نحو بناء علم التفسير

نحو بناء علم التفسير*

د. خليل محمود اليماني**

إن وجود تراث تطبيقي متراكم من التفسير للنص القرآني يعني أوّل ما يعني أننا أمام ممارسة معرفية ممتدة، وكما هو الشأن في الممارسة العلمية فإن محصولها يظل في حالة من التراكم المستمر وفي حالة من التدافع والأخذ والرد بين المزاولين لهذه الممارسة. وحتى يمكن الاستيعاب المدقق للواقع القائم لهذه الممارسة وحسن فهمه والاتصال به واستمرار حالة المراكمة عليه؛ فمن الواجب أن يكون عندنا سياج معرفي وعلم خاص بصناعة الوعي بالممارسة التفسيرية في ميدانها التطبيقي، بحيث يكون ذلك بمثابة المظلة الجامعة لعدد موسع من الجهود ومسارات الاشتغال البحثي المعرفي المتنوّع حول هذه الممارسة، فيتحقق لنا بذلك حسن الإحاطة بها والوعي الصحيح بقضاياها.

إن وجود علم التفسير هو ذلك السياج الذي سيحقق لنا العناية المنضبطة والمتكاملة بالممارسة التفسيرية القائمة للنص القرآني، وأن يكون عندنا إطار معرفي للعناية بقضايا هذه الممارسة والكلام في مسائلها وخِدمتها من جوانب عديدة تيسر حسن الإحاطة بها، وصناعة الوعي لدى الدارسين بمختلف قضاياها وأنساق تشكلها.

إن الحاجة لأهمية إقامة علم التفسير تتبدى بوضوح حين ننظر إلى الإشكالات المتنوعة التي تحتفّ بوضعية قضايا التفسير التطبيقي القائم، هذه الإشكالات التي ترجع برأينا لغياب هذا العلم وعدم وجود سياج معرفي يعتني بالممارسة التفسيرية القائمة للنص القرآني؛ وأبرز هذه الإشكالات ما يأتي[1]:

أولاً- ضعف الإحاطة بالمدونة التفسيرية التطبيقية:

الناظر في مدونة التفسير يجد أننا أمام مدونة مترامية الأطراف تكتظ بمؤلفات ومصنفات قامت فيها جهود متنوّعة ومسارات اشتغال مختلفة، وفيها كذلك عدد هائل من الألوان والأطياف، وتفاوت في المضامين والمعلومات… إلخ، في حين أننا لا نعرف كثيراً عن واقع تشكُّل هذه المدونة، وليس لدينا إحاطة معمقة بتاريخ التفسير مفاهيم مصنفاته ولا أصول مَن قاموا بالممارسة التفسيرية ولا معرفة مدارسهم الإنتاجية للتفسير…إلخ.

يقول الدكتور محمد صالح في بيانه لإشكالات التفسير: “يمكن إجمال هذه الإشكالات في ضوء ما يأتي:

1- ندرة الضبط والتحرير لمصطلحات علم التفسير ومفاهيمه في الإرث التفسيري، ذلك الضبط الذي يتجاوز التعميمات والإطلاقات غير المنضبطة، كما يتجاوز الوحدة المفهومية فيما تعدّدت دلالته، والوحدة المصطلحية فيما اتّحدت دلالته وتعددت مصطلحاته، والوحدة المتوهّمة بين أرباب التفسير فيما لم يتفقوا على دلالته، كما يُعنَى ذلك الضبط بالتنبه لآثار الدلالات والمفاهيم وانعكاساتها على الواقع النظري والتطبيقي.

 2- غياب التأريخ الدقيق لمسيرة علم التفسير، ذلكم التأريخ الذي يتجاوز مجرد العرض والسرد المجمل إلى الرصد الدقيق لحركة العلم عبر الزمن، وتتبُع أطواره ومساراته، وتأثيره وتأثراته، وأدواته ومصادره وكيفيات توظيفها، ومساحات الإبداع والتجديد، والجمود والتقليد وغير ذلك مما من شأنه رسم الخط الزمني لمسار العلم عبر الزمن”[2].

ويقول الأكاديمي الغربي الدكتور وليد صالح في سياق شرحه لأسباب تركز الدراسات الغربية حول كتب التفسير المبكرة مما قبل الطبري وعدم ولوجها لدراسة التفاسير فيما بعد ذلك: “دراسات التفسير لا تزال – في واقع الأمر- مفتقرة إلى الأدوات الأساسية التي من شأنها أن تتيح إمكانية تقييم معايير هذا الحقل الأكاديمي؛ فليس لدينا فهرس كامل بأعمال التفسير، ولا دراسات مفصلة عن مؤلفين بأعيانهم أو عن أعمال بعينها، حاشا قِلّة من الدراسات المفردة عن بعض التفاسير الشهيرة. وكنتيجة لذلك، لَسْنَا قادرين حتى الآن على كتابة موجز دقيق للتطوّرات التاريخية التي مر بها حقل التفسير”[3].

ولا شك أن مثل هذه الإشكالات تبين مقدار حالة الضعف التي نعانيها في الإحاطة بالاشتغال التطبيقي للتفسير، وعدم قدرتنا على حسن الاقتراب من هذا الاشتغال والتعرف المنضبط على كيفيات تشكُله والمفاهيم التي صدر عنها في التفسير والمدارس التي انتظمته وترتيب حصاد مقولاته التفسيرية … إلخ، وهو ما يؤثر سلبًا بطبيعة الحال على حسن التعاطي مع العمل التفسيري وبقاء حالة المراكمة عليه حية نضرة.

