من ضـيـق الماديــة إلى رحابة الإنسانية والإيمان

من ضـيـق الماديــة

إلى رحابة الإنسانية والإيمان*

أ. د. عبد الوهاب المسيري**

 

إنسانية الإنسان ومادية الأشياء:

تتردد كثير من المصطلحات في خطابنا التحليلي ونقوم بترجمتها دون إدراك للمفاهيم الكامنة وراءها، وبدون إدراك مرجعيتها النهائية وبُعدها المعرفي (الكلي والنهائي، وصورة الإنسان الكامنة وراءها، هل هو مادة وحسب، أم مادة وشيء آخر متجاوز للمادة؟). فنتحدث عن “وحدة العلوم” و”الاغتراب” وعن “الطبيعة” و”العقل” و”القيم الأخلاقية” دون أن نعرف مرجعية هذه المصطلحات. كما نفعل نفس الشيء مع كثير من النصوص الفلسفية والاجتماعية والدينية، مع أن المعنى الحقيقي لهذه المصطلحات والنصوص لا يتضح إلا من خلال تحديد أبعادها المعرفية ومرجعيتها النهائية، وهل هي مرجعية مادية محضة أم مرجعية مادية وغير مادية؟. ونحن إن فعلنا ذلك فسنكتشف أن مصطلحاً شائعاً مثل “العقل” إذا كانت مرجعيته مادية فسيعني شيئاً مختلفاً تماماً عما إذا كانت مرجعيته مادية وغير مادية فى ذات الوقت.

الإنسان والمادة:

وتنطلق هذه الدراسة (وغيرها من دراساتي) من التمييز بين رؤيتين: رؤية تذهب إلى أن الإنسان كائن مادي محض، وصورته ككائن مركب، تدخل في تركيبه عناصر مادية وغير مادية. وحتى أوضح هذه النقطة لابد وأن نميِّز ابتداءً بين المركب والبسيط، و«المركب» هو الذي يشتمل على عناصر كثيرة متشابكة مادية وغير مادية، ويقابله «البسيط»، وهو الذي يشتمل على عنصر واحد (عادةً مادي) أو عدة عناصر (عادةً مادية) غير متشابكة. ونحن نميِّز أيضاً بين “التجاوز والتعالي” من جهة في مقابل “الحلول والكمون” من جهة أخرى، فالتجاوز هو أن يرقى الإنسان ويتعالى على حدوده الطبيعية والمادية وإن ظل داخلها. ويمكن أن يطبَّق هذا المفهوم على الإله فنقول إن الإله يتجاوز كل حدود الزمان والمكان، فهو منـزه عنهما وعن عالم الطبيعة/المادة وعن الإنسان. والكمون والحلول في تصورنا هو عكس التجاوز والتعالي، ففي إطار الحلول والكمون نجد أن الطبيعة توجد داخلها القوانين المحركة لها، فهي قوانين كامنة فيها، لا يمكن لأي كائن تجاوزها، كما أن الإله في الإطار الحلولي الكموني يحل في مخلوقاته ويتوحد بها.

بعد أن بينا الفرق بين المركب والبسيط والمتجاوز والحال يمكننا الآن أن نميِّز بين الإنسان والطبيعة. وكلمة الطبيعة، في الخطاب الفلسفي الغربي، كلمة مراوغة لا يمكن تحديد معناها إلا إذا حددنا مرجعيتها في النص موضع الدراسة، وهي مرجعية مادية في معظم النصوص الفلسفية الغربية الحديثة. والطبيعة، في تصور الماديين، هي نظام مكتفِ بذاته، توجد مقومات حياته وحركته داخله، يحوي داخله ما يلزم لفهمه، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، ولذا فهو نظام واحدي مغلق. ويذهب التفكير المادي إلى تأكيد أسبقية الطبيعة على الإنسان، فهو خاضع لقوانينها وحتمياتها، فهو جزء لا يتجزأ منها ولا يمكنه تجاوزها، أي أن الحيز الإنساني، الذي يفترض أن الإنسان كائن مستقل عن الطبيعة، له قوانينه الإنسانية الخاصة به يختفي ولا يبقى سوى الحيز المادي، وبدلاً من ثنائية الإنساني والطبيعي تظهر الواحدية الطبيعية/ المادية.

ولكن صفات الطبيعة التي أدرجناها هي ذاتها صفات المادة بالمعنى الفلسفي. ولذا فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تضاف الواحدة للأخرى (الطبيعة/المادة)، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، لكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية ومرجعيته النهائية. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال: “يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة”. وقوله هذا قرب الصلة بالنظم الفلسفية الغربية المادية المعادية للإنسان، التي عبَّر عنها هوبز وداروين ونيتشه وغيرهم من المفكرين والفلاسفة (وهي مختلفة عن النظم الفلسفية الغربية التي تدافع عن الإنسان والتي عبَّر عنها فيكو وكانط وتشومسكي وغيرهم من المفكرين والفلاسفة).

ويعود اختلاف الطبيعة/المادة عن الإنسان لعدة أسباب من أهمها أن الظاهرة الطبيعية بسيطة مكونة من عدد محدود من العناصر المادية يمكن حصره ورصده، على عكس الظاهرة الإنسانية فهي مركبة، إذ يدخل في تكوينها عناصر مادية ونفسية وتراثية وثقافية. ولذا فإننا إن درسنا ظاهرة طبيعية دراسة متعينة فإنه يكون بوسعنا أن نحدِّد علة (أو علل) ظهورها على عكس الظاهرة الإنسانية التي يصعب حصر كل أسبابها. ويلاحظ أن الظواهر الطبيعية تطَّرد على غرار واحد بغير استثناء، أما الظاهرة الإنسانية فلا يمكن أن تطَّرد بنفس الطريقة، فكل جماعة بشرية مختلفة في كثير من النواحي عن الجماعات البشرية الأخرى، كما أن كل عضو في هذه الظاهرة عادة ما تجده متفرداً في بعض النواحي عن بقية أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها، ولذا لا يمكن أن نحدد قانوناً اجتماعياً واحداً يتجاوز الزمان والمكان.

ويلاحظ أن معدل التحول في الظواهر الطبيعية يكاد يكون منعدماً ويتم على مقياس كوني، أما معدل التحول في الظاهرة الإنسانية فهو أسرع بكثير، لذا فالإنسان كائن له تاريخ، وهو تاريخ ثري متنوع، يمنح الإنسان قدراً كبيراً من الاستقلال عن الظواهر الطبيعية.

وتتسم الظاهرة الطبيعية بأنها ليس لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا حس أخلاقي ولا مقدرة على التصرف خارج نطاق قوانين المادة، وهي صفات من صميم إنسانية الإنسان. ولا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تجري عليها، أما الإنسان إن أُخضع لتجربة معملية فهو سيتصرف بطريقة مختلفة تماماً عن سلوكه العادي في حياته اليومية، فالإنسان يملك وعياً بنفسه وبما يدور حوله. ولعله لهذا السبب يمكننا أن نأخذ موقفاً محايداً من الطبيعة وأن نحسن من معرفتنا بها من خلال عملية الملاحظة والتجريب وهو أمر مستحيل في علاقتنا بالظاهرة الإنسانية ودراستنا لها.

لكل هذا يمكن دراسة الظاهرة الطبيعية من خلال نماذج بسيطة ومجموعة من القوانين المادية المحددة، تنطبق على كل الظواهر الطبيعية المماثلة في كل زمان ومكان، كما يمكن ردها إلى عناصرها الطبيعية/المادية الأولية. أما الإنسان فلا يمكن رده إلى قانون عام ولا يمكن فهم كل جوانبه ولا يمكن تفسيره تفسيراً كاملاً، ولا يمكن رصده بطريقة نمطية اختزالية، بل لابد وأن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً بالنسبة له. فعَالم الإنسان مركب، محفوف بالأسرار، أما عالم الطبيعة (والأشياء والمادة) فهو عالم أحادي بسيط إذا ما قيس بعالم الإنسان، ومن ثم نجد أن الحيز الإنساني مختلف عن الحيز الطبيعي المادي، مستقل عنه ومن ثم تظهر ثنائية الإنساني والطبيعي.

ولكن الفلسفات المادية تساوي بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والأشياء، وتمحو هذه الثنائية، ولذا فهى تختزل الإنسان إلى عنصر مادي/ طبيعي واحد، أو إلى عنصرين وترده على ما هو دونه، أي المستوى الطبيعي/ المادي، وتقوم بتشييئه، أي النظر إليه باعتباره شيئاً. ومن هنا قولنا أن الفلسفة المادية ليست معادية للإله وحسب وإنما هى معادية أيضا للإنسان. وفى مقابل ذلك توجد فلسفات إنسانية ترفض أن ترد الإنسان إلى ما هو دونه وتؤكد استقلاله عن عالم الطبيعة/ المادة وتؤكد ثنائية الإنسان والطبيعي. ورغم الاختلاف الجوهري بين الرؤيتين، فإن كثيرا من مؤرخي الأفكار يخلطون بينهما، ولتوضيح هذه النقطة لابد وأن نتناول الفلسفة الإنسانية الهيومانية المعروفة باسم الهيومانيزم humanism التى ظهرت فى الغرب في عصر النهضة فى أواخر القرن الخامس عشر.

عصر النهضة والرؤية الإنسانية (الهيومانيزم):

ظهر فى عصر النهضة الغربية ما يسمى “الهيومانيزم humanism” أو “الرؤية الإنسانية” (ونترجمها بكلمتي “الإنسانية الهيومانية” لنميزها عن الرؤية الإنسانية بالمعنى العام) وأسس الرؤية الإنسانية الهيومانية هى ما يلي:

  • مركز العالم كامن فيه، ولذا فالعالم يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه، فهو مكتفِ بذاته، والإنسان ليس فى حاجة إلى أية معرفة ليست موجودة داخل النظام الطبيعي.
  • المعرفة تستند على حواس الإنسان الخمس، وإلى ما يدركه عقله وحسب.
  • الأخلاق هى ما يقرره الإنسان، وهى أخلاق سيؤسسها الإنسان استناداً إلى المعرفة التى يستمدها بحواسه من عالم الطبيعة، فهو يعرف ما فى صالحه وما فى صالح الجنس البشري.
  • سيتمكن الإنسان من خلال عقله من معرفة أسرار الطبيعة ومن التحكم فيها إن وصل إلى الصيغ المناسبة.

والإنسان بسبب مقدراته العقلية هذه هو سيد كل المخلوقات ومركز الكون. قال بيكو ديللا ميراندولا، المفكر الإنساني الهيوماني الإيطالي عام 1486: “أن نصبح ما نريد”. وهذه الرؤية تهمش الإله أو تلغيه تماما، فهى رؤية مادية فى جوهرها ترى الإنسان باعتباره ظاهرة مادية، وترى أن مركز العالم (الإنسان والطبيعة) كامن فيه. ويذهب بعض مؤرخي تطور الأفكار إلى أن الرؤية الإنسانية الهيومانية لا تتناقض بالضرورة مع الرؤية الإيمانية. وبالفعل هناك نـزعة إنسانية هيومانية مسيحية، ونـزعة إنسانية هيومانية يهودية. ولكن المرجعية النهائية لهذه النـزعات الإنسانية الإيمانية تختلف عن المرجعية الماديةالتى أشرنا إليها. واختلاف المرجعيات يرجع إلى وجود تناقض حاد داخل الفكر الإنساني الهيوماني. فلو أن مركز الكون بالفعل كامن فيه، غير مفارق له لظهر السؤال التالي: أيهما هو المركز الحقيقي، الإنسان أم الطبيعة/ المادة؟ وقد ظهر نموذجان يحاولان أن يجيبا على هذا السؤال: واحد متمركز حول الإنسان، والآخر متمركز حول الطبيعة المادة. ولنبدأ بالنموذج الأول:

أ- النموذج المتمركز حول الإنسان: 

وضع الفكر الإنساني الهيوماني الإنسان فى مركز الكون وجعله الركيزة النهائية باعتباره إرادة حرة واعية وقوة مبدعة، ولأن قدرته العقلية لا متناهية، ولأن حواسه قادرة على استنباط المعرفة من الواقع. وهذا النموذج يؤكد وجود الإنسان ككائن يتمتع بقدر من الاستقلالية عن الطبيعة (فثمة مسافة تفصل بينهما)، وقديما قال سقراط “أحب المدينة، وقاطنوا المدينة هم أساتذتي، وليست الصخور أو الأشجار (الطبيعة/ المادة)” وهو عالم ليس محايداً منفصلاً عن القيمة ولذا أضاف سقراط قائلاً: “نحن هنا فى هذا العالم لنفعل الخير ونتحاشى الشر”. وهذا التميز بين الإنساني والطبيعي والتركيز على محورية القيمة فى حياة الإنسان يظهر فى حديث د.جونسون، الكاتب الإنجليزي، حين كان فى فرنسا مع كاتب سيرته بوزويل، أبدى هذا الأخير إعجابه بالطبيعة، فزجره د.جونسون قائلاً: “إن هى إلا مجموعة من الأعشاب سواء فى هذا البلد أم فى غيره [فالطبيعة مطردة لا تتغير]. بدلا من ذلك دعنا نرى كيف تختلف هذه الجماعة الإنسانية [فى فرنسا] عن تلك التى تركناها خلفنا [فى انجلترا]”. هذه المركزية الإنسانية فى الكون تستند إلى إيمان جوهري بالقيمة، فالاهتمام بالقيمة هو من صميم وجودنا الإنساني، أو كما قال د.جونسون: “إن اهتمامنا بالأخلاق [أي بعالم الإنسان] أمر جوهري مستمر، أما اهتمامنا بالهندسة [عالم الأشياء والطبيعة/ المادة] فأمر عرضي، الأخلاق من صميم إنسانية الإنسان، ولذا فهى من صميم اهتماماته الدائمة، أما اهتمامه بالهندسة فأمر ينتمي إلى العالم الطبيعي/ المادي الذى يمكن قياسه وتطبيق النماذج المادية الكمونية عليه، ولذا فاهتمامات الإنسان تتفاوت من شخص لآخر، ولا ينبع من إنسانية الإنسان وإنما من وظيفته ومهنته. ومن ثم نجد أن الخاص مستقل عن العام والذات الإنسانية مستقلة عن الموضوع والإنسان مكون جسد طبيعي/ مادي خاضع لقوانين الحركة والمادة، ولكنه فى ذات الوقت يحوي الأسرار واللامحدود، والمجهول والغيب، ولذا يتشابك داخله المحدود مع اللامحدود، والمعلوم مع المجهول، والجسد مع الروح، والبراني مع الجواني، والسبب مع النتيجة، والعقل مع القلب، وعالم الشهادة مع عالم الغيب. ولذا، لا يمكن أن يُرد مثل هذا الإنسان إلى عالم الطبيعة/ المادة، ولا يمكن أن يُختزل إلى صيغ مادية واحدية بسيطة (ولا إلى صيغ روحية واحدية بسيطة)، فهو جزء من الطبيعة/ المادة لكنه قادر على تجاوزها. وهو كائن حر مسئول، كائن حضاري تاريخي يعيش داخل كل من الطبيعة والتاريخ، جوهره الإنساني مختلف عن الطبيعة/ المادة (ولذا نسميه “الإنسان الإنسان” أو “الإنسان الرباني”)، فهو قادر على تجاوز الطبيعة. ولذا تظهر ثنائية الإنسان والطبيعة، والمركز والأطراف، والجزء والكل، والخاص والعام، وهى ثنائية يشكل العنصر الإنساني فيها المركز ويشكل العنصر الطبيعي الهامش. وفى داخل هذا النموذج لا يكون هناك سوى مرجعية إنسانية للكون بأسره. والإنسان، هذا الكائن المركب، هو الدال الأعظم والمدلول المتجاوز الأوحد، الذى يحل محل الإله لأنه قادر على تجاوز ذاته الطبيعية، وتجاوز الطبيعية/ المادية وقوانينها الحتمية.

 ب- النموذج المتمركز حول الطبيعة المادة:         

 إلى جانب هذا النموذج الذى يجعل من الإنسان مركزا للكون، متجاوزا له، ظهر نموذج آخر مادي واحدي جعل من الطبيعة غير الواعية (والتنويعات المختلفة عليها) مركزاً للكون، ومن ثم فهو ينكر على الإنسانية أي مركزية. والإنسان حسب هذه الرؤية جزء لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة يُردُّ إليها ويخضع لقوانينها الحالة والكامنة فيها، ومن ثم فهو كائن يتسم بالبساطة البالغة. والإنسان من هذا المنظور ليس ظاهرة تاريخية حضارية متميزة، ففضاؤه هو الفضاء الطبيعي/ المادي، وحدوده هى حدود الطبيعة/ المادة. ويُعرَّف هذا الإنسان الطبيعي فى إطار مقولات طبيعية/ مادية ويمكن أن يرد إليها: وظائفها البيولوجية (الهضم- التناسل- اللذة الجنسية)، ودوافعه الغريزية الجنسية (الرغبة فى البقاء المادي- القوة والضعف- الرغبة الثروة- المنفعة المادية)، والمثيرات العصبية المباشرة (البيئة المادية-غدده- جهازه العصبي). فهو يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة، ملتحم عضوياً بها، لا توجد مسافة بينه وبينها، يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية من قوانين. يخضع لحتميات القانون الطبيعي/ المادي ويتحرك مع حركة المادة لا يتجاوزها. وهذا هو “الإنسان الطبيعي” الذي يشكل حجر الزاوية بالنسبة لفلسفة المادية وبالنسبة للعلوم “الإنسانية” المتفرعة عنها (وهو الإنسان الطبيعي/ المادي في مصطلحنا)[1].

وهذا النموذج معادٍ للإنسان فهو لا يهمش الإله وحسب بل ويهمش الإنسان ذاته فى مقابل الطبيعة/ المادة، ويرده لها، ويفسره بما هو دونه (أي المادة وقوانينها). وهو نموذج يؤكد على أهمية قوانين الحركة على حساب الإرادة الإنسانية المستقلة، وعلى أسبقية المادة على الفكر، ومن ثم ينكر على الإنسان (البسيط المكون من عنصر واحد أو عنصرين) وجوده المستقل وحريته وتركيبيته ومقدرته على التجاوز.

وهذا النموذج الأخير يركز على مادية كل شيء، ويرد الإنسان إلى المادة وقوانينها، فيلغي بذلك الحيز الإنساني ولا يبقى سوى الحيز الطبيعي/ المادي. ويمكن تفسير الإنسان من خلال النماذج الموضوعية الرياضية. وهذا فى تصورنا هو تفكيك (تقويض) للإنسان، فهو حين يرد إلى ما هو دونه، ويفسر فى إطار ما هو بسيط وآلي ومادي، ويستوعب فيما هو ليس بإنساني، يفقد جوهره الإنساني الذى يميِّزه عن الطبيعة/ المادة.

وعملية التفكيك هذه هى جوهر المشروع فى الإطار المادي أو يسمّى “الاستنارة المظلمة”، أي رؤية الإنسان باعتباره كائناً طبيعياً تحركه غرائزه الوحشية المظلمة القابعة داخله، أو القوانين الآلية الموجودة خارجه. وقد تحدث هوبز عن أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وشبَّهه إسبينوزا بالحجر، وتحدث داروين عن علاقة القرد بالإنسان، وأكد فرويد أن القرد يوجد داخل الإنسان، ورآه الماركسيون وأتباع آدم سميث باعتباره إنساناً اقتصادياً، وأجرى بافلوف تجاربه على “الكلاب”، وافترض أن النتائج التى توصل لها تنطبق على الإنسان، ومع هذا يمكن القول بأن المشروع التحديثي الغربي ليس تفكيكياً وحسب، وإنما هو أيضاً مشروع تأسيسي، فهو يعيد تركيب المجتمع على أساس أنه غاية يتصارع فيها الإنسان مع الحيوان، والإنسان مع الإنسان، فهى الحرب للجميع ضد الجميع، وهذا ما أفرز فى النهاية ما نسميه الحداثة الداروينية.

ومما ساعد على هيمنة هذا النموذج تزايد نفوذ الدولة (المطلقة)، وانتشار النظريات السياسية التى ظهرت لتبرير هذا الوضع، واتساع نطاق القطاع الاقتصادي التجاري، وشيوع النظريات الأخلاقية النفعية. وجوهر كل هذه النظريات مادي آلي، فهى تجعل هدف الوجود غاية مجردة إنسانية مثل الدولة (فى المجال السياسي) أو القانون العام (فى المجال العلمي والتحليلي بشكل عام) أو الربح ومراكمة الثروة (فى المجال الاقتصادي) والمنفعة الشخصية (فى المجال الأخلاقي).

وقد صنف بعض مؤرخي نفس الرؤية، أي تطور الأفكار هذين النموذجين، المتمركز حول الإنسان والمتمركز حول الطبيعة/ المادة، باعتبارهما تعبيرا عن الرؤية الإنسانية الهيومانية، للأسباب التالية:

  • ظهر الفكر الإنساني الهيوماني المتمركز حول الإنسان فى ذات الوقت الذى ظهر فيه الفكر الهيوماني المعادي للإنسان المتمركز حول الطبيعة/ المادة.
  • ولكن الأهم من هذا أن كلا النموذجين يدور فى إطار المرجعية المادية الكامنة، أي رؤية أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره. ولهذا نجد أن كثيراً من كتب التاريخ تصنفهما باعتبارهما جزءا من التراث الهيوماني humanistic. ومعنى هذا أن كلمة “إنساني/ هيوماني” تطلق على الفكر المتحيز للإنسان وعلى الفكر المعادي له قى ذات الوقت، ولكنهما فى واقع الأمر ليسا نموذجا واحدا بل نموذجان معرفيان مختلفان، النموذج الأول يجعل الإنسان مركزا وكيانا حرا وقيمة مطلقة ثابتة ترمي إلى تحقيق غايات إنسانية، وتؤكد أسبقية الإنسان على الطبيعة، وتؤكد حريته ومقدرته على التجاوز. أما النموذج الثاني فيجعل الطبيعة/ المادة مركزا ولا يعترف إلا بالحركة المادية الدائمة وبالواحدية المادية الصارمة التى تتجاوز الغائية الإنسانية وتجعل الإنسان خاضعاً للحتميات المادية. وحتى نوضح الفروق الجوهرية بين النموذجين أدرجنا التضمينات الفلسفية لكلا النموذجين فى الجدول التالي:
الإنســان الطبيعة/المادة
ثنائية الطبيعة وما وراءها

الحضارة والطبيعة

ثنائية الإنسان والطبيعة

أسبقية الإنسان على الطبيعة/ المادة

الإنسان مادة وروح

الإنسان/ الإنسان يوجد في الطبيعة ومنفصل عنها

علاقة تفاعلية مع الطبيعة

الإنسانية المشتركة

العقل التوليدي (عقل مفطور فيه مقولات قبلية)

المقدرة على التجاوز

الإحساس بالطمأنينة في الكون

مركزية الإنسان (الاستخلاف في الإسلام)

تركيبية مادية/ روحية

ذات الإنسان مستقلة، تتقابل مع الكل

حرية الاختيار

المسئولية الخلقية

الأخلاق التي تتجاوز المنفعة المادية

الإنسان متعدد الأبعاد

الفكر والواقع

الرؤية الكلية المترابطة

أنماط متواترة

المنحنى الخاص للظاهرة

سببية فضفاضة

تعددية منهجية (مناهج العلوم الطبيعية مختلفة عن مناهج العلوم الإنسانية)

استمرار وانقطاع

الواحدية المادية

الطبيعة

توحد الإنسان بالطبيعة

أسبقية الطبيعة/ المادة على الإنسان

الإنسان مادة وحسب

الإنسان الطبيعي جزء لا يتجزأ من الطبيعة

علاقة صراع مع الطبيعة تنتهي إما بالسيطرة الكاملة أو الإذعان الكامل

العالم مكون من ذرات متناثرة وجماعات متصارعة وأفراد متناحرة فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان

العقل المتلقي (العقل صفحة بيضاء تتراكم عليه المعطيات الحسية)

التشيؤ والمقدرة على التكيف

الذوبان فى الكون أو الإحساس الشديد بالغربة

إزاحة الإنسان عن المركز

اختزالية مادية

ذات الإنسان مستقلة تماما وعن الكل، أو ذائبة تماما منه

حتميات مادية

انعدام المسئولية

الأخلاق النفعية

الإنسان أحادي البعد

الواقع المادي

التراكم المعلوماتي

حقائق متناثرة

القانون العام

سببية صلبة

وحدة العلوم

استمرار واضطراد

ونحن نذهب إلى أن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة من عصر نهضتها ليس الصراع بين المادية والمثالية، وإنما هو صراع بين الواحدية المادية والفلسفات التى تنطلق من ثنائية الإنسان والطبيعة / المادة . فالنموذج المتمركز حول الإنسان ينطلق من هذه الثنائية، أما النموذج المتمركز حول الطبيعة/ المادة فهو نموذج واحدي يؤكد أن الطبيعة/ المادة هى المرجعية الوحيدة. فهو تاريخ الصراع بين هذين النموذجين.

والواقع أن تصاعد معدلات العلمنة هو فى جوهره نوع من تزايد هيمنة النموذج المتمركز حول الطبيعة/ المادة الذى يرد كل جوانب النفس البشرية تدريجياً إلى القانون المادي، وبذا يتم تفكيك الإنسان إلى أن تختفي الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية. وابتداءً من فكر حركة الاستنارة يلاحظ بداية هذه العملية والاتساع التدريجي لنطاق الرؤية المادية الكمية الواحدية على حساب الرؤية الإنسانية الكيفية التى تفصل بين الإنسان والطبيعة. وقد أدت هذه العملية فى نهاية الأمر إلى سيادة الفكر العدمي والتفكيكي وإلى سيادة الاتجاهات المعادية للإنسان فى الحضارة الغربية الحديثة، تلك الاتجاهات التى تصل إلى ذروتها وتكاملها النظري فى فكر ما بعد الحداثة وما بعد الإنسانية الهيومانية، وفى فكر مرحلة السيولة الشاملة.

ويتضح هذا فى تطور الفلسفة الغربية، ففى عصر النهضة وظهور الفلسفة الإنسانية الهيومانية ظهر إسبينوزا الذى حوّل العالم إلى منظومة واحدية رياضية مصمتة، الإله فيها هو الطبيعة، وقوانينه هو قوانين الطبيعة والمادة، والإنسان لا يختلف فيها عن أي شيء فى الكون. وقد كانت منظومة متفائلة للغاية، إذ يبدو أن إسبينوزا وجد أن هذه الحركة الرتيبة الآلية ذات المرجعية المادية التى تسم عالمه ستحقق السعادة للبشر بشكل ضمني عن طريق امتزاج الجزء الإنساني فى الكل المادي تفكيكاً للإنسان لأن الإنسان بهذه الطريقة يُرد إلى ما هو دونه؟

ثم جاء نيتشه واكتشف أن العالم الذى يصبح الإله فيه قانوناً طبيعياً والذى تتحكم فيه حركة المادة هو عالم موت الإله، أي عالم مادي تماماً لا قداسة ولا ضمان فيه لأي شيء، عالم خالٍ من المعنى، محايد، لا قيمة فيه ولا غاية ولا سبب ولا نتيجة، لا كليات فيه ولا مطلقات، ومن ثم لا يبقى سوى إرادة القوة وعالم داروين الذى يتجاوز الخير والشر، والذى تحسم فيه الأمور ببساطة البارود وسذاجته. ولكن رغم كل هذا يظل عالم نيتشه عالم مأساوي متشائم، يشعر الإنسان فيه بالضياع وعدم الأمن ولذا ترد عبارة “لقد مات الإله” على لسان المجنون الذى يجري فى السوق محتجاً صارخاً معبراً عن أمله متسائلاً: كيف تأتَى للإنسان أن يمحو الأفق، ويجفف البحار، بحيث أصبح العالم من حولنا مادة محضة لا أسرار فيها ولا قداسة؟

ثم ظهر جاك دريدا زعيم التفكيكيين بوجهه الكئيب، وأعلن عالم ما بعد الحداثة السائل، حيث لا يوجد هدف أو مركز أو غاية أو فرح أو ندم، أو تفاؤل أوتشاؤم، فكل شيء قابع داخل قصته الصغرى دون مرجعية نهائية (قصة كبرى)، وحيث تفشل اللغة الإنسانية نفسها فى تحقيق التواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبفشل اللغة تختفي القيم والمعايير تماماً، ويتفكك الإنسان وتسود النسبية والسيولة ويصبح عالمنا لا مركز له.

وقد رأى نيتشه وأنصار ما بعد الحداثة أن الإنسانية الهيومانية، مهما بلغت من نسبية ومادية، ملوثة بالميتافيزيقا وذلك للأسباب التالية:

  • تعطي الإنسانية الهيومانية للإنسان مكاناً متميزاً وتنسب إليه جوهراً عالمياً.
  • تفترض الإنسانية الهيومانية استقلالية الذات وتنسب إليها المقدرة على التجاوز.
  • تفترض الإنسانية الهيومانية أن الذات واعية وتصوغ الواقع.
  • تفترض الإنسانية الهيومانية وجود موضوع ثابت مستقر.
  • تفترض الإنسانية الهيومانية وجود تفاعل بين الذات والموضوع وأن هناك سببية فى العالم.
  • تفترض الإنسانية الهيومانية وجود كلٍّ ثابت متجاوز لوجوس هو أساس العالم.

كل هذا يفترض درجة من التجاوز والانفلات من قبضة الصيرورة مما يتنافى مع منطق المنظومة المادية الصارمة. وفى تصوري أن النقد ما بعد الحداثي للإنسانية الهيومانية صحيح. ثنائية الإنسان والطبيعة داخل الإطار المادي – فى تصورنا- ثنائية واهية، فالفكر الإنساني الهيوماني منح الإنسان مركزية فى الكون، ولكنه حين ألغى الإله أو همشه، أي أنه ألغى ما وراء الطبيعة/ المادة، لم يبقى سوى السقف المادي. ولذا كان لابد أن يتراجع النموذج المتمركز حول الإنسان ليحل محله النموذج المتمركز حول الطبيعة/ المادة الذى ينكر مركزية الإنسان. بل ويمكن القول إن نموذج المتمركز حول الإنسان هو وهم من أوهام عصر النهضة الذى كان يطمح إلى أن يتحرر الإنسان تحرراً تاماً من أي إيمان ديني وذلك بإنكار وجود الإله تماماً أو جعل الإيمان الديني شأناً خاصاً لا علاقة له بمعرفة العالم المادي. وبالتالي بوسع الإنسان أن يركز على هذا العالم ويدرسه دون أن تغشى عيونه أية غشاوة عاطفية أو إيمانية وبذلك يصبح هو ذاته الإله، ويسخر الطبيعة لصالحه. ولكن حينما وقف الإنسان بأقدامه على الأرض الطبيعية/ المادية، دون أن ينظر إلى النجوم والملائكة، وحينما بدأ يؤسس نماذجه التفسيرية وأنساقه الفلسفية على أساس القوانين المادية الخالصة وحسب، كان لا مناص له من أن يفسر ذاته كظاهرة تخضع لنفس القوانين المادية الطبيعية والكمية، فهى القوانين الوحيدة التى تسري على الكون. ومن هنا بدأ انتصار النموذج الثاني الطبيعي المادي على النموذج الأول الإنساني، حتى تحققت للنموذج المادي الكمي السيادة شبه الكاملة فى نهاية الأمر، وأصبح هو النموذج الفعال.

