نظرية التطور والداروينية الاجتماعية*
نظرية التطور
.. نظرية علمية أم عقيدة دينية؟
Evolution – A Scientific Theory or a Religious Dogma?
وهل نظرية التطور نظرية علمية فعلاً، قابلة للتقييم الموضوعي تبعًا للقواعد العلمية المتعارف عليها أم بصدد عقيدة فلسفية دينية يتدثر أصحابها بعباءة العلم، كي تصبح أكثر قبولاً وجاذبية.
والواقع أن الطريقة التي طُرحت بها نظرية دارون ثم تقبُلها في الوسط العلمي أمر يدعو للتعجب، فالمعروف أن أي نظرية علمية تُطرح في البداية على أنها فرضية يدعمها صاحبها بأدلة وبراهين، ثم تجيء التجارب والدراسات لإثبات صحتها أو نفيها، وهذا ما حدث مثلاً في نظرية النسبية العامة لإينشتين، التي ثَبُت صحتها أمام جميع الاختبارات العلمية، إلا أن ما حدث مع نظرية دارون هو العكس، فقد تم قبول النظرية والدفاع عنها بدون أي أدلة تثبتها، بل بالرغم من وجود الأدلة التي تنفيها متمثلة في عدم وجود حفريات لكائنات انتقالية، وهو أهم الأدلة على حدوث التطور، هذا بجانب أن لا دارون ولا أي من معاصريه كانوا على دراية بأسباب التنوع في مواصفات المخلوقات، ولا بقوانين الوراثة، أو التركيب الدقيق للخلية، أو البروتينات والجينات.
وحتى بعد مرور ما يزيد عن قرن ونصف منذ أن طرح دارون نظريته، فإن الوضع لم يتغير، فجميع الدلائل والتجارب العلمية، أثبتت ليس فقط عدم تحول نوع من الكائنات إلى نوع آخر على مدى التاريخ، بل ثبت تجريبيًا استحالة حدوث ذلك تحت أي ظرف من الظروف.
وهنا يبرز السؤال الذي يدعو للتعجب لماذا يتمسك الداروينيون، وأغلبهم من العلماء المرموقين بنظرية التطور، ويرون أنها حقيقة غير قابلة حتى للبحث أو النقاش؟ بل ويفتعلون صراعًا، غير حقيقاً، بين العلم والدين، باعتبار أن ما يدافعون عنه هو العلم التجريبي، بينما الدين أمور غيبية، لا يمكن إثباتها علميًا؟
نظرية دارون في الميزان العلمي:
بعيدًا عن الجدل اللفظي، الذي كثيرًا ما يستدعيه الداروينيون، ليؤكدوا أن استخدام كلمة (نظرية) في مجال العلوم، يختلف عن استخدامها في المجالات الأخرى، فهي عندهم تعني الحقيقة الثابتة، مثال ذلك نظرية الجاذبية التي لا يشك أحد في وجودها، فكما يقول ستيفن جولد (قد نبحث في طبيعة الجاذبية ومصدرها، ولكن لا نتساءل إذا كانت الجاذبية موجودة أم لا)، فبالمثل يمكن أن نبحث في كيفية حدوث التطور، ولكن لا مجال لمناقشة هل التطور حدث أم لم يحدث.
ولكن تشبيه نظرية التطور بنظرية الجاذبية تشبيه خاطئ، فالجاذبية حقيقة يراها الجميع، ولكن التطور بمعني النشوء والتغيير التدريجي (descent with modification) من مخلوق بسيط لمخلوق أكثر تعقيدًا لم ولن يشاهده أحد.
والداروينيون عندما يقولون أن نظرية التطور هي حقيقة وأيضًا نظرية، يقصدون بذلك، أن التطور حدث ولا محل لمناقشة حقيقة حدوثه، أما كيف حدث فهذا هو ما يمكن أن يُطرح للبحث، فإنهم في واقع الأمر يهدفون كما يقول فيليب جونسون[1] (Phillip Johnson) في كتابه (محاكمة دارون) (Darwin on trial)، إلى تحصين هذه النظرية من التقييم أو النقض العلمي، الذي يجب أن تخضع له أي نظرية علمية، هذا التقييم يتضمن ثلاث قواعد يجب أن تتوفر في أي نظرية علمية وهي أن تكون قابلة للاختبار (testable)، وأن تكون خطواتها واضحة وموثقة بحيث يتمكن الآخرون من إعادة تجربتها (reproducible)، وأخيرًا وهو الأهم أن تكون قابلة للنقد (falsifiability).