ثانياً- عدم بروز مسارات عناية مهمة بالتفسير:

في ضوء وجود نتاج تفسيري هائل – كما هو حاصل في مدوّنة التفسير- فإننا لكي نحسن الاتصال بهذا النتاج فلا بد من حضور مسارات معرفية تعتني بهذا النتاج وتعمل على تقريبه، وذلك كـ:

–  تصنيف مؤلّفات التفسير، وأن يكون بين أيدينا تصنيف مرتب للتفاسير وفقًا لاعتبارات عديدة تبرز توجهات هذه المؤلفات وأنساق اشتغالها المختلفة، وأن تكون عندنا خرائط معرفية واضحة بطبيعة الأوزان العِلمية لمؤلفات التفسير وأكثرها أولوية من حيث الثقل المعرفي في العمل التفسيري، وكذلك تكون عندنا شروح وتعليقات على المؤلفات المحورية تُوَجّه عبارتها وتُعِين على ضبط التعامل معها، وغير ذلك.

 – ضبط حصاد مقولات المؤلفات ومضامينها التفسيرية بصورة مرتبة، وأن تكون عندنا مؤلفات تُعنَى بجمع المقولات والمضامين التفسيرية التي هي ثمرة الاشتغال التفسيري، وترتيب الحجاج الدائر حولها في المصنفات، وتقدم ذلك بطرائق مختلفة منها المُطَوَّل والمبسوط، ومنها المختصر والموجز.

إن حضور أمثال هذه الجهود وغيرها كثير، له أهمية كبيرة في تيسير عملية الإلمام بالواقع التطبيقي للتفسير ووقوع حالة معمقة من الاشتغال به وتيسير تعليمه وتدريسه، إلا أن الناظر في الواقع يجد عدم حضور لهذه المسارات، الأمر الذي يضعنا دوماً في حالة من الإشكال في عملية تدريس التفسير ومؤلفاته؛ وأنه ليس بين أيدينا مثلا خرائط معرفية منظمة للمقولات التفسيرية والاستدلالات حولها[4]، وليس بين أيدينا خرائط بالأوزان العلمية للمؤلّفات والتصانيف وكيفيات الترقي في تحصيل التفسير والتدرج في تعلمه.

ثالثاً- عدم وجود مقررات تعليمية ناضجة ومتكاملة في تدريس التفسير:

الناظر في العملية التدريسية للتفسير – لا سيما في الأوساط الأكاديمية- يلحظ أنها بلا مقررات تتحقق بها تكاملية في النظر لقضايا التفسير المنتَج، وإنما غايتها طرح بعض موضوعات ومباحث متفرقة تُقدّم بعض المعلومات السطحية المتوفرة إزاء بعض القضايا في ضوء ما طرحته بعض الدراسات المعاصرة حول تاريخ التفسير ومراحله ومناهج المفسرين وطبقاتهم … إلخ، وهو ما يؤثر سلبًا على عملية التدريس للتفسير، ويجعلها غير قادرة على تحصيل غاياتها من بناء رؤية متماسكة ومعمقة في أذهان الدارسين للتفسير ومختلف قضاياه، وعليه تظلّ غير قادرة على تكوين طاقات معرفية لها القدرة على مزاولة القول في ميدان التفسير؛ لأن هذه الطاقات يتعذر تكوينها حال كان تصور قضايا التفسير غير حاضر في أذهانها بالأساس.

يقول أحد الباحثين المعتنين بالتدريس غير الأكاديمي للتفسير: “الحاضنة المتكونة في تدريس التفسير ليست كنظيراتها في تدريس العلوم الأخرى، ولا تمثل حاضنة علمية بمعنى الكلمة، تسهم فى الارتقاء بالعلم وتثوير مسائله والدفع به، بل إنها متى أفرزت اشتغالا بحثيًا فإنه يقتصر غالبًا على جوانب التدبر واستنباط الهدايات ونحو ذلك، وهذا مما لا يحتاج لإطالة في التدليل عليه.”

رابعًا- ضعف نمو البحث في موضوعات التفسير:

برزت مؤخرًا في ساحة الدرس التفسيري المعاصر بعضُ مسارات تتعلق بالعمل التفسيري التطبيقي؛ كالبحث في أصول ومناهج المفسّرين وقواعدهم، والكلام على تـاريخ التفسير وتصنيف مؤلَّفاته ومَيْز توجّهاتها وألوانها، إلّا أن الناظر في هذه المسارات لا يعزب عنه حالة الضعف والسطحية التي تعاني منها.

 يقول الدكتور/ مولاى عمر حماد معلقاً على الدراسات التاريخية في التفسير واتجاهاته وكتب مناهج المفسرين: “أما الدراسات التأريخية فأغلبها ملاحظات عامة لا تقوم على استقراء ولا إحصاء، ومثلها كُتب مناهج المفسرين؛ فغالباً ما تتشكل مادتها من موقف المفسر المدروس من جملة من القضايا دون أن ترقى إلى درجة تقديم تصوّر نظري مركب للعملية التفسيرية عنده”[5].

وهناك حالة نقد في بعض الدراسات والبحوث للمرتكزات المنهجية للاشتغال المعاصر في مسالك ضبط مناهج المفسرين وقواعدهم[6] .إن أحد جوانب الإشكال في أمثال هذه المسارات هو أنها تبرز باعتبارها مسارات مستقلة بنفسها، وليست ضمن سياق جامع يكثف حالة الاشتغال في هذه المسارات ويجمعها مع غيرها في ضوء هدف كلي يقوم على العناية بالممارسة التفسيرية القائمة، وبالتالي فمن الطبيعي أن تُصاب بالارتباك والضعف وعدم النضج، وأن تكون مجرد مسارات بحث مقطعة الأوصال وغير متضافرة في خدمة غاية كبيرة؛ فالاشتغال المعمق على الموضوعات المتصلة بالممارسة التفسيرية القائمة وأن يكون عندنا تراكم بحثي مفيد فيها في استيعاب الواقع التطبيقي لها هو أمر لا يكون إلا بوجود هذه الموضوعات في قلب علم يُعنى بدراسة هذه الممارسة وتترتب قضيته في ضوء ذلك، فهذا ما يكثف حالة الاشتغال بهذه الممارسة ويحقق عمقاً وتكاملية في النظر لها والإحاطة بها.

