عن الحرية أتحدث
إعداد:
أ. رقية ممدوح الجعفري*
توطئة
تمر السنوات تلو السنوات ولا زال الإنسان يسأل نفس الأسئلة الكبرى، باختلاف الإجابات على مر العصور. ولكن من يتابع أخبار الشرق، يجد أننا ندور في حلقات مفرغة منذ عقود. فبين من يشعر أنه مستلب الهوية لا يجد صخرة يتكئ عليها في لحظات التخبط، ومن يلهث راكضا محاولًا اللحاق بالغرب خالعًا عنه كل ما يمثل ماضيه، ظنًا منه أن ما كان لم يعد يصلح لما نحن عليه.
وأحيانًا، تطل علينا إجابات واضحة جلية تستحق الالتفات إليها. ومحاولة الإجابة التي نتناولها في هذه المقالة تأتينا من فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود، الذي يأخذنا في كتابه “عن الحرية أتحدث” في رحلة تتسم بالسلاسة والترابط، فيؤصل لفكرة الحرية، جاعلًا العقل والفكر أساسها غير المتزعزع. ليقارن بين ما كنا عليه وما أصبحنا، ويفسر أوجه التشابه والاختلاف بين الشرق والغرب، ويمهد لضرورة اللحاق بروح العصر. فإذا كان العلم، بتجلياته المختلفة، وما يحدث في إطاره من تقدم غير مسبوق، يشعرنا بالتهديد وعدم الأمان. فإن كتاب “عن الحرية أتحدث” يطمئننا بأننا لن نستطيع خلق الحاضر أو تشكيل المستقبل دون جرعة منتقاة من الماضي.
عن الإنسان الحر
يصرح المؤلف أنه قد وجد، بعد فحص النصوص الرائدة منذ أواخر الخمسينات ولمدة أكثر من عقدين متتاليين، أن من أكثر الكلمات ظهورًا في هذه النصوص كانت كلمة الحرية. وقد تجسدت هذه اللهفة للحرية في تاريخ مصر على مر السنين، وخاصة في العصر الحديث، في الثورات والانتفاضات المتتالية، مطالبة بالتحرر والحرية. فماذا يُقصد بالحرية؟
يشرح د. زكي نجيب محمود أن الإنسان حر بطبيعته، بل تسري الحرية على كافة الكائنات الحية باختلاف قدراتها ومساحاتها. فالنبات حر، رغم عدم تجاوزه لقيود المكان، إلا أنه لا تشبه نبتة أخرى، ولن تجد ورقتي شجر تتماثلان أبدًا. فكل تُرك ليتكيف مع البيئة التي وجد فيها، ينمو ويزهر ليعبر عن الحرية التي مُنحت له. وكذلك الحيوانات، التي تفوقت على النبات، في مقاومتها لحدود المكان، ولكنها لا ترى من حياتها سوى اللحظة الراهنة، فلا خيال لديها ولا ندم ولا ذاكرة ولا نسيان.
أما الإنسان، أرقى الكائنات، فيتحدى الزمان والمكان، ذلك أن حريته فطرية، يفوق باقي الكائنات بأن له القدرة على التعبير عن مكونانته كيفما شاء. فلا تجد اثنين مستنسخين عن بعضهما البعض، حتى وإن تشابها، كل له فرديته وإبداعه. وهكذا تكون الحرية، في معناها العام، إبداع وتفرد أصيل، فتصير ضرورة ملحة وفطرية للإنسان.
فالحرية كسر للقيود التي تكبل إبداع الإنسان وقدراته على التعبير عن فرديته من جانب، وتصل لذروتها حين تتعقد الطرق وتظهر العقبات من جانب آخر. فكلما صعُب الدرب الذي اختاره المرء، كلما استشعر ذاته فور الظفر بمناله. فالحرية تكون مرضية على قدر المشقة المبذولة للوصول إليها. بل والمدهش في الإنسان أنه لا يكتفي بتيسير العقبات أمامه، بل ويخلق لذاته عقبات أخرى ليتغلب عليها ويبدع أكثر من ذي قبل.