ولكن رغم هذا الهجوم الشرس على الإنسان، ورغم هذا التناقض الأساسي داخل المنظومة الإنسانية الهيومانية، ظلت هناك جيوب إنسانية هيومانية مقاومة تتبدى فى كثير من المنظومات الفلسفية التى قد تعلن أنها مادية ولكنها مع هذا تنطلق من ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة وترى أن الإنسان يحوي داخله ما لا يمكن أن يُرَد إلى قوانين الحركة المادية الصماء، وأن عالمه ليس منفصلاً عن القيمة value free، ولذا فحملة هذا الفكر يؤمنون أن المجتمع ليس مجرد غاية أو حلبة صراع، وليس خالياً من المعنى، فمنظومات الإنسان المعرفية والأخلاقية والجمالية تفرض على هذا العالم نظاماً، وتزود الإنسان بأطر إدراكية ومعرفية يسبغ من خلالها المعنى والهدف على وجوده وكيانه ولذا فحملة هذا الفكر يقفون ضد الإمبريالية وضد صناعة السلاح وتلويث البيئة، فهم يؤمنون بأن ثمة إنسانية مشتركة، وثمة تاريخ مستمر، وأن هذا الكون هو ميراث كل الأجيال ولابد من الحفاظ عليه، وأن الهدف من الوجود الإنساني هو تحقيق السعادة والرقي لكل أبناء الجنس البشري. وتبديات هذه المقاومة كثيرة ومتعددة، ويمكن القول بأن الفلسفة الإنسانية الهيومانية فى الغرب، بتأكيدها على القيم الأخلاقية المطلقة ومقدرة الإنسان على تجاوز واقعه الطبيعي/ المادي وذاته الطبيعية/ المادية، تعبير عن محاولة الإنسان الإفلات من قبضة العدمية وعن البحث غير الواعي من قبل الإنسان المادي عن المقدس (الغير مادي).

ويلاحظ أن المدافعين عن الإنسان فى الشرق والغرب يستخدمون نماذج مركبة يدخل فى تركيبها عدد من العناصر المتنوعة المتداخلة، بل والمتناقضة، منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني، وصولاً إلى العناصر الحضارية والأبعاد المعرفية، فهم يرون الفارق الجوهري بين الإنساني والطبيعي/ المادي. واستخدام النماذج المركبة فى تصوري ليس مجرد اختبار منهج للدراسة بين عدة مناهج وإنما هو تعبير عن احترام تركيبية الإنسان وعن إنسانيته، وعن محاولة التصدي للنـزعات المادية (العدمية) التى تحاول تفكيكه وتشييئه ورده إلى قوانين المادة وحركتها.

والإيمان بثنائية الإنسان والطبيعة (والإنسانية المشتركة)، والعالم الذى تحكمه القيمة الإنسانية وبمقدرة الإنسان باعتباره كائناً مركباً، قادراً على تجاوز النظام الطبيعي/ المادي، وعلى توليد القيمة والمعنى، هو ما ينقذ النظم الفلسفية الإنسانية الهيومانية – التى تدور فى إطار مادي- من السقوط فى الحلولية الكمونية ووحدة الوجود والعدمية المادية. فهى تحتفظ داخلها بمفهوم الإنسان المنفصل عن الطبيعة وثنائية الإنساني والطبيعي/ المادي، وهذا يقترب من مفهوم المقدس فى المنظومات الدينية. وكما قال روتي إن العلمانية الحقة (والمادية الحقة) هى ألا يقدس الإنسان شيئاً ولا حتى نفسه، أما الإنسانية الهيومانية فقد احتفظت بمقولة الإنسان الذى لا يرد إلى حركة المادة، ولذا “فهى ملوثة بالميتافيزيقا” كما يقول الماديون. والفكر الإسلامي يؤمن بطبيعة الحال بـ (ثنائية الإنسان والطبيعة، وبمقدرة الإنسان على التجاوز وبالإنسانية المشتركة وبانفصال الإنسان عن الطبيعي/ المادي.

وثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة، من منظور إسلامي، مصدرها ثنائية الخالق (المتجاوز المنـزه) عن المخلوق، وهو طرح لا يتفق معه بطبيعة الحال المفكرون الإنسانيون الهيومانيون فى الغرب. فهم يذهبون إلى أن الإنسان قد ولَّد من داخل عقله ومن خلال تفاعله مع الطبيعة منظومات معرفية وجمالية وخُلقية، وأن هذه المنظومات هى التى حولته من إنسان طبيعي إلى كائن حضاري منفصل عن الطبيعة/ المادة وأن هذه المنظومات هى سبب استقلاله وضمان هذا الاستقلال عن الطبيعة.

ولكن فى تصوري أن ثمة إشكاليات أساسية يواجهها الفكر الإنساني الهيوماني:

  • ثنائية الإنسان والطبيعة – كما أسلفنا- داخل الإطار المادي، ستنحصر داخل نطاق الطبيعة/ المادة وحدها، وسيتحرك الإنسان تحت سقف مادي وستكون مرجعيته النهائية، شاء أم أبى، هى الطبيعة/ المادة. وفى هذه الحالة لابد أن يرد الإنسان إلى ما هو دونه، أي الطبيعة/ المادة، باعتبارها المرجعية النهائية الوحيدة، فيتم تفكيكه إلى عناصره “المادية” الأساسية، وتصفى الثنائية، ومن ثم فثنائية الإنسان والطبيعة داخل إطار مادي والتى يستند إليها الفكر الإنساني الهيوماني هى ثنائية واهية ليس لها أساس فلسفي، فأساسها وجداني، مسألة اختيار وجودي لا تتسق فلسفياً مع النموذج المادي الذى يشكل الإطار المرجعي.
  • إذا كان الإنسان فى الفكر الهيوماني الغربي كائن مستقل عن النظام الطبيعي/ المادي فهو أيضاً مكتفٍ بذاته، وهو النقطة المرجعية النهائية الذى يولد معياريته من داخله، إلى أن يتحول تدريجياً إلى البديل الميتافيزيقي للإله فى المنظومات التوحيدية، وحين يتأله الإنسان فإنه يصبح عقلية إمبريالية نيتشوية داروينية.

وقد بينت الممارسة التاريخية أن الفكر الإنساني الهيوماني الذى يدور فى إطار مادي لم يترجم نفسه إلى إيمان عميق بالإنسانية المشتركة، وإنما بإنسانية الإنسان الأبيض ومركزيته فى الكون (فالإنسان هو مرجعية ذاته وهو الذى يولد قيمه من داخله). ولذا بدلاً من الإنسانية المشتركة ظهرت الإنسانية الغربية الإمبريالية التى وظفت العالم لصالح الإنسان الغربي، الذى قام بإبادة وتسخير الملايين واحتلال أراضيهم، وبدلا من حداثة إنسانية تستند إلى مفهوم الإنسانية المشتركة ظهرت الحداثة المادية الداروينية، بكل وحشيتها وأنانيتها وأنيابها وأظافرها.

وبعد أن تم غزو العالم الإسلامي من قبل العالم الغربي وبعد أن هزم على يديه، حاول أن يصلح ذاته فتبنى منظومة الحداثة الغربية، بخيرها وشرها. وحاول بعض المفكرين الإسلاميين والماركسيين إدخال بعض القيم، مثل العدل الاجتماعي والمساواة بين البشر، على منظومة الحداثة المنفصلة عن القيمة. وقد كان هؤلاء المفكرون على حق داخل شروطهم التاريخية، لأن منظومة الحداثة الغربية لم تكن قد دخلت بعد مرحلة الأزمة ولم تكن كثير من إفرازاتها السلبية قد اتضحت بعد، كما أنها منظومة أثبتت كفاءتها العسكرية ومقدرتها التنظيمية. ولكن اكتشف كثير من المفكرين الإسلاميين (كما اكتشف كثير من المفكرين الإنسانيين الغربيين) أن منظومة الحداثة الغربية فى إطارها المادي المنفصل عن القيمة لابد أن تولد الحد الأقصى من الصراع وتنحدر إلى الداروينية والإمبريالية. فبدأ التفكير الجدي والخلاق فى طرح تصور حداثة جديدة، فظهر فى العالم الإسلامي مدارس فكرية تحاول تأسيس علوم إنسانية وطبيعية ليست منفصلة عن القيمة value-free، أي منفصلة عن الإنسان، وإنما تنطلق من منظومة القيم الإسلامية التى تميز الإنساني والطبيعي/ المادي. وهذا هو فى تصوري مشروع توليد معرفة إسلامية إنسانية، أو ما يسمى أسلمة المعرفة.

وقد أشرنا من قبل إلى أن هذه الثنائية هى أيضاً نقطة انطلاق النموذج المعرفي الإنساني الهيوماني الغربي. ولذا فثمة رقعة مشتركة بين النموذج المعرفي ذي التوجه الإنساني الهيوماني والنموذج المعرفي الإنساني الإسلامي. وحديثي عن الرقعة المشتركة هو تأكيد من جانبي لفكرة الإنسانية المشتركة، ولكن الأكثر من هذا هو محاولة أن أبين أن مشروع إسلامية المعرفة ليس شيئاً فريداً أو شاذاً، كما يحاول البعض تصويره، بل هو جزء من تيار عالمي أدرك الأطروحات المادية الضيقة التى تصدر عن الحداثة  الغربية الداروينية والتي قد أدخلتنا طريقاً مسدوداً من أزمة بيئية إلى أزمة أخلاقية، إلى حالة صراع دائمة: الجميع فى حالة حرب مع الجميع، فالإنسان إن هو إلا ذئب لأخيه الإنسان، كما تنبأ هوبز وغيره من المفكرين الماديين العلمانيين. ولذا فثمة بحث مستمر عن حداثة إنسانية ترفض التقدم المادي المستمر وتصاعد معدلات الاستهلاك كهدف نهائي، وترفض القوة كمعيار وحيد وكآلية وحيدة لحسم الصراع، ولذا فهذه الحداثة الإنسانية تنطوي فى النهاية على رفض للحداثة المادية الداروينية التى تنكر الإنسانية المشتركة كمرجعية نهائية، والتى تذهب إلى أن العالم إن هو إلا مادة استعمالية يوظفها القويّ لصالحه. تطرح الحداثة الإنسانية بدلا من ذلك فكرة التوازن مع الذات ومع الطبيعة ومفهوم الإنسانية المشتركة كمرجعية نهائية. ويمكن القول أن كثيرًا من حركات الاحتجاج في الغرب تصدر عن فكرة الحداثة الإنسانية التي تستند بدورها إلى فكرة الإنسانية المشتركة. وقد بدأت حركة الاحتجاج ضد الحداثة الداروينية مع بدايات مشروع الحداثة. ولعل الفارق الأساسي بين الاحتجاج الغربي والاحتجاج الإسلامي أن الأول يبقى على مستوى الاحتجاج وحسب فهو احتجاج مأساوي متشائم، لأن السقف المادي يطبق عليه ولأن النـزعة نحو التجاوز ضعيفة بسبب الإطار المادي بحتمياته، أما الاحتجاج الإسلامي فهو يطرح حلولا ولذا فهو احتجاج متفائل يطرح مشروع أساس المعرفة، وعلما ليس منفصلا عن القيمة.

وقد يقول البعض إن المفكرين الغربيين، الذين يحتجون على الحداثة الداروينية ويحاولون تطوير حداثة إنسانية، يعلنون أنهم علمانيون بل وملحدون. وهذا قول في ظاهره حق، ولكن يجب ألا نكتفي بما يقوله هؤلاء المفكرون عن أنفسهم بل يجب أن ندرس أعمالهم بدقة وسنكتشف أن نموذجهم الفعال ليس ماديًا مصمتًا، بل يضم عناصر غير مادية كثيرة (رغم عدم اعترافهم بذلك)، ولذا فرؤيتهم في نهاية الأمر ليست مادية. ومن هنا قولي إن مشروع أسلمة المعرفة يبدأ كمشروع أنسنة المعرفة، أي استعادة الفاعل الإنساني كمقولة مادية/روحية لا يمكن ردها إلى عالم المادة، وتتطلب دراستها مناهج خاصة ونماذج مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية. وفي تصوري أن مقولة الإنسان ككائن روحي/مادي، وكظاهرة غير طبيعية غير مادية، تشير إلى ما وراء الطبيعة، إلى الله سبحانه وتعالى.

لابد أن نكتشف هذه الثنائية التي تسم الوجود الإنساني وتفصله عن عالم الطبيعة/المادة في كتابات بعض المفكرين الذين ينطلقون من إدراك الاختلاف الجوهري بين الظاهرة الإنسانية والظواهر الطبيعية/المادية. كما يجب أن ندرس تبديات هذه الثنائية في أعمالهم سواء في تأكيدهم على الإنسانية المشتركة أو في رفضهم لبعض الظواهر المصاحبة للحداثة الغربية مثل الاغتراب والتشيؤ والتسلع وظاهرة الإنسان ذي البعد الواحد. ومثل هذه الدراسة ستعرفنا على الرقعة المشتركة بين المفكرين الإنسانيين من العلمانيين والإسلاميين، حتى يمكننا أن نوجه جهودنا ضد الحداثة الداروينية التي ستحرق الأخضر واليابس، والتي ستودي بالجميع حتى دعاتها والمستفيدين منها، فهي لا تهددنا وحدنا، وإنما تهدد الظاهرة الانسانية ذاتها.

الهجوم على الإنسان:

أسلفنا القول أن الإنسانية الهيومانية الغربية داخل الإطار المادي عادة ما تتهاوى وتنـزلق إلى المادية والعنصرية والداروينية وفي نهاية الأمر العدمية. وسنتناول الآن فكرتين أساسيتين في الحضارة الغربية هما الداروينية الاجتماعية والعدمية، ثم فيلسوفين غربيين هما شوبنهاور ونيتشة اللذين يعبران عن هذه الداروينية وما تؤدي له من عدمية.

الداروينية الاجتماعية:

«الداروينية» ترجمة لكلمة «داروينيزم Darwinism» الإنجليزية، ويُقال لها أيضاً «الداروينية الاجتماعية». وهي كلمة منسوبة إلى اسم تشارلز داروين (1731 ـ 1820). وهي فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية، وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون. والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني. وقد حققت الداروينية الاجتماعية ذيوعاً في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعض يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتسع ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسـفات العلـمانية الشاملة، إن لم يكن كلـها.

ويرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على الظواهر الإنسانية التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة. وقد ذهب داروين إلى أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى، وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها. ويرى داروين أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحية يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح. إن عالم داروين عالم مستمر مغلق لا ثغرات فيه ولا فراغات ولا مسافات، فكل حلقة تؤدي إلى التي تليها، تماماً كما هو الحال مع عالم إسبينوزا ونيوتن، حيث تحرِّك كل عجلة العجلة التي بجوارها (وبالفعل، وصف أحدهم داروين بأنه نيوتن العلوم البيولوجية). وهكذا تؤدي اليرقة إلى القرد، والقرد إلى الإنسان بطريقة آلية (تماماً كما تتحرك الأجسام تحت تأثير قانون الجاذبية وكما تتحول الأفكار الجزئية إلى أفكار كلية بطريقة آلية في منظومة لوك).

وهذا هو تَصوُّر داروين أو فرضيته. ولكنه كان في واقع الأمر عاجزاً تماماً من الناحية العلمية عن إثبات كثير من فرضياته. ولذا فهناك حديث عن الحلقة المفقودة، وهي تعني وجود مسافة بين القرد والإنسان، ولذا فقد تحدثوا عن الطفـرة بمعنى سَد الثغرة في الزمان بدون سـبب واضح، وتم فرض الاستمرارية والواحدية دون وجود شواهد مادية علمية. ومع هذا، ذهب دعاة الداروينية الاجتماعية إلى أن فرضية داروين نظرية وحقيقة علمية، ثم نقلوا هذه الفرضية من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان، وقرروا أن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول. وعلى هذا، تم استخدام النموذج الدارويني لا لتفسير الطبيعة/المادة وحسب وإنما لتفسير حياة الإنسان الفرد في المجتمعات، وفي تفسير العلاقات بين الدول والمجتمعات على المستوى الدولي.

وقد وُظِّفت الداروينية الاجتماعية في تبرير التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد، وفي الدفاع عن حق الدولة العلمانية المطلقة، وفي تبرير المشروع الإمبريالي الغربي على صعيد العالم بأسره. فالفقراء في المجتمعات الغربية وشـعوب آسـيا وأفريقيا (والضعفاء على وجه العموم) هم الذين أثبتوا أن مقدرتهم على البقاء ليست مرتفعة، ولذا فهم يستحقون الفناء أو على الأقل الخضوع للأثرياء ولشعوب أوربا الأقوى والأصلح.

ويمكن تلخيص الأطروحات الأساسية في الداروينية الاجتماعية على النحو التالي:

1-  كل الأنواع العضوية ظهرت من خلال عملية طويلة من التطور، وهي عملية حتمية شاملة تشمل كل الكائنات (وضمن ذلك الإنسان) وكل المجتمعات في المراحل التاريخية كافة.

2-  العالم كله في حالة تَطوُّر دائم، وهذا التطور يتبع نمطاً واضحاً متكرراً رغم أن التطور قد يكون بطيئاً وغير ملحوظ أحياناً، وقد يأخذ شكل طفرة فجائية واضحة أحياناً أخرى.

3-  تتم عملية التطور من خلال صراع دائم بين الكائنات والأنواع. فالصراع دموي حتمي، وهو صراع جماعي لا فردي.

4-  السبب الذي يؤدي إلى تَغيُّر الأنواع هو الاختيار الطبيعي الذي يؤثر في جماعات الكائنات العضوية ويترك عليها آثاراً مختلفة.

5- الكائن أو النوع الذي ينتصر على الكائنات والأنواع الأخرى، ويحقق البقاء المادي لنفسه، يثبت بالتالي أنه أرقى من الأنواع الأخرى إذ حقق البقاء على حسابها، فبقي هو بينما كان مصيرها الفناء.

6-  تحقِّق الكائنات البقاء إما من خلال التكيف (البرجماتي) مع الواقع فتتلون بألوانه وتخضع لقوانينه، أو تحققه من خلال القوة وتأكيد الإرادة (النيتشوية) على الواقع، والبقاء من نصيب الأصلح القادر على التكيف والأقوى القادر على فرض إرادته. ومن أشكال التكيف الانتقال من التجانس (البسيط) إلى اللاتجانس (المركب).

7-  مهما كانت آلية البقاء، لا علاقة لها بأية قيم مطلقة متجاوزة، مثل الأمانة أو الأخلاق أو الجمال، فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الداروينية التي تتجاوز الخير والشر والحزن والفرح.

8-  النوع الذي ينتصر يورث الخصائص التي أدت إلى انتصاره (سر بقائه) إلى بقية أعضاء النوع، بمعنى أن التفوق يصبح عنصراً وراثياً.

9- هذا يعني استحالة وجود مساواة مبدئية بين الأنواع أو بين أعضاء الجنس البشري.

10- مع تزايد معدلات التطور، تصبح هناك كائنات أكثر رقياً من الكائنات الأخرى بحكم بنيتها البيولوجية، ومن ثم يصبح للتفاوت الثقافي أساس بيولوجي حتمي.

ولعله لا توجد فلسفة أثرت في عصرنا الحديث أكثر من الفلسفة الداروينية، كما لا توجد فلسفة بلورت الرؤية العلمانية للكون أكثر من الفلسفة الداروينية:

1- فقد رسخت الفلسفة الداروينية أفكار الواحدية المادية التي تذهب إلى أن العالم إن هو إلا مادة واحدة صدر عنها كل شيء، مادة خالية من الغرض والهدف والغاية، ولا توجد داخلها مطلقات متجاوزة من أي نوع. فالعالم طبيعة، والطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال. ولا توجد أية ثغرات في الكون إذ أن المنطق المادي حتمي شامل يشمل كل شيء. ولا توجد ثنائيات في الكون إذ يُرَد كل شيء إلى المادة ويُفسَّر كل شيء بالتطور المادي. ومع هذا، توجد الثنائيات الاجتماعية الصلبة: الأقوياء/الضعفاء – الأثرياء/الفقراء – السادة/العبيد – القادرون على البقاء/ضحايا الصراع.

2- الإنسان إن هو إلا جزء من هذه الطبيعة وهذه المادة، وقد صدر هو أيضاً عنهما من خلال عملية التطور، إذ لا يوجد سوى قانون طبيعي واحد يسري على الإنسان والأشياء، فالوجود الإنساني نفسه يتحقق من خلال الآليات التي يتحقق من خلالها وجود كل الكائنات الأخرى، أي الصراع والقوة والتكيف. وهو وجود مؤقت، تماماً مثل مكانته في قمة سلم التطور، إذ أنه حتماً سيفقد مكانته هذه من خلال سلسلة التطور التي دفعته إلى القمة. بل يمكن القول بأن الأميبا من منظور تطوري صـارم أكثر تميزاً من الإنسـان لأنها حققت البقاء لنفسها مدة أطول من الإنسـان. والإنسان، شأنه شأن الأميبا، لا يتمتع بأية حرية ولا يحمل أية أعباء أخلاقية، فالقوانين الأخلاقية هي مجرد تَطوُّر لأشكال من السلوك الحيواني الأقل تطوراً والحرص الغريزي على البقاء البيولوجي. وهذا يعني أن القانون الأخلاقي، وكل القوانين، هي قوانين مؤقتة نسبية، ترتبط بحلقة التطور التي أفرزتها، ولذا يتم الاحتفاظ بالقوانين طالما أنها تخدم المرحلة. ومن ثم فإن الأخلاق المطلقة تقف ضد التقدم العقلاني المادي، وخصوصاً إذا كانت أخلاقاً دينية تدعو إلى حماية الأضعف والأقل مقدرة المحتاج إلى الإشفاق عليه والعناية به. وهذا يعني أن كل الأمور نسبية تماماً ولا توجد أية مطلقات، ولذا يمكن القول بأن النظرية الداروينية هي الأساس العلـمي للفـكر النسبي. وإذا كان التـطور يتم أحياناً عن طريق الصـدفة، وتحــدده الحـوادث العارضة، فيمكن القول بأن النظرية الداروينيـة هي أيضاً أساس الفكر العبثي.

3-  إذا كان الأمر كذلك، فإن أفضل طريقة لتفسير سلوك الإنسان ووجوده لا يمكن أن تتم إلا من خلال النماذج الطبيعية المادية، ومن هنا حتمية وحدة العلوم. وإذا كان للظاهرة تاريخ، فهو تاريخ مادي يمكن دراسته من خلال دراسة بنية الظاهرة المادية. وقد قام داروين نفسه بتفسير الظواهر البيولوجية من خلال دراسة تاريخها البيولوجي. وكما قال أحد الباحثين فإن هذا يعني في واقع الأمر عدم وجود أي فارق أساسي بين مجموعة من الشبان الذين يختطفون فتاة ويغتصبونها ثم يقتلونها وقطيع من الذئاب تهاجم ظبياً وتلتهمه. فكلاهما تدفعه غريزة طبيعية مادية قوية. ولعل الفارق الثانوي الوحيد أن الشبان قد هاجموا عضواً من نفس نوعهم، وهو الأمر الذي يعوق عملية البقاء (وهذا هو المنطق الوحيد المقبول في إطار دارويني عقلاني مادي).

4-  ورغم الواحدية المادية التي تَصدُر عنها الداروينية، ورغم رفضها لأن تكون أية نقطة متجاوزة للمادة مصدراً للحركة، ورغم أنها تفترض عدم وجود مخطط إلهي وراء الكون، فإنها مع هذا كله تفترض وجود غائية طبيعية كالتطور باعتبـاره حركة من نقطة أدنى إلى نقطة أعلى ومن التجانس البسيط إلى اللاتجانس المركب، حركة حتمية تماماً مثل التقدم الحتمي الذي تفترضه معظم الأيديولوجيات العلمانية. والغائية التي يطرحها داروين غائية غير متجاوزة تأخذ شكل إيمان بأن هناك غاية كامنة في الطبيعة نفسها. لكن هذه الغائية قد تكون زيادة في التركيب والتطور من البسيط إلى المركب، وقد تكون شيئاً يُسمَّى «إرادة الحياة» أو «القوة»، وقد يكون شكلاً من أشكال الوعي ظهر بالصدفة من خلال عملية كيماوية زادت المادة تركيباً. والمهم أن التطور، مهما بلغ بالكائنات من ارتفاع ورقي، فليس ثمة تجاوز، إذ إن كل شيء (وضمن ذلك الإنسان) أصله مادي ويُرَد إلى المادة. وينطبق الشيء نفسه على نظرية الأخلاق، فالبقاء هو القيمة الوحيدة، والصراع هو الآلية، والأنانية وحب الذات هما مصدر الحركة، ولذا فإن العالم هو ساحة قتال بين الذئاب من البشر (والإنسان ذئب يفترس أخاه الإنسان) وبين الأمم التي لابد أن تصرع بعضها بعضاً لغاية البقاء، فهي حرب الجميع ضد الجميع. ولا توجد قيمة مطلقة لأي شيء، إذ أن ما يحدد القيمة هو القدرة على الصراع والبقاء. ويمكن القول بأن النظرية الداروينية هي خليط من الصورة المجازية العضوية والصورة المجازية الآلية، فالكون في حالة تَطوُّر عضوي مستمر، يتبع نمطاً ثابتاً لا يتغيَّر، ومن ثم لا يختلف التطور العضوي عن الحركة الآلية في النمطية أو الرتابة.

وقد تبدَّت هذه المنظومة الداروينية بشكل واضح في الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، من إنكار قيمة أي شيء أو أية مرجعية متجاوزة، إلى تأكيد ضرورة التنافس والصراع والإصرار على حرية السوق وآلياته وعدم تدخُّل الدولة بحيث يهلك الضعفاء ولا يبقى سوى الأقوياء. والإمبريالية هي تدويل للرؤية الداروينية حيث أصبح العالم كله سـوقاً، مسرحاً لنشـاط الإنسـان الأبيـض المتفـوق الذي أباح لنفسـه قتل الآخر ضماناً لبقائه وتأكيداً لقوته. وقد ساهمت الداروينية أيضاً في تزويد النظريات العرْقية الغربية والتجارب الخاصة بتحسين الأجناس والنسل والقتل الرحيم على أساس علمي.

كما هيمنت النظرية التطورية (ذات الأصل الدارويني) على العلوم الاجتماعية. فالإيمان بالتقدم والحتمية التاريخية جميعها أشكال من التطورية. وهناك كثير من النظريات التاريخية والاجتماعية تُعَد تطبيقات لمبدأ التطور من التجانس البسيط إلى اللاتجانس المركب. فقد درس هربرت سبنسر التاريخ باعتباره تطوراً من المجتمع العسكري إلى المجتمع الصناعي، ورآه دوركهايم تطوراً من التضامن الميكانيكي إلى التضامن العضوي، ورآه ماركس تطوراً من الشيوعية البدائية إلى الشيوعية المركبة (عبر حلقات محددة: المجتمع العبودي فالإقطاعي فالرأسمالي فالاشتراكي). بينما بيَّن أوجست كونت أن التطور هو تَطوُّر من مجتمع يستند إلى السحر إلى مجتمع يستند إلى الدين وصولاً إلى المجتمع الحديث الذي يستند إلى العلم. والفكر العرْقي الغربي هو فكر تطوري إذ يرى أن الإنسان الأبيض هو آخر حلقات التطور وأعلاها، ولذا فله حقوق معينة. وقد تبلور الفكر التطوري العرْقي في الأيديولوجيا النازية التي تبنت تماماً فكرة وحدة العلوم وَطبَّقت القوانين الطبيعية بصرامة على الكافة، وحاولت الاستفادة من قوانين التطور من خلال قواعد الصحة النازية (إبادة المعوقين والمتخلفين عقلياً وأعضاء الأجناس الأخرى) ومن خلال محاولات تحسين النسل عن طريق التخطيط وعقد زيجات أو تنظيم علاقات إخصاب تؤدي إلى إنجاب أطفال آريين أصحاء.

والفكر الصهيوني، مثله مثل الفكر النازي، ترجمة للرؤية الداروينية، فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين باسم حقوقهم اليهودية المطلقة التي تَجُبُ حقوق الآخرين، كما أنهم جاءوا إلى فلسطين ممثلين للحضارة الأوربية يحملون عبء الرجل الأبيض. وهم، نظراً لقوتهم العسكرية، يملكون مقدرة أعلى على البقاء. أي أنهم جاءوا من الغرب مسلحين بمدفعية أيديولوجية وعسكرية داروينية علمانية ثقيلة، وقاموا بتسوية الأمور من خلال الموقع الدارويني النيتشوي، فذبحوا الفلسطينيين وهدموا قراهم واستولوا على أراضيهم، وهي أمور شرعية تماماً من منظور دارويني علماني، بل واجبة. ولعل تَأثُّر معظم المفكرين الصهاينة بنيتشه أمر له دلالته في هذا المقام.

العدمية:

“العدمية” بالإنجليزية “نيهيليزم nihilism”، وهي من الكلمة اللاتينية “نيهيل nihil” وتعني “لا شيء”. وقد صيغ المصطلح في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع هذا، فإن النـزعة العدمية قديمة قدم التاريخ، فكل الوثنيات تحوي داخلها نـزعة عدمية تظهر بحدة في مراحلها الأخيرة، وهكذا كان الوضع بالنسبة للحضارة الرومانية وحضارة الجزيرة العربية قبل الإسلام (الجاهلية)، ووصلت العدمية إلى ذروتها في العصر الهيليني. والفلسفات المادية فلسفات تفكيكية ترد كل ما هو إنساني إلى ما هو دونه، أي المادي، وتستمر عملية الرد هذه إلى مستويات أدنى إلى أن نصل إلى النماذج الأصلية، أي “نيهيل” ومعناها “لا شيء”. هذا على المستوى الأنطولوجي. أما على المستوى المعرفي، فإن العدمية هي إنكار إمكانية التوصل إلى أي معرفة موضوعية عن الواقع وغياب أي أساس لفكرة الحقيقة والكل، إذ إنه لا يمكن أن نعرف شيئا، وما نصل إليه من معرفة لا قيمة له، مجرد أحاسيس غير مترابطة، وكل معارف الإنسان نسبية. وحتى لو وصلنا إلى معرفة ذات قيمة، فإن التواصل بين البشر مستحيل. وهذا يعني أيضا إنكار القيم الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية وإنكار إمكانية الدفاع عنها بشكل عقلاني، “فكل هذا يؤدي إلى إنكار كل الثنائيات: حقيقي/ غير حقيقي – معرفة/ خطأ – وجود/ عدم – خير/ شر، ويؤدي إلى إنكار إمكانية التمييز بينها. فالوهم مساوي للحقيقة والخطأ مساوٍ للصواب” والخير والشر سواء. والوجود مساوٍ للعدم، فالعالم كله بلا معنى، فهو لا شيء. إذا كان الأمر كذلك، فإن كل فرد يصبح مكتفيا بذاته يفرض معاييره للتفسير والحكم، فيصبح إنسانا متألها.