خامساً- تشتت حركة التأصيل للتفسير:

إن الناظر في حركة التأليف في أصول التفسير يجدها حركة مشوشة في منطلقاتها ونسق بنائها للعلم في القديم والحديث، فهي حركة لا تكتنز الممارسة التفسيرية للنص القرآني كحيثية اشتغال لبناء علم أصول التفسير بقدر ما تكتنز النص المفسَّر ذاته وكيفية فهمه، كما أن سياجها الموضوعي بالغ الشتات وغير قائم على محاور محددة كما هو الشأن في العلوم التي تهتم بضبط وتقنين مزاولة الممارسات التطبيقية كعلم أصول الفقه وما يقوم عليه من ضبط الممارسة الفقهية[7].

وقد أفضى هذا التشوّش في حركة التأصيل المعاصر للتفسير إلى ضعف هذه الحركة، وعدم اشتغالها بالتقعيد للممارسة التفسيرية، والتأصيل للموارد المتعلقة بهذه الممارسة، وكيفيات تحصيل التفسير منها، وبيان القواعد الضابطة لذلك.

وإن أحد الأسباب التي أسهمت في ذلك هو عدم حضور علم التفسير؛ ففي ضوء عدم وجود علم يعتني بصناعة الوعي بالواقع التطبيقي للممارسة التفسيرية ويسلّط الضوء على نسق الممارسة التفسيرية في هذا الواقع ومواردها وأصول الممارسين وقواعد المطبقين إزاء هذه الموارد، وكذا مناهجهم ومسالكهم التفسيرية، فإن الممارسة التفسيرية ومواردها من شأنها أن تختفي – لا سيما في ضوء حالة الاختلاف في قضيتها في المدونة التطبيقية – ولا تبرز الممارسة بروزًا محرّرًا حتى ينعقد على مرتكزاتها العلم المشتغل بالتأصيل لكيفيات مزاولة التفسير.

ومن البديهي أنه متى اختفت موارد الممارسة التطبيقية وضعف النظر إليها فإنّ التأصيل للتفسير لن يدور في فلك التقعيد لممارسة لها مواردها المنضبطة، وبالتالي يُعقد البحث في المجال النظري على هذه الممارسة والتقعيد لكيفيات القيام بها من خلال هذه الموارد، ويجري تفريع محاور العلم في ضوء أركان الممارسة ذاتها، وإنما يقع التشوش في جذر البناء لهذا العلم النظري فلا يقوم على حيثية منضبطة تتيح لحالة الاشتغال فيه تفريع جملة محاور مرتبة حول نقطة محددة، وغير ذلك من الإشكالات التي تقطعه عن تحقيق غاياته من النهوض بضبط الممارسة التفسيرية كما حررناه في بحث خاص[8].

إننا وفي ضوء ما سبق يظهر لنا إشكال غياب علم التفسير وما نتج عنه من إشكالات كثيرة وكبيرة أثرت سلباً على طريقة تعاطينا مع العمل التفسيري القائم للقرآن الكريم، وحالت دون حسن وعينا بقضاياه ونموّ البحث في هذه القضايا، وغير ذلك مما ذكرنا، وعليه فمن المهم العناية بتأسيس هذا العلم حتى يكون لدينا سياج معرفي يعتني بالممارسة التفسيرية القائمة وتكثيف حالة البحث حولها، وهو ما يحقق لنا غايات كثيرة تُعين على حُسن صناعة وعينا بهذه الممارسة.

تأسيس علم التفسير

مقاربة نظرية لتأسيس العلم

يهدف هذا المبحث إلى محاولة بلورة علم التفسير وتأسيسه بصورة نظرية واضحة، وذلك من خلال تحديد قضيته وموضوعه والمحاور الخاصة به، وغير ذلك.

علم التفسير القضية والموضوع:

  لا بد عند التنادي بوضع علم جديد من تحديد موضوع هذا العلم على نحو مدقق، وكذلك التثبت من انسجام هذا الموضوع مع شرط عِلْمية العلم. فالمعيار فيما يكون علمًا من القضايا والموضوعات وما لا يكون “يرتبط تحريره بتأمل طبيعة الأفق البحثي الخاص بهذه القضايا؛ سعةً وضيقاً، فهذا ما يجعلنا أمام معيار موضوعي نابع – كما هو بيّن- من النظر التجريدي في القضايا وموضوعات الاشتغال العلمي والتفريق بينها في ضوء أمر لازم يتصل بطبيعتها من حيث هي”[9].

والموضوعات والقضايا العلمية منها الكلي ومنها الجزئي، والقضايا الكلية هي قضايا ذات أفق علمي كبير، ومن ثم تكون قادرة بحكم طبيعتها على توليد حالة اشتغال هائل وكبير، وأما القضايا الجزئية فقضايا ذات أفق علمي محدود، ولا ينتج عنها بحكم طبيعتها سوى حركة بحث محدودة.

ومن هنا فإن القضايا العلمية الكلية هي الأحرى – في ضوء طبيعتها- بأن تكون علوماً وأن تختص وحدها باصطلاح العلم، بخلاف القضايا العلمية الجزئية التي يمكن أن تكون مسارات بحث علمي لا علومًا.

وإن الحكم بالعلْمية – وفق هذا المعيار الذي ذكرنا- يتحقق به تمايز القضايا الكلية (العلوم) بصورة ناجعة عن غيرها، والحيلولة المنهجية دون الوقوع في إشكال استعمال اصطلاح واحد (العلم) في الدلالة على قضايا وموضوعات متباينة وغير متساوية في طبيعتها، وكذلك يتحقق بهذا المعيار أن يكون وصف العلمية وصفًا محايداً غايته الدلالة على طبيعة القضية من حيث أفقها العلمي وطاقاته، وليس حاملاً لحكم إيجابي تجاه القضايا التي توصف بالعلمية وسلبي تجاه القضايا التي تُنفَى هذه الصفة عنها، وغير ذلك من الفوائد المنهجية المهمة[10].  فالعلوم هي قضايا وموضوعات تنشأ لخدمة الممارسات المعرفية، إذ الناظر تجريدياً في العلوم ومحتوياتها يجد أن هناك الممارسات المعرفية وهناك حالة بحث نظري تتعلق بهذه الممارسات وترتبط بها من زوايا متعددة.