لكن من المسلم به أن نظرية تبحث في الماضي السحيق، لا يمكن أن تنطبق عليها هذه الخطوات بحذافيرها، لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نبحث علميًا، في الأحداث الماضية، كما يبحث رجال الطب الشرعي عن المتهم في جريمة ما، عن طريق جمع الأدلة، أو ربما البحث عن شهود.
هنا أيضًا يمكننا البحث عن أدلة، غالبًا غير مباشرة، وهذه الأدلة إما أنها تؤيد (confirm) أو تنقض (falsify) النظرية، وأن نطبق مبدأ (الحاضر هو الدليل على الماضي) (uniformitarian)، وهو المبدأ الذي يتبناه الداروينيون في تفسير التاريخ الجيولوجي للأرض أي لا نتخيل أن الماضي له قوانين صارخة في اختلافها عن الحاضر، فما لا يمكن أن يحدث في الحاضر لا نتصور أن حدوثه كان ممكنًا في الماضي، ويجب أن نعترف هنا أن دارون كان أكثر التزامًا بالأسلوب العلمي من أتباعه في العصر الحديث، فقد قبل أن يضع نظريته على المحك أمام الاختبار العلمي في أكثر من موضع، عندما اعترف أن سجل الحفريات، وهو أحد أهم دعائم نظريته، يتطلب اكتشاف العديد من الكائنات الوسيطة، وهو ما لم يتوفر في وقته، إلا أنه أرجع ذلك لقلة ما تم التنقيب عنه من حفريات، على أمل أن التوسع في التنقيب سيُثبت صحة نظريته، الأمر الذي كما رأينا لم يحدث حتى الآن.
وافترض أيضًا أنه لو ثبت أن هناك أي جهاز أو عضو لا يمكن تفسير تكونه أو نشأته بصورة تدريجية فإن نظريته تنهار من أساسها، وقد ثبت أن هناك مئات، بل آلاف الأمثلة لأعضاء وأجهزة ينطبق عليها تعريف التعقيد غير القابل للاختزال، أبسطها وأعقدها سلاسل البروتينات، والـ DNA، والخلية الحية بكل مكوناتها التي كان كل ما يعرفه عنها دارون أنها كتلة من البروتوبلازم.
إذًن فإن دارون إلى حد كبير اتبع الأسلوب العلمي في طرح نظريته، وترك الباب مفتوحاً أمام البحث العلمي كي ينقض (falsify) نظرية التطور، إلا أن الداروينيون في العصر الحديث يريدون أن يغلقوا هذا الباب، بادعائهم أن التطور حقيقة غير قابلة للنقاش، وأن من لا يؤمن بنظرية التطور فهو كما يقول ريتشارد دوكنز إما جاهلاً أو غبياً أو فقد عقله!!!
على أي الأحوال رأي دوكنز لا يمنعنا من طرح التساؤل هل نحن بصدد نظرية علمية أم عقيدة دينية غير قابلة للبحث؟
الإجابة تتضح لنا إذا وضعنا نظرية التطور للتقييم بأسلوب علمي على عدة محاور، أولاً إلى أي مدي تتفق فكرة التطور العشوائي للكائنات مع القوانين الطبيعية الأساسية، والتي لا يختلف عليها أحد، وهي قانون نشأة الحياة، وقانون السببية والقانون الثاني للحرارة والحركة؟ ثانيًا أن ننظر في الأدلة التي يدعي الداروينيون أنها تثبت نظريتهم، ثالثًاً هل هناك ظواهر طبيعية يمكن أن نعتبرها معضلات، لا يمكن تفسيرها، لا الآن ولا مستقبلاً، بنظرية التطور؟
نظرية التطور والقوانين الأساسية في الطبيعة:
قانون نشأة الحياة (The Low of Biogenesis):
قانون نشأة الحياة يقرر أن الحياة تنشأ فقط من حياة أخري، وأن المادة غير الحية لا يمكن أن تتحول عشوائيًا إلى حياة، هذا القانون حُسم على يد العالم لويس باستور (Louis Pasteur) في القرن التاسع عشر، وجميع التجارب العلمية التي تمت حتى الآن أثبتت بما لا يدعو للشك أن نشأة الحياة عشوائياً أمر مستحيل، ورأينا كيف أنه في مواجهة هذه الحقيقة ذهب الشطط ببعض الداروينيون إلى تصور أن الحياة ربما بدأت في كوكب آخر، ومنه نُقلت للأرض، وهو تخيل غريب يجعل الأمر أكثر تعقيداً!!.