ولكنه، في ذات الوقت، إنسان يحس بضآلة ذاته، فالعالم لا معنى له مهما فرض عليه الإنسان معنى من خلال إرادة القوة. ولذا، فإن العدميين عندهم إحساس عميق بالحرية المطلقة بسبب انفصالهم عن أي معايير إنسانية وعن أي واقع موضوعي، ولكنهم عندهم إحساس عميق باليأس من جراء تفاهة الوجود الإنساني وعدم جدواه واستحالة التواصل بين البشر (تمركز حول الذات يؤدي إلى ذوبانها واختفائها). والعصر الحديث، الذي تسود فيه العقلانية المادية، من أكثر العصور عدمية، إن العقلانية المادية تؤدي بتفكيكها إلى ظهور اللاعقلانية المادية بعدميتها.

وفي مقدمة كتابه النـزوع إلى القوة، عرف نيتشه العدمية بأنها الاقتناع بأن الحياة لا معنى لها في ضوء أعلى القيم المكتشفة حتى الآن، كما أنها تشمل مقولة إننا ليس لدينا أدنى حق في افتراض وجود أشياء متجاوزة، أو أشياء مقدسة. ويرى ج. هليس ميلر أن العدمية قد استوطنت الميتافيزيقا الغربية وأن المنهج التفكيكي المعاصر (الذي يُعد نيتشه أحد رواده) ليس منهجا جديدا، فقد تكرر بشكل أو بآخر على مدى القرون منذ السفسطائيين والبلاغيين الإغريق، بل منذ أفلاطون نفسه. ولا شك في أن في هذا مبالغة فالعدمية موجودة بشكل كامن لا داخل الميتافيزيقا الغربية ككل (فالميتافيزيقا المسيحية الكاثوليكية مفعمة بالمعنى) وإنما هي كامنة في أي منظومة حلولية كمونية خاصة إذا كانت مادية. وهذه هي السمة الأساسية للفلسفة الغربية، وما يحدث هو أن العدمية الكامنة أو الهامشية تبدأ تتحقق وتتحرك إلى المركز مع نهاية القرن التاسع عشر. ولذا فنحن نتفق مع نيتشه في أننا دخلنا مرحلة العدمية في العصر الحديث، ونتفق مع بارت الذي قال إن العدمية هي الفلسفة الوحيدة الممكنة في وضعنا الحالي، وهو يرى أنه هو ودريدا (والآخرون أيضا، أي مفكرو ما بعد الحداثة) عندهم شعور بالمشاركة في مرحلة العدمية هذه.

ولعلنا حينما ننظر إلى بعض أنواع العدمية سندرك أيضا سر انتشار العدمية في عصرنا الحديث:

1- يمكننا الحديث عن عدمية ثورية (متفائلة)، وهي عدمية العقلانيين الماديين ممن يؤمنون بالعقل المحض وبالحتميات المادية التي تحل محل الإله، وبأن الأمور ستتحسن دون تدخل من الإنسان، ولأن المعنى سيظهر من تلقاء نفسه، أي أنها فورية تستند إلى إنكار إمكانية التجاوز وإلى واحدية مادية صارمة، ولكنها مع هذا تتحرك نحو شكل من أشكال الغائية الآلية. والفكرة الأساسية وراء فكرهم هي أن المجتمع قد تم تأسيسه على الأكاذيب، لأن كل المعتقدات الأخلاقية والدينية والإنسانية تهدف إلى إخفاء الحقيقة وقمع الإنسان. لذا يجب تدمير كل العقائد والقيم وتفكيكها حتى يمكن رؤية العالم على حقيقته، ورغم هذه الرؤية المظلمة، إلا أن هؤلاء العدميين يحتقرون التقاليد والسلطة ويؤمنون بالعقل (المادي) إيمانا كاملا، ويلتزمون بفلسفة مادية صرفة ويتجهون اتجاها راديكاليا فوضويا، مثل بيساريف زعيم العدميين في روسيا، الذي لخص فلسفة العدمية الثورية بقوله: “هذا هو الإنذار النهائي لمعسكرنا: ما يمكن تحطيمه لابد وأن يحطم، وما يتحمل الضربات فهو صالح، أما الذي سيتطاير شظايا فهو نفاية – ومهما كان الأمر – فلنضرب يمينا ويسارا وهي عملية لم ينجم عنها (ولن ينجم عنها) أي ضرر”، أي أن الفوضوي العدمي هنا هو ذات مطلقة تدور في إطار الاستنارة المضيئة، تعطي نفسها الحق في ضرب الأبنية الحضارية والاجتماعية والإنسانية بلا هوادة، فيظهر الموضوع المطلق (المجتمع الجديد) من تلقاء نفسه (تمركز حول الذات يؤدي إلى تمركز حول الموضوع). وعبّر بازاروف عن هذه الرؤية في رواية تورجينيف آباء وأبناء، والتي تعد من أهم المعالجات الأدبية لقضايا العدمية. ومما له دلالته أن الموعظة الثورية (1869) مانفستو الحركة الفوضوية، كتبه باكونين بالاشتراك مع المفكر العدمي الروسي س. ج. ينخاييف.

2- وهناك العدمية التشاؤمية، وهي الأكثر شيوعا، وهي عدمية من فقد الإيمان الديني وفقد الإيمان بالذات وبالموضوع، ومن ثم فهو يدرك استحالة أن يحل أي مطلق محل الإله، أي أنها عدمية تستند أيضا إلى إنكار إمكانية التجاوز وإلى واحدية مادية صارمة دون أن يدخل عليها أي عناصر مخففة مثل الإيمان بالغائية الآلية. ومن ثم، تسود في العالم النسبية الأخلاقية والمعرفية ويدرك المرء اعتباطية القيم الأخلاقية وأنها لا تستند إلى حق أو حقيقة. ويختفي التمييز بين الحلال والحرام والمباح وغير المباح (فالعدمية التشاؤمية هي نتاج الاستنارة المظلمة). وقد عبر إيفان في رواية دوستويفسكي الإخوة كارامازوف عن هذا الموقف بقوله “إن كان الإله غير موجود فكل شيء مباح”. وقال كيريلوف (في نفس الرواية) إن لم يكن الإله موجودا، تصبح أكثر الأشياء معنى في حياة الإنسان هي الحرية الفردية (إرادة القوة)، ولكن أقصى تعبير عنها هو الانتحار (تمركز حول الذات يؤدي إلى ذوبانها واختفائها). ونيتشه هو فيلسوف العدمية التشاؤمية الأكبر الذي كان يدرك تماما أنه بموت الإله (واختفاء الميتافيزيقا) سيسقط التفسير الديني للعالم ولن يحل محله تفسير آخر، وأنه لا مجال لأي مطلقات أو ثنائيات. وقد قال نيتشه: “إذ كان هناك إله، فماذا أكون أنا إذن”. أي أنه طالب بتأليه الإنسان. ولكن، حينما يتأله الإنسان ويظهر السوبرمان، فإن العالم في الواقع يصبح لا معنى له، خاضعا لقوانين الصدفة، ولا يبقى سوى إرادة القوة (للأقوياء) التي تفرض المعنى العشوائي، وإرادة التكيف التي تجعل الناس يتكيفون مع العدم ويقبلونه، ويظل العالم مفتقدا للمعنى. والأدب الحداثي، خصوصا مسرح العبث، عبَّر عن هذا الضرب من أنواع العدمية التشاؤمية.

3- ويمكن للعدمية أن تأخذ أشكالا أقل عنفا إذ تصبح مجرد حالة نفسية أو عقلية تسيطر على الإنسان وهنا تعبر العدمية عن نفسها من خلال إدمان المخدرات والانحراف وظهور عصابات الشباب وإدمان أفلام الرعب أو العنف وظهور أجيال من الشباب الهيبز الذين يعيشون فلسفة العبث ويسخرون من النظام والقواعد. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: “إن ثورة الشباب عام 1968 لم تكن ثورة سياسية لها أهداف واضحة، فقد كانت ثورة غير منتظمة وكثيرا ما كانت تأخذ شكل كاثارسيس (تطهير). وعلى الرغم من أنها كانت تسمى “ثورة بلا سبب” إلا أنها كانت ثورة عدمية ضد الأخلاق الاستهلاكية التي تشبه المخدر، تفقد البشر وعيهم الإنساني فيقضون حياتهم في العمل الشاق لشراء سلع لا يريدونها. وقد لخص آرثر ميللر طبيعة هذه الثورة العدمية بقوله: “إن مشكلة انحراف الشباب لا تنتمي فقط للمدن الكبرى بل تنتمي إلى الريف أيضا، وهي ليست مشكلة الرأسمالية فحسب بل هي مشكلة الاشتراكية أيضا، ولا يقتصر ظهورها مع الفقر فقط بل هي تظهر مع الثراء كذلك، إنها ليست مشكلة عنصرية أو مشكلة هجرة ولا حتى مشكلة الأمريكيين الخلص. إنني أعتقد أن المشكلة – في وضعها الراهن- هي نتاج التكنولوجيا التي دمرت الإنسان كقيمة في ذاته… وباختصار، لقد اندثرت الروح وتلاشت. ربما طردتها من الأرض وحشية الحربين العالميتين… أو أن العملية التقنية قد امتصتها من الآخرين فلم تبق لأحد منهم إلا أن يكون زبونا لها أو عاملا تحت إمرة مدير، أو فقيرا أمام غني وبالعكس- باختصار لم يبق لهم إلا أن يكونوا عناصر تتلاعب بها بشكل أو بآخر، ولم يعودوا شخصيات ذات قيمة.

ونحن نرى أن ما بعد الحداثة هي تعبير عن النسبية العدمية التي تتجاوز التفاؤل والتشاؤم والتمركز حول الذات والموضوع، فهي حركة تنكر وجود الذات والموضوع والحق والحقيقة، وترى أنه إن كان هناك حقيقة فهي مقصورة على من توصل إليها (قصة صغرى)، وليس لها أي شرعية خارج هذا النطاق. ولكن عدمية الحداثة تختلف عن عدمية ما بعد الحداثة، فالأولى تعبر عن تمرد على العدمية ورفض لها رغم إدراك حتميتها، أما عدمية ما بعد الحداثة فهي برجماتية ترضى باللامعنى وتطبعه وتتحرك داخل إطاره. وتحاول ما بعد الحداثة حل مشكلة العدمية الناجمة عن التفكير في الأصول الإلهية للإنسان والتي ينتج عنها ثنائية في عالم الإنسان ليس لها ما يماثلها في عالم الطبيعة، وهكذا تحاول ما بعد الحداثة أن تدمج عالم الإنسان في عالم الطبيعة تماما فتصفى الثنائية، من ذلك ثنائية الوجود والعدم، والمعنى واللامعنى. وبدلا من ذلك، تسود الثوابت المتغيرة المختلفة. ومن ثم، يتم الانتقال من نيتشه ودوستويفسكي إلى دريدا ومادرنا.

ويرى البعض أن بنية الحضارة والحداثة ذاتها (الترشيد – التنميط – تزايد هيمنة البيروقراطية على جميع مناحي الحياة- تسارع إيقاع الحياة ما سماه فيبر “القفص الحديدي”) تؤدي إلى تزايد إحساس الفرد بأنه لا يملك من أمره شيئا لأن الواقع لا معنى له “وأنه يعيش في عالم ليس من صنعه، وأن التقدم يؤدي إلى فقدان الحرية وإلى الانحراف، لأن تزايد السلع يؤدي إلى التسلع، وأن الإنسان يختفي ليحل محل المواطن العام ثم البيروقراطي ثم الرقم المجرد. ونتائج هذا الاتجاه ليس التأله (عدمية متفائلة) أو الانتحار (عدمية متشائمة) وإنما عدم الاكتراث والحيرة الكاملة والإحساس العميق بالمفارقة (بين حلم التحكم والتأله وواقع فقدان التحكم والانسحاق). ولعل الفرق بين شخصيات تورجينيف ودوستويفسكي وكافكا هو الفرق بين العدمية التفاؤلية والعدمية التشاؤمية والعدمية البيروقراطية.

ويرى علي عزت بيجوفيتش أن الفلسفات والرؤى التشاؤمية المدمرة تظهر في المناطق الغنية (المتقدمة) في العالم (هنـزيك إبسن، مارتن هايدجر، ألبير كامو، صمويل بكيت، يوجين أونيل، إنجمار بيرجمان، أنتونيوني). وهي ظاهرة تستحق التسجيل. فالحضارة الغربية الحديثة هي حضارة الانتصارات المستمرة في عالم المادة، ومع هذا نجد أن الأدب الغربي الحديث أدب تشاؤمي عدمي يتحدث عن الضياع الإنساني والبؤس الفكري والأخلاقي والعنف والوحشية والخواء النفسي.

ويفسر علي عزت بيجوفيتش هذا بأن العلم لا يتعامل إلا مع العالم المادي ويدور في إطار نماذج مادية، ولذا فهو يمدنا ببيانات صلبة عن وفرة السلع ومعدلات الإنتاج بالجملة وعن الطاقة والقوة البشرية، أما الأدب والفلسفة فهما يدوران في إطار نماذج إنسانية مركبة ويصلان إلى خبايا النفس البشرية، ولذا بدلا من النور المادي يجدان الهزيمة. ويرى علي عزت بيجوفيتش أن العدمية تعبير عن مقاومة الإنسان للحضارة ذات البعد الواحد وعن رفضه للعالم المادي الحديث لأنه عالم ينمو بعكس الصورة التي أرادها لنفسه، فهو عالم خالي من الغائية تماما، وهي تعبير عن قلقه وعدم رضاه. والقلق – بجميع درجاته فيما عدا نتيجته – هو خلق ديني. فالعدمية والدين يريان الإنسان غريبا في هذا العالم، ففي العدمية هو غريب ضائع بلا أمل، أما في الدين فهناك أمل في الخلاص. والعدمية ليست إنكارا للألوهية ولكنها احتجاج على غيابها واحتجاج على غياب الإنسان واحتجاج على حقيقة أن الإنسان (الرباني- الإنسان الإنسان) غير ممكن أو غير متحقق، فما تحققه الحضارة الحديثة المادية شيء غير إنساني.

“إن العدمية والدين يمثلان إنكارا للمادية ومحاولة النظر فيما وراء القبور (المادة)، كما يمثلان البحث المجهد عن طريق خارج هذا العالم الذي أصبح الإنسان فيه غريبا. هذه الأفكار مشتركة بينهما، فالبحث العدمي هو بحث عن الإله ينتهي بالفشل ولكنه يصبح بحثا دينيا من حيث إنه يعني رفض الرؤية المادية الواحدية للحياة الإنسانية. ولكن ليس كل بحث ينتهي باكتشاف، فالعدمية ضرب من خيبة الأمل في “العثور على معنى في العالم، فكل شيء تافه وعدم إذا كان الإنسان يموت إلى الأبد وإذا كان الإنسان مجرد مادة وتراث”.

ولكن الفرق بين العدمية والدين في أن العدمية لا تجد طريقا للخلاص وتكتفي بالاحتجاج الطفولي بتدمير الذات والموضوع، بينما يذهب الدين إلى أنه قد وجد الطريق. فالعدمية هي إلحاد يائس. ويخلص بيجوفيتش من هذا إلى أنه يجب مراجعه فكرة العلم (المادي) الخاطئة عن الإنسان. فمادامت الحضارة العلمية المادية عاجزة عن حل مشكلة السعادة الإنسانية والمعنى، فلابد وأن تكون فكرتها عن الإنسان (وأصله) خاطئة، وهو ما يعني أن فكرة الدين عن الأصل الرباني للإنسان هي البديل الوحيد للعدمية.

شوبنهاور (1788- 1860):

فيلسوف ألماني نشاذي عدمي، تعد فلسفته بداية الدخول في مرحلة السيولة الشاملة. والحركة الأولى في فلسفة شوبنهاور العلمية الكمونية المادية هي تمركز كامل حول الذات، فهو يبدأ كتابه العالم كإرادة وفكر بعبارة “العالم هو فكرتي عنه”. وبدلا من “أنا أفكر إذن أنا موجود”، فإن شوبنهاور يقول: “أنا أريد بحرية مطلقة، إذن أنا موجود”. وهو يتحدث عن وعي داخلي باطني لدى كل واحد عن نفسه كإرادة، وهو وعي أولي لا يمكن رده إلى علة أخرى. وهذا الوعي بأنفسنا كإرادة يختلف عن وعينا بأنفسنا كجسم، أي أنه ثمة سمات بين الإرادة والجسد وثمة ثنائية. والنظم الكمونية العضوية تتجه دائما نحو تضييق المسافات وسد الثغرات وإلغاء الثنائيات. ولذا، نجد أن شوبنهاور يؤكد أن عمليات وحركات الإرادة هي التي تنتج عمليات وحركات الجسم، فالجسم والإرادة شيء واحد، وما الجسد سوى تموضع للإرادة، فما أريده وما أفعله هما نفس الشيء (ولنلاحظ هنا السمة الأساسية للسيولة الشاملة: محاولة إلغاء المسافة بين الذات والموضوع وتجاوزهما إلى عالم لا ثغرات فيه ولا انقطاعات).

ولأن عالم شوبنهاور عالم حلولي كموني كامن، لذا فإن التمركز حول الذات يؤدي إلى تمركز متطرف حول الموضوع، إذ يعمم شوبنهاور مفهوم الإرادة هذا على العالم بأسره، فيقول إن العالم إرادة، فثمة إرادة منبثة في كل أرجاء الوجود، قوة حيوية مكافحة مثابرة متحكمة في الكون، متحركة وفاعلة من تلقاء نفسها، توجه الإنسان بما تلقي عليه من أوامر، فهي المبدأ المادي الواحد الكامن في المادة الدافعة لها. وكل الأشياء التي نعرفها في الطبيعة، من قوى وطاقات تنتج أفعالا وتأثيرات، إنما هي أشكال تتجلى فيها هذه الإرادة الشاملة في العالم (وفكرة الإرادة مستمدة من فكرة طبيعية/ مادية، وهي فكرة القوة أو الطاقة).

والإرادة الشاملة ليست مبدأ عاقلا منظما يستهدف غايات محددة ويسير نحو تحققها تبعا لخطة مرسومة (كما يتصور هيجل وغيره من فلاسفة الثنائية الصلبة)، وإنما هي اندفاع أعمى وقوة طاغية لا ضابط لها ولا نظام. والعقل والروح والذكاء، كلها، إن هي إلا أدوات في أيدي هذه القوة الغاشمة، فالطبيعة في حالة صراع لا نهاية له ولا معنى (ولذا فإن رمز الطبيعة هو الدائرة لأنها تعبر عن التكرار الذي لا معنى له). والتاريخ كله تجسد لها، ولذا فهو خلو من المعنى ليس له من نهاية سوى الموت المحتوم (وبذا يكون قد ولى عهد الكل المادي الثابت المتجاوز ذي الغرض المحدد والنهائيات السعيدة والثنائيات الصلبة).

ونحن حين ننظر إلى العالم “فإننا نفهمه طبقا لما يحويه من إمكانات قابلة للاستخدام، أي باعتباره وسائل ممكنة لإشباع الإرادة فعلاقة العلية إرادة، والمعرفة نفسها وسيلة للإرادة تتوسل إليها لبلوغ صور أرفع وأقوى للحياة والمعرفة العلمية هي وسيلة لإشباع حاجاتنا ورغباتنا وإرادتنا.

والإنسان جزء من هذا الكون، فنحن كلنا أجزاء من حقيقة كونية واحدة لا تنقطع، رغم أن وجودنا في زمان ومكان يظهرنا بمظهر الكائنات المنفصلة. ومع هذا، فإن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يحاول إخفاء إرادته في قناع من الميتافيزيقا (فيتحدث عن الموضوعية والدين والأهداف النبيلة وما شابه)، ولذا يسميه شوبنهاور “الحيوان الميتافيزيقي”. والمطلوب الآن الإبقاء على الحيوان فى إلغاء الميتافيزيقا (وهذا هو حجر الزاوية في مرحلة السيولة الشاملة) وتصفية هذه الثنائية، ولذا فإن وظيفة الفلسفة هي أن تجعل الإنسان الفرد يدرك أنه ليس الشيء في ذاته وإنما مجرد ظاهرة تابعة (بالإنجليزية: إبي فينومنون epiphenomenon) فهو لا شيء، بل والأشياء كلها وفي كل العصور أشباح وأوهام (العداء المتطرف للكون).

ويمكن للإنسان أن يحقق هذا الإدراك الذي سيقضي تماما على الميتافيزيقا بالقضاء على فكرة الكثرة والفردية، وعلى فكرة الهوية المحددة والكيان الثابت للظاهرة (الموضوع) وللفرد (الذات)، وأن يتخلص الإنسان من إحساسه بتميزه كفرد وشخصية له إرادة مستقلة، فشعور كل شخص بفرديته هو مبعث الأنانية وبالتالي مصدر الشرور جميعا (ولنا أن نلاحظ كيف بدأ فيلسوف الإرادة بتأكيد الذاتية المطلقة وكيف ينتهي بالدعوة إلى الهروب من أي شخصية وتميز فردي). يجب على الإنسان أن يدرك الفكرة الشاملة الواحدة الكامنة خلف الظواهر، وأن يعرف أن الموجودات كلها تكون وجودا واحدا.

ويمكن للفن أن يساعدنا على تحقيق هذا الإدراك إذ إنه يحقق لنا التجرد من الأهداف والغايات والرغبات والقلق والذات الفردية والمصلحة الشخصية لنذوب في الإرادة الشاملة ولنخضع للإرادة الكلية ولنتجاوز كل شيء. ويرى شوبنهاور -لهذا السبب- أن الموسيقى هي أفضل الفنون، فهي تستغني عن كل الصور المكانية وتتخذ صورة الزمان وتعبر عن أفعال اللذة، فليست الموسيقى صورة لظاهرة من الظواهر، لكنها صورة الإرادة الشاملة نفسها.

وهذا هو “الحل النهائي” والحقيقة الوحيدة: أن يتبنى الإنسان واحدا من أكثر النظم حلولية وكمونية وهو البوذية (بعد أن انفصلت عن بوذا واكتسبت مضمونا حلوليا متطرفا). فالبوذية فيها إماتة للإرادة (أساس الشر كله) والخلاص الكامل من إرادة الحياة، وعلى الفرد أن يقطع كل علاقة بالأشياء الأرضية وتتوقف عنده كل رغبة في المشاركة في الدنيا أي أن نصل إلى حالة النرفانا، أي محو الفردية تماما في حالة الوحدة الكاملة مع الوجود في مجموعه. ويرى شوبنهاور أن تدفق الفلسفة الهندية (أي الحلولية الكمونية الكاملة) على أوربا قد يغير في معرفة الأوربيين وتفكيرهم تفكيرا عميقا.

نيتشه:

فيلسوف علمانى عدمي ألمانى، أول من عبَّر بشكل منهجى وصريح عن النـزعة التفكيكية فى المشروع التحديثى والاستنارى الغربى الذى يدور في إطار العقلانية المادية، ومن ثم فهو فيلسوف الاستنارة المظلمة واللاعقلانية المادية بلا منازع. وقد كان ابناً لواعظ بروتستانتى، درس الأدب الألمانى والديانات وفقه اللغات الكلاسيكية، وعين أستاذاً لهذه المادة الأخيرة فى بازل بسويسرا حيث أصبح من المواطنين السويسريين. خدم لفترة قصيرة فى الحرب الفرنسية البروسية (1870 – 1871) فى الجانب البروسى، وعاد إلى بازل بصحة متهدمة، ثم نشأت صداقة بينه وبين الموسيقار فاجنر سرعان ما انتهت حين تصالح فاجنر مع الإمبراطورية الألمانية الناشئة التى كان يمقتها نيتشه. تأثر بفلسفة شوبنهاور وكاتب لانج تاريخ المادية. اعتلّت صحته نظرا لإصابته بالزهرى. فعاش فى شبه عزلة فأصحبت عيناه نصف ضريرتين وكانت تنتابه نوبات صداع حادة وآلام جسمانية متعددة. وظل الناس يتجاهلون كتاباته حتى بدأ الناقد الدنماركى ورج براندز (المولود باسم كوهين) فى إلقاء محاضرات عنها فى كوبنهاجن عام 1888. واكتسب نيتشه شهرة عالمية واسعة دون أن يعلم ذلك، وأصيب بانهيار عقلى وجسمانى فى يناير 1889. وبقى مجنونا حتى وافاه الأجل (ولعله قد يكون مفيدا من الناحية التفسيرية دون أى انحراف عن أسس البحث العلمى أن نطرح تساؤلا بخصوص علاقة مرض نيتشه بفلسفته، خصوصا وأنه مرض سرى، أدى إلى خلل عقلى، ومثل هذه الأمراض السرية لم تكن على ما يبدو أمرا غير مألوف فى القرن التاسع عشر، إذ أصيب بعدواها عدد لا بأس به من أعضاء النخبة الحاكمة والثقافية فى أوربا، ومن بينهم هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، كما أن فوكوه وريثه الحقيقى مات هو الآخر من مرض الأيدز).

ومن أهم مؤلفاته: مولد المأساة (1872)، وإنسانى .. إنسانى إلى أقصى حد (1878)، والعلم المرح (1882)، وما وراء الخير والشر (1886)، وأصل نشأة الأخلاق (1887)، ولكن أهم كتبه وأشهرها هو هكذا تحدث زرادشت (1883). وهو من عيون الأدب والفكر الفلسفى الغربى.

ولفهم نيتشه لا بد أن نطل إطلالة سريعة على تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، ففلسفته تشكل لحظة تبلور وتحول داخلها فى غاية الخطورة والأهمية، ولا يمكن فهم إشكالات الفلسفة الغربية المعاصرة  إلا بفهم محورية فلسفة نيتشه. ولقد بدأ تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بظهور العقلانية المادية التى عبرت عن نفسها فى بداية الأمر من خلال النـزعة الإنسانية (الهيومانية) فى عصر النهضة التى جعلت الإنسان الواعى مركزا للكون وموضعاً للكمون، ولكن ظهر فى الوقت ذاته فلسفة علمانية جعلت من المادة غير الواعية مركزاً للكون وموضعا للكمون، وتاريخ الفلسفة الغربية هو تاريخ الصراع بين الرؤيتين. وقد تطورت الفلسفة الهيومانية وطرحت صورة للإنسان باعتباره كائنا قادراً على التحكم فى نفسه وعواطفه وعلى غزو الكون وتسخيره من خلال إعمال العقل، والعقل هنا هو شىء ما داخل الإنسان الفرد والجنس البشرى ككل يجعله يكتشف القواعد الثابتة فى الكون، فكأن العقلانية تفترض وجود ثبات فى عقل الإنسان وقوانين ثابتة في الكون المتغير، بل وتفترض تماثلا بين العقل والكون (والذات والموضوع). وقد تصاعدت هذه النـزعة الإنسانية العقلانية فى القرن الثامن عشر، عصر العقل والاستنارة حينما نجحت الفلسفة النقدية والتجريبية فى أن تقضى تماما على الأساس الدينى للمعرفة والأخلاق، وفى أن تجعل المادة المتغيرة وقوانينها هى المرجعية الوحيدة والركيزة الأساسية. ولكنها مع هذا أسست نظما معرفية وأخلاقية تستند إلى نقطة ثبات ما توجد خارج المادة المتغيرة. مثل العقل والطبيعة البشرية وبعض المطلقات العلمانية الأخرى (مثل الحتمية التاريخية – العقل المطلق – الإيمان بالتقدم .. الخ) .. وهى مطلقات  تفترض وجود نقطة ثبات ما وتفترض وجود مركز للكون. كما تفترض وجود حقيقة ثابتة وكليات تشير بدورها إلى الكل الذى لا يرد إلى الأجزاء، مما يستدعى فكرة الأصل وما وراء الطبيعة والأساس الميتافيزيقى. ويعد هذا بالنسبة لكثير من المفكرين الماديين الذين يتسمون بالصرامة شكلا من أشكال التخلف وفشلا ذريعا للفلسفة الغربية: أن تؤسس أنساقا أخلاقية (تتسم بالثبات والمطلقية وبالتجاوز) بعد القضاء على الأخلاق المسيحية، وأن تفترض وجود معرفة يقينية للعالم الخارجى بعد القضاء على اليقين الدينى، ففى هذا سقوط فى الميتافيزيقا ومحاولة تحقيق التجاوز داخل إطار المرجعية الكامنة. وهو ما يعنى استدعاء الأصول الربانية للإنسان بدلا من أصوله الطبيعية المادية، ويشكل عودة للغيبية والثنائية (الدينية) التقليدية بعد أن أخذت شكلا جديدا، ذلك أن افتراض وجود مثل هذه الثوابت يتناقض مع الرؤية العلمانية والعقلانية المادية الصارمة التى لابد وأن ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد كامن فى الطبيعة / المادة لا يتجاوزها.

لكل هذا، كانت الفلسفة الغربية الحديثة  فى انتظار فيلسوف يأخذ الخطوة المنطقية المتضمنة فى النموذج المادى، ويحرر الإنسان من أى أوهام متبقية عن الثبات والتجاوز والكلية، ويحقق العلمنة الكاملة للمجال الفلسفى بأن يطهره تماما من “ظلال الإله” (على حد قول نيتشه)، أى من أى قيم وثوابت وكليات وثنائيات وغايات (أخلاقية أو معرفية) تتجاوز المادى والمباشر، ويحطم تماماً ما  كان الفلاسفة يسمونه فى الماضى (أى قبل نيتشه) مقدسا وخيرا وحقا وجميلا ومطلقا وكليا، ومن ثم يتم القضاء تماما لا على اليقين المعرفى والأساس الدينى للأخلاق وحسب وإنما يتم القضاء أيضا على مفهوم أو فكرة الأخلاق ذاتها، وعلى أى مركزية لأى كائن إلها كان أم إنسانا، بل وعلى فكرة الوجود الثابت ذاتها وفكرة الكل الذى يتجاوز الأشياء، أى أن العالم بذلك يصبح نسقا سائلا بلا يقين أو معنى أو غاية أو كينونة أو هوية، والإنسان يصبح بلا ذات ولا حدود ولا استقلال ولامركزية. وها هو جوهر الاستنارة المظلمة: تحطيم الأوهام الهيومانية وتوضيح العنصر التفكيكى الكامن فى المقدمات الإنسانية الاستنارية العقلانية المادية، ويتم هذا لا بهدف تحرير الإنسان وإنما بهدف تحطيمه هو ذاته وتفكيكه كمقولة ثابتة مستقلة فى عالم الطبيعة المتغير ورده إلى ما هو دونه. وهذه هى قمة الحلولية الكمونية، أن يصبح العالم مكتفيا تماما بذاته، ولا يوجد خارجه شىء ولا يوجد داخله مركز يمنحه التماسك والوحدة والنظام والمعقولية، أى أنه يصبح عالما سائلاً.

ومع تطور العلوم البيولوجية ظهر أنه يمكن تحقيق هذا الهدف (تطهير الأنساق الفلسفية من كل القيم والثوابت والإحساس بها جميعا) عن طريق تطبيق نماذجها العضوية على المجال الإنسانى. وقد جاء داروين صاحب الغابة الشهيرة الرائعة (وهى كيان عضوى ويُرد إلى مبدأ واحد كامن فى المادة يسمى “الحياة” لا يمكن فهم كنهه تماما) ويعبر عن نفسه من خلال صراع دائم من أجل البقاء، بقاء لا يحققه إلا الأصلح، أى الأقوى، فثمة حركة دائمة فى هذه الغابة، حركة لا يمكن الحكم عليها بمعايير خارجة عنها وتحسم فيها الصراعات من خلال شىء كامن فى كل مخلوق أو فرد: أى قوته. وقد ظهر أن النماذج المعرفية والأخلاقية التى تدور داخل الإطار الداروينى ملائمة تماما للمجتمع الغربى ولرجل أوربا النهم فى منتصف القرن التاسع عشر – عصر الإمبريالية والهيمنة على الكون وافتراس الإنسان والطبيعة. فهو نموذج يبرر عملية الغزو والافتراس باعتبارها تعبيرا عن القانون الطبيعى المادى وعن نواميس الكون، أى أن تطور علوم البيولوجيا وتزايد الهيمنة الإمبريالية يشكلان الإطار المناسب لتصعيد معدلات العلمنة وللوصول بها إلى نقطة التحقق الكاملة.