والممارسات المعرفية هي فعل التفسير نفسه وفعل الفقه من حيث هو، أي: أنها فعْل له موضوع وقضية خاصة به وثمرة محددة، وهذه القضية قضية جزئية بالأصالة لا كلية، إلا أن ما يميزها عن غيرها من القضايا الجزئية هو قابليتها أبدًا للامتداد التطبيقي فهذه القابلية هي ما يجعل الممارسة معينًا لا ينضب.

وتنقسم أنواع العلوم من حيث هي لقسمين: علوم تعمل على تقنين مزاولة الممارسات، وأخرى تعمل على صناعة الوعي بالواقع التطبيقي القائم لهذه الممارسات.

وعلم التفسير الذي نريد وضعه وتأسيسه هاهنا تنصب قضيته وموضوعه على صناعة الوعي بالممارسة التفسيرية القائمة للقرآن الكريم، أي: أنه علم يشتغل بهذه الممارسة في واقعها التطبيقي الماثل ويحاول التبصير بها ودراسة قضاياها وبحث مسائلها.

وموضوع علم التفسير هو موضوع كلّي قادر على توليد حالة بحثية هائلة، وأن تقوم فيه محاور اشتغال متعددة ينتج عنها حراك علمي موسع جداً، ولا غرو فهو مرتبط بخدمة ممارسة معرفية (التفسير)، والممارسات من شأنها أن تظل فى حالة دفع معرفي مستمر ما يجعل العلم القائم بخدمتها يكون تلقائياً مؤهلاً لأن يظل في حالة نمو وتمدد دائم ودائب.

 وفي ضوء ما ذكرنا من موضوع علم التفسير يمكننا أن نصوغ تعريف هذا العلم وهدفه العام على النحو الآتي:

  • تعريف علم التفسير:

تعمل مفاهيم العلوم على ترجمة نسق اشتغال العلوم وتعبّر عن قضايا هذه العلوم، وفي ضوء قيام علم التفسير على صناعة الوعي بالواقع القائم للممارسة التفسيرية، فإنّ مفهوم علم التفسير يجب أن يقيَّد بهذا النظر، وعليه فيمكن تعريف علم التفسير بأنه معرفة الممارسة التفسيرية القائمة للقرآن الكريم.

  فهذا العلم يقوم على البحث في الممارسة التطبيقية الحاضرة للقرآن الكريم والنظر في هذه الممارسة من جوانب عديدة ومناح متنوّعة، سيأتي ذكر مركزيّاتها لدى حديثنا عن المحاور الرئيسة لعلم التفسير.

  • غاية علم التفسير:

يتمثل الهدف العام لعلم التفسير في ضمان حسن تحقق الوعي بالممارسة التفسيرية الحاصلة للقرآن وتثوير النظر لقضاياها.

  • المحاور الكبرى لعلم التفسير:

يتمثل الشرط المنهجي في تحديد المحاور والمفاصل الكبرى التي يجب أن يُعقد عليها الحديث في دائرة العلم في مدى قدرة هذه المحاور على أن تمثل مرتكزات كلية يتبلور من خلالها تفريع نسق اشتغال بحثي له امتداد، وتتحقق بها تكاملية في النهوض بقضية العلم.

ومحاور البحث في علم التفسير تترتب على النحو الآتي:

أولاً- تاريخ ممارسة التفسير:

 هذا المحور يتيح التغلغل في الممارسة التفسيرية من حيث هي في الواقع التطبيقي ومعرفة أنماط ومراحل تكونها عبر الزمن، وفهم فترات ازدهارها وضعفها والعوامل الكامنة وراء ذلك، وتبين المنعطفات الكبرى التي مرت بها، وطبيعة المسارات التي انتظمتها والعلاقات بينها، وغير ذلك من الأمور المهمة لتحقيق الوعي بممارسة التفسير. وكذلك معرفة تاريخ الممارسات الفرعية للمفسرين داخل هذه الممارسة، وكيف تشكلت وكيف كانت مؤثراتها وأيهما أعمق أثرًا من غيرها، وغير ذلك مما يثري نظرنا لواقع الممارسة التفسيرية، ويزيد من فهمنا لها، ويسمح لنا بالقدرة على عرض حقيقة واقعها وطريقة تشكلها بشكل علمي منظم ومنضبط. ولهذا فمن المهم اختصاص تاريخ الممارسة التفسيرية بمحور خاص من محاور العلم ليدرس كل ما يتصل بالجانب التاريخي للعمل التفسيري وتشكلاته عبر الزمن.

ثانياً- التفاسير:

مؤلفات التفسير هي أوعية الثروة التطبيقية للممارسة التفسيرية، ولا غنى عن هذه المؤلفات من أجل فهم هذه الممارسة والإحاطة بواقعها القائم ومسارات الاشتغال بها، وغير ذلك، ولهذا يتوجب الإحاطة بمؤلفات التفسير، ومعرفة خارطتها العامة ومسارات اشتغالها، وبيان رُتبها وأيها أحرى بالتقديم في فن التفسير وأكثرها نفعًا من غيره… إلخ.

وكذلك تحتاج المؤلفات المركزية والمحورية في العمل التفسيري إلى إبراز يتناسب مع أهميتها وإلى عَقْدِ خدمات كثيرة حولها من التعليق والشرح حتى يسهل الإقبال عليها ويتيسر الاتصال بها.