القانون الثاني للحرارة والحركة:(The Second law of Thermodynamics)
يُعرف هذا القانون بقانون الاضمحلال low of Entropy))، وهو ينص على أن كل ما في الكون من مادة وطاقة يسير نحو الاضمحلال، هذا القانون ينطبق على كل شيء، بداية من الكون نفسه الذي يعرف كل العلماء أنه تدريجياً يفقد طاقته، وأنه لابد له من نهاية، إلى جميع أنواع الكائنات التي تتراكم فيها الطفرات الجينية العشوائية جيل بعد جيل، وهو ما يعرف بالاضمحلال الجيني genetic entropy))، بينما تفترض نظرية دارون العكس تمامًا، أن الطفرات الجينية العشوائية هي التي أدت إلى ظهور المخلوقات الأكثر تعقيداً من أصول بدائية، ربما من مجرد خلية بكتيرية.
وفي محاولة للرد على هذا، يقول الداروينيون أن قانون الاضمحلال ينطبق على الأنظمة المنغلقة (closed system)، أما الأرض فهي نظام منفتح (open system)، بمعني أن الطاقة المستمدة من الشمس قادرة على تدعيم واستمرار التطور، على مدي العصور الجيولوجية، رغم الاتجاه الطبيعي لاضمحلال الأشياء. قد يكون هذا الرد مقبولاً لو فرضنا تدخل إرادة ذكية كي تكتسب الطاقة الشمسية، ثم تحولها إلى قوة تؤدي إلى مزيد من البناء والزيادة في تعقيد الأشياء، كما يحدث في عملية التمثيل الضوئي في النباتات، أما بدون تلك الإرادة، فكيف يمكن لطاقة الشمس أن تؤدي إلى البناء؟ كيف يمكن للطاقة الشمسية مهما سطعت أن تحول ركام من الحديد والطوب إلى بناء متكامل!!.
وجميع المشاهدات والتجارب التي استخدم فيها العلماء برامج كمبيوتر خاصة لبحث دور الانتخاب الطبيعي في مقاومة عوامل الاضمحلال الجيني، أكدت بما لا يدعو مجالاً للشك أن الانتخاب الطبيعي لا يمكن أن يقاوم عوامل الاضمحلال الجيني، أي أن المخلوقات تسير في اتجاه الاضمحلال وليس التطور.
قانون السببية (Law of causality):
لا يختلف أحد على أنه لا فعل بدون فاعل، ولا توجد نتيجة بدون سبب، وهو ما يعرف بقانون السببية، لهذا ظل كثير من الملحدين يقاومون نظرية الانفجار الكبير، لأنها أثبتت أن للكون بداية، وكل بداية لابد أن لها من مُبدئ، وأن هذا المبدئ، ليس له بداية، وإلا لن تنتهي سلسلة البحث عن مُبدئ للكون[2]، من نفس المنطلق لا يختلف أحد على أن أي عمل منظم ومعقد وله هدف، لابد أن له مصدر ذكي، ولا يمكن أن يظهر هكذا عشوائيًا.
والآن أصبحنا نعرف أن المخلوقات الحية ليست فقط مادة وطاقة، بل أيضًا معلومات وأوامر، متمثلة فيما تحمله جزيئات الـ DNA من شفرة جينية، تحدد نوع الكائن، وتركيب أعضائه، وكل ما يتعلق به من خصائص ومواصفات، هذه الأوامر والمعلومات لابد لها من مصدر حكيم. الدارونيون يريدون منا أن نقبل أن المادة، والجزئيات مع الطاقة هي التي صنعت المعلومات، وهذا غير منطقي، ولا يمكن وضعه في أي إطار علمي، لابد من مصدر أول للمعلومات، هو الذي شكل الجزيئات، وجعلها تستثمر الطاقة، للبقاء والحياة.