وهنا ظهر نيتشه : ابن داروين وشقيق بسمارك (على حد قول جون ديوى) الذى أنجز للفلسفة الغربية ما عجز عنه السابقون عليه، والذى طور رؤية معرفية علمانية إمبريالية لا ينقصها سوى الجيوش والدبابات. وتعود أهميته الحقة إلى أنه ساعد على استكمال الطفرة الفلسفية التى سيتحقق من خلالها النموذج العلمانى المادى ويتعين ويتبلور، فأسس فلسفته انطلاقا من كثير من المقولات الكامنة العدمية للرؤية المادية، وأطلق عبارته الشهيرة “لقد مات الإله”، ثم بذل قصارى جهده فى أن يطهر العالم من أى ظلال يكون قد تركها الإله على الأرض بعد موته.

ويمكننا أن نتجاوز المضمون الدينى الإلحادى المباشر لهذه العبارة لنحدد مضمونها ومن ثم تضميناتها المعرفية التى لا تشمل الإله وحسب بل وتشمل الإنسان والكون. ويساعدنا هايدجر فى هذا حيث يقول إن الإله بالنسبة لنيتشه هو “العالم المتسامى”، العالم الذى يتجاوز عالمنا؛ عالم الحواس: الإله هو اسم عالم للأفكار والمثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم الأخلاقية.

ويمكننا أن نقول أن العبارة تعنى فى واقع الأمر ما يلى:

1- نهاية فكرة الإله المتجاوز والمفارق للمادة: المجاوز للطبيعة والتاريخ: الذى يمنح الكون تماسكا وهدفا نهائيا، أى نهاية فكرة المركز الكائن خارج المادة. هى حلولية كمونية كاملة.

2- إنكار وجود أى حقيقة ثابتة متجاوزة لعالم التجربة المادية المباشرة وعالم الصيرورة.

3- كل هذا يعنى إنكار فكرة الكل ذاتها، باعتباره كياناً متماسكا يعلو على الأشياء، أى إنكار فكرة المركز الكامن فى المادة.

4- العالم إذن أجزاء لا تشكل كلا ولا مركز لها.

5- كل هذا يعنى إنكار فكرة العام والعالمى والإنسانى بشكل عام.

6- كل هذا يعنى نهاية الميتافيزيقا، بل ونهاية فكرة الحقيقة، فالقضاء على بقايا الميتافيزيقا المتمثلة فى الحديث عن الكل المتجاوز أدى إلى القضاء على الحقيقة.

وانطلاقا من هذا، أعلن نيتشه أن الإيمان السائد بأن العقل الإنسانى قادر على التوصل إلى علم يستطيع أن يزوده بمعرفة يقينية وأنساق أخلاقية (أى أن بوسع العلم والعقل أن يحلا محل الدين) هو وهم ليس إلا، وأن المركزية التى تخلعها الفلسفة الهيومانية على الإنسان مركزية زائفة، فهو كائن طبيعى ليس له أهمية خاصة. فعند كوبرنيكوس الإنسان يتقدم حثيثا نحو التقليل من شأن الإنسان وقد أصبحت إرادته أن يقلل من شأن نفسه “واحسرتاه”! أين إيمانه بكرامته وفرادته، أين اعتقاده بأنه لا يمكن أن يحل محله شىء فى سلسلة المخلوقات؟ لقد ولى كل هذا بلا رجعة، فقد أصبح الإنسان حيوانا بالمعنى الحرفى الكامل. هذا مقابل أن كان فى إيمانه يكاد يقترب من مصاف الآلهة. منذ كوبرنيكوس، يبدو أن الإنسان يدور فى سطح مائل، ولذا فإن سقوطه يتسارع إلى ماذا؟ إلى العدمية؟ بل وفكرة الإنسان ككائن مستقل والذات الحرة المستقلة هى وهم آخر. فالذات ليست سوى قناع ووهم ورثناه من عصر النهضة يُرضى غرورنا الإنسانى، بل وأعلن نيتشه أن الطبيعة ذاتها لا قداسة لها، فهى مجموعة من القوى المتصارعة، والحديث عن أى مطلقية – من ثم – هوعبث، فكل الأمور مادية وكل الأمور المادية متساوية. وكل الأمور المتساوية نسبية. إن الفلسفة الحديثة الحقة (حسب تصور نيتشه، تلك الفلسفة التى تحققت فيها اللحظة العلمانية تماما) هى فلسفة تصدر عن فكرة موت الإله وإزالة ظلاله، أى اختفاء أى نقطة ثابتة أو صلبة أو أى مرجعية متجاوزة حيث يجب التحرك داخل إطار مادى طبيعى صارم يتسم بالسيولة الكاملة إذ أنه يساوى بين الأشياء كلها ويسويها. وقد يكون من الأمور التى لها دلالة أن أخذ عبارة وردت فى آخر أعمال نيتشه (1888) كان “ديونيزوس ضد المصلوب” وهى عبارة تعنى “إما أنا أو الإله” أو “إما الواحد أو الآخر”. (وفى عبارة شهيرة أخرى تساءل نيتشه: “إذاكان الإله موجودا فماذا أنا إذن؟”) بمعنى أنه رأى أنه لا يوجد أمام الإنسان سوى طريقين اثنين: إما أن يتحقق الحلم الإنسانى الهيومانى ونكون ما نريد ونستبعد الإله تماما، أو أن نسقط فى العدم دون عزاء أو سلوى، ونقبل مصيرنا فى صمت مأساوى، وقد أدرك نيتشه أن البديل الأول غير متاح، ومن ثم فلا مفر من الثانى، وقد أعلن نيتشه أن أكثر الضيوف بشاعة قد جاءنا، وأننا دخلنا مرحلة العدمية.

ويمكن القول أن البنية الأساسية لفكر نيتشه تأخذ شكل حركة من العالم الموضوعى الثابت المستقر الذى يخضع لمعايير أخلاقية ومعرفية خارجة عنه والذى يمكن للذات الإنسانية الثابتة المستقرة إدراكه إلى عالم متغير لا يخضع لأى معايير سوى تلك التي تنبع منه، عالم الكمون الكامل. وهو عالم تُرَد فيه كل المستويات المعرفية والأخلاقية إلى مستوى أدنى وأقل تحددا وصلابة وهي الذات الإنسانية التى تُرَد بدورها إلى مبدأ واحد فيذوب الجزء فى الكل ويرد الكل إلى مبدأ واحد له أسماء عدة، وهو فى نهاية الأمر وفى التحليل الأخير مبدأ واحد كامن فى الطبيعة / المادة. وهو يأخذ شكل قوة تدفع المادة وتتخلل ثنايا العالم وتضبط وجوده، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شىء ولا يعلو عليها أحد، وهى النظام الضرورى والكلى للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضا، يحوى داخله مقومات حركته وكل ما يلزم لبقائه وفهمه. ورغم سريان هذه القوة فى العالم إلا أنه لا يتسم بأى توازن، فهو يتكون من مجموعة من القوى المتناحرة والمتصارعة التى ليس لها بنية واضحة، لأن المبدأ الواحد الكامن فى العالم مبدأ غير عاقل لا يزودها بأى تماسك أو وحدة أو اتجاه أو غاية، ومن ثم فهو عالم صراعى تحكمه الصدفة والفوضى لا ثبات فيه لقيم أو مطلقات، ولعل السمة الأساسية لعالم نيتشه هى أن الإله بالمعنى المعرفى قد انسحب تماما منه وأن ظلاله لم يعد لها وجود. ولنقارن هذا العالم النيتشوى بعالم الفلسفات التقليدية والإيمانية بل وعالم العلمانية فى مرحلة هيمنة الفكر الإنسانى (الهيومانى) التى كانت لا تزال فيه ظلال الإله ممتدة فى العالم:

1- العالم التقليدى: عالم مركزه هو الإله (أو المطلق الإنسانى، أى الجوهر الإنسانى) المتجاوز له، الإنسان فيه (بسبب علاقته بالإله أو بجوهره الإنسانى) جزء مستقل عن الطبيعة يختلف عن الحيوانات، فهو مادة وروح، الإنسان بسبب اختلافه عن الطبيعة يمكنه أن يعرفها ويتأمل فيها ويتجاوزها، كما يمكن أن تقوم منظومات أخلاقية متجاوزة لحركة المادة يحتكم إليها الإنسان.

إن ما يسم هذا العالم هو أن الإله أو الجوهر الإنسانى هو مركزه المتجاوز له، ولذا فإن ثمة مسافة تفصل بين الإله والطبيعة، تنعكس فى العالم على هيئة مسافة بين الإنسان والطبيعة فى سلسلة من الثنائيات: مادة/ روح – فعل مباشر/ تأمل – خير/شر – سبب/نتيجة – جميل/ قبيح.

2- عالم نيتشه: عالم انسحب منه الإله تماما (أو حل فى المادة تماما وذاب فيها فأصبح العالم بلا مركز) – الإنسان إذن جزء من المادة/ الطبيعة لايوجد أى فارق جوهرى بينه وبين كل الكائنات الطبيعية الأخرى مثل الحيوانات، فهو جسد وغرائز – الإنسان لأنه جزء من الطبيعة لا يمكنه أن يعرفها ولا يتجاوزها، فالجزء لا يمكنه أن يحيط بالكل أو أن يتجاوزه – لا يمكن ظهور منظومات أخلاقية متجاوزة لحركة المادة، فالإنسان هو جزء من هذه الحركة خاضع لها.

إن السمة الأساسية لعالم نيتشه هو تصاعد معدلات كمون المركز فى المادة إلى أن يختفى تماما، الأمر الذى يعنى اختفاء المسافة بين الخالق ومخلوقاته، وبين الإنسان والطبيعة، وينجم عن هذا استحالة المعرفة والأخلاق فيصبح الجسد روحا، ويصبح الفعل المباشر هو الفعل الوحيد الممكن، ويصبح الخير هو الشر أو تنتفى ثنائية الخير والشر، بل وتنتفى ثنائية الإنسان والطبيعة، بل وكل الثنائيات الأخرى مثل ثنائية الثابت والمتغير، ويظهر عالم فى حالة سيولة شاملة سيولة لا تسم مجالا دون آخر وإنما تسم كل المجالات الممكنة (الطبيعية والإنسانية).

وحينما تختفى المسافات تماما يصبح العالم كلا عضويا واحديا مصمتا مغلقا لا مركز له، لا يشير إلا إلى ذاته، ولاتوجد فيه أى حدود تفصل بين الأشياء، فتصبح المعرفة مستحيلة والأخلاق كابوسا، بل وتختفى الهوية ذاتها فى العالم السائل الذى لا توجد فيه حدود أو ثوابت فتصبح الأنا هو ويصبح الهو أنا، والمقدس نسبيا والنسبى مقدسا والدال مدلولا والمدلول دالا،ويظهر عالم ما بعد الحداثة.

وما يميز نيتشه عمن سبقوه من الفلاسفة أنه يقابل هذه العدمية الكامنة فى موقفه المادى بغنائية متشائمة عبثية مأساوية، تختلف تماماً عن الغنائية المتفائلة للأناشيد الإنسانية (الهيومانية) التى عزفها الإنسان الغربى منذ عصر نهضته، حينما قتل الإله (أو نحاه جانبا) وأعلن أنه فى مركز الكون وأنه قادر على إعادة صياغته وتسخيره دون سدود أو قيود، وحيثما بدأ مشروعه الاستنارى التحديثى بتفاؤل شديد لاتشوبه أى شوائب ولا تعكر صفوه أى أحاسيس مظلمة.  فى كتاب العلم المرح، فى مقطع بعنوان “المجنون”، حين يعلن المجنون موت الإله فهو لا يعلن اكتشافه فى حبور وغبطة وإنما يعلنه وهو يجرى فى السوق صارخا يتألم معلنا “مقتل الإله” (لقد تلاشى الإله؟ بل أقول لكم نحن الذين قتلناه – أنتم وأنا .. كلنا قتلة)، ويسأل أسئلة تدل على حزنه المجنون على اختفاء الإله: كيف تمكنا من فعل ذلك؟ كيف شربنا كل ماء البحر؟ من ذا الذى أعطانا الإسفنجة التى مسحنا بها الأفق كله؟ ماذا كنا نفعل عندما فككنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين نتحرك الآن؟ بعيدا عن كل الشموس؟ ألسنا فى حالة سقوط دائم؟ إلى الخلف، إلى الجنب، إلى الأمام فى كل الاتجاهات؟ ألا يوجد طريق إلى فوق أو إلى أسفل، إنها أنشودة من اكتشف الاستنارة المظلمة ويعرف أن عصر ما بعد الحداثة والدوال الراقصة والتفكيك الكامل على وشك الإطباق على الجميع.

1- أنطولوجيا نيتشه:

أعلن نيتشه، إذن ظهور عالم يتسم بالسيولة، اختفى فيه مفهوم الوجود الثابت المستقر أساس كل الفلسفات الغربية، الدينية واللادينية، ولكن نيتشه مع هذا، يرد الكون بأسره إلى مبدأ سماه “الحياة” متفقا فى هذا مع شوبنهاور وغيره من فلاسفة العصر الذين تبنوا استعارة عضوية فى رؤيتهم للكون، ولكن نيتشه يختلف عن شوبنهاور، الذى قال بأن الكائنات تتولد إلى البقاء وأن الحياة هى إرادة الحياة. فنيتشه يرى أن الوجود هو فعلا الحياة، وأن الحياة هى فعلا إرادة، ولكن الإرادة هى إرادة القوة وتقديسها، ويُعرِّف نيتشه القيمة بأنها أكبر مقدار من القوة يستطيع الإنسان أن يحصله ويستولى عليه. فالحياة لا تستطيع أن تحيا إلا على حساب حياة أخرى، لأن الحياة هى النمو وليس مجرد البقاء، وهى الرغبة فى الاقتناء، والزيادة فى الاقتناء، وهى التغير والصيرورة بلا ثبات (غابة داروين الرائعة)، وما دامت الحياة نموا ورغبة فى الاقتناء، وفى المزيد من الاقتناء فإنها محتاجة إلى شىء آخر خلافها وخارجها كى تتحقق، فكأن الحياة إذن إرادة استيلاء على الآخرين، إرادة سطوة واستغلال، وبمقدار شعورنا بالحياة وبالقوة (والحياة مترادفة مع القوة) يكون إدراكنا للوجود، فإرادة القوة هى جوهر الحياة وعن طريقها يمكن تفسير كل مظاهر الوجود، فالحياة إن هى إلا صراع وتقاتل ودماء.

وإرادة القوة هى التى تحرك الأفراد والتاريخ والصراعات العسكرية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثورات الأخلاقية والجمالية والعلاقات بين الأفراد (بما فى ذلك أكثرها خصوصية وحميمية). وهى كلها صراعات لا يمكن فهمها إلا فى إطار هذا الصراع اللامتناهى بين إرادات مختلفة والتى تنبع منها أشكال مختلفة للهيمنة. إن إرادة القوة، بهذا، أصبحت الركيزة الأساسية لفلسفة نيتشه وأصبحت مرجعيتها النائية والأساس الأنطولوجى والأخلاقى الثابت لنسق فلسفى ينكر الثبات ويعلى من شأن الصيرورة باعتبارها الثابت الأوحد، أى أن القوة هى ميتافيزيقا نيتشه الخفية ونقطة الثبات التى تحل محل فكرة الوجود أو العقل فى الفلسفة التقليدية، ومحل فكرة الصدفة فى الفلسفات الطبيعية/ المادية. وهى لا تختلف عن كل من الصدفة أو الطبيعة/ المادة فى ماديتها وعبثيتها ولكنها تختلف عنهما فى درجة الكمون. فالصدفة والطبيعة/ المادة لهما وجود موضوعى، أما القوة فهى وجود ذاتى موضوعى يعبر عن سيولة الذات المادية المتغيرة والموضوع المادى المتغير وعدم تحددهما.

2- المنظومة المعرفية:

الفكر فى تصور نيتشه ليس انعكاسا مشوها للواقع ولا محاولة اجتهادية لتفسيره، وإنما هو تعبير عن إرادة القوة. ويذهب نيتشه إلى أن ثمة مبادئ للفكر والمنطق تستند إليها المعايير التى يصوغها الإنسان ويقرر حسبها ما هو حقيقى زائف وما هو صواب وخطأ (مثل: الذات – الموضوع – الجوهر – الكل – الشىء – العلية – السبب والنتيجة – الشكل والمضمون – الغائية – وجود واقع ثابت ومستقر – تساوى الأشياء المتشابهة – أنه يمكن قياس الأشياء). هذه المبادئ – فى تصوره – ليست أفكارا بريئة من المصلحة أو التحيز ولا ظاهرة ولا أصلية كما قد يتراءى لأول وهلة، كما أنها أفكار ليست مادية تماما وإنما هى مجرد أوهام وأساطير وعقائد، واستراتيجيات ابتدعها البعض ليهرب من حالة السيولة والصيرورة الدائمة.

العقل إذن، وهم، فهو ليس شيئا فى ذاته وإنما مجرد تعبير عن عناصر متلاطمة فى الواقع، فهو مجرد ظاهرة مصاحبة لظواهر أخرى (بالإنجليزية: إبى فينومنون Epiphenomenon) . لكل هذا، لا يوجد فى واقع الأمر عقل إنسانى واحد وإنما هناك عدة عقول تتمايز بتمايز الظروف والإرادات. ومن هنا يختلف الرأى بين العقول المختلفة إزاء الأمر الواحد، ولا يوجد عقل كلى يحكم الكون ويسوده فتصبح الظواهر والأحداث معقولة، فالعقل الوحيد الذى نعرفه هو هذا العقل الضئيل الموجود فى الإنسان، والأنا المفكرة والذات الثابتة التى لها حدود واضحة وهم، إذ توجد دوافع كثيرة مظلمة لا يدركها حتى صاحبها رغم أنها تحدد سلوكه رغم كل عقلانيته الظاهرة.

ثمة صيرورة كاملة فى الواقع ولا يوجد عقل إنسانى متكامل شامل، والمنطق ليس نتاج ملاحظة الواقع وإدراك تماثل الحالات، والفكر ليس ثمرة الرغبة فى معرفة الحقيقة، ولكن لماذا ظهرت الأفكار الكلية الثابتة ومقولات المنطق؟ يرى نيتشه أن سر ظهورها أنها أساطير وأوهام وعقائد تعود بالنفع على أصحابها، فتبنِّى مثل هذه الأفكار يزيد فرص الغزو والبقاء والسيطرة والامتلاك بالنسبة لهم، أما من رفضوا هذا الوهم واستمروا فى التعامل مع الواقع باعتبار أن كل ظاهرة فريدة فقد هلكوا، وهكذا ظهر مفهوم الجوهر الثابت، وهو فكرة أساسية لقيام المنطق ولكنها ليس لها أى أساس فى الواقع الموضوعى المادى.

وبذلك، فقد أخذ نيتشه خطوة حاسمة إذ خلع النسبية والسيولة المعرفية على كل شىء، على الحقيقة الموضوعية وعلى الذات المدركة، وبدلا من ذلك يفترض وجود أصل حقيقى (بناء مادى تحتى) وهو الفعل المباشر والغريزة والنـزوع البيولوجى الخام للبقاء والقوة، ثم يأتى بعد ذلك الفكر (بناء فكرى فوقى) الذى لا يشاكل الواقع وإنما يشكل مسوغا وتبريرا لسلوك صاحب الفكر ولأفعاله المادية الغريزية المباشرة النابع من حيويته وكيانه البيولوجى، وهى أفعال بسبب مباشرتها مكتفية بذاتها، فهى كالكائن الحى الذى لا يخضع إلا لقوانينه الداخلية، أو كالذرة التى تندفع بقوتها الذاتية فى أى اتجاه تشاء ولا تتهيب أى شىء خارجها (ولنلاحظ أن الفعل المباشر لا يتسم بأى ثنائية ولا توجد فيه فراغات فهو نظام مغلق تماماً مثل عقل الإنسان وهو أيضا كيان منغلق على ذاته لا علاقة له بالعقول الأخرى).

وقبولى لفكر آخر هو مجرد إذعان لإرادة القوة المنتصرة وليس فعلا عقليا، لا توجد إذن حقائق وتفسيرات لها وإنما توجد تفسيرات وحسب هى فى واقع الأمر تعبر عن توازن القوى.

إن ما بالمعرفة أو الحقيقة هو منظور وحسب، لا يتماثل مع الواقع أو يقترب منه، وإنما يعبر عن مدى نجاح إرادة القوة فى فرضه، ونجاحه فى أن يفرض نفسه يعنى أنه حقيقى (فالناجح هو الحقيقى والفاشل هو غير الحقيقى). هذا الفكر الذى لا يستند إلى منطق وإنما يستند إلى منطق القوة هو ما يسميه نيتشه الحقيقة الديونيزية (الحقيقة التى يؤمن بها الإنسان الأعلى) وهى حقيقة تحاول أن تهرب من محاولة التفسير وتقبل بحقيقة نهائية وحيدة مأساوية: الصيرورة الدائمة والتعددية اللانهائية.

3- المنظومة الأخلاقية:

الإنسان إنسان طبيعى، جزء لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة ليس له أى صفات متجاوزة للطبيعة، مكتف بذاته تماما، وهو ليس فى حاجة إلى أى قيم عليا ولا يستمد أى شىء من عالم متجاوز لعالم الطبيعة/ المادة، وهو إنسان ليس له عقل مسبق a priori وليس له روح خالدة ثابتة مفارقة لجسده الفانى الذى يوجد فى حالة صيرورة، ولكن مع هذا تظهر منظومات أخلاقية، هذه المنظومات الأخلاقية لا تختلف البتة عن المنظومات المعرفية، فالأخلاق تذوب فى رمال النسبية المتحركة التى تبتلع كل شىء، فالبشر لا يستخدمون الأخلاق إلا لتبرير أفعالهم، فالأصل هو الفعل، وما الأخلاق سوى التبرير والتسويغ، فالقيم إن هى إلا جزء من العملية الإبداعية للإنسان وحركيته (الحق أن الناس قد أعطوا أنفسهم كل خيرهم وشرهم، والحق أنهم لم يتلقوه ولم يجدوه). ومن ثم، فإن بوسع الإنسان أن يضفى أى معنى يشاء على الكون بأى طريقة يراها، فالمعنى مرتبط بالهدف والهدف مرتبط بالنتيجة وبالفعل: سلسلة عضوية متلاحقة لا يفصل بين حلقاتها فاصل، والأخلاق هى معايير صنعها الإنسان لهدف معين، وفى وسعه أن يبدلها إن شاء وأن يضع لنفسه هدفا آخر، فالأخلاق مرتبطة بالنتيجة وبالفعل، أى أنها هى الأخرى حلقة فى السلسلة المتلاحقة (هذا هو جوهر الفلسفة البرجماتية). فى هذا الإطار يمكن فهم منظومة نيتشه الأخلاقية غير المتجاوزة للمادة، فهو يرفض ابتداءً التمييز بين الخير والشر، لأنه تمييز يفترض وجود قيم ثابتة خارج الإنسان يمكن للإنسان أن يحتكم إليها، وهو تمييز يعود إلى تلك الأخلاقيات الدينية التى أزاحت القيم الطبيعية باعتبارها مصدرا حقيقيا للمطلقية والأساس الراسخ لكل أخلاق، ويقرر نيتشه إعادة تقييم القيم، أى أن يعود بالقيم إلى أصلها الطبيعى المادى، فيرفض أى ثبات أو مطلقية وأى وجود للعالم الخارجى.

4- السادة والعبيد:

ثم يطرح نيتشه رؤيته لأصل الحضارة والأخلاق، فيبين أن الحضارات الكبرى قد نشأت حينما ظهرت طائفة من الأرستقراطيين الممتازين – على شكل حيوانات مفترسة شقراء (وحش نيتشه الأشقر الشهير)- كانت تجوب الأرض فى آسيا وأوربا وجزر المحيط الهادى وتُغِير على كل الأراضى التى تمر بها، وعلى هذا النحو الصراعى الداروينى الحيوانى الرائع البسيط نشأت الحضارة اليونانية والرومانية والجرمانية، وعلى هذا النحو استمرت هذه الحضارات، إذ إنه كلما مرت هذه الطائفة المفترسة الشقر (المرتبطة بالطبيعة الملتصقة بها) على شعب من الشعوب أخضعته وفرضت عليه سلطانها، واحتقرته وباعدت بينها وبينه من مسافات، مكونة طبقة خاصة متمايزة، وأخذت لنفسها شرعة من القيم والأخلاق تؤكد بها سيادتها واستمرار سطوتها وسيطرتها، وتضمن هذه الطبقة لنفسها الاستمرارية والشرعية والسطوة بالحفاظ على قوتها الجسمية والصحية فهى تعنى بكل ما يتصل بالقوة والغزو والحرب والمخاطرة والصيد والرقص والألعاب البدنية، وعلى العموم كل ما يكشف من حيوية فياضة، وهذه الطائفة هى الأقلية دائما، فإنها تعمل جهدها كى تحافظ على صفاتها وتظل نقية لا يتطرق إليها الانحلال من جراء اتصال الشعوب المسودة أو الطبقات الدنيا بها. والطبيعة الحلولية الوثنية العميقة لهذه الطبقة الطبيعية الشقراء المفترسة تظهر فى حديث نيتشه عن أعضاء هذه الطبقة بأنهم يقدسون التقاليد والماضى ويتخذون من ذكرياتهم مجالا للتفاخر وينبوعا للقوة، أى أنه ككيان معنوى ملتف حول ذاته، نصَّب نفسه مرجعية ذاته، هذا الالتفاف حول الذات يظهر فى أن عبادتهم تأخذ شكل توقير الأجداد وتقديم القرابين لأرواحهم، ولا يلبث هؤلاء الأجداد أن يصبحوا الآلهة التى يعبدها أعضاء هذه الطبقة المفترسة، وعضو الطبقة الأرستقراطية فى عبادته للآلهة من أسلافه يقدس صفاته النبيلة نفسها، أى أننا قد وصلنا إلى أرض القومية العضوية، حيث يصبح الإنسان هو العبد والمعبود والمعبد، وتتوثن الذات ويظهر الرايخ الثالث.

انطلاقا من هذا التصور يُقسم البشر إلى أقوياء وضعفاء، يحوى كلٌ داخله معايير الحكم عليه، ومن ثم يوجد نوعان من الأخلاق: أخلاق السادة الأقوياء التى يبررون بها أفعالهم المباشرة، وقيم العبيد الضعفاء التى يحاولون هم أيضا عن طريقها تغطية عجزهم وتحقيق البقاء. والسادة قادرون على الفعل المباشر، يتسمون بالقوة والاعتزاز بها، كما يتسمون بغريزة السيطرة وحب الغزو والمخاطرة، يحتقرون الرحمة، ويجدون النعيم فى الانتصار والتدمير ويشعرون بسرور عميق وهم يعذبون الآخر: كل سيد عالم قائم بذاته، فهو مرجعية ذاته، إنسان طبيعى متأله خالق نفسه، عالم عضوى لا تتخلله مسافات ولا يتسم بعدم الانقطاع، كالمادة الصماء أو مثل قوى الطبيعة: كالعاصفة التى تهب وتقف شامخة وراء الخير والشر. فهو قوة محايدة لا تشعر بشىء (تخلَّص من الضمير ومن الشفقة والرحمة .. تلك المشاعر التى تطغى على حياة الإنسان الباطنية .. أقهر الضعفاء وأصعد فوق جثثهم”). وهو حتى أمام العدم لا يشعر بالتشاؤم، فالتشاؤم يعنى توقع المعنى وعدم العثور عليه، والإحباط يعنى رغبة فى التجاوز وفشل فى تحقيقه، أما السادة فلا يشعرون بالتشاؤم لأنهم لا يتوقعون شيئا، شأنهم فى هذا شأن العناصر الطبيعية.

وقبل أن نسترسل فى الحديث عن أخلاقيات الضعفاء، يجب أن نتوجه إلى بعض الصفات الحميدة التى ينسبها نيتشه للسادة، فهى تشكل – فى تصور البعض – نوعا من التسامى وإطارا جيدا لظهور منظومة فلسفية حديثة. فالأرستقراطى السيد يشمئز من الضعة وجميع أنواع الاستخذاء، وأبغض شىء لديه الكذب ونحوه من نفاق وملق، وهو لا يعرف أنصاف الحلول والمساومة والمداهنة، ويميل  إلى العفو عن الآخرين لا لأنه يحب العطف ولكن لأن قوته غريزة، فتراها تفيض بنفسها على الآخرين (كالطبيعة المتدفقة). ومع هذا فإنه لا يقبل مطلقا العفو من الآخرين لأنه بقوته يأخذ ما له دون أن ينتظر حتى يتفضل به عليه الآخرون، وهو يطلب من نفسه أكثر من الآخرين وهو ينتصر على نفسه وعلى أفعاله ويوجهها.

ولكن هل تمثل هذه الصفات تساميا بالفعل؟ فى تصورنا أنه لا يوجد تسام أو تجاوز لأخلاق الوحوش الشقر المفترسة، فكل صفات الأرستقراطى تزيد من مرجعيته الذاتية الكامنة ومن ثم فلا يوجد أى مقاييس خارجة عنه،  بل يظل هو المطلق ذاته ومن ثم لا يمكن محاكمته، كما أن كل شىء فى الأرستقراطى مرتبط بالقوة، فهو حين يعفو فهذا غير ناجم عن حب لأخيه الإنسان أو أى منظومة خلقية متجاوزة له (فمفهوم الأخوة مفهوم غير طبيعى غير مادى) وإنما ناجم عن تدفق غريزى فى القوة أى عن مزيد من الطبيعة والوحشية والإمبريالية، والعطف ليس اختيارا أخلاقيا حرا، وإنما سلوك بيولوجى طبيعى، أى أنه سلوك يتجاوز الخير والشر ولا يتسم بأى تعال أو تسام.