وبهذا يظهر ضرورة أن يكون العمل على مؤلفات الممارسة التفسيرية وأوعيتها العملية محورًا كلياً في علم التفسير بحيث ينهض البحث فيه بخدمة هذه المؤلفات – التي هي ثروته وعماده – وتقريبها واستكشاف مسالكها ومساراتها؛ فيكون لدينا خرائط معرفية مرتبة لها تُبرز مفاهيمها وتُظهر مساراتها ونسق اشتغالها وطبيعة أوزانها العلمية … إلخ.

ثالثاً- التفسير:

ينصب هذا المحور من العلم على دراسة التفسير نفسه الذي هو ثمرة محصلة الممارسة التفسيرية، ولا يمكن الإحاطة بممارسة التفسير بدون التعرف على هذا التفسير ودراسته وإدامة النظر فيه ومعرفة مواضع اتفاقه واختلافه… إلخ.

وتتعاظم أهمية خدمة التفسير في مدونة التفسير في ضوء ما نلحظه من قلّة العناية بالمضمون التفسيري نفسه وعدم بروز مسارات اشتغال تتتابع وتتكامل في جمع مادته وترتيبها، وأن يكون عندنا مدوّنات جامعة لهذه المادة ومرتِّبة لمادتها وناظِمة لها وموضحة للحجاج العلمي حولها فى كتب التفسير؛ ومن هنا فإن خدمة المادة التفسيرية يجب أن تكون محورًا رئيسًا من محاور الاشتغال الكبرى في علم التفسير حتى يتيح ذلك النهوض بخدمة هذه المادة، وأن يكون عندنا جهود تُعنى بهذا الباب بصور مختلفة ويتبلور عنها كتابات تُعْنى بجمع مادة التفسير وعرضها بصور مختلف متدرجة تسهل مطالعتها والوقوف عليها.

رابعاً- مدارس المفسرين وأسباب اختلافهم في التفسير:

تأتي أهمية ذلك المحور من أنه يتيح بالأصالة معرفة المسالك المنهجية الكامنة وراء القيام بالممارسة التفسيرية وتحصيل التفسير عند المفسرين، ومعرفة نقاط الالتقاء بينهم في ذلك والافتراق، ومسببات الاختلاف بينهم وعلله، وكذلك يتيح ضبط مسالك الاشتغال المختلفة للمفسرين في العمل التفسيري[11]، وهذه أمور ضرورية ولا غنى عنها من أجل فهم الممارسة التفسيرية والعمل التفسيري للمفسرين؛ فبدون الفهم المعمق لهذه الأمور يظل جانب رئيس في تشكل الممارسة غائباً عن عقولنا وأفهامنا، رغم أن حُسْنَ معرفته سبيل لفهم كيفيات الممارسة واستمرار المراكمة عليها.

ومن هنا فإن استكشاف المدارس التفسيرية للمفسرين ومسالك عملهم وعلل اختلافهم يجب أن يكون محورًا مركزيًا في علم التفسير، حتى نتمكن من خلاله من حسن الفهم لواقع النسق التقنيني الضابط لممارسة التفسير عند المفسرين وأسباب الاختلاف بينهم في ممارسته وعوامله، وتكون لدينا معرفة منظمة بهذا الجانب المهم.

ويلاحظ أن الواقع التفسيري القائم يحفل بالفعل بمسار اشتغال مستقل حول مناهج المفسرين كما هو معلوم، وهو مقرر تدريسي مشتهر في الواقع التعليمي المؤسسي الرسمي وغير الرسمي، وهذا المسار هو أحد العلوم القرآنية المعاصرة، ويقوم على دراسة التفسير عند المفسرين من خلال عدد من الجوانب، كالنظر في المراحل الزمنية للتفسير (تاريخ التفسير) وتمييز اتجاهاته التأليفية، والتعريف بالمفسرين ومؤلفاتهم التفسيرية، وبيان الملامح المنهجية الخاصة باشتغال كل مفسر أو جملة مفسرين في هذه الاتجاهات التفسيرية.

واعتبار الكتابة حول مناهج المفسرين علمًا مستقلاً هو أمر متفهم في ضوء واقع علوم القرآن الذي ينطلق من اعتبار مسارات البحث الجزئي علومًا مستقلة، وبغض النظر عن غلط إقامة العلوم وبناء العلمية بهذه الصورة، إلا أن الكتابة عن مناهج رجال ممارسة معينة لا يناسبها أن تكون مساراً بحثياً مستقلاً بنفسه كما القائم، وإنما أن تُعدّ ضمن محور رئيس في سياق علم خادم للممارسة التفسيرية نفسها وصناعة الوعي بواقعها التطبيقي القائم (علم التفسير) كما درجنا هاهنا، فهذا أعون على بيان الغاية المركزية من هذه الكتابة برمتها في مناهج المفسرين وأنها تتعلّق بصناعة الوعي في نهايتها بالممارسة التفسيرية نفسها وتتكامل مع غيرها من بقية مسارات الاشتغال في العلم على فهم هذه الممارسة عند المفسرين بدلاً من أن تكون الحركة البحثية في المسار مجرد معطيات معلوماتية غير مشدودة لغاية مركزية واضحة.

إن الناظر في الكتابة القائمة في هذا المسار يجدها تقوم على إبراز جوانب شكلية جدًّا في النظر لاشتغال المفسّرين، كتقسيمهم لاتجاهات فقهية وعقدية وعلمية… إلخ، مما لا يفيد في فهم الممارسة التفسيرية للمفسرين ولا مسالك اشتغالهم العملي بالتفسير، وفضلاً عن الإشكالات العديدة التي تكتنف حالة الدرس في هذا المسار[12]؛ فإنّ المسار ذاته مشوّش في مقاصده وليس له غاية كلية واضحة، فهو يجمع بين صور اشتغال متعدّد على التفسير في الفضـاء التطبيقي، كما أنه بلا كبير آفاق ولا جدوى في خدمة الفهم للممارسة التفسيرية القائمة في الواقع، هذا الفهم الذي من المفترض أنه الغرض المؤطر لكل اشتغال تفسيري يهدف الدراسة الواقع القائم للتفسير.