ولكن هل كل القيود تُكسر؟ من المعروف أن الحياة تقدم لنا بعض العقبات التي رغم بساطتها وضآلة تأثيرها إلا أننا لا يمكننا أن ندعي معها أن حريتنا، في طبيعتها، غير مقيدة. فعلى سبيل المثال، للاعب كرة القدم مطلق الحرية في الملعب. يسدد أو يركل الكرة كيفما يشاء، طالما خضع لقيدين مهمين؛ أولهما، قدراته الجسدية في حركته، وثانيهما، اتساق إبداعه الفردي مع غايات الفريق وتعاونه معهم على أرض الملعب. فاللاعب يمارس حريته في إطار الكل الذي هو جزء منه، بينما تمارس باقي الأجزاء حريتها أيضًا.
ومن رحمة الله بنا أن جعلنا قادرين على التعبير عن هذا التفرد بشكل فطري. ويرى د. زكي نجيب محمود أن كل ما يُنتجه المرء —وهو حر — يكون تعبيرًا عنه، سواء كان نصًا، أو آلة، أو بناية، أو غيرها. فالتعبير، وهو عبور الداخل للعلن، يتجلى في إسهامات الإنسان على كافة الأصعدة، والتي تنتهي به إلى قيام حضارته المعاشة. وكيفما الجسد الواحد، يعمل كل عضو فيه بوظيفته، ولكنه في ذلك يلتزم بالهدف الأكبر للجسد بأسره. فالكل يعبر عن أفراده، وحين ينطلق الأفراد محققين ذواتهم، ينعكس ذلك على الكل المتسق؛ ليكون وحدة تعكس الحرية في أبهى صورتها.
إن الإنسان يدرك حدوده وإبداعاته بالعقل الذي ميزه الله به عن سائر المخلوقات. والصفة التي تميز العقل هي “أنها حركة انتقالية يبدأ سيرها من شواهد وبيّنات ومقدمات، وينتهي عند نتيجة تتولد به مما بدأ به.” بالتالي فـ”العقل إدراكه دائما غير مباشر؛ لأنه قدرة استدلالية، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين، طرف نبدأ منه، وطرف آخر هو النتيجة التي ننتهي إليها.” فالعقل هو معقل عملية الفكر، تلك التي منها نبدأ وإليها ننتهي. فبه ندرك ذواتنا ومن حولنا، وبه نعقل حريتنا فننتج ما يعكس من نحن. فماذا يحدث حين تشوب عملية التفكير شائبة تطيح بحرية الفرد والمجموع أرضًا؟
من هو المفكر؟ وكيف يكون حرًا؟
لنجيب عن السؤال السابق، نخوض مع الكاتب مغامرته نحو محاولة تحقيق فهم أعمق للعقل وقدراته. فالعقل بوتقة لعملية التفكير، والتفكير هو الطريقة التي يصل بها الإنسان إلى هدفه. فالتفكير إنما هو خطوات تترابط منطقيًا، تبدأ من مقدمات أو مشكلة أو افتراضات، وتنتهي إلى هدف معين. تُوصف هذه العملية بأنها سليمة حين يتحقق الهدف منها، أو حين تترابط الخطوات، حتى وإن لم يصل المرء للنتيجة المرجوة.
فالفيصل لا يتمثل في التوصل إلى النتيجة، بل في كيف وصولنا إليها. وذلك ما يمكن تسميته بالمنهج العلمي. ولتفصيل الأمر يستعير كاتبنا أمثلة من الحضارات المتعاقبة؛ من اليونان والحضارة المصرية، وصولا إلى العصر الذهبي للإسلام، وانتهاءً بأوروبا الحديثة وحركة النهضة، حتى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث استُبدل الإنسان بالآلة وأصبح الجهاز يحاكي العقل البشري وظهر الكمبيوتر.
إن نظرة سريعة على أسس الحضارات المذكورة، تبين لنا أن الحضارات واحدة من اثنين: إما حضارة أساسها “الكلمة” ومدارها “المبادىء” وهي حضارتنا. أما الغرب فأساس حضارتهم هو “الشيء” ومدارها “العلم.” ومن هذا التقسيم، يمكننا وصف الحضارتين بأن واحدة منهما حضارة كلمات والأخرى حضارة أفعال. فالمعروف عن حضارة العرب أنهم برعوا في علوم الكلام؛ فكان الشعر من أهم ما يُعرف به العربي. أما حضارة الغرب، حضارة الأشياء، فنجد أبناءها ملتفتين للتطبيق العملي، وأساس مخترعاتهم “الأجهزة العلمية والآلات.”