والسادة أقلية والعبيد هم الأغلبية، والعبيد غير قادرين على الفعل المباشر، ويسمون عجزهم هذا “الصبر” أو “الإحسان” أو “الطيبة”، وهم مسالمون متواضعون لا مطمع لهم فى غزو، ولا رغبة لهم فى سيادة، يؤثرون السلامة ويبتعدون عن المخاطر ويسمون حاجتهم إلى الآخرين وعجزهم عن الاعتماد على النفس “رحمة”، فكل عبد فى حاجة إلى الآخرين ولا يكتفى أبدا بذاته، ولإخفاء عجزهم والتعويض عنه، ابتدعوا أخلاقيات الضعفاء هذه، فأخلاقهم إن هى إلا نتيجة الذُّحْل (الحقد – الثأر) : أى الشعور المتكرر بإساءة سابقة لقيها الإنسان ولم يستطع أن يردها أو أن يتشفى ممن قدمها لعجز فيه عن رد الفعل فى الحال، فيتحول الشعور إلى طاقة مكبوتة تعبر عن نفسها من خلال قنوات غير القنوات الأصلية الطبيعية ومقابلة العمل بالمثل، فيلجأ إلى طرق خفية غير مباشرة ولكن تَبنِّى أخلاق الضعفاء قلب الدنيا رأسا على عقب، لأن الأقوياء الذين فى مقدورهم أن يرقوا بالجنس البشرى اضطروا إلى الخضوع للضعفاء والتخلى عن واجبهم نحو تنمية قدراتهم، الأمر الذى أدى إلى توقف الجنس البشرى ككل عن الرقى، وهناك نقط هامة فى تاريخ البشر انتصرت فيها الثقافة العقلية، أى ثقافة الضعفاء من الحاسبين المحاسبين، ففى الحضارة اليونانية قبل سقراط، كانت هذه الحضارة حضارة عدمية متشائمة، ثم جاء سقراط فكان علامة على انحلال الخلق اليونانى، إذ أن قوة الجسد والروح القديمتين أصبحت يُضحى بها شيئا فشيئا من أجل ثقافة عقلية مشكوك فيها، وهى تتضمن انحطاطا شديدا فى قوى البدن والعقل. لقد جاء العلم بدلاً من الفن، والعقل بدلا من الغريزة، وانتصر الروح الأبولونية على الروح الديونيزية التى هى دعوة إلى الاندماج المباشر بالطبيعة التلقائية فى صورتها الأولى قبل أن يشوهها العقل الخالص ويبعث فيها الثبات والجمود، ولعلاج هذا الموقف يقترح نيتشه قلب القيم والمعادلات الأخلاقية والعودة بالأخلاق إلى أصلها الطبيعى الوثنى المادى، وعلى الإنسان أن يرفض الترادف المألوف غير الطبيعى بين الخير والشر والتراحم والرحمة ويطرح بدلا من ذلك الترادف الطبيعى/ المادى بين الخير والقوة والغزو والغرور.

5- الإنسان الأعلى والمنظومة السياسية:

صفَّت فلسفة نيتشه كل الثنائيات وأنكرت وجود المركز وأعلنت ظهور عالم فى حالة حركة وسيولة، ولكنها – مع هذا- عينت نقطة ثبات فيه هى إرادة القوة، والتى يجسدها أقلية من السادة الأقوياء، ولكن السادة أنفسهم تبتلعهم السيولة والصيرورة فهم مجرد وسيلة لغاية أعلى، حبل مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى الهدف النهائى من الوجود، وهو صنو الإله أو المقابل الأرضى للإله، أو هو الإله الحى فى التاريخ، المتجسد فى مجموعة من البشر (الكلمة المطلقة والغاية النهائية).

ويذهب نيتشه إلى أن سعادة الأفراد وآلامهم وخيرهم وشرهم أمور تافهة يجب عدم الاهتمام بها حينما نتحدث عن الإنسان الأعلى ومستقبل الجنس البشرى، فهدف الوجود الإنسانى يجب ألا يكون تحقيق السعادة للأفراد وإنما تكثيف كل القوى للصعود بالإنسانية فى سلم الارتقاء فى الحياة وتحقيق كل الإمكانات الحيوية، إذ يجب أن يأتى من الإنسان ما يفوق الإنسان، والبشر أجمعهم لم يخلقوا إلا ليكونوا بمثابة السلم له.

ويبدو أن نيتشه كان يحدد هدفه فى البداية على أنه الجنس البشرى بأسره وأن الإنسان الأعلى سيولد من البشر أجمعين، ولكن يبدو أن طبقة السادة وحدها هى المرشحة أن يولد منها الإنسان الأعلى، ولذا يجب توظيفها هى وحدها فى هذا الشأن، وأهم آلية لتوريد الإنسان الأعلى هى أن تقوم القلة الأرستقراطية (السادة) بنبذ الأديان التى تنفر من الحياة الأرضية (الطبيعة/ المادة) والتى تنقل البشر من  مواقع الحياة (الطبيعة المادية) إلى صور وتهاويم لعالم آخر، وتسلب منهم عناصر القوة وتبقيهم فى حالة الضعف والمهانة، وكما أن ماركس كان يطرح صورة للمجتمع الشيوعى الجديد باعتباره صدى للمجتمع الشيوعى البدائى (فالنهاية لابد وأن تشبه البداية فى الأنساق الدائرية العضوية)، فإن نيتشه يرى أن طبقة السادة عليها أن تعود إلى مجدها الغابر حينما كانت جماعات الوحوش الشقر المفترسة تعيش منفردة حسب قوانين الطبيعة، فالإنسان الأعلى – هذا الإنسان/ الإله- إن هو إلا الإنسان الطبيعى، الطبيعى تماما المادى تماما، الذى يجسد إرادة القوة وتتجسد من خلاله، وهو على وجه التحديد الإنسان الطبيعى المادى الغربى الأشقر المفترس، رجل أوربا النهم الذى التهم العالم فى عصر الإمبريالية الغربية وأباد الشعوب ودمر الكون.

هذا الإنسان الأعلى لم يخلق ليعيش فى دعة وسلام وطمأنينة، فواجبه أن ينمو ويحقق إمكانياته ويرتقى دونما شفقة على نفسه أو رحمة بالآخرين وهوسيحقق ارتقاءه من خلال الاختيار الطبيعي متجاوزا الخير والشر، ولكنه فى ذات الوقت جزء من الغاية النهائية، أى تحسين الجنس البشرى (الذى سيصبح فى واقع الأمر الجنس الغربى الأشقر). إن الإنسان الأعلى يشبه – من بعض الوجوه- ملكة النحلات التى يقوم على خدمتها الشغيلة (الضعفاء والعبيد)، ولكنها – مع هذا- ليس لها إرادة مستقلة، فهى يتم حوسلتها تماما مثل الشغيلة أنفسهم، فعالم النحل عالم دقيق رائع رتيب آلى رهيب لا تتخلله أى ثغرات ولا يوجد فيه أى قيم متجاوزة للدورة الكونية أو البرنامج المقرر، يجرى العمل فيه من أجل غاية مجردة تسمى الحياة أو الطبيعة أو الآلة الطبيعية التى تكرر نفسها (أو المجتمع النازى أو المجتمع العلمانى النماذجى الذى تم ضبط إيقاعه تماما)، هذا الإنسان الأعلى المتجاوز للمادة والأخلاق هو جزء لايتجزأ من نسق هندسى، وثمة إشارات مختلفة فى كتابات نيتشه إلى تحسين النسل وتطوير الإنسان الأعلى، أى أن استعارة ملكة النحل لم تكن بعيدة تماما عن ذهنه، ومن الواضح أنه – مع موت الإله وسيولة الواقع واختفاء القيم – يموت الإنسان، إذ إنه يفقد مطلقيته (أى قدسيته) ومكانته الخاصة ويصبح شيئا مثل كافة الأشياء لا تفصل بينه وبينها أى ثغرات، وإذا كان ثمة تميز فهو تميز ملكة النحلات: فهى شىء جميل ورائع، ولكنها فى نهاية الأمر وفى التحليل الأخير، حشرة طبيعية / مادية، لا تعى من أمرها ولا تملك منه شيئا، ونابليون هو تجسد لفكرة الإنسان الأعلى، آخر الرومان (الوثنيين)، فهو رجل لا يعذبه ضميره، أثبت أننا يمكن أن نفعل ما نشاء وأن نملى إرادتنا، وهو يمثل التناقض العميق بين الحرية والأخلاق، فنابليون يقف وراء الخير والشر (وهذا هجوم سافر على كل مقولات كانط الاستنارية الأخلاقية الإنسانية).

ويبدو أن هناك نظيرا للإنسان الأعلى وهو الدولة العليا، وقد كان نيتشه يرى أن الدولة هى تعبير عن إرادة القوة وأنها المؤسسة التى تُستخدم لتوزيع القوة، وأن المعيارية السياسية تظهر من خلال هذا، وهذه الدولة هى التى يمكن أن تسيطر على العالم، ويصبح مواطنوها أسياد العالم. وقد ذهب نيتشه إلى أنه لو اتحدت المقدرة الألمانية على التنظيم مع مصادر روسيا (المادية والبشرية)، ولو تزاوج الجنس الجرمانى والسلافى وانضم إليه الممولون اليهود، فإن هذه التركيبة يمكن أن تؤدى إلى السيادة والهيمنة على العالم.

نحن هنا نسمع صوت الشعب العضوى (الفولك) وهتلر وفكرة المجال الحيوى ونرى بذور قواعد الصحة النازية التى أودت بالملايين، وقد تأثر النازيون بالفعل بفلسفة نيتشه الصراعية العلمانية وأطروحاته الداروينية الأساسية، فأسسوا الدولة النازية التى حاولت أن تُرشدُ العالم (الطبيعة والإنسان) بأسره وتحوسله وتحوله إلى مادة خاضعة للنماذج المادية والكمية، نافعة للجنس الآرى، واستخدموا مفاهيم مثل: إرادة القوة والإنسان الأعلى وإعادة تقييم القيم وتحسين النسل والقتل والرجم، وقد يكون مما له دلالة أن الفيلم النازى الشهير عن هتلر الذى أنتج عام 1942 كان عنوانه انتصار الإرادة.

6- العود الأبدي:

الإنسان الأعلى يتجاوز الخير والشر والثواب والعقاب، وكبديل لكل هذا تظهر فكرة محورية فى منظومة نيتشه فكرة العود الأبدى، وهى محاولة نيتشه لأن يستوعب الاستمرار فى الحركة الدائمة والثبات والصيرورة حتى لا يهرب شىء أبدا من قانون الحركة، ولذا يتم إعادة تعريف الزمان ويظهر العود الأبدى، إن الدورة الحالية للزمان ستنتهى ولكن لن يتوقف الزمان، إذ إنه سيبدأ فى التو دورة أخرى لا تختلف عن سابقتها فى أى شىء، وحينما تنتهى ستبدأ من جديد وبنفس الطريقة، فهو عود أبدى مادى آلى رتيب، والإنسان – كالساعة الرملية- سيعود من جديد ويذهب من جديد دائما أبدا، إنها تكرار أبدى لنفس الشىء ولنفس الحياة. ولعل العود الأبدى هو بديل فكرة الخلود ويوم القيامة فى الديانات السماوية، وهى الحل النيتشوى لمشكلة الموت، وهو حل يزيل ظلال الإله تماما ويزيل الأصول الربانية للإنسان.

والعود الأبدى يعنى تكرار اللحظة بكل ثباتها وصيرورتها، ولكنه ليس تقبلا لمضمون اللحظة الثابتة، وإنما هو تأكيد لصيرورتها، ولذا فأنا أرغب أن تتكرر اللحظة وأن تزول فى ذات الوقت، أى أننى أقبل شكل الوجود الذى تعتبر فيه الصيرورة هى الأساس (ويذكرنا هذا بمصطلح دريدا “الاختلاف” أو “لاديفيرانس la difference حيث كل شىء مختلف مرجأ على وشك أن يتحقق ولكنه لا يتحقق أبدا)، وبذا تحل مشكلة الذات والموضوع والثبات والحركة، يقول جوته للحظة: “امكثى إلى الأبد”، وهذا يبين رغبته فى ثبات أبدى فى عالم الصيرورة، أما نيتشه فيقول للحظة: “فلتكررى نفسك إلى الأبد” وهو ما يعنى الإذعان الكامل للصيرورة والإدراك المأساوى لأنه لا يوجد أمل فى المستقبل (كما يتصور كانط وهيجل وماركس وكما تزعم الأفكار الأخروية المسيحية)، وإنما سيتكرر نفس الوجود/ الصيرورة دائما، وما سيحل محل حياتى الحالية هو نفس الحياة مرة أخرى، أى أن الحياة الحالية هى كل ما هناك دون أى أمل فى الخروج منها حتى ولو فى دورة كونية قادمة. وفى هذا أيضا إلغاء لفكرة الهدف، فالتكرار هو ثبات الحركة، وهو حركة لاتجاه، وتقبل العود الأبدى فى هدوء، هو حب القدر (باللاتينية: أمور فاتى amor fati) وهو مايعنى تقبلا كاملا لحدود العالم الكمونى الذى نعيش فيه والإذعان لقوانينه اللا إنسانية باعتبارها الحدود المطلقة النهائية لكل الوجود، وإدراك أن عالمنا عالم ديونيزى سائل يخلق نفسه دائما ويحطم نفسه دائما ويكرر نفسه دائما وبنفس الطريقة، عالم بلا هدف يتحرك فى حركة دائرية عبثية، وفى تصور نيتشه أنه، من خلال حب القدر والإذعان للحدود وتقبل الدورات العبثية فإن الإنسان يحقق تحرره من الديانات ذات الهدف المتجاوز، بل ومن أوهام الفكر الإنسانى (الهيومانى) الذى يحاول تحقيق التجاوز داخل الكمون، أى أن الإنسان سيتحرر تماما من الأخلاقيات والأحلام والمستقبل والميتافيزيقا والحقيقة، ومن ثم يتحول عبء الوجود فى الصيرورة إلى مصدر للفرح والغبطة، إذ أن قبول العود الأبدى هو تأكيد أن الإنسان يوجد فى عالم الصيرورة ولا مفر منه.

7- فلسفة اللغة والفن:

وقد ترجمت فلسفة نيتشه نفسها إلى فلسفة فى اللغة وفلسفة فى الفن. أما فى عالم اللغة فقد ذهب نيتشه إلى أنه فى عالم السيولة الكاملة تختل علاقة الدال بالمدلول، فلنأخذ مثلا كلمة “روح”. هذه الكلمة تشير (فى الفلسفات التقليدية) إلى كل متجاوز لعالم الجسد والمادة، وهو ما يفترض وجود مسافة بين الروح والجسد. يذكر نيتشه هذا تماماً ويؤكد لنا انطلاقاً من رؤيته المادية أن الروح فى واقع الأمر تشير إلى الجسد، والجسد “إن هو إلا” ترتيب لبعض القوى الطبيعية وعمليات تجسد إرادة القوة، فالدال التقليدى هنا فقد علاقته تماما بمدلوله واكتسب فى فلسفة نيتشه مدلولا جديدا.

ونيتشه هو من أوائل الفلاسفة الذين شككوا فى موضوعية أى نص،  فالحقيقة إن هى إلا جيش من الاستعارات القديمة تَكَلس واستقر، والرؤية التقليدية تسقط فى ثنائية النص والحقيقة، بينما النص فى واقع الأمر هو مجرد نسيج يوصل جزءا من الحقيقة ويحجب جزءا منها، ومهمة المفسر هى الوصول عبر النسيج إلى الحقيقة الكامنة وراء النص. يلغى نيتشه المساحة بين النص والحقيقة ويصفى تلك الثنائية تماما ويقرر أن النص هو فعلا نسيج، ولكن النسيج هو ذاته الحقيقة، والذات المبدعة هى ذاتها جزء من هذا النسيج، فهى كالعنكبوت فى بيت العنكبوت (وهذا هو معنى عبارة دريدا الشهيرة “لا يوجد شىء خارج النص”)، ولايلغى نيتشه المسافة بين المبدع والنص والحقيقة وحسب، وإنما يلغى المسافة بين نص وآخر، وقد طرح فكرة التناص باعتباره حوارا لا ينتهى بين النصوص ، فكل ما نعرفه هو النص، والنص لا يحيلنا إلى حقيقة متجاوزة له وإنما إلى نص آخر، ولذا فإن معرفتنا لا يمكن أن تدعى لنفسها حالة أكثر استقرارا وصلابة من أن تكون نصا، وهذا يعنى أن كل الحدود تختفي بين الذات والموضوع، وبين الداخل والخارج، والمعنى واللامعنى، والمعرفة والرأى، والحقيقة والخطأ. لكل هذا، يذهب نيتشه إلى أنه لا يوجد نص برىء طاهر أصلى، فمثل هذا النص إما لم يوجد أساسا او فقد إلى الأبد، وكل ما نقرأ هو التفسيرات وحسب أو الإحالات إلى نصوص أخرى، والتفسير هنا ليس هو الاجتهاد، أى أن يفترض القارئ أن ثمة علاقة اتصال وانفصال بين الدال والمدلول وأن هذه العلاقة ليست بسيطة ولا مباشرة ولا رياضية وإنما مركبة (بسبب طبيعة اللغة كأداة مركبة للتوصيل تستخدم المجاز). وفى إطار الاجتهاد، على القارئ أن يُعمل عقله لسبر غور العلاقة المركبة بين الدال والمدلول ويطرح معنى للنص، معنى ليس هو بالمعنى المطلق أو الحقيقى أو النهائى للنص، وإنما هو معنى يقارب الحقيقة وقابل للاختبار من قبل قارئ آخر، هذا هو الاجتهاد. أما عند نيتشه فالقراءة ليست البحث عن معنى النص وإنما هى فى الواقع استيراد معنى من الخارج وفرضه على النص، فالنص – مع انفصال الدال عن المدلول أو مع التحام الدال بالمدلول- لا معنى له فى حد ذاته، ومن ثم لا يوجد معنى سوى ما تفرضه إرادة القوة كما هو الحال دائماً فى المنظومة النيتشوية، وكما قال أحد النقاد، فإن التفسير عند نيتشه هو وسيلة لأن يصبح الإنسان سيدا أى أن يصبح الناقد غازيا، وحشا نقديا أشقر مفترسا يعبر عن رؤية معرفية أدبية علمانية إمبريالية، ويفرض أى رؤية باطنية.

المفسر، إذن، يفرض تفسيره بإرادة القوة على النص، ولكننا فى عالم نيتشه الصراعى سنكتشف أن العكس أيضا صحيح، فالفن هو أداة السوبرمان لكي يلغى المسافة بينه وبين الطبيعة، ولكي يلتصق بها ليعبر عنها في صورتها الأولى قبل أن يشوهها العقل، أى أن الفن تعبير عن النـزعة الديونيزية الجسدية العارمة المفعمة بالنشوة المحمومة المعربدة قبل ظهور النـزعة الأبولونية العقلية التى تتسم بضبط النفس والاتساق والتناغم والرغبة فى التفسير العقلى للكون، والفن بهذا المعنى متجاوز للخير والشر، متجاوز لأى تفسير، فهو تعبير عن الحياة باعتبارها قوى متصارعة، وعن أخلاق السادة، وهو قادر على تغيير العالم والتبشير بالعالم الجديد.

ويمكن القول أن نيتشه يستخدم نموذجا جماليا لفهم العالم، وهو نموذج جمالى بالمعنى الذى حدده هو: فالعالم ليس له سبب متجاوز، ولا سبب عقلانى كامن فيه، فهو علة ذاته، كالعمل الفنى يلد نفسه بنفسه، (وفى عبارة عضوية تبعث على الاشمئزاز تبين العدمية المادية عن نيتشه يقول: “براز هذا العالم هو طعامه، وهكذا تحولت المادة الأولى التى يتكون منها الكون فى يد فيلسوف العدمية إلى براز، وهى استعارة استخدمها كل من أرتو ودريدا من بعده). كل هذا يعنى أن العالم منظم ومتماسك ولكن نظامه وتماسكه مثل نظام وتماسك العمل الفنى، أى أنه نظام مؤقت يشبه النظام الذى يفرضه شاعر على قصيدة غنائية صغيرة، نظام لا يضرب بجذوره فى أى واقع وإنما هو وجدان الشاعر وإرادته، كما أن الواقع كالعمل الفنى مكون من استعارات من صنع عقل الإنسان، لذا فهذا الواقع وهم وتعبير عن إرادة القوة، كل هذا يعنى أنه لا توجد حقيقة وإنما توجد طرق فى النظر (منظور). وهى كلها طرق متساوية بسطح الواقع الممتد السائل. وإذا كان الواقع سائلا ووهميا فكذا الذات، فالإنسان مثل الفنان يخترع نفسه إذ لا يوجد ذات ثابتة، والذات من اختراع الذات، والذات هى تعبير عن إرادة القوة وعن الدوافع المظلمة.

لكل هذا، يرى نيتشه أن الفلسفة والبلاغة هما نفس الشى، فالفلسفة التقليدية تدَّعى محاولة العقل الواعى للوصول إلى الحقيقة الثابتة، ومع غياب الذات المتماسكة والحقيقة الثابتة فإن الخطاب الفلسفى  هو تعبير عن محاولة الفيلسوف المفسر فرض إرادته على الواقع/ النص من خلال مقدرته وحيله البلاغية المختلفة. ولذا فإن تحليل النص الفلسفى لا يختلف بتاتا عن تحليل النص الأدبى، وكلها تعبير عن إرادة القوة.

إن عالم نيتشه عالم حلولى كمونى واحدى تماما، حل المركز فيه داخل المادة وأصبح كامنا فيها ثم اختفى، فهى حلولية كمونية بدون إله لا تختلف فى بساطتها وسذاجتها عن الحلوليات الوثنية القديمة، حيث كان الهدف من العبادة لا أن يتسامى الإنسان وإنما أن يغوص فى الطبيعة ويلتحم بها لتتحقق الواحدية الكونية، أى أن فلسفة نيتشه (مثل الحلوليات الوثنية القديمة) تعبر عن الرغبة الدفينة عند الإنسان فى أن يهرب من عبء الهوية ليدخل الرحم الكونى الأكبر. وبدلا من أن يتطلع إلى النجوم فإنه يغوص فى الوحل. ولهذا، فإننا نجد إنسانا بلا إنسانية، وأخلاقا بلا أخلاق، ومعرفة بدون مضمون معرفى، إذ هل يمكن أن تكون هناك إنسانية ومعرفة وأخلاق بدون حدود وبلا تجاوز للطبيعة؟ نحن هنا أمام قيمة ليست بقيمة، فالقوة هى شريعة الغاب وليست شريعة الإنسان، والبقاء ليس قيمة أخلاقية وإنما قيمة بيولوجية، بل إن حلولية نيتشه أكثر راديكالية من الحلوليات الوثنية القديمة، فهذه الأخيرة كانت تدور على الأقل حول مطلق مادى، أما فى عالم نيتشه فإن المركز يختفى تماما ويكتسح العالم طاقة حيوية بلا اتجاه ولانظام ولا غاية ولا بنية، فهى لوجوس (مطلق) بلا تيلوس (غاية) تشبه الإيمان بالأطباق الطائرة أو وجود قوى خفية فى الكون تتحرك ولكنها فى حركتها لا تهدينا سواء السبيل، فهو إيمان مطلق لايمكن أن تؤسس عليه منظومات أخلاقية ويظل تجربة نفسية لطيفة أو مريعة.

ونحن نذهب إلى أن إسبينوزا ونيتشه ودريدا هم أهم فلاسفة المنظومة العلمانية المادية، وأن معظم الفلسفات الغربية التى ظهرت فى القرن العشرين (بما فى ذلك الصهيونية والنازية) خرجت من تحت عباءة نيتشه، وأن فكر ما بعد الحداثة (بكل تياراته) هو امتداد لمنظومة نيتشه الفلسفية. وقد تأثر كثير من المفكرين اليهود من الصهاينة وغير الصهاينة بفكر نيتشه .

فيكو وكانط والدفاع عن الإنسان:

عالم الحداثة الدارونية عالم منفصل عن القيمة وعن الإنسان يدرك العالم من خلال مقولات صراعية مادية، ولذا فهو عالم يصارع فيه الجميع مع الجميع والبقاء فيه للأصلح ماديا. وقد أصبح هذا هو النموذج الفعال في الحضارة الغربية. ولكن هناك الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الغربيين الذين حاولوا الإفلات من قبضة الفلسفة المادية بكل عدميتها. ويمكن أن نذكر كلا من فيكو وكانط وماكس فيبر على أنهم من أهم أعلام هذا الاتجاه.

جيامباتيستو فيكو (1668- 1744):

فيلسوف إيطالي ولد عام 1668، أهم أعماله هو العلم الجديد. ينطلق فيكو من رفض جذري للنموذج المعرفي الديكارتي باعتباره نموذجا متوجها بشكل متطرف نحو العلوم الرياضية والطبيعية والفصل التام والحاد بين الذات والموضوع، بحيث يتحول العالم إلى مجرد شيء يتم حوسلته (تحويله إلى وسيلة)، يعني إهمال فروع النشاط الإنساني والعلوم الإنسانية مثل الفن والقانون والتاريخ أو تهميشها باعتبارها بدون أهمية كبيرة.

يمكن القول إن النموذج الكامن في كتابات فيكو هو رفضه للواحدية المادية التي طرحها ديكارت ثم الثنائية الصلبة التي حاول أن يفرضها بعد ذلك من خلال مفهوم الذات الواعية المستقلة وأخيرا مفهوم الإله كمحرك أول. إن فيكو يرفض الفكرة المحورية التي يستند إليها الفكر المادي الغربي الحديث والعلوم الإنسانية في الغرب، وهي وحدة العلوم، والتي تفترض وحدة الإنسان والطبيعة/ المادة ووحدة الإنسان والأشياء. وإذا أردنا أن نلخص فلسفة فيكو بالمصطلح الحديث لقلنا إنه يعتبر أن نموذج ديكارت المعرفي والبحثي نموذج متشيئ، وإذا أردنا أن نصوغها بمصطلحنا لقلنا إن فيكو يرفض رؤية الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة وأنه يرى أن ثمة ثنائية أساسية بين الإنسان والطبيعة، وأن الإنسان مختلف عن الطبيعة بسبب أصله الإلهي.

ونقطة البدء عند فيكو نقطة إنسانية اجتماعية (وليست ذاتية فردية) لخصها هو نفسه في مبدئه الشهير:

“ترادف الحقيقي والمصنوع أو إمكانية تحويل الواحد إلى الآخر” (باللاتينية: فيروم إت فاكتوم كونفرتنتور verum et facturm convertentur)، والذي يعني أن الإنسان لا يمكن أن يعرف بيقين كامل إلا ما صنعته يداه وأبدعه عقله ووجدانه. ومن ثم، فإن الوعي بالذات من النمط الديكارتي (الكوجيتو الديكارتي) هو وعي بدائي ولا يصلح أساسا للمعرفة، فالعقل لم يصنع نفسه ومن ثم فهو غير قادر على إدراك الطريقة التي يدرك بها نفسه.

أما بخصوص الأفكار الواضحة المحددة فهي لا تصلح أساسا للمعرفة العلمية. فكثير من مثل هذه الأفكار – بعد التدقيق- نكتشف أنها زائفة. والتعين الرياضي ذاته يستند إلى كون أن النماذج الرياضية هي من إبداع عقل الإنسان نفسه، ولذا فهو يفهمها بشكل كامل. وانطلاقا من هذا، يميز فيكو بين الحقيقة التي نتوصل إليها من خلال النماذج الرياضية وتلك التي نتوصل إليها من خلال التجارب الطبيعية، أي أنه لم يسقط في الواحدية المادية ووحدة العلوم. فالفيزياء أقل يقينية بالضرورة من الرياضة. فالنماذج الرياضية من إبداع عقل الإنسان، ولذا فإن الإنسان يعرفها معرفة كاملة، أما إذا تعاملنا مع الفيزياء فنحن نتعامل مع هذا الذي لم نصنعه نحن. فالعالم من خلق الإله وهو وحده الذي يعرف الطبيعة تماما، ومن ثم فإن الحقيقة المادية لا يمكن أن تكون شفافة للعقل الإنساني كما يتصور الفلاسفة العقلانيون (الماديون). ولكن هذا لا يعني أن الطبيعة سر مغلق تماما (كما يقول العقلانيون الماديون) إذ إننا لا نقف إزاء الطبيعة موقف المتفرج السلبي دون أن نلعب أي دور نشيط فعال، إذ بوسع الإنسان أن يجري تجارب في ضوء فرضيات عقلية تقلد الطبيعة إلى حد ما، وما نعرفه في الطبيعة هو تلك الظواهر التي يمكننا أن نتخيلها ونقلدها (أي أننا لا نعرف الطبيعة في ذاتها، وإنما الطبيعة كما تظهر لنا وكما ندركها من خلال مقولات مفطورة في عقولنا، إن أردنا استخدام المصطلح الكانطي).

وانطلاقا من كل هذا، يطرح فيكو رؤيته للتاريخ، ومن المعروف أن موقف ديكارت للدراسات التاريخية كان موقفا يتسم بالاستخفاف بالتاريخ على أنه ليس “علما دقيقا” (باعتبار أن النموذج الرياضي هو النموذج الأسمى لكل العلوم). فنتائج البحث التاريخي بالقياس للعلوم الطبيعية الدقيقة (التي كانت تقدم نتائج مبهرة بدون عون الفلسفة أو التأمل)، تدل على أن التاريخ تخصص ليس له قيمة كبيرة، فهو مجموعة من الحقائق المختلطة ونسيج من الأفكار الملفقة والفارغة. مثل هذا الموقف بالنسبة لفيكو ليس له أي أساس، فمن الخطأ تماما افتراض أن ثمة منهجا واحدا لكل العلوم لا يتغير مهما تغير موضوع العلم وهدفه. بل إنه ليخطو خطوة أكثر راديكالية إذ يرى أن المؤرخ يمكنه أن يصل إلى معرفة أكثر عمقا في موضوع بحثه من تلك التي يصل إليها العلماء الطبيعيون، إذ إن موضوع العالم الطبيعي هو الطبيعة (المادة) وهو موضوع براني بالنسبة له، ليس من صنعه، أما موضوع المؤرخ فهو الظواهر التاريخية التي هي من صنع الإنسان، والتي يمكن للمؤرخ انطلاقا من إنسانيته من إدراكها وفهمها (وهذا إرهاص للتحليل الهرمينوطيقي المبني على الفهم الجواني للظاهرة).

وقد طبق فيكو منهجه هذا على دراسته للتاريخ، فرفض المحاولة التي كان يقوم بها معاصروه في تفسير الماضي في ضوء رؤيتهم الحديثة، إذ وجد أنه من الأهمية بمكان أن تفهم الأنساق التاريخية انطلاقا من تعينها ومعطياتها وخصوصيتها. وقد كان فيكو يرى أن جروتيوس وهوبز وديكارت قد حادوا عن جادة الصواب تماما، فهم في مناقشتهم لطبيعة المجتمع الإنساني وأصله استخدموا تجريدات قانونية مثل القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي، وتصوروا أن الإنسان في الماضي يشبه الإنسان في العصر الحديث (في تطلعاته ورؤاه) وقد أدى هذا إلى أنهم شوهوا التاريخ الماضي.

في مقابل هذا الإنسان الطبيعي الذي يطرحه المفكرون العقلانيون في عصره، يطرح فيكو الإنسان التاريخي، أي أنه يدرس الإنسان لا في إطار نموذج طبيعي مجرد وإنما في إطار أصوله التاريخية، لأن هذه الأصول هي التي صاغته على الهيئة التي هو عليها. ويرى فيكو أن الحضارة الإنسانية ليست جزئيات متصارعة متحركة وإنما كل متكامل، ولذا فإن ثمة علاقة بين قوانين حضارة ما وأساطيرها ولغتها وعقيدتها. فاللغة ليست مجرد آلة طورها الإنسان للتعبير عن أفكار جاهزة مسبقة في عقله، وإنما هي أداة لا تنفصل عن تركيب العقل البشرى ذاته أو عن منتجات الإنسان الحضارية. ومن ثم فإن دراسة اللغة تعطينا صورة جيدة عن بنية العقل الإنساني وعن رؤية الإنسان للكون، كما اكتشف البنيويون بعد مئات السنين. والاستعارات والأساطير والتعبيرات المجازية التي استخدمها الإنسان في الماضي ليست مجرد أوهام وأكاذيب طورها الكهنة للسيطرة على البشر، وإنما هي تعبير عن محاولة الإنسان للوصول إلى المعنى في حياته والتواصل مع غيره من البشر. وقد سماها فيكو “العالمي المتخيل” (بالإيطالية: يونيفرسالي فاناتستيكو universale fanatastico). وهو المصطلح الذي استخدمه ليصف العقل الكوني الأسطوري الديني الشعري. ولكل هذا لم يرفض فيكو الأساطير بل سماها “التواريخ الأولى للإنسان”.