هذه القوانين الأساسية، والتي لا يختلف عليها أحد، نجد أن نظرية التطور تنتهكها جميعها، وكأنها غير موجودة، فالكون نشأ عشوائيًا، والحياة نشأت عشوائيًا، بدون مصدر للمعلومات الجينية، وتطورت صورها من بسيطة إلى معقدة رغم أنف قانون الاضمحلال.
بل نجد الداروينيون، رغم أنهم يعترفون بمبدأ أن ما نراه حولنا في الحياة والمخلوقات هو تصميم ذكي، لكنهم بنفس الوقت يحذروننا ويحذرون العلماء من أن ينخدعوا بهذا الذي يرونه وهذا ما عبر عنه فرنسيس كريك بقوله: (على العلماء أن يتذكروا دائمًا أن ما يرونه ليس مصممًا (أي من قِبَل خالق) ولكنه ظهر بالتطور).
ما هي الأدلة التي تعتمد عليها نظرية التطور؟
إذا انتقلنا لاستعراض الأدلة التي يدعي الداروينيون أنها تثبت نظريتهم، سنجد أن جميعها وبلا استثناء تنقض نظرية التطور ولا تؤيدها.
- لم يحدث في التاريخ أن تطور نوع من الكائنات، إلى نوع آخر، ولا يمكن إثبات ذلك تجريبيًا:
على مدى عشرات الآلاف من السنين لم يشاهد أحد أبدًا حدوث أي نوع من التطور بمعني تحول صنف (kind) من المخلوقات إلى صنف آخر ((macroevolution ويرد على ذلك إرنست ماير (Ernst Mayr) وهو من عمداء الداروينية، الذي يدعي أن (التطور حقيقة) بقوله: (أن التطور علم تاريخي (historical science)، ولذلك لا يخضع للتقييم بالقوانين وبالتجارب).
وهو محق في ذلك إلى درجة كبيرة، لكن حتى محاولات إثبات إمكانية حدوث التطور معمليًا باءت كلها بالفشل، على سبيل المثال التجارب التي أجريت على ذبابة الفاكهة وغيرها من الكائنات سريعة التكاثر، التي تضمنت التلاعب بالجينات (رغم أن هذا التلاعب كان عملية موجهة، وليست عشوائية) وإدخال طفرات جينية على أمل أن يؤدي ذلك إلى تغير أو تحسن في النوع كلها باءت بالفشل. وتجربة لينسكي التي تكاثر فيها أكثر من 50 مليون جيل من البكتيريا، ما زالت البكتيريا، رغم ما حدث بها من طفرات أضعفتها، إلا أنها ما زالت بكتيريا حتى الآن.
ويعلق على ذلك عالم البكتيريا البريطاني الآن لينتون (Alan H. Linton) فيقول: أنه خلال دراسة علوم البكتيريا على مدي 150 سنة، لا يوجد دليل واحد على تحول نوع من البكتيريا إلى نوع آخر).
سجل الحفريات دليل مادي على عدم حدوث أي تطور للكائنات من نوع لآخر:
يدعي الداروينيون أن التطور بمعنى (macroevolution)، عملية تحتاج لملايين السنين، ولذلك لا يمكن أن يُشاهد في حياة البشرية، وإذا قبلنا هذا فلابد أن يكون هناك دليل على ذلك، وأهم هذه الأدلة هو سجل الحفريات الذي يجب أن يحتوي على ملايين الحفريات لكائنات انتقالية، تمثل التدرج البطيء في تحول الأنواع من نوع لآخر، وهذا هو الدليل الحقيقي الذي كان يفتقر إليه دارون ليثبت نظريته، وكان يأمل أن هذه المشكلة ستُحل في المستقبل، مع اتساع رقعة التنقيب عن الحفريات، إلا أن سجل الحفريات قد أصبح دليل ضد نظريته وليس داعمًا لها، فمن ناحية نجد جميع الشعب الحيوانية (phyla) المعروفة، ظهرت فجأة في المرحلة الكمبيرية، على حد وصف الدارويني المتطرف ريتشارد دوكنز (وكأنها زرعت فجأة)، بلا أي دليل على وجود أسلاف لها!!!
ومن ناحية أخري نجد أن السمة الأساسية لسجل الحفريات هي الظهور المفاجئ للأنواع المختلفة من الكائنات، ثم الثبات (stasis) يتبعه الفناء (extinction)، أي الثبات لملايين السنين على حالها ثم قد تختفي فجأة بدون أي دليل على التحول لأي نوع آخر.