وأما حين يرتبط هذا المسار بعلم يقوم على خدمة الممارسة التفسيرية (علم التفسير) فإنه يتجرد للنهوض بغرض محدّد؛ فالاشتغال بتاريخ الممارسة عند المفسرين وضبط مؤلفاتها والتعريف برجالها يكون له محاوره الخاصة به في العِلم؛ مما يدفع بمسار البحث في مدارس المفسرين ومناهجهم للاشتغال بغرض مركزي واضح وهـو بناء هذه المناهج والعمل عليها، ما يفضي بطبيعة الحال لاشتداد الدرس وتركزه وأن يؤدي دوره بالفعل في خدمة التعرّف على الممارسة التفسيرية في ميادينها التطبيقية.

ومن هنا فإننا نرى عدم الحاجة لحضور مسار (مناهج المفسرين) بهذه الصورة القائمة في الواقع البحثي والتعليمي، وأن يُعتبر ضمن هذا المسار المحور الرابع من محاور علم التفسير، فهذا أعون له على بروز مقاصده وأن يخرج من حالة البحث الشكلي لأن يكون مفيداً بحق في خدمة جانب مركزي للممارسة التفسيرية للمفسرين، بأن يتصل باشتغاله ومقاصد العمل فيه على البحث في مدارس التفسير وفق التصور الذي ذكرناه للمدارس، وأما مضامينه الحالية فلن تكون كماً مهملًا، وإنما سيجري توظيفها والإفادة من جيّدها في الكتابات في ساحة العلم بحسب الحال.

خامساً- المفسرون:

لا تكتمل معرفة الممارسة التفسيرية بدون معرفة من زاولوها، وأن تكون عندنا معرفة مبينة لأحوالهم؛ مواقيت ولادتهم، ووفاتهم، وشيوخهم، ومؤلفاتهم.. إلخ، ومفصِّلة لطبقاتهم العلمية، وكذلك رتبهم في العمل التفسيري ومكانتهم العلمية فيه، فمثل هذه المعطيات مهمة في تعميق الوعي بالعمل التفسيري ولها أثرها وإفاداتها المتنوعة عند التعاطي معه.

ومن هنا يجب أن يكون هذا محورًا من محاور العلم، بحيث تنشط حركة البحث في خدمة هذا الجانب والبحث فيه، وأن تتبلور عندنا من خلال ذلك كتابات تترجم للمفسرين بصورة منضبطة، وكذلك تبرز طبقاتهم العلمية الناظمة لمسالك اشتغالهم التفسيري، وكذلك الرتب العلمية لهؤلاء المفسرين في العمل التفسيري بحسب جهودهم فيه.

وتجدر الإشارة أن بعض الكتابات المعاصرة قد اهتمت نظرياً بفكرة الكتابة حول المفسرين وبيان الطبقات الزمنية لهم، وقد اعتبرت هذا النمط من الكتابة علمًا مستقلاً وتبنت الدعوة لذلك، وأهمية القيام بدراسة الكتب في طبقات المفسرين ومناهجها ومفاهيمها… إلخ[13]، وهذه نظرة متفهَّمة بشكل عام في ضوء وجود كتابات تراثية مستقلة تحت عنوان (طبقات المفسرين)، وكذلك في ضوء انضواء معالجة طبقات المفسرين – مثلا – ضمن أنواع علوم القرآن، ما يرشح لاعتبارها عِلْمًا مستقلاً. وبغض النظر عن غلط اعتبار مسارات البحث الجزئي كطبقات المفسرين علومًا مستقلة، وكذا رؤيتنا غلط استعمال اصطلاح الطبقات في الكتابات حول المفسرين وتصديره في العنونة، إلا أن هذه النظرة غير مناسبة ليس فقط في التعامل مع الكتابات حول المفسرين، ولكن أيضًا في التعامل مع المعالجات القائمة حول الممارسين في أي ممارسة معرفية؛ فالأوفق أن تكون الكتابة حول المفسرين – وكذا الممارسين في أي ممارسة – ضمن محور تكميلي في سياق علم يعتني بممارسة التفسير نفسها ويعمل على خدمة صناعة الوعي بواقعها التطبيقي القائم وتقريبه وتيسير الاتصال به… إلخ؛ فهذا أعون على إبراز الغايات الكبرى للكتابة حول المفسرين ذاتها ووضوح أهدافها ودورها، ولا سيما أنها إطار معلوماتي مجرد ما لم يكن مندرجاً وموظفاً ضمن غاية كبرى لها أولويتها فإن الحاجة لمعرفته لا تبدو ذات كبير أهمية، وذلك بخلاف اندراج هذه الكتابات في علم التفسير؛ إذ يكفل لها هذا الاندراج أن تَتَمَوْضَعَ ضمن سياق علم، وتكون مندرجة في محور من المحاور الخادمة لغاياته ومقاصده فتظهر بذلك أهميتها وجدوى الإحاطة بمضامينها التي تفيد في تحقيق الوعي برجال الممارسة ورتبهم العلمية في هذه الممارسة، وغير ذلك.

إن اندراج الكتابة حول المفسرين في سياق علم التفسير يتيح كذلك تنشيط العمل في هذه الكتابات ومجاوزة حالة القلة وعدم الاهتمام البحثي بها؛ لكونها ستعالج ضمن سياج علم قائم حول ممارسة التفسير وتكون لها غايات ومقاصد كبرى خادمة لهذا العلم، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال للفت الأنظار إليها وتهيئة الأجواء لكثرة المقاربات البحثية والجهود العلمية فيها والتفنن في عمل التراجم وترتيب ذكر المفسرين بصور مختلفة وطرائق متعددة.