التاريخ (بأشعاره وأساطيره وحضاراته) هو ما صنعته يد الإنسان، ودراسة التاريخ هي دراسة عقل الإنسان وتركيبه، وأهم من كل هذا دراسة أصله. فكل نظرية كما يقول فيكو في كتابه العلم الجديد يجب أن تبدأ من النقطة التي بدأ موضوعها يتشكل فيها، وقد بدأ العقلانيون (الماديون) من مفهوم الإنسان الطبيعي وهو إنسان يُعرف في إطار القانون الطبيعي لا في إطار القانون الإنساني. أما فيكو فسيبدأ من لحظة أخري تماما فهو يرى أن أسس المجتمع الإنساني ليس حالة الطبيعة وإنما هي الدين والزواج والدفن (يستخدم فيكو كلمة “برنسيبي principi” اللاتينية بمعنى “بدايات”). فمؤسسات الدين والزواج و الدفن هي الشروط الضرورية والكافية المطلوبة لمجتمع إنساني مبدئي، مجتمع يمكن أن يولد الحضارة ويوصلها. والزواج غير الجنس، و الدفن غير الموت، فالجنس والموت عمليتان ماديتان فسيولوجيتان يمنحهما الإنسان معنى ويدخلها في نطاق المجتمع الحضاري من خلال شعائر الزواج والدفن. ولكن عملية الانتقال هذه من عالم الطبيعة إلى عالم الدين هو تعبير عن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الإنسانية.

إن عملية الانتقال تبدأ في لحظة خوف إنساني من ظاهرة طبيعية هي الرعد، ولكن الإنسان من خلال استجابته للرعد يعبر حدود الطبيعة/المادة فيسمى الرعد “زيوس” أي “إله”، وبذا يتحول الخوف من ظاهرة طبيعية إلى خوف من كائن مقدس ومن محاولة التواصل مع هذا الكائن المقدس (وهذا ما يسميه على عزت بيجوفيتش “الدوار الميتافيزيقي”). وهذه التسمية هي أول الأفعال اللغوية للإنسان، ويرى فيكو أن كل أمة لها إلهها، وأن لغة كل أمة وحضارتها تبدأ عند عملية التحويل الفجائي التي يقوم بها الإنسان، تحويل الحالات المادية إلى السماء ذات الرعود، وتحويل خوفه منها إلى معنى روحي، وهو وجود الإله. فاسم الإله هو أول اسم ولد في وعي الإنسان وليس الأنا، وهذا لم يتم إنجازه من خلال التفكير العقلي وإنما من خلال الخيال، والخيال هنا ليس مجرد تكوين للصور من الأحاسيس وإنما هو قوة فعالة، هو المقدرة على توليد العالمي المتخيل الذي يعطي للعالم معنى.

في هذه النقطة – نقطة الدوار الميتافيزيقي والبحث عن المعنى- تبدأ كل أمم الأرض وتبدأ إنسانيتنا المشتركة. وهذه الإنسانية المشتركة هي قوة كامنة في النفس البشرية ولذا فإن عقول البشر متماثلة بنيويا. وتبدأ كل أمة تاريخها في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة الواحدة مستقلة عن الأخرى، ولكنها كلها لها طبيعة مشتركة. وفيكو هنا يرفض الإنسان الطبيعي والطبيعة/المادة كنقطة بدء، ولكنه لا يسقط في النسبية المطلقة إذ إن ثمة إنسانية مشتركة متجذرة في أصل الإنسان الإلهي وهي بحثه عن المعنى.

ولأن التاريخ يستند إلى الإنسانية المشتركة فإن ثمة نمطا واحدا متكررا في مسار التاريخ الإنساني (بالإيطالية: كورسو corso) وهو نمط ثلاثي الإيقاع، يبدأ الإنسان في حالة حيوانية كاملة هي حالة الطبيعة (المادية)، وهذه تقع خارج نطاق التاريخ. وحينما يعْبُر الإنسان هذه النقطة ويسمي الرعد إلها، يظهر عصر الآلهة، والعنصر الأساسي في مجتمعات هذا العصر هو العائلة الأبوية. وتتسم هذه المرحلة بأنه يتم كبح جماح غرائز الإنسان الحيوانية فيها نظرا لخوف الإنسان من القوي الإلهية. وفي عصر الأبطال يتحالف رؤساء العائلات لمواجهة التحديات التي يمثلها عدم الاستقرار بين أعضاء أسرهم والعناصر الجوالة غير المستقرة.

وتتسم مجتمعات هذا العصر بحكم الأقلية من خلال تحالف الآباء، ويقسَّم المجتمع بشكل صارم إلى حكام وأقنان أو عبيد، وتعبر القوانين من ثم عن عدم المساواة. ويعبر شعر العصر البطولي عن مثل عليا عنيفة ومقدسة. ثم يظهر أخيرا عصر البشر العاديين، ويتسم هذا العصر بالتفكير المجرد واختفاء الحس الديني والتفكير في القانون الطبيعي. وتتسم مجتمعات هذا العصر بالصراع الطبقي وثورة الطبقات الشعبية من أجل المساواة، وصياغة قوانين تعبر عن هذه المساواة، ويؤدي كل هذا إلى فساد المجتمع وانحلاله. وتأتي النهاية إما من خلال غزو من الخارج أو من خلال التفكك والعودة إلى الأصول الدينية والتجربة الدينية الكونية الأولى، ثم تبدأ الدورة الجديدة. وهذا معنى العبارة الإيطالية الشهيرة في كتابات فيكو “كورسي إي ريكورسي corsieet recorsi “، والتي تعني أن  ثمة دورات في التاريخ. ومع هذا لم يسقط فيكو في العدمية المادية فتاريخ البشرية ليس تاريخا دائريا بلا معنى، (عود أبدي نيتشوي) إذ إن الوجود الإنساني ذاته هو بحث دائم عن المعنى. فهو بانوراما ضخمة يعبر فيها التاريخ عن تنوعه اللامتناهي، بانوراما تبدأ حينما يعطي الإنسان اسما روحانيا لظاهرة مادية وينطق باسم الإله باعتباره القوة المحركة للرعد. هذه اللحظة الفارقة والنمط الثلاثي للتطور التاريخي هي أدلة متعينة ومتحققة تاريخيا على وجود الإله، فهو دليل بعدي متعين في التاريخ وليس دليلا قبليا مجردا (كما هو الحال مع النموذج الديكارتي).

وقد أهمل الفكر الغربي فيكو إلى حد كبير، ولم يتم اكتشافه إلا في القرن التاسع عشر مع بدايات أزمة الفكر العلماني المادي، فاكتشفه المفكر الرومانتيكي الإنجليزي كوليردج، الذي أشار إلى أن كلمة “فاكت fact” بمعنى “الحقيقة” مأخوذة من فعل “فاكري facere” بمعنى “يصنع” (وفي الفرنسية يوجد فعل “فير faire” بمعنى “يفعل” “فيه fait” بمعنى إنجاز” إلى أن نصل إلى عبارة “فيت أكومبليه fait accompli” بمعنى “أمر واقع”). وكل هذا نابع من فكر فيكو في إيمانه بترادف الحقيقي والمصنوع. كما أن المؤرخ جول ميشيليه ومن بعده بنديتو كروتشيه وكولينجوود ساعدوا على تركيز الاهتمام على أعماله، ثم حدث إحياء كامل لتراثه وأفكاره ابتداء من الستينيات (مع تفاقم أزمة النظام المعرفي في الغرب). والواقع أن تجاهل الفكر الغربي لفيكو ولرؤيته المعرفية والحضارية الخصبة ولنقده للنموذج الديكارتى عبر هذه القرون له دلالته العميقة. فكل من النـزعة التجريبية (لوك) والعقلانية (ديكارت) سقطا في إطار الواحدية المادية وهمشا ما هو إنساني وقضيا عليه. وقد حاول كانط أن يميز بين الإنساني والطبيعي وهي محاولة قريبة جدا من محاولة فيكو، ولكنه لم يستطع تفسير أصل الأفكار المفطورة في عقل الإنسان والحس الخلقي المفطور في وجدانه، وظل في إطار المرجعية الكمونية. ولا محت ثنائية الإنسان والطبيعة لتصبح إما نظاما شموليا مثاليا كما هو الأمر في حالة هيجل، أو شموليا ماديا كما هو الأمر في حالة ماركس، أو نظاما سائلا تماما كما هو الحال عند نيتشه وفي مثل هذا الإطار لا يوجد مجال لمفكر إنساني مثل فيكو، يرى أن ثنائية الإنسان والطبيعة ترتكز إلى الأصل الإلهي للإنسان ومن ثم يمكن للإنسان أن يحقق تجاوزا حقيقيا لأنه غير محاصر بالسقف المادي.

والأهم من هذا أنه حينما اكتشف الغرب فيكو مرة أخرى فقد جعل منه فيلسوف النسبية الكاملة، بمعنى أن فيكو الذي ظهر هو فيكو ما بعد الحداثة الذي لا يؤمن بوجود طبيعة بشرية  ثابتة. فقد فُسِّر إيمان فيكو بالحقيقة المتعينة المتحققة عبر التاريخ على أنه رفض للحقائق الكلية، أي أنهم فرضوا على فيكو النمط المعرفي الغربي في تأرجحه بين الحضور الكامل والعدم، مع أن جوهر فكره هو رفض لهذا النموذج الديكارتي الذي يصر على المعرفة المجردة القبلية وعلى وحدة العلوم والمفهوم الإنساني الطبيعي. ويؤسس رفضه هذا على إيمان عميق بالإنسانية المشتركة ذات الأصول الربانية.

ولعل أكثر المدارس الفلسفية الغربية الحديثة اقترابا من فيكو هي مدرسة فرانكفورت مع فارق وحيد: رفضهم تأسيس ثنائية الطبيعة/ الإنسان على أساس غير مادي، ولذا فقد انتهى كل مفكري هذه المدرسة برؤية تشاؤمية عميقة تكاد تكون عدمية.

عمانويل كانط (1724- 1804):

فيلسوف ألماني بروتستانتي ولد في مدينة كونجسبرج في بروسيا وهي الآن ضمن حدود روسيا. ولم يترك المدينة قط إذ درس في الجامعة الموجودة في هذه المدينة حتى أصبح أستاذا للمنطق والميتافيزيقا، ولكنه كان يهتم أيضا وبعمق بالعلوم الطبيعية. وأهم أعماله هي: نقد العقل الخالص (1781) ونقد العقل العملي (1788) ونقد الحكم (1790) والدين داخل حدود العقل وحده وأساس ميتافيزيقا الأخلاق (1798).

وقد كان مد الواحدية المادية قد تصاعد في الفلسفة الغربية (خصوصا في إنجلترا وفرنسا)، فسيطر على الفكر الغربي فلسفات للكون تتسم بالتمركز الكامل حول الطبيعة/ المادة وتذهب إلى أن العقل جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة (صفحة بيضاء سلبية تتراكم عليها المعرفة)، وأن هذه المعرفة تصبح معرفة كلية بطريقة آلية، وأن الإنسان يصل إلى قيمه الأخلاقية من خلال هذه المعرفة المادية الآلية، كما أن الذاتية والمثالية (التمركز حول الإنسان والذات) كانتا قد أخذتا أيضا اتجاها متطرفا في فلسفة هيوم وبيركلي حيث جرى الهجوم على مبدأ السببية وإظهار عدم مطلقيته. ويعترف كانط نفسه بأن هيوم قد طرح من القضايا الفلسفية ما أدى إلى إيقاظه من ثباته العقائدي، ثم كان هناك فلسفات ديكارت وإسبينوزا ولايبنتس العقلية.

وفلسفة كانط متماسكة مركبة إلى أقصى درجة تتداخل فيها العناصر بحيث يصبح السبب نتيجة والنتيجة سبب. ويمكن القول إن المشكلة الأساسية التي واجهها كانط هي افتراض العلوم الطبيعية أن كل ما يحدث له سبب يسبقه، وأنه يحدث كنتيجة حتمية لهذا السبب، وأن كل شيء في الطبيعة يخضع للقانون الطبيعي الحتمي: الحجر حينما يسقط والحيوان حينما يأكل. وأن البعض حاول أن يطبق هذا القانون الطبيعي الحتمي على الإنسان، مما يودي بإنسانيته، وهذا ما نسميه “الواحدية المادية”، أي تفسير العالم من خلال عنصر واحد هو الطبيعة/المادة، بحيث ينتفي الفرق بين الإنسان والطبيعة وتمحى ثنائية الإنسان والطبيعة.

وقد حاول كانط إنقاذ مقولة الإنسان من خلال تأكيد هذه الثنائية فحاول تعريف حدود العقل ومجال عمله (تماما كما فعل فيكو من قبله وعلى عزت بيجوفيتش من بعده)، وبيَّن أن العالم كما نعرفه قد اشترك في تشييده عاملان: العقل من ناحية، والأشياء في ذاتها من ناحية أخرى (noumenon)، فلا العقل وحده يكفي كما يزعم العقلانيون، ولا عالم المادة – الذي يقع خارج نطاق الإدراك- وحده يكفي (كما يزعم الماديون)، أي أنه حاول أن يفلت من قبضة كل من الواحدية المادية والواحدية الذاتية المثالية. فالعقل لا يمكنه الوصول إلى الشيء في ذاته لأنه يستحيل على الإنسان أن يعرف كيف كان ذلك الشيء في أصله وحقيقته قبل أن يبحث عن المؤثرات التي تؤثر في الحواس وأطراف الأعصاب. وحينما يقع الشيء في ذاته في حدود التجربة فإنه يمر خلال الحواس ثم العقل فيصبح ظاهرة phenomenon: “إننا نجهل ماهية الأشياء وحقيقتها المستقلة عن إدراك الحواس جهلا تاما، إننا لا ندري من الأشياء إلا كيفية إدراكنا لها. هذه الكيفية أمر إنساني محض لا يشترك فيه سوى بنو البشر”.

إن خطاب كانط يؤكد وجود حيز إنساني مستقل عن الحيز الطبيعي المادي، وبهذا المعنى فهو يؤكد استقلال الإنسان عن عالم الطبيعة/المادة، مما يعني أن ثنائية الإنسان وعالم الطبيعة والأشياء مسألة جوهرية. وستظل هذه الثنائية هي حجر الزاوية الذي تستند إليه رؤية كانط، فكأن فلسفته هي ذروة الفلسفة الإنسانية الهيومانية المتمركزة حول الإنسان والذات الإنسانية: “إن تصور العلم أنه يعالج الأشياء في ذاتها، أي كما هي في حقيقتها، هو تصور ساذج مخدوع، والفلسفة أشد من العلم انخداعا إن زعمت أن مادة العلم كلها لا تتألف من مدركات الإنسان الحسية والعقلية بل من الأشياء ذاتها. ومعنى ذلك أن كل محاولة يبذلها العقل لتخطى دائرة الحس والظواهر ويدخل في عالم الأشياء في ذاتها هو تورط في الخطأ”، فالإنسان لا يدرك إلا الظواهر، أما الأشياء في ذاتها فهي خارج نطاق إدراكه. فهو “لا يمكن أن يعرف هل كان للعالم ابتداء زمني وهل للعالم علة أولى نشأ عنها.. ولا يمكن للعقل أن يثبت وجود الإله أو عدم وجوده، ولا يمكنه أن يعرف الحس الخلقي في داخل الإنسان وما هو مصدره وما طبيعته”.

ولنلاحظ أن كانط يحاول تعريف حدود المعرفة (كما فعل التجريبيون والشكاك) ولكنه يبين شرعية المعرفة وفعاليتها داخل حدودها، وهو يفعل ذلك حتى يخلق مجالا مستقلا عن مجال العلوم الطبيعية. كما أنه حاول أن يبين عدم جدوى أي تفكير ميتافيزيقي – بالمعني المتعارف عليه- خارج نطاق التجربة الإنسانية. ولكنه مع هذا لم يسقط تماما في قبضة الصيرورة والعدمية والواحدية المادية الموضوعية أو الذاتية، إذ إنه لم يتخل قط عن إمكانية المعرفة كما أنه لم يتخل قط عن إمكانية قيام الأخلاق والإيمان. وكما يقول كانط: الله، والحرية والخلود، تقع خارج نطاق المعرفة التجريبية، فهي تستند إلى ما يسميه كانط “الحقائق الأخلاقية”. وقد سمى كانط هذا المجال المستقل “مجال الإيمان”. ولكن بوسعنا تسميته بشكل أكثر شمولا “مجال الإنسان” (كما سنبين فيما بعد).

المعرفة، إذن، ليست نتاج التجربة الحسية وحسب بل هي نتيجة كل من التجربة الحسية ومعرفة قبلية تكون موجودة في العقل قبل التجربة، فمصدر العلم هو العقل والتجريب، فالعقل عضو فعال يتقبل مادة الإحساس من الخارج فيشكلها وينسقها كيف يشاء في صور وقوالب من عنده. فالصورة والقوالب التي تشكل المادة الأساسية مفطورة في العقل كامنة فيه، وهي سابقة على أي تجربة (مادية)، ويطلق عليها كانط مصطلح “المقولات” وهي عبارة عن شروط قبلية سابقة على التجربة وهي بمثابة الأطر العامة التي ندرك وفقها الموجودات الحسية. وهذه المقولات ثابتة وواحدة لدى جميع العقول (الإنسانية المشتركة مرة أخرى). وهو ما يفسر إمكانية العلم والمعرفة الموضوعية واتفاق الناس حولها. وكل ما نتلقاه من أحاسيس لا يمكن إدراكه إلا من خلال هذه الصور والقوالب. إن المقولات مفطورة إبستمولوجيا في العقل، وليست موجودة أنطولوجيا في الواقع، وكما قال أحد مؤرخي الأفكار إن العقل لا يتلقى الواقع المادي وإنما يطرح عليه أسئلة، أي يفرض عليه مقولات مثل الزمان والمكان والسببية، فتتحول فوضى الأحاسيس إلى تجربة مفهومة.

ولنأخذ – على سبيل المثال- الأحاسيس المتضاربة (الشم واللمس واللون)، هذه الأحاسيس لا تتحول إلى كل منسجم من تلقاء نفسها، فالأحاسيس تأتي لنا في خليطها وفوضاها فتتحول إلى مدركات حسية منظمة، ثم تتحول هذه المدركات الحسية إلى مدركات عقلية أكثر نظاما بحيث تصبح علما ومعرفة وحكمة. وهذا التنظيم لم يأت من الأشياء نفسها فهي تفاصيل متناثرة، وما أكسبها هذا النظام وهذا الاتحاد وهذا المعنى هو العقل بما يقصد إليه من أغراض وبما يحتوي عليه من قوالب كامنة فيه يصوغ بها الإحساس فتصبح فكرا. وكل هذه المقولات هي أمور غير موجودة في الطبيعة. ولعل أنصع مثال يدل على وصول العقل إلى المعرفة بغير طريق التجربة هو مثال الرياضة لأنها يقينية ويستحيل على التجربة أن تنقضها يوما ما. إن الحقائق الرياضية تستمد ضرورتها من التركيب الفطري لعقولنا. ويلخص كانط موقفه في هذه الكلمات: “إن النظام الموجود في العالم ليس موجودا في الطبيعة نفسها، فالعقل هو الذي قام بتنظيم الواقع حسب قوانينه هو المتأصلة فيه، أي أنه ليس للعالم الطبيعي قوانين خاصة يسير بمقتضاها، إذ لا يوجد سوى القوانين والصور الذهنية التي يعمل بها العقل، أي أن العالم فكرة وإرادة وعقل” وفلسفة كانط، بذلك، تكون قد أزالت الحدود بين الذات والموضوع وإن كانت قد احتفظت باستقلال كل واحد عن الآخر وافترضت تعادلهما أو وجود علاقة تفاعلية تبادلية بينهما.

بعد أن عرَّف كانط حدود المعرفة التجريبية ينتقل من عالم الظواهر إلى عالم الحس الخلقي والديني ومن العقل النظري إلى العقل العملي. وهنا نلاحظ محاولته النبيلة في الدفاع عن الإنسان واستقلاله عن الطبيعة/المادة. يبدأ كانط بتأكيد قصور العلم النظري الذي لا يمكنه أن يمتد إلى كنه الأشياء -إلى الأشياء في ذاتها- فهو لا يملك سوى الوسائل التي نعرف بها الظواهر، أي الزمان والمكان والسببية وغيرها، وهي وسائل غير صالحة للإجابة على الأسئلة النهائية. ولذا فالعقل النظري قادر على تأسيس المعرفة العلمية ولكنه غير قادر على تأسيس أية معرفة أخلاقية. وهنا يحاول كانط محاولته الأكثر راديكالية في تأسيس مركزية الإنسان في الكون وأسبقيته على المادة، فيلج عالم الأخلاق والدين والقيم المطلقة ويحاول أن يضع الأسس القبلية للفعل الخلقي، ويظهر العقل العملي، وهو مصدر التفكير الميتافيزيقي، والذي لا يتعلق بالأشياء والموجودات الحسية، وإنما يتعلق بقضايا حرية الإرادة، وخلود النفس، ووجود الإله. فيعترف بأن الإنسان خاضع للقانون الطبيعي ولكنه مع هذا مختلف عن الحجر والحيوان. وهنا يميز كانط بين الإنسان باعتباره ظاهرة، والإنسان باعتباره شيئا في ذاته. فالإنسان كظاهرة يخضع لقوانين الطبيعة، الإنسان كشيء في ذاته لا يمكن معرفته إلا سلبا، فهو لا يمكن إدراكه في الزمان والمكان، ولا يمكن معرفته تجريبيا وعقليا، وهو ليس خاضعا للسببية والحتمية. ويعود هذا إلى أن الإنسان عنده عقل، وهي ملكة يميز بها الإنسان نفسه عن كل الأشياء الأخرى، وحتى عن نفسه باعتباره كائنا متأثرا بالأشياء.

والعقل هو أساس الإرادة، وحينما نمارس مقدراتنا العقلية لتوجيه إرادتنا فإننا نفكر في أنفسنا لا كجزء من الطبيعة وحسب أو كذرات ضيقة، وإنما ككيان إنساني تسري عليه قوانين مختلفة تماما، لأن العقل (وليس الطبيعة) قد صاغ قوانين الإنسان. وهذا يعني أننا لسنا مجرد ظواهر خاضعة لقوانين برانية وإنما أشياء في ذاتنا، نخضع لقوانين شرعناها نحن بأنفسنا. إن حركة شيء مادي مثل الجسم الإنساني لا يحكمها القانون الطبيعي وحده وإنما تحكمها إرادة الإنسان. فالإنسان صاحب عقل ووعي وإرادة، ولذا فخضوعه للقانون أمر مختلف تماما عن خضوع الظواهر الطبيعية للقوانين الطبيعية المادية. فالإنسان حين يتصرف حسب مبدأ فإنه يعرف ماذا يقوم به ولماذا، أي أن سلوكه هو ثمرة عملية موازنة واختيار واع، فهو الكائن الوحيد القادر على موازنة سلبيات وإيجابيات ما يقوم به من أفعال، ثم يقرر أن يسلك طريقه بناء على موازنته واختياره هذا. ويجب علينا أن نميز بين إرادة تذعن للقانون لتحقيق مصلحة ما، وإرادة تشرّع القانون وتفرضه على نفسها. إن الإرادة والوعي يشيران إلى وجود العقل، فما هي وظيفة هذا العقل؟ هذه الوظيفة لا يمكن أن تكون البقاء أو تحقيق السعادة، لأن هاتين الوظيفتين يمكن أن تقوم بهما الحشرات بشكل غريزي. وهذا يعني أن وجودنا له هدف مختلف وأكثر سموا. هذا الهدف هو تطوير إرادة ليست مجرد وسيلة لتحقيق أهداف ذاتية (كما هو الأمر عند النفعيين الماديين) وإنما لها دلالات أكثر عمقا.

وإذا كان العقل يشير إلى وجود الإرادة، فإن الإرادة بدورها تشير إلى أن الإنسان كائن حر. فنحن نحرك أجسامنا حسب إرادتنا الحرة، خارج نطاق القوانين الطبيعية/ المادية، وهذا يعني أن كلمة “حر” تعني في واقع الأمر “قادر على الاختيار ولا تتحكم فيه القوانين الطبيعية المادية والحتميات المادية”، مما يعني أننا نحوي داخلنا عنصرا إنسانيا حرا أزليا (خاضعا لقوة توجد وراءه). وإذا كان الجزء الطبيعي فينا خاضع لقوانين المادة المتحركة، وإذا كان يمكن معرفته بالطريقة التجريبية العقلية، فإن الجزء المتجاوز للسطح المادي غير خاضع لهذه القوانين ولا يمكن معرفته بهذه الطريقة، نحن نفكر فيه ولا نعرفه. فنحن نعرف تماما أن هناك سببية طبيعية، ولكننا نؤمن في أعماقنا (ولا نعرف) أن الحرية ممكنة بشكل ما، فتجربتنا الإنسانية اليومية تبرهن على هذا الاعتقاد، وهو اعتقاد لا يمكن تفسيره إلا من خلال العقل الإنساني وحده، فالحرية فكرة من أفكار العقل، فهي مفطورة فيه. ومن ثم فالإرادة المستقلة ليست دليل الحرية وحسب، وإنما هي صفة من صفات الإنسان العاقل.

ويرى كانط أن الإرادة المستقلة هي صفة الإنسان العاقل ودليل الحرية. فهي تقود إلى الكلام عن الحرية. إن الحرية يمكن أن تعرَّف سلبيا بأنها خاصية الإرادة في الكائنات العاقلة لأن تفعل مستقلة عن العلل الأجنبية، أو بعبارة أوجز: الحرية هي الصفة التي تتصف بها الإرادة العاقلة في قدرتها على الفعل دون تأثير من الأسباب الأجنبية عنها. إن الضرورة الطبيعية ترغم الكائن غير العاقل على الخضوع لفعل الأسباب الخارجية، أما حرية الكائن العاقل فتمكنه من أن يفعل مستقلا عن هذه الأسباب الخارجية. إن الحرية هي تشريع الإرادة لنفسها بنفسها.

ونفس الشيء ينطبق على مفهوم الأخلاق. فثمة قناعات أخلاقية ودينية لا يوجد لها أساس في الواقع، فالواقع مشتت نسبي متغير، والأخلاق قوانين ومبادئ موحدة ثابتة ومطلقة. فما هو مصدر هذه الأخلاق؟ يرى كانط أنها متجذرة/ مفطورة في نفوس البشر. فهي أمور أولية (كونية)، حقائق أساسية، لا يمكن تجاهلها حتى لو أردنا ذلك. أي أن القاعدة الأخلاقية (شأنها شأن المقولات) مستقلة بذاتها مستمدة من فطرة الإنسان كامنة فيه وتنشأ في الإنسان بطبيعته. فمتطلبات الموقف الأخلاقي كامنة في عقلانية الإنسان، فهي متطلبات قبلية، وأي إنسان عاقل يعترف بها باعتبارها ملزمة، ولذا فإن الإنسان يستلهمها ويستوحيها دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلى علم أو تجربة ودون أن يستنير في ذلك بشيء خارجي محسوس. فقانون الأخلاق ناشئ فينا قبل التجربة ولذا فهو ليس مستقي منها. وهذا القانون الأخلاقي ينطبق على كل البشر في كل زمان ومكان، ويتقبله كل من له عقل وإرادة. ووظيفة العقل الإنساني أن يدرس القانون الأخلاقي الذي يقف على الطرف النقيض من الأنانية وحب الذات. وفي محاولته البرهنة على وجود هذا القانون الأخلاقي المفطور في النفس البشرية يشير كانط إلى ما يسميه “تجارب الحياة” وهي عبارة مبهمة تعني إلى حد كبير التجارب الإنسانية المشتركة. ويرى كانط أن هذه التجارب تنهض دليلا قويا على وجود هذا الباعث الفطري للأخلاق، فكلنا يشعر شعورا قويا واضحا لا لبس فيه أن هذا العمل خطأ وأن ذلك صواب مهما اشتدت أمامنا دواعي الإغراء. وهذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا الكامن فيها لا يقيس خيرية العمل بما ينتج عنه من نتائج (مادية) طيبة أو بما يحقق من سعادة.

إن الأخلاق الشائعة التي تقوم على الأهواء والانفعالات والعواطف أخلاق ظنية شرطية لتحقيق الرغبات. فالأفعال التي تحركها الرغبة في السعادة أو المصلحة ليست خاضعة للإرادة، فهي ليست عملية اختيار، فليست الأخلاق – حسب تصور كانط- هي ما يعلمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، ولكنها هي ما تجعلنا جديرين بالسعادة، فيجب أن نقصد إلى سعادة الناس وننشد الكمال سواء جاء ذلك الكمال متبوعا بلذة أو ألم.

ويذهب كانط إلى أن الخير هو ما جاء وفقا لما يأمر به الواجب بغض النظر عن نتائجه، فالمقياس الوحيد للفعل الأخلاقي هو: هل قمت بهذا الفعل من أجل الواجب (ومفهوم الواجب مفهوم إنساني محض) أم من أجل السعادة والرغبة في البقاء (وهذه مفاهيم طبيعية/ مادية)؟. واحترامي للواجب صادر عن العقل وحده، فالواجب أمر مطلق، بمعنى أنه لا يرتبط بوسيلة ولا بأية غاية، وإنما يربط بين الإرادة (الحرة) والقانون الكلي. الواجب هو ضرورة إنجاز الفعل احتراما للقانون. ولكن ما هو هذا القانون الواجب احترامه؟ أن الصفة المميزة لأي قانون هي أنه كلي، أي صادق بالنسبة لجميع الأحوال بدون استثناء. والقانون الأخلاقي هو القانون الذي يقول إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقيا إذا سيطر العقل على كل ميوله. وهكذا يربط كانط بين العقل والإرادة والحرية والأخلاق والواجب، باعتبارها كلها عناصر أفلتت من قبضة الحتميات المادية والغرائز الحيوانية، وأكدت الحيز الإنساني المستقل.