وبما أن التجربة الإنسانية مشتركة، فمن الطبيعي أن تغترف كل حضارة من سابقاتها، بل وأن يشيد البشر هذا البناء الضخم من العلوم المختلفة بالنقل عن بعضهم البعض، والإضافة المبدعة. وقد يتوهم البعض أن حضارة الغرب لا تمت لنا بصلة. فمع التقدم الهائل الذي يحققه العلم الغربي يومًا بعد يوم، يستشعر البعض كما لو كان بيننا وبينهم أشواط لا يمكن قطعها إلا بالانغماس التام فيما أنتجوه دون تمحيص، وقد يستشعر آخرون ضرورة الانغلاق التام والرفض لكل ما يأتي من هذه الحضارة خوفًا من الانسحاق أمامها. لكن النهضة، في رأي مفكرنا، لا تتأتى إلا حين تنساب الحرية لكل فرد من أفراد الشعب. صحيح أنه لا يُشترط أن يتمتع الجميع بنفس القدر من الحرية أو حتى ذات القدر من الرغبة في كشف المستور، ولكن لا يكفي أن تكون القلة القليلة حرة دون الآخرين.
ولا شك في أن القيود أو الصعوبات التي يجدها المرء في واقعه تمثل دافعا للبحث عن إجابات وتفسيرات لها. فإن تحدثنا عن الظواهر الطبيعة، سنجد أنها مما لا يمكن في العادة تغييره، فالظاهرة نفسها لا يُتحكم فيها، ولكن بالتفكير السليم والمنهج العلمي الصحيح يستطيع الإنسان أن يصل لتفسيرات هذه الظاهرة وأن يوظفها لصالحه. وبالوصول إلى تفسير الظواهر، يتمكن الإنسان من كسر قيوده، والظفر بقدر من الحرية يتساوى، بل وقد يفوق أحيانًا، مقدار ما لاقاه من عقبات في سبيل فهم العالم من حوله.
أما في مجال الظواهر الاجتماعية، فإن الواقع، مهما كان منفرًا بالنسبة للمرء، فإنه لا يمكن الهروب منه أو تزييفه، وتتمثل قدرة المنهج العلمي هنا في البحث عن أسباب المشكلات الاجتماعية، وصولا إلى حد التنبؤ بمستقبلها، واقتراح حلول عملية للتغلب عليها. فالمفكر حر في طريقته الاستدلالية، مقدماته، نظرياته، ومناهجه شريطة أن تترابط منطقيًا وتتسق. ومن العجيب أنه، وفي بعض الأحيان، ينقل المفكرون عن بعضهم البعض دون العمل على مواءمة الأفكار لمعتقداتهم أو مبادئهم، بل ويصل الأمر إلى حد الوقوع في التناقض بين البدايات والنتائج. فلنستعرض في السطور القادمة كيف نجمع بين ما كنا عليه وما عليه الغرب الآن بحرية الفكر والمنهج العلمي.
المشكلة
يرثي الكاتب لحال مصر، التي كانت على مر التاريخ دوما مبدعة في تقديم العلم بموضوعاته المختلفة. فكل حضارة أو ثقافة وفدت إلى مصر سلما أو حربا، كانت مصر قادرة على احتوائها، والتفاعل معها على نحو يتسم بروح الأصالة، ويعكس قدرتها على استيعاب العلم والمعرفة الجديدة المواكبة للعصر. وكانت الحرية من المطالب الأساسية التي نادى بها المصريون على مر العصور، وخاصة في العصر الحديث.
ورغم أن الكاتب قد رسم صورة تبعث نوعا من الشجن في قلب من يقرأ، إلا أنه يقر أن مصر الحديثة، حتى أواخر القرن العشرين، قد تبوأت منزلة عالية بين حضارات العالم، حيث السير للأمام دون علو أصوات المطالبين بالماضي. هذا السير إلى الأمام وفقا للكاتب قد راعى روح العصر، حيث القدرة على استبقاء منافع التراث، مع الأخذ من الحضارة الجديدة، والإضافة إليها قدر الإمكان. ولكن ما حدث أننا لم نعد نسهم في مجالات العلم كما كنا نفعل من قبل، يُرجع الكاتب أسباب التراخي الذي حل بالأمة إلى هزيمة 1967م، فرغم انتصار أكتوبر 1973، إلا أن النكسة تضعف المرء وتجبره على الانزواء هاربًا من الصدمة، في محاولة للعثور على راحته وأمنه.