ويحاول علماء الأنثروبولوجي لملمة ما لديهم من حفريات، بالإضافة إلى المعلومات المستمدة من تحليل الـ DNA وغيرها من تقنيات الجزيئات الحيوية، ووضع نموذج تطوري متجانس، إلا أن النتيجة جاءت غير ما تمنوا، فالتحليل الجيني يتعارض مع الأدلة من الحفريات، وهو ما يعترف به أحد العلماء الداروينيون بقوله: (إنه حتى تحليل الـ DNA، لا يعطي صورة مباشرة لعملية التطور، ولذلك فالأمر متروك للخيال).
علم الجزيئات الحيوية يؤيد فشل نظرية التطور:
أصبح التطور في علم الجزيئات الحيوية حجرة عثرة أمام نظرية التطور، خصوصًا ما تبين خلال السنوات الأخيرة من مدي التعقيد في التركيب أو في الوظائف التي يقوم بها الDNA، وأن بعض الحجج التي كان يتشبث بها الداروينيون، مثل حجة الDNAالنفاية، وأن معظم الDNA ليس له وظيفة، قد سقطت جميعها، وكما أثبت العلم أخيرًا أن تركيب سلسلة ال DNAليست بالبساطة التي تصورها العلماء سابقًا، فهي ليست سلسلة على الإطلاق، ولكنه مركب رباعي الأبعاد، وأن الجين الواحد له أكثر من وظيفة، لدرجة أن تعريف الجين الآن أصبح أمرًا معقدًا. كذلك فإن تفعيل الأوامر يستلزم عدد من المستويات داخل الخلية، بل كما تبين أن الجينات ما هي إلا كتاب التعليمات الذي يحمل صفات كل كائن، لكن العوامل الفوق جينية هي التي تنفذ وتوجه العمل بما في هذا الكتاب، مما فتح بابًا أخر من التعقيد البيولوجي، لا يمكن معه تصور أي معني أو دور إيجابي للطفرات الجينية.
وفوق كل هذا تظل حجة مصدر المعلومات والأوامر (enigma of DNA) التي يحملها الـ DNA حجرة عثرة أمام أي تفكير عشوائي.
حدود عمل آليات نظرية دارون:
الانتخاب الطبيعي والطفرات الجينية، هما جناحي نظرية دارون، لكن رغم هذين الجناحين، إلا أن نظرية التطور كما تخيلها دارون لا يمكن أن تحلق بيولوجيا إلا في حدود التغيرات المحدودة (microevolution)، وهذه لا يوجد خلاف كبير عليها.
وهذا النوع من التغيرات ينطبق على معظم الأمثلة التي يسوقها الداروينيون بداية من تنوع طيور الفنش التي شاهدها دارون في جزر الجالاباجوس (Gala-pagos)، إلى قصة فراشات الموث، وتجارب التكاثر الموجه التي أجراها هو نفسه أو شاهدها في عدد من النباتات والحيوانات.
وربما كانت التجارب العلمية الوحيدة التي أجراها دارون كي يدعم نظريته، وهي تجارب التكاثر الموجه لأنواع من الحمام والتي على أساسها وضع نظريته، هي نفسها تعتبر عقبة أمام نظرية دارون وليست داعمة لها، وذلك لسببين أساسيين:
السبب الأول: أن التكاثر الموجه ليس عملية عشوائية، بل يتم بترتيب عقلي ذكي، بغرض الحصول على سلالات ذات صفات معينة.
السبب الثاني: رغم أن التكاثر الموجه، ليس عملية عشوائية، إلا أنه على مدى آلاف السنين، أثبت مرة تلو الأخرى، أن هناك حدود جينية لا يمكن تخطيها، فمهما حدث من تغير في صفات الكائنات، فإنها تظل محصورة في نفس النوع، الكلاب تظل كلاب، والقطط تظل قطط وإن تعددت وتغيرت أشكالها.