يستطرد كانط في الحديث عن القانون الأخلاقي فيقول: “لكي يكون سلوكك مؤديا إلى كمال نفسك وسعادة الآخرين يجب أن تعمل بحيث تتخذ الإنسانية -سواء أكانت ممثلة في شخصك أو في أي شخص آخر- غرضا ولا يجوز لك أبداً أن تعتبر الإنسانية وسيلة فقط”. افعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص سواك دائما وفي نفس الوقت على أنها غاية وليست أبداً على أنها مجرد وسيلة. إن المبدأ الأخلاقي الحقيقي هو الذي يدفع احترام الشخصيات الإنسانية أن تحترم الإنسان كإنسان وألا نُسخّر الآخر لخدمة مصالحنا (ولنقارن هذا بالأخلاق النفعية المادية والداروينية). واحترام الشخصية الإنسانية هو احترام لأنفسنا، لا كذرات فردية متناثرة، وإنما احترام لإنسانيتنا المشتركة، أو الإنسانية التي يشاركنا فيها الآخرون. وتكمن وراء هذه الأطروحة فكرة كرامة الإنسان كإنسان. وتنبع كرامة الإنسان من أن له عقل ويتمتع بحرية الإرادة. وهذه الحقيقة من المركزية بمكان بحيث أنها تهمش الحقائق الفرعية الأخرى مثل أن بعض الأشخاص أكثر أهمية من آخرين. ولذا يجب أن يُعطى كل شخص نفس القدر من الاحترام الذي يُعطى للآخرين. ويجب احترام حريته وأن تحدد حقوقه من خلال إصدار قوانين (وهنا يفصح كانط بشكل واضح، وربما فاضح عن ميتافيزيقيته الإنسانية المتجاوزة للطبيعة/ المادة، وهو بهذا يقف على الطرف النقيض من الفلاسفة النفعيين الماديين من دعاة المنفعة واللذة وتحويل العالم بأسره [الإنسان والطبيعة] إلى مادة استعمالية): “افعل بحيث يكون فعلك قانونا شاملا للبشرية بأسرها، واعمل كما لو كنت مشرّع القانون”. وبذلك نـزيح كل الدوافع الأنانية، وأفعالنا بذلك تكون موضوعية، بمعنى أننا سننظر إلى أنفسنا كما لو كنا شخصا آخر. وبهذه الطريقة سيمكننا أن نحكم على أخلاقنا هل هي خيرة أم لا؟

“قد نقول إنها أخلاق شاقة عسيرة -تلك التي ترغمك على وضع الواجب فوق السعادة والإنسانية فوق المصلحة الأنانية – ولكنها هي الوسيلة الوحيدة التي ترتفع بنا عن هذه الحيوانية (المادية/الطبيعية) التي نعيش فيها”، وهي الطريقة الوحيدة التي يتحقق بها جوهرنا الإنساني، وإنسانيتنا المشتركة.

“وجدير بنا أن نلاحظ أن هذا الصوت الباطني الذي ينادي بالواجب يقوم دليلا على حرية إرادة الإنسان واستقلاله عن عالم الطبيعة/المادة، لأنك لا تستطيع أن تتصور فكرة الواجب دون أن تتصور الإنسان حرا فيما يختار من سلوك، فحرية الإنسان التي استعصى علينا إقامة الدليل عليها بالعقل النظري يمكن البرهنة عليها بالشعور بها شعورا مباشرا إذا ما وقف الإنسان موقف الاختيار بين سلوكين”.

هذه هي الدوافع الأساسية للسلوك الأخلاقي، لأنه لو كان الدافع للسلوك الأخلاقي هو الرغبة أو الأهواء فإن هذا يفسد الأمر، لأن القانون الأخلاقي هنا لم يتم تحقيقه. فالأخلاق الحقيقية تنبع من النية الخيرة، وهي قوة حقيقية في البشر تنبع من الإنسان نفسه وليس من خارجه، ولذا فهي يمكن أن توجه الإرادة، وحين يقرر إنسان تقبل القانون الأخلاقي فإنه يتخذ قرارا بخصوص إنسانية الإنسان. ولذا فيمكن للإنسان أن يسلك سلوكا أخلاقيا ضد مصلحته الشخصية. وقد يسلك الإنسان سلوكا أخلاقيا، ولكنه لا يؤدي إلى نتيجة إيجابية، ومع هذا نعتبره فعلا أخلاقيا بغض النظر عن نتيجته العملية، لأن الإرادة الخيرة هي وحدها التي يمكن أن تعد خيرا في ذاتها، أو خيرا مطلقا أو خيرا غير مشروط. وهي خيرة في كل الظروف، ومهما كانت الأحوال فهي قد تكون خيرة في ظرف وغير خيرة في ظرف آخر، أو خيرة كوسيلة لغاية وشريرة كوسيلة لغاية أخرى.

وتتصاعد مركزية الإنسان وتتعمق وتتحرك من عالم الزمنية إلى عالم الأبدية، إذ إن الحس الخلقي وفعل الواجب والالتزام بالقانون والأمر الجازم تشير إلى ما وراء الطبيعة أي الإله. فيقول كانط: “وكما استنتجنا حرية إرادة الإنسان من صوت الواجب الذي فُطِرنا عليه [الكامن فينا] كذلك نستطيع أن نستنتج منه خلود الإنسان، فنحن نشعر بهذا الخلود ولكن لا يمكننا أن نقيم عليه الدليل. إن الحياة تعلمنا كل يوم درسا بل دروسا بأنه لا عقاب للمسيء ولا ثواب للمحسن. بل لو كان مجرد النفع الدنيوي والوصول إلى الغاية هو كل ما يبرر الفضيلة لما كان من الحكمة أن نكون فضلاء. ولكننا نري أننا على الرغم من هذا كله نشعر بصوت [كامن فينا] يدعونا إلى الفضيلة وعمل الخير حتى ولو لم يؤد ذلك إلى النفع. فكيف يمكن لهذا الشعور بالحق أن يعيش إن لم نكن نحس في قرارة نفوسنا أن هذه الحياة الدنيا ليست إلا جزءا من الحياة [الأكبر]، وأن هذا الحكم الدنيوي ليس إلا مقدمة لميلاد آخر وبعث جديد؟ لماذا نستمع لصوت الحق والفضيلة إن لم نكن نحس بأن تلك الحياة الأخرى أطول أمدا، وأن كل امرئ سيجزى فيها بما فعل من خير أضعافا مضاعفة؟”.

كما أن تنفيذ القانون الأخلاقي لا يضمن السعادة للإنسان، فالفضيلة والسعادة متغايران، فالفضيلة ترجع إلى القانون الخلقي وهو معنى كلي، والسعادة معنى حسي فردي، فكيف يمكن أن يتوافقا؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بافتراض وجود مفارق للطبيعة، يمكن أن يجتمع فيه المعنيان هو الله. فإذا كان العقل النظري قد عجز عن التدليل على وجوده، فقد استلزم العقل العملي افتراضه. أن الحس الخلقي ينبع من داخل الإنسان، ومنه تنبع أفكارنا عن الإله والحياة ما بعد الموت. وهذا وحده يظهر نوعا من الاتفاق بين الحياة الخلقية والحياة السعيدة.

فإذا سلمنا بأن الواجب والحس الخلقي لا يقتضيه العقل وحده، بل يأمرنا به الله، انتهينا إلى الدين. فالدين لم يسبق الأخلاق ولم يحددها، بل العكس، فالأخلاق هي التي أدت إلى الدين. (وأرجو من القارئ أن يقارن موقف كانط من الأخلاق والخلود بموقف على عزت بيجوفيتش). إن كانط بذلك يحاول أن يصل إلى المتجاوز.

ويمكن تلخيص جوهر رؤية كانط في عبارته الشهيرة عن السماء المرصعة بالنجوم فوقنا والقانون الأخلاقي داخلنا باعتبارهما مصدري الدهشة والإعجاب، فهما يمثلان عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها -مجال العقل النظري والعقل العملي. ويعد تمييز كانط بين عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها استمرارا للتمييز بين العالم الطبيعي والعالم الخارق للطبيعة، وهو تمييز أساسي في العصور الوسطي مع اختلاف جوهري وهو أن كانط قد جعل كلا من عالم الظواهر وعالم الأشياء بذاتها المتجاوزة ينتميان إلى هذا العالم، أي أنه يدور في إطار المرجعية المتجاوزة، ولكن في إطار مادي، فالحس الخلقي كامن في الطبيعة البشرية ذاتها وليس في أى شيء مفارق لها، والتصورات الأخلاقية أصولها قبلية في العقل الإنساني المشترك، وهو بهذا قد ساهم في رد المفارق والمتجاوز إلى الحال والكامن رغم محاولته الجاهدة في إبقاء المسافة بينهما، فليس الغرض الأسمى من وجود الإنسان هو السعادة (الحسية – الأنانية) وإنما هو الواجب (المتجاوز).

وهنا يمكن أن نطرح بعض الأسئلة من منظور إسلامي:

1- أخبرنا كانط أن الذهن البشري مركب تركيبا معينا، ولكنه لم يحدد مصدر هذا التركيب، ولم يخبرنا قط عن الذي وضع هذه المقولات في العقل الإنساني، ولم يبين لنا كيف أصبح للأحاسيس المختلفة هذا التركيب بعينه (أي أنه لم يحل مشكلة الأصول، رغم أن كل مفرداته ملوثة تماما بالميتافيزيقا وتشير إلى أصل متجاوز وعالم مفارق كما يقول أنصار ما بعد الحداثة!).

2- ويمكننا هنا بطبيعة الحال أن نثير نفس الأسئلة بالنسبة للحس الخلقي. فكانط يقول إنه مركب تركيبا معينا، ولكنه لم يحدد لنا مصدر هذا التركيب ولم يخبرنا قط عمن وضع هذا الحس الخلقي في الذات الإنسانية، وكيف أصبح يتسم بهذا التركيب وهذا التجاوز. كما أن إصرار كانط على أن الحس الخلقي والإحساس بالواجب هي من الأحاسيس الباطنية المفطورة في الإنسان ولا تكتسب بالتجربة يدعو للتساؤل. ويمكننا أن نحيله إلى أعمال هوبز والماركيز دي صاد وكل دعاة الاستنارة المظلمة الذين نظروا في أعماقهم فلم يروا سوي الذئب النهم والنمر المفترس وهو التحدي الذي ألقوا به في وجه كل دعاة الإنسانية الهيومانية والأفكار الخاصة بأن الإنسان خيِّر بطبيعته… إلخ.

3- مفهوم كانط للإله يختلف عن مفهوم الديانات التوحيدية له، فالإله في الإطار التوحيدي ليس كامنا فينا وإنما له وجود مستقل عن وجودنا وإرادة مستقلة عن إرادتنا، وهذه الثنائية الجوهرية ثنائية الخالق والمخلوق هي أساس الثنائيات الأخرى. ومفهوم الإله المتجاوز هو الذي يفسر الجوانب غير الطبيعية التي تميز الإنسان عن الكائنات الطبيعية، ومن ثم يحل إشكالية أصل الإنسان، إن هذا المفهوم هو الذي يعطى أساسا فلسفيا راسخا لمفهوم الحس الخلقى والإحساس بالواجب. فنحن إن قلنا “يجب أن”، فلابد وأن يكون هناك نقطة مفارقة للمادة، وإلا لما أصبح لهذه الكلمة معنى. وكما أن الديانات التوحيدية لا تنكر العقل ولكنها ترفض أيضا استقلاليته الكاملة، فهي ترفض أيضا استقلالية الحس الخلقي لأن المرجعية النهائية لابد وأن تكون متجاوزة وليست كامنة.

لكل هذا، نجد أن فلسفة كانط مهددة دائما بالتأرجح الشديد بين الواحدية المثالية الذاتية والواحدية المادية الموضوعية. فكانط ابن عصر الاستنارة (والعقلانية المادية)، ولذا نجده يحاول أن يطرح حلا لهذه المشكلة المعرفية بأن يؤكد أن قوانين الأشياء هي قوانين الفكر. والعبارة الأخيرة تُعلي ولا شك من المركزية الإنسانية وتصفي الموضوع المطلق لحساب الذات المطلقة، ولكنها في ذات الوقت (وهنا تكمن المفارقة) تفترض تقابلهما الصارم بل ترادفهما فالواحد هو الآخر، والعلاقة التي تربط الأفكار بعضها ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء بعضها ببعض، ولا غرابة فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بالفكر. ولهذا الفكر قوانين يجب أن يسير على أساسها، بل الفكر هو قوانينه، فبديهي إذن أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها قوانين الطبيعة، فقوانين العقل وقوانين المادة واحدة وقوانين المنطق وقوانين الطبيعة نفس الشيء. ألا يعني ذلك أن ما يسري على الطبيعة يسري على الإنسان، وأن هذا يعني السقوط في أحضان النـزعة الواحدية الموضوعية الطبيعية والتمركز حول الطبيعة/ المادة؟. أن النسق الكانطي بأسره قد لا يستند إلى أرضية طبيعية/مادية، ولكنه لا يتجاوز الزمان تماما، فهو يستند إلى العقل الإنساني والحس الخلقي، وهي أمور توجد داخل الزمان والدنيا، وهو شكل من أشكال التجاوز داخل المادة، ومن ثم فالثنائية واهية إلى أقصى حد، مهددة دائما بالسقوط.

ومع هذا يجب أن نسارع بالقول أن المنظومة الكانطية رغم تأرجحها الشديد تظل مستندة بالدرجة الأولى إلى ثنائية الإنسان والطبيعة.

وقد انقسمت الفلسفة الغربية بحدة بعد كانط كما هو متوقع، ففلسفته تستند إلى توازن دقيق لا يستند إلى أساس راسخ بين ما يمكن أن يعرف وما لا يمكن أن يعرف، وبين ما يعرف من خلال العقل وما يعرف من خلال الحس الخلقي، وبين الذات والموضوع، وبين الحس والعقل والخيال. ولكن معظم الفلاسفة الغربيين الذين جاءوا بعده سقطوا في الواحدية فأصروا على الوحدة الكاملة والتماسك العضوي أو ابتلعهم التشظي وتأرجحوا بين المثالية المتطرفة أو العدمية الكاملة. فهناك من وافق كانط على رؤيته في حدود المعرفة العقلية في فشلها في معرفة الأشياء وفي ذاتها، ولكنه أضاف قائلا إنه يمكن معرفتها مباشرة ويمكن الوصول إلى العالم الباطني المركب الثري المثالي الذي يقع خارج عالم الظاهر من خلال الحدس والإشراق والتجربة المباشرة وهذه هي الكانطية المثالية. وهناك من سقط في العدمية وأنكر السببية والمعنى، بالقول بأنه لا يمكن معرفة الشيء في ذاته بالعقل وأن كل ما لدينا هو أحاسيسنا الخاصة وأنه لا يمكن أن نثق بالتجربة الشخصية فلا سبيل إذن للوصول إلى منظومات معرفية أو أخلاقية.

وقد لاحظنا أن كانط ساهم في عملية رفع الحواجز بين الذات والموضوع، وبين المفارق والحال والمتجاوز والكامن، وتجلى هذا في إيمانه بالربوبية وبالديانة الربوبية التي أكدت التوازي بينهما مع تأكيد استقلال الواحد عن الآخر. ولكن كثيرين ممن جاءوا بعده حولوا ربوبيته إلى حلولية كاملة إذ أصبح إله كانط شبه المتجاوز حالا تماما في الطبيعة والتاريخ، فهو القوة المحركة للتاريخ والدافعة لها. وإذا كان الدين والأخلاق مترادفان ومتعادلان من الناحية الفعلية داخل نسق كانط فإنهما يتوحدان بعد ذلك، إذ إن الإله والإنسان يتوحدان بحيث لم يعد هناك فرق بينهما، ويصبح الإله هو العقل الكلي الذي يتجلى تدريجيا في الطبيعة والتاريخ والإنسان. وهذا هو جوهر المنظومات الهيجلية الواحدية، مثالية كانت أم مادية. وإذا كان شوبنهاور ونيتشه قد رفضا هيجل والهيجلية فإنهما أصرا على وحدة العالم ولكن بشكل جديد، فهي وحدة سائلة، فالعالم – حسب تصورهما- هو إرادة متدفقة مندفعة.

النقد الإنساني للحداثة الداروينية

العقل الأداتي والعقل النقدي:

من أهم هذه المصطلحات مصطلح «العقل الأداتي» (بالإنجليزية «إنسترومنتال ريزون instrumental reason» ويُقال له أيضاً «العقل الذاتي» أو «التقني» أو «الشكلي». ويقف على الطرف النقيض من «العقل النقدي» أو «الموضوعي» أو “الكلي”).

والعقل الأداتي هو العقل الذي يلتزم، على المستوى الشكلي، بالإجراءات دون هدف أو غاية، أي أنه العقل الذي يوظف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان. وهو، على المستوى الفعلي، العقل الذي يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقاً من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وحوسلتهما.

وفي محاولة تفسير هيمنة العقل الأداتي على المجتمعات الغربية الحديثة، يرى ممثلو مدرسة فرانكفورت أن أحد أهم أسباب ظهوره هو آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي. فتبَادُل السلع يعني تساوي الأشياء المُتبادَلة، فما يُهِم في السلعة ليس قيمتها الاستعمالية المتعينة (المرتبطة بالإنسان) وإنما ثمنها المجرد (المرتبط بالسوق). والأيديولوجيا النابعة من هذا التبادل المجرد هي أيديولوجيا واحدية مادية تمحو الفروق وتُوحِّد الواقع مساويةً بين الظواهر المختلفة بحيث يصبح الواقع كله مادة لا سمات لها. ولم تشكل المجتمعات التي كانت اشتراكية أي بديل، فهي الأخرى سيطر عليها العقل الأداتي متمثلاً في التكنوقراطيات الحاكمة.

ولا يكتفي أعضاء مدرسة فرانكفورت بتفسير أصول العقل الأداتي استناداً إلى عناصر مادية أو اقتصادية أو سياسية وحسب، وإنما يعودون إلى عناصر ثقافية حضارية (على طريقة ماكس فيبر). فالعقـل الأداتي -حسـبما يرى هوركهايمر وأدورنو- يعود أولاً إلى الأساطير اليونانية القديمة (التي تعبر عن رؤية الإنسان الغربي للكون)، وخصوصاً أسطورة أوديسيوس باعتبار أن الإلياذة والأوديسة هما اللبنة الأسطورية الأساسية للوجدان الغربي. وقد جاء في الأوديسا أن أوديسيوس طلب من بحارته أن يضعوا الشمع في آذانهم حتى لا يسمعوا غناء الحوريات، وهو غناء ينتهي بمن يسمعه إلى الاستسلام لهن ولإغوائهن. وطلب منهم أن يقيدوه إلى “صاري” السفينة وأن يزيدوا تقييده كلما ازداد الغناء. وتنتهي الأسطورة بانتحار الحوريات لأن أوديسيوس سمع غناءهن وعرف سرهن.

وتُفسَّر هذه الأسطورة على النحو التالي:

1- علاقة الإنسان بالطبيعة في الأوديسة هي علاقة صراع وهيمنة وليست علاقة توازن. وأوديسيوس وبحارته هم رمز الإنسان الذي يود الهيمنة على الطبيعة.

2- يتم إنجاز هذا الهدف عن طريق إهدار إنسانية الإنسان وتلقائيته، فالبحارة (رمز الطبقة العاملة) يفقدون الصلة تماماً مع الطبيعة، وأوديسيوس (رمز الطبقة الحاكمة) لا يستمع إلى الغناء إلا وهو مقيد إلى الصاري، أي أنه يحلم بالسعادة دون أن يعيشها ويحلم بالطبيعة دون أن يرتبط بها.

3- لا يَنتُج عن هذا انفصال الإنسان عن الطبيعة وحسب وإنما يَنتُج عنه أيضاً انفصال المثال عن الواقع وانفصال الجزء الإنساني عن الكل الطبيعي، وبذا أصبح الإنسان يعيش بعقله في مواجهة البيئة يحاول استغلالها وحسب دون أن يتفاعل معها، أي أن الإنسان الكلي الحي يموت ليحل محله إنسان اقتصادي إمبريالي ميت، لأنه لا يحوي داخله الجوهر الإنساني المتكامل.

4- تنتهي الأسطورة بانتحار الحوريات وموت الطبيعة لأنها فقدت سحرها وقدسيتها.

وأخيراً، يذكر هوركهايمر وأدورنو ذاتية ديكارت حين وضع الذات مقابل الموضوع وخلق هذه الثنائية الحادة والصلبة بينهما، وكأن الذات يمكن أن تُوجَد مستقلة عن الموضوع، وكأن الموضوع يمكن أن يُوجَد في حد ذاته مستقلاً عن الذات. واستقلال الذات هنا يعني أنها ستُحوِّل الطبيعة إلى مجرد موضوع للتأمل (كما فعل أوديسيوس) يمكن توظيفه وحوسلته والسيطرة عليه.

وحركة الاستنارة هي قمة منطق السيطرة والهيمنة (يشيرون لها بأنها «الاستنارة المريضة» و«الاستنارة اللاإنسانية» و«المدنية» في مقابل «الحضارة»)، فهي حركة إسقاط لا محاكاة إذ تُلغي الطبيعة تماماً وتُعلن إمكانية السيطرة النهائية من خلال تجريدها من خصائصها الضرورية (قداستها – حرمتها – أسرارها – غيبها)، وتفتيتها إلى ذرات منفصلة  والحساب والتحكم والسيطرة. ولكن المفارقة تكمن في أن الاستنارة بذلك أدركت الإنسان نفسه من خلال مقولات العلوم الطبيعية البسيطة (أي إنها محت ثنائية الإنسان والطبيعة). وينتهي الأمر حين يسوي التنوير كل شيء بكل شيء آخر، ويصبح العالم مادة استعمالية خاضعة لمؤسسات العقل الأداتي الإدارية والبيروقراطية، وينفلت من أية غائيات إنسانية حتى يصبح قوة مستقلة تماماً لها أجزاؤها وأهدافها التي تتجاوز ما هو إنساني.

ويمكن القول بأن العقل الأداتي، بعد تبلوره، يتسم بالسمات التالية:

1- ينظر العقل الأداتي إلى الواقع من منظور التماثل ولا يهتم بالخصوصية، ولذا فهو يبحث عن السمات المتماثلة في الأشياء ويهمل السمات التي تميز ظاهرة ما عن أخرى.

2- العقل الأداتي قادر على إدراك الأجزاء، ولذا فهو يفتت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة، ويفككه دون أن يستطيع إعادة تركيبه إلا من خلال نماذج اختزالية بسيطة.

3- ينظر العقل الأداتي إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية/المادية الأخرى. وهذا الجزء ليس له ما يُميِّزه عن بقية العالم، ولذا فهو مُستوعَب في كليته في النظام الاجتماعي وفي تقسيم العمل السائد وفي الطبيعة/المادة.

4- العقل الأداتي ينظر إلى الإنسان من منظور العلوم الطبيعية باعتباره شيئاً ثابتاً وكماً واضحاً ووضعاً قائماً لا يحوي أية إمكانيات.

5- العقل الأداتي ينظر إلى الطبيعة والإنسـان باعتبارهما مادة استعمالية يمكن توظيفهما وحوسـلتهما لخدمة أي هـدف.

6- الهدف النهائي من الوجود هو الحفاظ على بقاء الذات وهيمنتها وتفوقها (ومن هنا تسميته بالعقل الذاتي أيضاً).

7- لتحقيق هذا الهدف، يلجأ العقل الأداتي إلى فرض المقولات الكمية على الواقع وإخضاع جميع الوقائع والظواهر (الطبيعة والإنسان) للقوانين الشكلية والقواعد القياسية والنماذج الرياضية، حتى يمكن التحكم في الواقع (ويصل هذا إلى ذروته في الفلسفة الوضعية).

ينتج عن هذا ما يلي:

1- أن العقل الأداتي يصبح عاجزاً تماماً عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والتاريخية في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المباشرة، بل إنه يعجز تماماً عن إدراك غائيات نهائية أو كليات متجاوزة للمعطيات الجزئية الحسية والمعطيات المادية الآنية (ولذا، يمكن تسميته بالعقل الجزئي) وهو ما يعني أنه يصبح عاجزاً تماماً عن تحقيق أي تجاوز معرفي أو أخلاقي.

2- لهذا السبب نفسه، يصبح العقل الأداتي غير قادر على تَجاوُز الحاضر للوصول إلى الماضي أو استشراف المستقبل، أي أن العقل الأداتي يسقط تماماً في اللازمنية واللاتاريخية.

3- مع غياب أية مقدرة على إدراك الكل المتجاوز وأية أسس تاريخية ورؤى مستقبلية، أي مع غياب أية أرضية معرفية ثابتة، يمكن أن تستند إليها معايير عامة، يسقط العقل الأداتي تماماً في النسبية المعرفية والأخلاقية والجمالية إذ تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم تظهر حالة من اللامعيارية الكاملة. ومع هذا، يمكن القول بأن النموذج الكامن والمهيمن على الإنسان يصبح، مع تساوي الأمور، هو: الطبيعة/المادة – السلعة – الشيء في ذاته – علاقات التبادل المجردة.

4- لكل هذا، يصبح العقل الأداتي قادراً على شيء واحد: قبول الأمر الواقع والتكيف مع ما أمامه من وقائع قائمة وأحداث وجزئيات وظروف القهر والقمع والتنميط والتشيؤ والاغتراب، وهو ما يعني تثبيت دعائم السلطة وعلاقات القوة والسيادة القائمة في مجتمع معين وكبح أية نـزعات إبداعية تلقائية تتجاوز ما هو مألوف.

وقد رصد يورجين هابرماس (1929-  )، آخر ممثلي مدرسة فرانكفورت، ظاهرة العقل الأداتي وترويض الإنسان في المجتمعات الحديثة وسماها «استعمار عالم الحياة» (أي عالم الوجود المُتعيِّن المُعاش الذي تُوجَد فيه الذات وتتفاعل معه وتستمد وجودها منه). فالترشيد الأداتي والحوسلة المتزايدة لمجالات متنامية في الحياة الاجتماعية، من قبَل الأنظمة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والإدارية، يؤدي إلى استعباد الإنسان وإلى تقليص عالم الحياة وهيمنة عالم الأداة واستبعاد كثير من جوانب حياته الثرية وإمكانياته الكامنة المتنوعة (أي أن العقل الأداتي يؤدي إلى هيمنة الواحدية الموضوعية المادية، إن أردنا استخدام مصطلحنا). ويلاحظ أن وصف الأدبيات الغربية للعقل الأداتي لا يختلف في جوهره عن وصفها لما يسمى “العقل المادي”.

في مقابل كل هذا يضع مفكرو مدرسة فرانكفورت “العقل النقدي” وهي ترجمة للمصطلح الإنجليزي «كريتيكال ريزون critical reason»، و«العقل النقدي» هو المفهوم الأساسي في كتابات مفكري مدرسة فرانكفورت (النظرية النقدية) ويُقال له أيضاً «العقل الكلي» أو «العقل الموضوعي» (مقابل «العقل الأداتي» أو «العقل الجزئي» و«العقل الذاتي»). وكلمة «نقدي» هنا مبهمة إلى حدٍّ ما، وتعود إلى مفهوم كانط في النقد. فكانط كان يرى عمله باعتباره جزءاً من المشروع التنويري الغربي الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة وأخضع كل شيء للنقد. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد وإنما أخذ خطوة للأمام وأخضع العقل للعملية النقدية نفسها، أي أن كانط أخضع أداة الاستنارة الكبرى للنقد وبيَّن حدودها الضيقة، متجاوزاً بذلك عقلانية عصر الاستنارة، أي أن هناك عقلانيتين: عقلانية مباشرة سطحية، وعقلانية أكثر عمقاً، وهذا هو الذي ترجم نفسه إلى عقلانية العقل الأداتي وعقلانية العقل النقدي.

ويتسم العقل النقدي بما يلي:

1- ينظر العقل النقدي إلى الإنسان لا باعتباره جزءاً من كل أكبر منه يعيش داخل أشكال اجتماعية ثابتة معطاة، مُستوعَباً تماماً فيها وفي تقسيم العمل القائم، وإنما باعتباره كياناً مستقلاً مبدعاً لكل ما حوله من الأشكال التاريخية والاجتماعية.

2- العقل النقدي يدرك العالم (الطبيعة والإنسان) لا كما تدركه العلوم الطبيعية، باعتباره مُعطَى ثابتاً ووضعاً قائماً وسطحاً صلباً، وإنما يدركه باعتباره وضعاً قائماً وإمكانية كامنة.

3- العقل النقدي لا يقنع بإدراك الجزئيات المباشـرة، فهو قادر على إدراك الحقيقة الكلية والغاية من الوجود الإنسـاني.

4- العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان ودوافعه وإمكانياته والغرض من وجوده.

5- العقل النقدي، لكل ما سبق، قادر على تَجاوُز الذات الضيقة والإجراءات والتفاصيل المباشرة والحاضر والأمر الواقع (ولذا يمكن تسمية «العقل النقدي» بـ «العقل المتجاوز»). فهو لا يذعن لما هو قائم ويتقبله، وإنما يمكنه القيام بجهد نقدي تجاه الأفكار والممارسات والعلاقات السائدة والبحث في جذور الأشياء وأصولها وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح (وهذا هو الجانب التفكيكي في العقل النقدي).

6- الحقيقة الكلية التي يدركها العقل النقدي والإمكانيات الكامنة ليست أموراً مجردة متجاوزة للإنسان (الفكرة الهيجلية المطلقة) وإنما هي كامنة في الإنسان ذاته، والعقل النقدي قادر على رؤيتها في كمونها هذا (أي أن الإنسان يحل محل الفكرة المطلقة).

7- التاريخ هو عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، أي أن التاريخ هو الذي يُردُّ إلى الإنسان (خالق التاريخ) وليس الإنسان هو الذي يُردُّ إلى التاريخ. ولذا، فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان؛ وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.

8- يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع (المبني على إدراك الإمكانية الإنسانية) من خلال الترابط الحر بين أفراد، عند كل منهم نفس الإمكانية لتنمية نفسه بنفس الدرجة وبذا يمتنع الاستغلال.

9- يمكن للعقل النقدي أن يساهم في هذه العملية من خلال الجهد التفكيكي الذي أشرنا إليه. ويمكنه أيضاً القيام بجهد تركيبـي إبداعي، فهو قادر على التمييز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي، وعلى صياغة نموذج ضدي لا انطلاقاً مما هو مُعطَى وإنما مما هو مُتصوَّر وممكن في آن واحد.

التسلع والتوثن والتشيؤ:

من أهم المصطلحات الأخرى التي تنطلق من إدراك ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة مصطلحات: التسلع والتوثن والتشيؤ. و”التسلع” (بالإنجليزية «كوموديفيكيشن commodification». و«التَسلُّع» مصطلح يشير إلى أن السلعة وعملية تَبادُل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولذاته ولعلاقاته مع الآخر والمجتمع. وإذا كانت السلعة هي مركز السوق والمحور الذي يدور حوله، فإن التَسلُّع يعني تَحوُّل العالم إلى حالة السوق، أي سيادة منطق الأشياء والواحدية المادية.

ولأن السلعة شيء، فإن التَسلُّع قد يعني أيضاً “التَشيُّؤ” بالإنجليزية: «رييفيكيشن reification»، ويعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقات آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل (أي حوسلة البشر باعتبارهم أشياء). وحـينما يتشيأ الإنسـان، فإنه سـينظر إلى مجتـمعه وتاريـخه (نتاج جهده وعمله وإبداعه) باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة (المادية) تُفرَض على الإنسان فرضاً من الخارج، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني فيصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً، يحدث ما يحدث له دون أية فاعلية من جانبه، فهو لا يملك من أمره شيئاً. وقمة التَشيُّؤ هي تطبيق مبادئ الترشيد الأداتي والحسابات الدقيقة على مجالات الحياة كافة.

ويمكن القول ببساطة شديدة بأن التَشيُّؤ هو أن يَتحوَّل الإنسان إلى شيء وتتمركز أحلامه حول الأشياء، فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء. والإنسان المُتشيِّئ إنسان ذو بُعد واحد قادر على التعامل مع الأشياء بكفاءة غير عادية من خلال نماذج اختزالية بسيطة، ولكنه يفشل في التعامل مع البشر بسبب تركيبيتهم. والإنسان المُتشيِّئ إنسان قادر على الإذعان للمجردات المطلقة وأن يتوحد بها ويتصرف على هديها. وهذا وصف جيد للإنسان الطبيعي الرشيد، الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة والمطلقات العلمانية الأخرى التي تُعدُّ تنويعاً على الطبيعة/المادة.