فكيف ينسج المرء تصوره عن حاضر ومستقبل لا يخضع فيه المرء للماضي ولا ينقاد للآتي دون أن يأخذ في اعتباره هويته. يجيبنا د. زكي نجيب محمود بضرور فهم حركة التاريخ أولًا قبل تقرير كيف نتعامل معها. فالحياة، كما أسلفنا القول، تعبر عن الحرية في كافة أشكالها، ومن هذه الأشكال، الوقت أو الزمن. فحركة الزمن خطية، تسير إلى الأمام، ولا يمكن الرجوع بها مهما حاولنا. فبطبيعة الكون، يكون الإبداع والتجديد في القادم لأن المخرجات لا تتكرر مهما تشابهت. وبالنسبة لكاتبنا، فإنه “في كل حالة من الحالات يجيء الحاضر الجديد أكثر امتلاءً بمضمونه من الماضي القديم.”
ولكن القول بحتمية أن يكون القادم أكثر إبداعًا وشمولًا من سلفه يمكن أن يتهم بعدم الصحة، فالحاضر قد يأتي ناقصًا عما سلفه. يرد د. زكي نجيب محمود على هذا الاحتجاج بالقول إنه رغم استحالة هذه الفرضية بالنسبة له، فكل حاضر هو نتاج لإبداع أفراده، والإبداع هو تعبير عن مكنون الأفراد، بالتالي، فإن الحاضر يأتي ليناسب أصحابه. وهو يناسبهم لأنه من إنتاجهم هم، فمع كل تعبير عن ذواتهم يعلو إحساسهم بالحرية وبذواتهم. من هنا فإن ادعاء البعض أن الماضي هو أفضل وأسمى من الحاضر، لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ لأن الماضي كان مناسبًا للذين عاشوا فيه، تمامًا كما أن الحاضر مناسب لأصحابه. فلا جدوى من أن يستعير المرء ممن سبقوه، أو حتى من معاصريه ما لا يعبر عنه، وإن فعل، فسيكون الأمر مجرد استنساخ لإبداعات الآخرين، لا إثباتًا لوجوده هو، ولا تحقيقًا لذاته، بل لذواتهم. فنتاج هذه القدرة الإبداعية يتجسد في تدفق الزمان، وكلما أبدع الإنسان امتلك الحاضر، بل وربما استطاع أن يخط المستقبل أو يوجهه لبعض الوقت.
ولكن امتلاك الإنسان لحاضره لا يعني أن يلقي ماضيه خلفه، مستحدثا كل يوم أولويات جديدة، فالإنسان يصل لقمة حريته، حين يصل به إبداعه إلى الانتقاء مما تركه له السابقون، ومما ينتجه المعاصرون من حوله. هذا الفهم كان سببًا في إبداع العرب في القرنين الثالث والرابع الهجري (التاسع والعاشر الميلادي)، وإبداع الغرب في عصر النهضة الأوربية خلال القرنين الخامس عشر والسادس العشر الميلاديين. ولعل من أسرار النجاح تلك كانت النظر في إنتاج من سبق دون الوقوع في فخ تآليههم. فحين نضع الأسبقين في منزلة من لا نستطيع اللحاق بهم يومًا، يتسلل اليأس إلينا فتخفت شعلة الإبداع داخلنا. أما هؤلاء الذين وضعوا إسهامات الأقدمين ضمن أهدافهم دون الشعور بالعجز أمامهم، استطاعوا أن يبدعوا ويعبروا عن روح عصرهم بما يناسبهم ويتماشى معهم.
من أين تأتي النهضة؟
إن التراث يحمل طوق النجاة من الأسر، بل ويحثنا على السعي للوصول لأرفع المراتب، مع الأخذ من الغرب ما ينفع من العلم، وتطويعه ليحل مشكلاتنا. فالنهضة الحقيقية تأتي حين يتم الجمع بين ” الكلمة والآلة، أي بين مبادئ الأخلاق كما وردت في العقيدة الدينية، وقوانين العلم الحديث بما تتضمنه من منهج جديد للنظر.” بعبارة أخرى، نستطيع أن نتبوأ منزلًا من الحضارة وفقًا لروح العصر حين نجمع بين ما كان وما هو قائم بالفعل. ومثال على ذلك الكيفية التي جمعت بها أوروبا بين الأمريين خلال العصر الحديث. فالجمع بين فلسفة اليونان من جهة والغوص في العلوم الطبيعية من جهة أخرى وضعها في المقدمة بإسهاماتها المختلفة.