أما بالنسبة للطفرات الجينية العشوائية، فلا يوجد على الإطلاق نموذج واحد لطفرة جينية أدت إلى اكتساب معلومات إضافية، أي تكون نوع جديد من البروتينات، حتى تلك الطفرات التي يدعي الدراوينيون أنها طفرات عشوائية (مفيدة)، هي ضد نظرية التطور، لأنها في حقيقتها فقدان لوظيفة، وليس اكتساب وظيفة أو قدرات جديدة، أي فقدان لمعلومات جينية وليس اكتساب لمعلومات جينية جديدة. على سبيل المثال، اكتساب أنواع من البكتيريا مقاومة لمضاد حيوي، يحدث نتيجة فقدان الإنزيمات في البكتيريا التي يعمل عليها المضاد الحيوي للفتك بالبكتيريا، كذلك فقدان بعض الحشرات التي تعيش في جزر أو أماكن شديدة الرياح لأجنحتها، حتى تتلاءم مع طبيعة الجو، هو فقدان، وليس اكتساب المعلومات جينية، وذلك ليس هو المقصود بالتطور الدارويني.
وهو ما جعل العالم الدارويني ستيفن جولد يقول: (إن أساس نظرية دارون هو الانتخاب الطبيعي، ولا أحد ينكر دور الانتخاب الطبيعي في التخلص من الكائنات الضعيفة، إلا أن الداوروينية تتطلب أن يكون دور الانتخاب الطبيعي خلق الكائن القوي).
أي أن الانتخاب الطبيعي يحافظ على ثبات النوع عن طريق التخلص من الطفرات الجينية العشوائية، ولكنه لا يمكن أن يكون الآلية لإيجاد نوع جديد، كما تفترض نظرية دارون.
معضلات أمام نظرية التطور:
هناك ظواهر طبيعية، هي معضلات، لا يمكن تفسيرها، لا الآن ولا مستقبلاً بنظرية التطور العشوائي: منها نشأة الوعي، فكيف يمكن لذرات من النيتروجين أو الفسفور أو الكربون، وهي المكونات الرئيسية للخلية الحية، أن تكتسب الوعي، فتحب وتكره، وتسعد وتحزن، وتفكر وتقرر، وغيرها من مواصفات الوعي؟
وكيف نفسر نشأة القدرة على التخاطب، وظهور اللغة، وأن يحدث ذلك فقط في جنس البشر؟
وكيف نفسر نشأة الجنس، الذكر والأنثى؟
وكيف نفسر التماثل في تكوين جسم معظم المخلوقات حولنا (bilaterality)؟
ومن المدهش أن الداروينيين أنفسهم يدركون هذه الحقائق، فنجد أحدهم يقول: (إننا لا نستطيع أن نتعرف على أي أسلاف أو حلقات مفقودة، ولا نستطيع أن نقدم أي نظرية قابلة للتقييم تثبت حدوث التطور، رغم ذلك فنصر في جميع القصص عن كيف ظهرت البرمائيات، وكيف نمت أجنحة للطيور، وكيف انقرضت الديناصورات، وكيف تطور الإنسان من أصل قرد، كلها قصص من صنع الخيال، بسبب التعصب، وقناعة مسبقة برأينا).
لماذا الإصرار على نظرية التطور؟
إذا كانت الأدلة العلمية والمنطق الفطري، لا يؤيد نظرية دارون، فلماذا يتبني أكثر العلماء والباحثين وأغلبهم من العلماء المرموقين، هذا المسلك غير المنطقي، ويصرون على أن نظرية التطور حقيقة غير قابلة حتى لمجرد البحث أو النقاش، رغم افتقارها لأي دليل عملي أو نظري؟[3].
الحقيقة أنه لا يوجد سبب واحد بعينه، لكن عدد من الأسباب، ربما منها أن جميع هؤلاء الباحثين هم نتاج لأجيال بعد أجيال طُبعت على نظرية التطور، فهم لم يتلقوا خلال جميع مراحل تعليمهم، أي شيء سوى أن نظرية التطور حقيقة ثابتة غير قابلة للنقاش، هذا ما نشأت عليه جميع الأجيال في غضون، على الأقل النصف الثاني من القرن العشرين. هذا من ناحية ومن ناحية أخري العلماء في ممارستهم لتخصصهم وأبحاثهم، هم أسري للتخصص الدقيق الذي يمارسونه.
ولنفهم ما الذي نعنيه بهذا، دعنا نفترض مثال، فلو تخيلنا عرض مسرحي ضخم، يشترك فيه الآف من الممثلين، كل له دور معقد عليه أن يحفظه عن ظهر قلب، وأي خطأ يعني استبعاده من المشاركة في هذا العرض، بالطبع لن يلتفت أحد لدور الآخر، وكل واحد سيركز في حفظ وإتقان دوره، خصوصًا إذا كان هذا الإتقان مرتبط بفائدة مادية وأدبية وغالبًا لن يكترث كثيرًا أن قصة المسرحية وما الهدف منها، الأمر الذي لا يعرفه أحد، سوى المؤلف والمخرج وبعض من مساعديهم، يكفيه أن الجماهير سعيدة وتصفق، فهذا هو دليل النجاح.