والتسلع والتشيؤ مصطلحان مرادفان تقريبا لمصطلح “التوثن” “بالإنجليزية فيتيشـيزم fetishism”. و«الوثن» هو الشـيء المادي، سواء أكان طبيعياً أم مادياً، الذي يتصور الإنسان أنه يُجسِّد روحاً وأنه ذو أثر سحري وقوة غامضة من شأنها أن تؤثر في مقدرات الناس بالنفع والضرر. ولذا، فهو يصبح محور ممارسات دينية. والتَوثُّن (حسب الأدبيات الماركسية الإنسانية) هو أن يُنظَر للسلعة (الشيء) لا باعتبارها نتاج جهد اجتماعي إنساني وإنما باعتبارها شيئاً مستقلاً عن الإنسان. وتتحكم السلع (الأشياء) في المُنتج (الإنسان) بدلاً من تحكُّم المنتج في السلع. وفي المجتمعات الاستهلاكية، تصبح السلع ذات قيمة محورية في حياة الإنسان تتجاوز قيمتها الاقتصادية وغرضها الاستعمالي، فكأن السلعة أصبحت لها قيمة كامنة فيها، لها حياتها الخاصة ومسارها الخاص، متجاوزة الإنسان واحتياجاته، وهذا مثل جيد على المرجعية المادية الكامنة (في السلعة) والتي تَجُبُّ المرجعيات المتجاوزة كافة وضمنها المرجعية الإنسانية. لكل هذا، تصبح السلعة مثل الوثن، مركز الكون الكامن في المادة، الذي يعبده الإنسان والهدف الأوحد من الوجود، فينحرف الإنسان عن جوهره الإنساني (في النظم الإنسـانية) وعن ذاته الربانية المركبة التي لا يمكن أن تُردَّ إلى عالم الطبيعة/المادة والأشياء في النظم التوحيديـة).

والتسلُّع والتشيؤ والتوثن تعني كلها أن الإنسان يحيِّد إنسانيته المتعينة فيسقط في عالم الأشياء (والسلع) المادية والذات الطبيعية المادية المنفصلة عن القيمة، ويذوب في مطلقات لا إنسانية مجردة (الطبيعة/المادة، والتنويعات عليها: الدولة – السوق – الإنتاج – الاستهلاك) ويفقد إنسانيته المركبة (الربانية). كما أن التسلُّع والتشيؤ والتوثن تعني أن الإنسان قد نـزعت عنه القداسة، وتم إخضاعه للواحدية المادية، وتحول العالم إلى مادة واحدة استعمالية بعد الهيمنة الإمبريالية الكاملة عليه، أي أن مشروع نيتشه – لمحو ظلال الإله- قد تحقق، ومشروع رورتى -بنـزع القداسة عن كل شيء تجاوز ذلك الإنسان- قد ترجم نفسه إلى واقع قائم.

الاغتراب والتنميط:

المصطلحات الثلاثة السابقة (التسلع والتشيؤ والتوثُّن) هي في واقع الأمر تنويع على مصطلح “الاغتراب” (ويشار إليه أيضا بـ”الاستلاب”. بالإنجليزية ألينيشن alienation). وتشير الكلمة إلى “غربة الإنسان عن جوهره، وتنـزله من المقام الذي ينبغي أن يكون فيه”. ويظهر التداخل (وأحيانا الترادف) بين التشيؤ والتوثن والتسلع والترشيد المادي من جهة، والاغتراب من جهة أخرى، في أن مصطلح الاغتراب يشير إلى فقدان الإنسان العلاقة مع مشاعره الإنسانية الدفينة العميقة واحتياجاته الإنسانية، وإلى إحساس الإنسان بتزايد هيمنة الإجراءات البيروقراطية اللاشخصية على حياته.

كل هذه الظواهر سبب ونتيجة لظاهرة متفشية في المجتمع الحديث، هي ظاهرة “التنميط” فالتنميط ترجمة لكلمة «ستاندارديزيشن standardization» وهي من كلمة «ستاندارد standard» ومعناها «معيار» أو «مقياس»، وفعل «ستانداردايز standardize» ومعناه «يُوحِّد» (المناهج أو المقاييس)، ويُطلَق الاصطلاح على ظاهرة في الحضارة الغربية، وهي أن كثيراً من المنتجات الحضارية تصبح متشابهة ونمطية بسبب الإنتاج الصناعي السلعي الآلي الضخم (على عكس المنتجات الحضارية في المجتمع التقليدي حيث نجد أن لكل شيء مصنوع شخصية مستقلة تستمدها من شخصية منتجها الذي صنعها بيديه). والتنميط في المنتجات الحضارية يؤدي إلى التنميط في أسلوب الحياة العامة والخاصة فيقضي الإنسان حياته في سلسلة محكومة من روتين يومي مُنظَّم بمواعيد دقيقة ومتتالية معروفة مسبقاً (نوم – انتقال – عملي آلي – وقت فراغ) ثم يتم تنميط حياة الإنسان نفسها. فتقاليع الأزياء، على سبيل المثال، تجعل الناس كافة يغيرون طراز ملابسهم من عام إلى عام بحسب ما يصدر لهم من أوامر من باريس (أو غيرها من عواصم تصميم الأزياء). ويسارع الناس للإذعان وكأنهم يذعنون لأحد قوانين الطبيعة/المادة، فإن قال مصممو الأزياء إن “الموضة هذا العام هو الطويل” قام الجميع بتطويل ملابسهم، وإن قالوا “قصير” سارع الجميع بالتقصير، وهكذا. ويذهب علماء الاجتماع إلى أن عمليات التنميط ليست مقصورة على عالم الأشياء البراني وإنما امتدت لتشـمل عالم الإنسان الجواني، بحيث تم تنميط أحلام الإنسـان ورغباته وتطلعاته ورؤيته لنفسـه وأنماط سلوكه، وتمت المساواة بين البشر والتسوية بينهم من الداخل والخارج.

ولعل انتشار العنف والانتحار وشرب الكحول وإدمان المخدرات في البلاد المتقدمة هو تعبير عن احتجاج الإنسان على هذا التنميط الذي يقضي على عالمه الجواني تماماً وعلى حريته ويدفع به في عالم واحدي مادي بسيط. ولعل انتشار الإباحية ذاته هو تعبير عن نفس الاحتجاج، فآليات الإشباع الجنسي متاحة بشكل مذهل في المجتمعات الغربية ومع هذا تتزايد الأفلام والكتب والمجلات الإباحية. فالإنسان الذي تُقمَع حريته تماماً يهرب من عالم التنميط إلى عالم فردوسي خال تماماً من أي حدود، عالم لا يماثل عالمه المتجانس المحكوم المضبوط، عالم من الفوضى الكاملة يحميه من عالم التنميط والضبط الكامل والواحدية المادية.

الإنسان ذو البعد الواحد:

وثمرة عمليات الترشيد والتطبيع والحوسلة والتشييئ والتنميط هو ظهور “الإنسان ذي البعد الواحد” (بالإنجليزية: وان ديمنشينال مان one-dimensional man)، وهي عبارة ترد في كتابات هربرت ماركوز أحد مفكري مدرسة فرانكفورت (وعنوان أحد كتبه)، وهي تعني “الإنسان البسيط غير المركب”.

والإنسان ذو البعد الواحد نتاج المجتمع الحديث، مجتمع ذي بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية، شعاره بسيط جدا هو التقدم العلمي والصناعي والمادي، وتعظيم الإنتاجية المادية، وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك. وتهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج كمية ورياضية. وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه، وترشده وتنمطه وتشيؤه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها.

ويذهب ماركوز إلى أن المجتمعات الاستهلاكية تتسم بهيمنة المؤسسات الرأسمالية على السلطة وسيطرتها على عملية الإنتاج والتوزيع، بل صياغة رغبات الناس وتطلعاتهم وأحلامهم (أي أنها تتحرك في كل من رقعة الحياة العامة والخاصة)، فهي تنجح في خلق طبيعة ثانية مشوهة لدى الإنسان، إذ يتركز اهتمامه على وظيفته التي يضطلع بها (فهو إنسان وظيفي)، وتتركز أحلامه على السلع ويرى ذاته باعتباره منتجا ومستهلكا وحسب، دون أدنى إحساس بأية غائية كبرى أو هدف أعظم تتجاوزان السقف المادي، ويرى أن تحقيق ذاته إنما يكمن في حصوله على السلع. ويتم إشباع كل رغبات هذا الإنسان داخل مجال السلع هذا، حتى يصبح الإنسان أحادي البعد تماما (متسلعا متشيئا)، مرتبطا تماما بسوق السلع، حدوده لا تتجاوز عالم السوق والسلع، فكأنه شيء بين الأشياء.

ويلاحظ ماركوز أن الديباجات الفردية التي تستخدمها الإعلانات قناع ماكر يخبئ عملية فرض الأنماط الاستهلاكية الجمعية، التي توحي للمستهلك بأن يقلد الآخرين وأن يتبع الموضات وآخر الصيحات. فكأن الفردية هنا قناع لعملية ترشيد كاملة لباطن الإنسان، تدخل في روعه أن هذا الحلم هو حلمه وحده، وأن هذه السلعة سبيله الشخصي الوحيد لتحقيق ذاته، مع أنها في واقع الأمر وسيلة تجعل تطلعاته وأحلامه مثل تطلعات الآخرين وأحلامهم، وبذلك تستمر الآلة الاستهلاكية في الدوران. إن المستهلك أحادي البعد هو “شيء” أنيق الملبس، يستهلك كل السلع المطلوب منه أن يستهلكها، داخل إطار مجتمع تتم إدارته من الداخل والخارج بطريقة هندسية رشيدة غير ديمقراطية. ومع هذا (وهنا تكمن قوة المجتمعات الاستهلاكية)، يظن الإنسان أنه يمارس حريته وفرديته! فمجال الاختيار في عالم السلع واسع لأقصى حد. ولكن هذا يخبئ الحقيقة الأساسية وهي أن مجال الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) قد تقلص تماما واختفى، وأن هذا الإنسان فقد مقدرته على الاختيار وعلى التجاوز وعلى نقد المجتمع، وأصبحت عنده مقدرة عالية على التكيف وقبول الأمر الواقع والإذعان له، أي أنه أصبح في واقع الأمر مثل الظواهر الطبيعية/ المادية الخاضعة للحتميات الطبيعية/ المادية، ويسمي ماركوز هذه المجتمعات “مجتمعات ديمقراطية لا تتمتع بالحرية”، أي أنها مجتمعات شمولية نجحت في أن تجعل الجماهير تستبطن الرؤية السائدة في المجتمع دون قمع بوليسي برَّاني، بحيث يرى الإنسان أن الهدف من الحياة هو تراكم السلع. وبهذا يسود ضرب من “غياب الحرية في إطار ديمقراطي سلس معقول”! (بالإنجليزية: سموث ريزنابل ديموكراتيك أن فريدم smooth reasonable democratic unfreedom ).

ويرسم هوركهايمر صورة للإنسان الحديث لا تختلف عن تلك التي رسمها ماركوز. فهو يرى أن الإنسان الحديث تم تحريره من المعايير المطلقة للمجتمع التقليدي. ولكن الثمرة لم تكن إيجابية، إذ ظهر إنسان تمت تنقيته من كل المبادئ (أي أنه مثل الطبيعة /المادة منفصل عن القيمة) باستثناء مبدأ السعادة وإمتاع الذات (فى إطار استقلالي سلعي مادي)، وتم تفريغه من كل المقاصد والقيم إلا المقاصد والقيم المادية مثل البقاء وحفظ النفس، وأصبح إنسانا مفرغا من كل محتوى ومعيار باستثناء تلك المتعلقة بحساب الوسائل، وأصبح عاجزا تماما عن تقويم الخيارات المطروحة أو إدراك حقيقة التشوهات الحاصلة بغية تصويب الأخطاء وتصحيح الحلول. ولذا، لم تعد لديه أية قدرة على تجاوز ذاته الضيقة أو الظروف المحيطة به، ولم تعد لديه المقدرة على النظر إليها بشكل نقدي، وأصبحت المقدرة الأساسية عنده هي القدرة على التكيف مع القوى الاجتماعية المهيمنة وأداء الوظيفة الموكلة إليه، ولم تعد لديه من حريات سوى حرية اختيار بديل من البدائل المتوافرة والتي حددها له المجتمع الاستقلالي، التي يقع اختياره عليها بعد الانغماس في حسابات رشيدة تدور داخل الإطار المُعطى، ولذا فهي حسابات رشيدة إجرائية، لا علاقة لها بالمضمون ولا بالأهداف النهائية.

والإنسان ذو البعد الواحد هو نفسه الإنسان الطبيعي (الإنسان الاقتصادي والجسماني)، وهو إنسان بسيط يعيش داخل نطاق الطبيعة لا يملك عنها تجاوزا، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين، إنسان فقد تماما العقل النقدي المتجاوز. وهو أيضا الإنسان الوظيفي الذي يعرف في ضوء وظيفته التي توكل إليه، وهو الإنسان الذي تم ترشيده وتدجينه في إطار العقلانية المادية التكنولوجية. ورغم أن ماركوز يخصص حديثه أحيانا ويتحدث عن الإنسان ذي البعد الواحد باعتباره ظاهرة رأسمالية، إلا أنه، في معظم الأحيان، يراه باعتباره ظاهرة مرتبطة بالمجتمع الحديث ككل.

الإله الخفي:

ثمة نموذج أساسي كامن وراء المصطلحات إلتي أدرجناها رغم تنوع تجلياته. ويمكن وصف السمات الأساسية لهذا النموذج على النحو التالي :

1- يرى أصحاب هذا النموذج أن مركز الكون هو الإنسان (المتجاوز، متعدد الأبعاد، الحر، المسئول أخلاقيا) المنفصل عن الطبيعة، فهو إنسان إنسان.

2- ولكن يسقط الإنسان من هذه الحالة لأسباب عديدة من أهمها افتقاد التبادل السلعي الذي يسوى بين الأشياء، فينتقل المركز إلى الطبيعة/المادة (المبرمجة، الحتمية، الخاضعة لقانون واحد صارم) أو أية تنويعات عليها (مثل: الشيء – السلعة – العقلانية التكنولوجية – الكفاءة البيروقراطية والتكنوقراطية – النماذج الكمية).

3- نتيجة هذا تُلغى ثنائية الإنسان والطبيعة، وتسود الواحدية المادية، إذ إن ثمة قوانين عامة (طبيعية/مادية) تسري على الإنسان سريانها على الطبيعة، أي أن الإنسان يتم تفكيكه ورده إلى عالم الطبيعة/المادة ويتم استيعابه تماما فيها (أي يتم تطبيعه وتحييده)، فتختفي المنظومات القيمية والمعرفية الإنسانية المستقلة عن عالم الطبيعة/المادة المقصورة على الإنسان، أي أنه يصبح الإنسان الطبيعي.

4 – يفقد الإنسان أي تميز، وتُنـزع عنه القداسة، ويجرد من خصائصه الإنسانية، وتسقط عنه السمات الشخصية، ويصبح وسيلة لا غاية، وتتم حوسلته، كما يتم ترشيده والتوحيد بينه وبين بقية الكائنات الطبيعية/المادية.

5- تخضع الأشياء كافة (ومنها الإنسان) لمنطق العلوم الطبيعية، والنماذج الكمية الرياضية (منطق الأشياء)، ليصبح عقله نفسه عقلا أداتيا قادرا على التفكيك، غير قادر على التركيب أو الوصول إلى جوهر الطبيعة الإنسانية، فيدخل الإنسان القفص الحديدي. أي أنه يدخل عالم الحسابات (في الإطار المادي)، حيث تتم برمجة الأشياء كافة والتحكم فيها، فتسود العلاقات التعاقدية المحسوبة في المجتمع، وتختفي العلاقات التكافلية التراحمية، ويتم تشييء الإنسان وتسليعه.

6- الإنسان في هذه الحالة الجديدة لا يتسم بالثنائية أو بالتكامل أو التركيب أو بالمقدرة على التجاوز، فهو كائن طبيعي/ مادي بسيط، ذو بعد واحد، وظيفي، منمط، مبرمج، جزء لا يتجزأ من المادة، مغترب عن جوهره الإنساني.

7- ولكن رغم كل هذا لا يستسلم الإنسان تماما، فثمة شيء ما داخله (ثنائية الإنساني والطبيعي) يجعله يدرك إمكاناته واختلافه عن السلع والأشياء واستقلاله عن عالم الطبيعة/المادة، فيرفض الإذعان للحتميات المادية ويتمرد على محاولات تشييئه، أى أن ثنائية الإنساني والطبيعي لا يمكن محوها، فهي تعود لتأكيد نسبها، ومن ثم تأكيد إنسانية الإنسان.

وقد أشار بعض المفكرين في الغرب لهذا الشيء الكامن في الإنسان الذي يجعله يقاوم نموذج الواحدية المادية ويصر على استقلاله عن الطبيعة/ المادة بعبارة “الإله الخفي” (بالإنجليزية: هيدن جود hidden God ). والمصطلح يكاد يكون مترادفا مع “الضمير”. فالضمير يعني أن ثمة شيئا ما غير مادي، كامنا في الإنسان، يدفعه نحو الخير. وهو إن لم يتجه نحو الخير كما يملي عليه ضميره، فإنه يشعر بالذنب وبأنه أنكر بعدا من وجوده. ونحن نستخدم مصطلح “الإله الخفي”، بدلا من كلمة “ضمير” لتوضيح الأبعاد الكلية والنهائية لمفهوم الضمير. فالضمير ليس أمرا ماديا، ولا يمكن رده إلى الطبيعة/ المادة، وإنما يستند إلى عنصر ما في الإنسان سميناه “القبس الإلهي والنـزعة الربانية” (تلك النـزعة التي تنقذ الإنسان من النـزعة الجنينية والرغبة في الالتحام بالمادة). وهو عنصر روحي لا يمكن تفسيره ماديا. والضمير تعبير عن الإله الخفي في الإنسان، ولكنه يرتبط في ذهننا بمنظومة أخلاقية محددة، من خلالها يعرف الإنسان الشر والخير.

أما مفهوم “الإله الخفي” فهو يعني أن الإنسان قد لا يكون مؤمنا بأية منظومة أخلاقية أو معرفية أو دينية، بل قد يكون معاديا بشكل واع وصريح لكل القيم بلا استثناء، وقد يؤمن بنموذج مادي إلحادي ويظن أنه استبطنه تماما حتى أصبح جزءا لا يتجزأ من رؤيته ووجوده. ولكن هذا الإنسان – مع هذا- تفضحه – في ظروف معينة- أقواله وأفعاله وبشكل غير مباشر وغير واع، وتشي بوجود شيء ما في أعماق أعماقه يتناقض والإطار المادي الواحدي الذي تبناه. ورغم هذا، فإن مثل هذا الإنسان قد لا يتجه بالضرورة نحو اختيار منظومة أخلاقية بديلة.

ويمكننا أن نقول إن الإله الخفي هو – في واقع الأمر- البحث غير الواعي للإنسان المادي عن المقدس في الحتميات العلمانية الحديثة، بعد أن تصور أنه قد قتل الإله، وأسس عالما زمانيا مكانيا لا قداسة ولا محرمات ولا حرمات فيه. والمصطلح غير شائع في الأدبيات الغربية، ومع هذا فإنه ورد في عدة دراسات من أهمها دراسة للناقد الأدبي الأمريكي كليانث بروكس Cleanth Brooks.

ولعل فكر مدرسة فرانكفورت أصدق التعابير عن مفهوم الإله الخفي وأكثرها مأساوية. فمفكرو هذه المدرسة أدركوا تماما أن الإنسان توجد داخله إمكانية إبداعية حرة تتجاوز الحاضر المادي. وقد أفاضوا في الحديث عن هذه الإمكانية اللامتناهية التي يطمسها العصر الحديث والعقل الأداتي والنظم التكنوقراطية الحديثة. وانطلاقا من إدراكهم هذا أسسوا نظريتهم النقدية. ولكنهم، مع هذا، أصروا على ماديتها. وفي حالة هابرماس، تصبح المأساة ملهاة حين يصر على ما يسميه “الفعل التواصلي”، وهي لحظة مثالية تستند إلى ما يسميه هابرماس “نضج العقل” (وهو مصطلح كانطي صميم). ونضج العقل هذا سيجعله قادرا على أن يكتشف الترابط الاجتماعي. ويتم تحليل شروط صلاحية الحقيقة من خلال تحليل شروط التواصل اللغوي المثالي بين البشر بشكل عقلاني مثالي دون أية حواجز، مما يجعل البشر يتعرفون على إمكاناتهم الحقيقية المتنوعة، ويصوغون حياتهم في ضوء هذه الإمكانات. والخطاب هنا خطاب مادي من ناحية الظاهر، روحي مثالي حتى النخاع في بنيته وقصده وتوجهه، كما أنه ينطلق من مفهوم الإنسانية المشتركة.

وعبارة هابرماس ليست فريدة تماما، فهناك عدد لا بأس به من العبارات الترانسندنتالية، أي التي تتجاوز السطح المادي، المتواترة في الفكر الغربي الحديث. فهناك دائما حديث عن “التجاوز من خلال الطبيعة/المادة” (بالإنجليزية: ترانسندانس ثرو نيتشر through nature transcendence)، بمعنى أن الإنسان يوجد داخل المادة ولكنه لا يذعن لها ولا يرفضها، فهو يتطلع لأن يتجاوزها (وصولا إلى المقدس)، وهي محاولة للحفاظ على استقلالية الإنسان عن الطبيعة وعلى قداسته وحريته ومقدرته على الاختيار والتجاوز (العنصر الرباني)، دون التخلي عن الإطار المرجعي المادي النهائي. ويظهر الإله الخفي بشكل أكبر في عبارة “النـزعة الطبيعية المتجاوزة أو الخارقة للطبيعة” (بالإنجليزية: سوبرناتشور الناتشوراليزم naturalism super-natural)، وقد وردت في كثير من الكتابات التي تصف الحركة الرومانسية، وهي عنوان كتاب للناقد الأمريكي ماير إبرامز. كما سميت مدرسة فر انكفورت “الإنسانية الميتافيزيقية” (بالإنجليزية: ميتافيزيكال هيومانيزمmetaphysical humanism). ففي كل المصطلحات السابقة يوجد مكون مادي (خلال المادة- الطبيعة- الإنسانية)، ومكون متجاوز للمادة (تجاوز- تجاوز الطبيعة أو الخارق لها- الميتافيزيقيا)، ويمكن تعريفه -أي هذا المتجاوز للمادة- بأنه المقدس، وهو ما يعني وجود ثنائية تتجاوز الواحدية المادية رغم كل محاولات محاصرتها في إطار مادي محض.

والإله الخفي كامن وراء عبارة مفكر غربي آخر هو جون سيتوارت ميل (المفكر الليبرالي العلماني الذي كان ينكر وجود الخالق) حين قال: “خير لي أن أكون سقراطا ساخطا، من أن أكون خنـزيرا راضيا”. والعبارة تقترض ثنائية الوجود الإنساني وتأرجحها بين الحالة السقراطية (الإنسانية) والحالة الخنـزيرية (الطبيعية/المادية). ومصدر الحالة الخنـزيرية مفهوم تماما، ولكن ما مصدر سقراطية (إنسانية) الإنسان؟ ولماذا يفضل الإنسان الحالة السقراطية، بكل ما تعنيه من أعباء أخلاقية وقلق وسخط، على الحالة الخنـزيرية بكل ما تعنيه من لذة حسية ورضا جسدي؟ من منظور مادي خالص، لا يوجد أي فارق بين سقراط والخنـزير، بل إن الخنـزير أكثر مادية وشيئية من سقراط، خصوصا إذا كان خنـزيرا راضيا تماما! وقد حاول ميل تبرير اختياره على أساس عقلاني بل ومادي قائلا إنه يفضل سقراط على الخنـزير لأن سقراط يعرف حقيقة ذاته وحقيقة الخنـزير في آن واحد، أي أن سقراط حر قادر على الاختيار ومن ثم فهو أكثر تركيبا. ولكن مقاييس مثل الحرية والقدرة على الاختيار والتركيبية مقاييس تستند إلى إيمان بوجود شيء غير مادي، شيء متجاوز (شيء مقدس)، ينقذ الإنسان من السقوط في حالة الخنـزير الراضي أو في حمأة المادة. والإنسان السقراطي غير قادر على أن يدرك خنـزيرية الخنـزير إلا إذا كان في داخله شيء ما يتجاوز هذا الخنـزير المادي العنيد الحقيقي.

ويتبدى نموذج الإله الخفي بشكل مأساوى فيما قاله أوبنهايمر مكتشف المعادلة التي أدت إلى تطوير القنبلة النووية لمؤلف هذا الكتاب حين سأله (وقد قابله في منـزله في مدينة برنستون) عن أول شيء فعله بعد اكتشاف المعادلة الشهيرة، فكانت إجابته سريعة قاطعه: “لقد تقيأت”! وما حدث هنا أن الإنساني الطبيعي /المادي، الإنسان الصانع (باللاتينية: هومو فابر homo faber)، الذي يتحرك في الفضاء الطبيعي/ المادي ويراكم المعلومات بحياد شديد منفصلا عن أى قيم ومعايير إنسانية توصل إلى المعادلة الرياضية المطلوبة بعد تحقيق التراكم المناسب. ولكن الإنسان العاقل (باللاتينية: هومو سابينـز homo sapiens) صاحب الضمير، الذي يوجد فيه القبس الإلهي الذي يميزه عن عالم الطبيعة/المادة، نظر إلى المسألة وقوّمها، وتدبرها من منظور أخلاقي، وأدرك خطرها.. فتقيأ! إن انتصار أوبنهايمر العلمي المادي ثم تقيؤه في لحظة الانتصار يشبه الأدب الحداثي. فهو أدب حضارة منتصرة، لا يحتفي أدباؤها بالانتصار.. وإنما يتقيأون! فالإله الخفي يجعلهم يدركون أن الانتصارات التي تحققها حضارتهم باسم الإنسان الطبيعي/ المادي تؤدي إلى وأد شيء مهم جدا في الإنسان، شيء لصيق بإنسانيته، نسميه “القبس الإلهي”، ولكنهم لا يسمونه.. وإنما يدورون حوله، ويتجلى بشكل خفي في كتاباتهم ويعذبهم ويؤرقهم، ولذا، فإنه يصدق نعته بأنه “الإله الخفي”.

ويمكن القول بأن الحديث عن “حتمية الميتافيزيقا” هو حديث عن الإله الخفي. فقد لوحظ أن الإنسان مهما بلغ من إلحاد ومادية فإنه لا يقبل المادة المتغيرة إطارا مرجعيا، وإنما يبحث عن مركز للعالم، وعن إطار، وعن أرض ثابتة يقف عليها وعن كليات تتجاوز الأجزاء. وقد أدرك نيتشه أن هذا تعبير عن الإله الخفي، واختار مصطلح “ظلال الإله” ليشير إليه. وقد أدرك فلاسفة ما بعد الحداثة ذلك، ولذا فإن مشروعهم لا يتلخص في الهجوم على الميتافيزيقا الدينية أو المثالية وحسب، وإنما في تحطيم فكرة الحقيقة نفسها حتى تتم إزالة “ظلال الإله” وتحطيم الميتافيزيقا بلا رجعة. وكان حلمهم المقترح هو التخلص من ثنائية المطلق/ النسبي لصالح مطلق نسبي (ثابت متغير).

إن النموذج الفعال في الحضارة الغربية الحديثة، هو نموذج واحدي مادي تماما، ومع هذا نجد أن البشر يسلكون بطريقة تتنافى مع النموذج المهيمن الذي يعلن الجميع ولاءهم له. فتظل هناك ثنائيات الخير والشر، والمقدس والمدنس، والمطلق والنسبي النابعة من إدراكهم الفطري لثنائية الإنساني والطبيعي/ المادي. ولذا تؤكد العلاقات الإنسانية الفطرية نفسها بطريقة تتحدى النموذج المادي الفعال، وبطريقة غير مباشرة كان يفترض التخلي عنها بحيث تخضع مثل هذه العلاقات للتفاوض وبحيث يحل محلها علاقات تعاقدية مرشدة. ولكن العلاقات الإنسانية الفطرية – مع هذا- تستمر وتؤكد نفسها. ولذا، فنحن نـزعم أن الأمريكيين – على سبيل المثال- كبشر أعظم من القيم السائدة في المجتمع الأمريكي، وهو تأكيد يبين أن العنصر الرباني في الإنسان لا يمكن محوه.

ومن الممكن القول بأن هذا العنصر الرباني اللصيق بإنسانية الإنسان وفطرته، وهو عنصر يأخذ شكل الإله الخفي -هو ما يمنع النموذج الطبيعي/ المادي من التحقق الكامل، ومن الوصول إلى اللحظة النماذجية ونقطة الصفر المادية.. إلا في لحظات نادرة. وإذا كانت اللحظة النماذجية العلمانية هي لحظة حلول الإله في المادة حلولا كاملا، وكمون المركز فيها وتغلب النـزعة الجنينية على الإنسان – فإن الإله الخفي هو تعبير عن أن الإله حي لا يموت، وأن ما حدث ليس موتا للإله نتيجة حلوله في المادة وتوحده بها واستيعابه فيها (فهو متجاوز للطبيعة والمادة)، وإنما هو تعبير عن أن نسيان الإنسان للإله أدى إلى نسيان الإنسان لذاته المركبة الربانية: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر: 19)، بل هو تناسٍ لمقدرة الإنسان على تجاوز العالم المادي وعلى اكتشافه لجوهره الرباني الإنساني. ولكنه، على أية حال، ليس نسيانا كاملا، إذ تظل ذاكرة النور الذي يبثه الإله في الصدور قائمة في أعماق وجدان الإنسان.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  بحث أعده أ. د. عبدالوهاب المسيري ليقدمه إلى مؤتمر “الفلسفة في الفكر الإسلامي: قراءة منهجية ومعرفية” الذي نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بعمان/الأردن بالتعاون مع وزارة الثقافة بالأردن والجامعة الأردنية، بتاريخ 29-30 أكتوبر 2008. وقد توفى د. المسيري – رحمه الله – قبل انعقاد المؤتمر.

البحث منشور في مجلة المسلم المعاصر. ع. 151، 2014. ص ص 173- 287.

** أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية البنات جامعة عين شمس.

وقد عمل د. المسيري كأستاذ للأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة عين شمس والعديد من الجامعات العربية والإسلامية، ولمعرفة المزيد عن المؤلف نرجو الدخول على الموقع www.elmessiri.com.

[1]  يمكن أن نضيف أن ثمة رؤية أخرى ترى الإنسان باعتباره كائناً روحانياً وحسب، ورغم اختلاف هذه الرؤية الروحية عن الرؤية المادية إلا أنهما يشتركان في اختزاليتهما وواحديتهما، فكلاهما يرد الإنسان إلى عنصر واحد [روحياً كان أم مادياً]، فكما أن هناك واحدية مادية، هناك أيضاً واحدية روحية، لكننا سنركز في دراستنا على الرؤية الطبيعية/المادية للإنسان لأنها الأكثر جاذبية وشيوعاً فى العصر الحديث).