إن التفكير الحر يتطلب أن نفهم أن الحرية المطلقة، بمعنى عدم وجود قيد أو سلطان هي أمر غير ممكن حتى في أعتى الحريات. فالفكرة أساس التفكير، وعملية التفكير في حد ذاتها تحتاج إلى مرتكزات، كالفرضيات مثلًا في العلم. فمهما كانت درجة حرية الإنسان في استخدام عقله وخياله في التفكير، إلا أنه يستلزم أن يبدأ عند شيء ما، حتى لو وصل بنتيجته إلى معارضة ما بدأ به. فالسؤال الحقيقي يكون عند الأوليات التي تولد الفكرة. هل هي من واقع الإنسان وما يشغله، أم مجرد نبش في الماضي في محاولة للعودة لشيء ما؟
على المرء أيضًا أن يوظف قدراته النقدية، فلا يقبل أي فكرة دون أن يعي مصدرها. ففي عصر الأجهزة والآلات، لم يعد الإنسان سيد العلم يتحكم به بإرادته الحرة، بل يمكن القول إن العلم، والأجهزة، والآلات، تستطيع توجيه الإنسان بأن تزرع فيه الأفكار فيتصور أنها منه وباختياره الحر. وبناء عليه، فقبل المسارعة إلى تبني أفكارا معينة، يجب أن نفرق في إطارها بين الصالح والطالح، وهذا يحدث فقط عند امتلاك القدرات العقلية والحرية الفكرية لتفكيك الأفكار وتحليلها قبل تبنيها.
الحل
يقترح الدكتور زكي نجيب محمود منهجًا يساعدنا على الوصول لحرية التفكير. فبعد تشخيص المرض يأتي العلاج. ومن ضمن الآفات التي يرى أنها استفحلت في عصرنا تلك التي تتعلق بالقيود المفروضة على الحرية، وبخاصة حرية التفكير. فكما سبق الشرح، يتمتع الإنسان بالحرية، ولكن هذه الحرية مقيدة بحدود العقل وقيود الواقع المعاش. ولكن هذا لا يعني أن الإنسان محروم من الإبداع أو التفرد ضمن هذه الأطر.
ويستعير د. زكي نجيب محمود دراسة (توينبي) حول عوامل سقوط الحضارات، مفترضا أن التحدي الذي يواجه الشرق لن يقضى على وجودنا، ولكن إن لم نشمر عن سواعدنا، واضعين نصب أعيننا هدفًا يجمعنا، لن نستطيع اللحاق بركب الحضارة المعاصرة. ففي رأيه، ذلك النكوص عن التقدم سببه غياب تصور مشترك لما يجب أن يكون عليه المواطن المصري أولًا والعربي ثانيًا.
وفي مراجعاته لتصورات الفلاسفة عن المدينة الفاضلة، يستنتج أديب الفلاسفة أن العنصر المشترك فيها إنما يتمثل في قيام كل مواطن بالعمل الذي يناسب طبيعته هو، والذي يعطي فيه لأنه يريده ويحبه. وكنتيجة لذلك تكون إنتاجاته معبرة عنه، وإن نحن افترضنا عمومية هذه الصورة لدى كافة أفراد المجتمع، فإننا نجد أنفسنا أمام جسد صلب أصيل يتمتع بـ “بروح الشعب” الواحد.
ولا شك أن الإنسان، حين بدأ رحلته في السيطرة على الطبيعة، استبدل بها أجهزته وآلاته حتى حلّت الآلة محل الإنسان في بناء الحضارة. ففقد الإنسان فرديته وسط خطوط الإنتاج الكثيفة، واستشعر الوحدة مكبلًا بعلم، ظن أنه أساس تحريره. إن العلم أساس العصر، بل هو الحل الأمثل لنهضة الشعوب. ولكن، كيف يتم ضبط هذا العلم حتى تكون حريته حرية مسئولة تحقق للفرد ذاته.