هذا هو حال الغالبية العظمي من العلماء والباحثين، الذين كل منهم مستغرق في تخصصه الدقيق، ويجهل تمامًا ما سواه من التخصصات، وفي تنافسه لتحقيق سبق علمي في النشر، أو الحصول على دعم مادي لما يقوم به من أبحاث، فهو كالممثل الذي عليه فقط أن يتقن دوره، وها هي الجماهير تصفق دليل على النجاح، كذلك فالعلم لا شك يحقق النجاحات المبهرة يومًا بعد يوم.
أما المؤلف والمخرج لهذه المسرحية الضخمة، فهم مجموعة الملحدين وأتباعهم الذين جعلوا من نظرية التطور عقيدة، يدافعون عنها، ويحملون راية التبشير لنظام عالمي جديد لا توجد فيه قيم عليا، ولا مكان فيه لدين ولا إلى إله.
ولذلك فالإصرار على نظرية التطور ليس له علاقة بوجود أو عدم وجود أدلة علمية، ولكنه الرفض المسبق لفكرة وجود قوة خارج حدود الطبيعة، حتى لو أن كل الأدلة اجتمعت على هذه الحقيقة.
وهذا ما يعترف به العالم الدارويني إرنست ماير Ernst Mayr)) (عندما يؤكد أن الداروينية ترفض أي مسبب فوق الطبيعة supernatural force)).
ويعلق أستاذ آخر في جامعة كنساس بقوله: (حتى لو أن كل المعطيات تشير إلى وجود مصمم ذكي فإن هذا الافتراض لا يعتبر علمي).
ويؤكد آخر وهو ليونتين ريتشارد Lewontin Richard)) أن مفهوم المادية أمر لا جدال فيه، ليس بسبب وجود الأدلة العلمية، ولكن بالرغم من عدم وجود هذه الأدلة، فلا مجال لاعتبار وجود أي سلطة إلهية، فيقول: (.. إن مفهوم المادية لا جدال فيه، ولن نسمح لأي قوة سماوية بأن تخطو خطوة في هذا الباب).
ويقول الفيلسوف الدارويني المعروف ميكل روس (Michael Ruse): (أن التطور بديل للديانة المسيحية.. نظرية التطور هي ديانة، هذه كانت الحقيقة في بدايتها وهي الحقيقة الآن).
والسير جوليان هكسلي (Julian Huxley)، وهو من دارويني القرن العشرين، والمؤسس لما يعرف بالداروينية الحديثة يقول:(أن نظرية التطور هي ديانة بدون رسول (Religion without revelation)
وفي كتاب له يقول: (أن نظرية التطور هي أقوي وأشمل نظرية ظهرت على الأرض). (وأننا لا بد أن نغير نمط العبادة من عبادة تدور حول وجود إله إلى عبادة تدور حول نظرية التطور) (وأن نظرية وجود إله أصبحت عبء على العقل والقيم) وأنه (لابد من وضع شيء آخر ليحل محلها).
وآخر من علماء البيولوجي، وهو يودع إيمانه بحياة أخري، يقول: (أن الأمر مجرد مسألة وقت إلى أن يتقبل المجتمع ثمرة هذا المفهوم (يقصد الداروينية) مثلما تقبل من قبل أن الأرض دائرية، وأن الشمس مركز الكون).
وهكذا نري الداروينية، وقد تحولت إلى عقيدة دينية متطرفة، لا تقبل النقاش أو البحث العلمي، وهذا المفهوم الذي جعل شخص مثل ريتشارد دوكنز يعبر عن رأيه في الدين فيقول:
(أنه أسوأ أنواع الشر في العالم، مثل وباء الجدري، لكن القضاء على الدين أصعب).
(الداروينية الاجتماعية)
(Social Darwinism)
سرعان ما امتد الفكر الدارويني ليغزو جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا شك أن استعراض تلك الجوانب المختلفة المتعلقة بالداروينية الاجتماعية يحتاج لبحث منفرد لكننا هنا سنحاول أن نجمل تبعات هذا الفكر المادي على المجتمع والسياسة والاقتصاد وهو ما يعرف إجمالاً (بالداروينية الاجتماعية) (Social Darwinism).