ويظهر من خلال حديثنا عن المحاور التي أقمناها لعلم التفسير قابليتها لأن يتفرع عنها مسارات ومجالات بحث لها ريادتها في التعرف على الممارسة التفسيرية القائمة لكتاب الله عز وجل، وتتحقق بها تكاملية في حُسْنِ الإحاطة بهذه الممارسة والوعي بها وبقضاياها. ومن هنا فإننا نرى أنه عبر هذه المحاور يمكن لحالة البحث في علم التفسير أن تؤدي غاياتها من الحَفْرِ المعمق في الممارسة التفسيرية القائمة للقرآن الكريم، وأن تبرز لنا حركة علمية قوية حول هذه الممارسة وبينها تكامل وتناسق في النظر لكل جوانب هذه الممارسة، الأمر الذي يكفل على نحو بارع تحقيق غايات العلم وحسن الوعي بالممارسة التفسيرية وواقعها القائم.

ويلاحظ هنا أمور:

الأول: يتيح لنا بناء علم التفسير التخلص من مختلف الإشكالات الحافة بالعمل التفسيري مما سبق ذكره، فإقامة العلم على هذه الطريقة والمحاور التي ذكرنا تتيح لنا بناء مقرَّرات دراسية تعليمية يظهر فيها التدرّج في تدريس علم التفسير فتبدأ بمضامين تعليمية مبسطة في العلم تقدم مادة ميسرة في كل محور ثم تزداد درجة كثافتها تباعًا، وهو ما يُعِين الدارس على استيعاب العلم ومادته بصورة حَسَنَة تبدأ من التصور الجيد لما هو مقبل على دراسته ثم الانتقال في مضامينه من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المركب، وكلّ ذلك بصورة تدريجية يمهد أوّلها لتاليها، وهكذا. كما أن حضور هذا العلم بمحاوره يدفع إلى نشاط البحث في العمل التفسيري واشتداده وإكسابه عمقاً في الاشتغال، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة.

الثاني: يعمل علم التفسير في ضوء تأسيسنا له على صناعة الوعي بالممارسة التفسيرية القائمة لكتاب الله، وإن من أكبر إشكالات هذه الممارسة في ميدانها التطبيقي هي حالة الاختلاف الحاصلة بين المفسرين في طبيعة موضوعها وقضيتها، الأمر الذي أثر سلباً بصورة كبيرة على الممارسة وأفضى لاختلافات هائلة في ثمرتها وتباين في مادة التفسير بين المفسرين؛ فهناك المعانى والأحكام والهدايات والمواعظ… إلخ، كما أفضى لضبابية مفهوم القائم بهذه الممارسة (المفسر)، ونحن قد راعينا فى تأسيسنا لعلم التفسير أن يكون سياجاً صانعاً للوعي بهذه الممارسة في ضوء واقعها القائم بكل تنوعاته واختلافاته دون التقيد برؤية معينة لطبيعة الموضوع الذي يجب أن تتأطر به الممارسة التفسيرية، وإن كانت موضوع هذه الممارسة يجب أن يحظى بضبط وتحرير لضمان حسن سير الممارسة[14].

وصحيح أن قولنا بضرورة ضبط موضوع الممارسة يجعل من حضور علم التفسير بالصورة التي أقمناه بها هو حضور مرحلي فقط، وأن العلم سيحتاج لإعادة تأسيس ثانية في ضوء ما ينتجه حاصل الضبط لقضية ممارسة التفسير، إلا أننا نرى ضرورة هذا الحضور بهذه الصورة، لما سيفيده من لفت النظر بصورة واضحة لإشكالات ممارسة التفسير، وحفز المجتمع العلمي على ضرورة البت في هذه الإشكالات وإعادة ترتيب المشهد التفسيري بشكل جذري، وغير ذلك.

الثالث: يذكر البعض ضرورة توفر عدة شروط لقبول العلم الجديد، “…أولها: تحديد الموضوع العلمي الذي به يبرر وجوده كعلم، ثانيها … اختيار منهج علمي مناسب للموضوع المحدد يحقق الكفاية الآلية في دراسته. وثالثها: لا بد من الصياغة النظرية للقوانين والنتائج التي أدى إليها تطبيق المنهج على الموضوع. وهو ما يعرف في الإبستمولوجيا باليقين العلمي، وبالنماذج العلمية التي تترجم البناء النظري للعلم.. رابعها: هاته العناصر الثلاثة تتخللها المفاهيم العلمية، فلا بد أيضًا أن تكون المفاهيم الاصطلاحية المستعملة في صياغة الموضوعات والمنهجيات والنظريات محددة بدقة. وهذا الجهاز المصطلحي لا بد أن يكون عدده قليلا..”[15].

ونحن لا نرى الأمر بهذه الصورة، وأن البلورة النظرية للعلم الجديد كما فعلناها مع علم التفسير هي الأساس في حسن تصور العلم وأن يكون محلاً للنظر والتقويم من قبل المجتمع العلمي، وأما بيان المنهج وغير ذلك مما ذُكر فهي أمور تأتي مع الانطلاق العملي للعلم ونمو حركة البحث فيه ولا يؤثر عدم حضورها على حسن فهم العلم من حيث هو.

الرابع: إقامة العلوم في الواقع لا يكفي فيها بلورة التصور النظري للعلوم، وإنما لا بد من حضور مقررات دراسية لهذه العلوم، لهذا فإن إقامة علم التفسير تحتاج لحضور مقرر تعليمي أولي لهذا العِلم، بحيث تنطلق شرارة التدريس له من خلالها في المحاضن التعليمية الأكاديمية وغير الأكاديمية، ما يؤذن بقيام العلم في الواقع وانخراط الدراسين فيه.

وإن الناظر في الجهود البحثية في المحاور التي ذكرنا لعلم التفسير يجد أنّ هناك جهودًا قائمة في جميع هذه المحاور، فهناك جهود في التأريخ للعمل التفسيري وتصنيف مؤلفاته والكلام على مناهج المفسّرين وأصولهم وقواعدهم وأسباب اختلافهم في التفسير، وغير ذلك، إلا أنّ جل هذه الجهود يُعاني من إشكالات منهجية فلا يمكن الاعتماد عليها.