يستدعي الكاتب النص القرآني بما يحتويه من أمر للإنسان بطلب العلم دون كلل أو ملل، بل وبضرورة اتساق المبادئ الأخلاقية مع هذا العلم. فعلى سبيل المثال، تعمق العقيدة الإسلامية من شعور الفرد بواحديته (تفرده) وأحاديته (اتساقه)، ليتمتع المرء بالسلام الداخلي دون تسرب مشاعر الخوف أو الاضطراب لقرارته نتيجة لتنازع الرغبات والأهداف داخل نفسه. فهاتان الصفتان من صفات الله عز وجل، شاء للإنسان أن يكون فيه منهما. فحين تختل إحداهما، بمعنى أن يُحرم الإنسان من التعبير عن ذاته نتيجة لتقييد حريته، أو أن يجد نفسه متخبطًا بين بوصلته الأخلاقية وبين الواقع، يفقد شيئًا من ذاته فيذبل، وتخفت شعلة حضارته بالتبعية.
لا عجب أن الحل يبدأ من المشكلة. فتفكر المسلم في خلق السماوات والأرض هو دعوة صريحة، تكررت مرات لا حصر لها في الكتاب والسنة، للانطلاق في ميدان العلم المنصب على الطبيعة وظواهرها. فلا يسعى المسلم لفك رموز العالم من حوله وهو مطأطئ الرأس، بل أُمر أن يحاول الإجابة عن الأسئلة بالبحث والحركة والسعي. فالتفكير يبدأ عند سؤال ما أو مشكلة بعينها، ثم يأتي المنهج الصحيح للوصول لحل هذه المشكلة أو على الأقل محاولة الإجابة عليها.
كما يرجح د. زكي نجيب محمود أن تتم العودة للدين ليكون أسلوب حياة. فالتدين لا يعني الحفاظ على العبادات فقط، بل يجب أن يمتد ليشمل كافة أصناف الحياة. فالبوصلة الأخلاقية التي تنير لنا الطريق مهمة في كافة المراحل. ولو أن الإنسان آمن وتعمق في دينه، لوجده يحث على التفاني في العمل وإتقانه قدر الإمكان.
إن المرء يمكنه أن يحقق الحرية في كل مرة يستخدم فيها المنطق السليم والمنهج العلمي وهو يقرأ العالم، فيزيل العقبات، ويصل لأسمى صور الحرية حين يستحضر خشية الله فيما يفعل ويفكر، فيكون ضميره بوصلته، يهذبه ويقيده حينًا، ويفرض عليه المثابرة لتحرير ذاته أحيانًا. فالحرية تصل لذروتها حين يخشى العالم الله فقط لا غير. فلا يعود حينها يخاف قيد سلطان على فكره أو على فكر الآخرين من حوله. بل ويسعى، في خوفه من الله، لأن يتمتع الكل بنفس القدر من الحرية التي يتمتع بها. فالإنسان مهما اكتسب من حريات، لا قيمة لها إلا إذا مارسها الجميع.
ختام
منذ فجر التاريخ، استطاع الإنسان أن يعمر الأرض وأيضا أن يفسدها. وبينما تتعاقب الحضارات، تشرق بعضها بينما تتأوه الأخرى على فراش الموت، يظل العامل الأساسي المطلوب لتحقيق النهوض هو الفرد المبدع، القادر، الملهم، والمنتج. فمن الصعب تصور عالم لا حرية به، ولكن من العسير أن يعيش المرء في حالة الاضطراب، منهزما ومغلوبا على أمره. يمسك أحدهم القلم ليكتب أنه مستقل في أفكاره لا سلطان لأحد عليه، وينسي أنه إنما يكتب بلغة غير لغته، وبأداة لم يصنعها هو بنفسه، ولا يشارك سوى بالاستهلاك. فأمة تأخذ ولا تعطي هالكة لا محالة.
يمنحنا د. زكي نجيب محمود الأمل، فيؤكد علينا أن نتمسك بما نؤمن به؛ لأن ذلك هو موطن القوة في عالم لم يعد يعرف القيم كما كان الحال من قبل. وكما ساد الغرب بالعلم، يمكن للشرق أن يحمل مشعل الحضارة كما فعل من قبل. فبالعلم نبدأ وبه نسود وإليه نعود. وبه نصير أحرارًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* معيدة بقسم الحوسبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. جامعة القاهرة.