكومية، وأفراد المرور بالشوارع، وهيئات النظافة والتجميل.
- توزيع 12 الف شنطة بها سلع غذائية تكفى شهر رمضان توزع على أصحاب المعاشات والفقراء في بعض قرى ومحافظات الصعيد.
- مشروع ما لايلزمك يقوم على استقبال ما يزيد عن حاجة الأسر، ويقوم بتجديدها وإعادتها الى هيئتها الاولى، من خلال ورش خاصة، ثم يتم تقديمها للعروس في جهازها، أو الى من يحتاج اليها في منزله من الأرامل والأيتام.
إن استمرار هذا العطاء الخيري وتطوره ومضاعفة أدائه بعد أعوام طويلة من وفاة صاحبها لأوضح دليل على إخلاص المنشئ الأول لهذا المشروع العملاق.
إن الدكتور مصطفى محمود شخصية شديدة الغنى وغزيرة العطاء على المستويين الفكري والخيري، فكما يلهم الشباب والقراء من خلال تجربته الإيمانية والفلسفية التى سجلها فى مؤلفاته العديدة، فهو يلهمنا على مستوى العطاء الإنساني، إذ لا قيمة لإنسان إلا بما أضافه في الواقع المادي يفيد به غيره.
من أهم مؤلفاته:
- الإسلام السياسي والمعركة القادمة.
- الإسلام في خندق.
- حوار مع صديق الملحد.
- رأيت الله.
- رحلتي من الشك إلى الإيمان.
- السر الأعظم.
- علم نفس قرآني جديد.
- القرآن: محاولة لفهم عصري.
- لغز الموت.
- لغز الحياة.
- القرآن كائن حي.
- الله.
- الماركسية والإسلام.
- المستحيل
- المؤامرة الكبرى.
- وبدأ العد التنازلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ الاقتصاد الإسلامي والمالية الإسلامية المتفرغ. كلية التجارة، جامعة الأزهر.