 ومن هنا فلا بد من خوض غمار البحث في المحاور التي ذكرنا لعلم التفسير وتقديم اجتهاد فيها وفق نسق منهجي منضبط؛ ليكون حاصل هذا الاجتهاد هو المقرر التعليمي الأولي الذي يبدأ به في تدريس علم التفسير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:

خليل محمود اليماني (2024). تأسيس علم التفسير: مقاربة تأسيسية مقترحة. ط. 1. القاهرة: مركز نماء للبحوث والدراسات. ص ص. 25- 54.

** باحث في الدراسات القرآنية، وعضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر.

[1]سنذكر فيما يلي جملة إشكالات تتعلق بالتفسير وقضاياه، وهـي تكـرس بمجموعها الأهمية إقامة علم التفسير، وكيف أننا نحتاج لحضور هذا العلم حتى يمكننا تحقيق الوعي بالممارسة التفسيرية ومجاوزة جميع هذه الإشكالات والتخلص منها ومن آثارها.

[2]علم التفسير وأهم الإشكالات، حوار علمي مع الدكتور / محمد صالح، وهو منشور على موقع تفسير. وحديث الدكتور/ محمد صالح عن علم التفسير هو حديث عن التفسير نفسه.

[3]تفاسير القرآن؛ تاريخها، مناهجها، وظائفها، واقع دراستها في الأكاديميا الغربية، وليد صالح، ترجمة: طارق عثمان، ترجمة منشورة على موقع تفسير، (ص: 7- 8).

[4]إذا نظرنا في تدريس الشروة الفقهية مثلاً فإنه يبدأ بأحد المتون الفقهية التي تكسب الدارس التعرف العام على الأحكام الفقهية، ثم تأتي بعد ذلك  مراتب الاستدلال، وذكر الخلاف : في المذهب، ثم بعد ذلك ذكر الخلاف العالي، وربط الأصول بالفروع، إلى غير ذلك من مراتب الترقي في العلم بالفقه، وبغض النظر عن موقفنا من هذه الطريقة، غير أن ما أعان على بروز ذلك السلم التعليمي المرتب هو حضور العناية بالثروة الفقهية وخدمتها في سياق علم الفقه، وأما في التفسير فإن تلك الخدمة ضعف بسبب عدم وجود سياق معرفي يكفل العناية بالعمل التفسيري، وأن يكون لدينا متون لثمرته ونسق متدرج في تعليمها والترقي بالدارسين في ذلك بحسب رتبتهم، وأن يكون هناك ما يناسب المبتدئين والمتوسطين والمتقدمين، وهكذا.

[5]أصول التفسير؛ محاولة في البناء، مولاي عمر، مؤسسة مبدع – دار السلام، ط: الأولى، 1431هـ – 2010م، (ص 25).

[6]يراجع في بيان ذلك الدراسات والبحوث التي تعرضت لنقد الاشتغال المعاصر في هذه المسالك، ومن ذلك:

– التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقدية لمنهجية الحكم بالقاعدية، محمد صالح سليمان، خليل محمود محمد، محمود حمد السيد، مركز تفسير للدراسات القرآنية، 1441 هـ = 2019 م. (ص: 114).

– البناء النظري للتفسير؛ قراءة في المنجز مع طرح رؤية للنهوض بالبناء النظري للتفسير، خليل محمود اليماني، بحث منشور على موقع تفسير، (ص: 84) وما بعدها.

[7]يراجع في بيان ذلك تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثا؛ قراءة في منهجية التأسيس مع طرح مقاربة منهجية لتأسيس العلم، خليل محمود اليماني.

[8]يراجع: تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثا؛ قراءة في منهجية التأسيس مع طرح مقاربة منهجية لتأسيس العلم، خليل محمود اليماني.

[9]يراجع: تصنيف أنواع العلوم؛ قراءة في المنجز وتصنيف معياري مقترح، خليل محمود اليماني، بحث منشور على موقع نماء، (ص: 24).

[10]يراجع تصنيف أنواع العلوم: قراءة في المنجز وتصنيف معياري مقترح (ص: 24-26).

[11]المدارس التفسيرية للمفسرين تتعلق بالمسالك الإنتاجية للتفسير، وهذه رأس الباب، وهناك مسالك عمل أخرى على النتاج التفسيري كالموازنة والجمع والاختصار والشرح، وهذه مسالك من المهم معرفتها كذلك لعظيم أمرها في العمل التفسيري وفهمه ككل، وسيأتي معنا مزيد تفصيل في ذلك.

[12]يراجع بحثنا البناء النظري للتفير؛ قراءة في المنجز مع طرح رؤية للنهوض بالبناء النظري للتفسير، (ص: 84) وما بعدها.

[13]ومن ذلك مثلاً: علم طبقات المفسرين؛ نشأته وتطوره محمد بن بكر آل عايد، دار الطرفين للنشر والتوزيع – الطائف، 1431هـ (ص: 42).

[14]قد طرحنا وجها فيما يجب أن تنعقد عليه الممارسة التفسيرية وأنه بيان المعنى المراد، وعليه رأينا أن الممارسة ستكون تأويلية لا تفسيرية، وأننا سنكون لاحقا أمام علم التأويل لا علم التفسير. يراجع للتفصيل في الأمر: علوم القرآن؛ نقد العلمية ومقاربة في البناء، (ص: 290) وما بعدها.

[15]حوار عن التعريف بفقه العلوم، إدريس الجابري، دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، ع: 8-9، شتاء وربيع 2020م، (ص: 312).

عن خليل محمود اليماني

شاهد أيضاً

توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العنوان: توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

المؤلف: عبد الرحمن طعمة

في إعجاز القرآن

محمد الطاهر بن عاشور

لم أر غرضًا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.