في البداية يجب أن نوضح الأفكار الأساسية التي قامت عليها نظرية التطور الدارويني، والتي أدت إلى هذه التبعات وهذه يمكن أن نجملها في ثلاث محاور:
أولاً: نظرية دارون نظرية مادية بحتة، كان من شأنها كما يقول دكتور مايكل دينتون (Michael Denton) (عزل الإله من الطبيعة، وبالتالي يصبح البشر هم من يحددون ما هو خير وما هو شر، وما هو صواب وما هو خطأ).
ثانيًا: أن المخلوقات دائمًا في حالة صراع البقاء فيه للأقوى، وهو المفهوم الذي خلص إليه دارون، في نهاية كتابه أصل الأنواع حيث يقول (وهكذا مِن حرب الطبيعة والمجاعات والموت، نشأت أرقي الأنواع من الكائنات “المقصود الإنسان”)[4].
ثالثًا: الإنسان، مثله مثل أي كائن آخر، ما هو إلا تجمع من الذرات وجد بالصدفة البحتة، أو كما يقول ستيفن جولد إننا لو أعدنا شريط الحياة مرة أخري فليس بالضرورة سنحصل على نفس النتيجة.
النتيجة الطبيعية لهذه القواعد الثلاثة، والتي منها انطلقت فكرة الداروينية الاجتماعية هي:
- الخير والشر والخطأ والصواب أمور نسبية، مرجعيتها الإنسان وحده، أو على أحسن الفروض ما يتفق عليه المجتمع تبعًا للزمان والمكان.
- لا يمكن اعتبار البشر في درجة واحدة من التطور، على سبيل المثال الجنس الأبيض من الأوربيين هم من وصلوا إلى درجات متقدمة في سلم تطور الكائنات، بينما الزنوج من أفريقيا، أو الأبوريجيني في أستراليا، هم أقرب إلى أسلافهم من القردة منهم إلى البشر.
- الصراع من أجل البقاء أمر حتمي، لا معني لحرمة الحياة الإنسانية، فقتل الإنسان لا يختلف كثيرًا عن قتل أي حيوان، وهو ما عبر عنه الفيلسوف الاجتماعي هربرت سبنسر (Spencer)، أول من صاغ تعبير البقاء للأقوى، عندما قال (إذا كانوا قابلين للحياة، فيجب أن يعيشوا، وإذا لم يكونوا على مستوى الحياة، فسيموتون، وسيكون ذلك هو الأفضل).
وكان سبنسر يري أن الإنسان ليس حرًا، ولكن تحكمه القوانين البيولوجية التي وَضعت كل إنسان، منذ مولده، في وضع اجتماعي ووظيفي محدد، بما قد يحمله ذلك من تناقض وعدم مساواة، وكان يري أنه من الأفضل للفقراء والجهلاء والمرضى، العجزة والفاشلين أن يموتوا، ولذلك كان يعترض على أي قانون من شأنه تقديم رعاية صحية أو علاج أو سكن لمثل هذه الفئات.
كانت أفكار سبنسر هي انعكاس مباشر لنظرية توماس مالتوس[5] (Thomas Malthus)، التي كان لها دور كبير في تشكيل فكر دارون. وكان دارون لديه قناعة كاملة بتلك المبادئ، ويعترف دارون أن قناعته بأن القردة هم أسلافه أفضل من أن يتصور أن البشر من العرايا الهمج الذين شاهدهم في جزيرة[6] بأمريكا الجنوبية هم أسلاف له، فالقردة حسب رؤيته، ما زال لديها قلب. ويتنبأ دارون أنه في المستقبل القريب، سيقضي الجنس المتحضر من القوقازيين على الأجناس الهمجية من على وجه الأرض، كذلك سيتم القضاء على أجناس القردة، وبالتالي ستصبح المسافة بين الإنسان، وأقرب أسلافه كبيرة.
هذه المبادئ الثلاث التي بنيت عليها نظرية دارون، كانت كفيلة أن تعطي المبرر للسياسيين وعلماء الاجتماع من الذين كانوا يدعون -على استحياء- للعنصرية، ويرون أن الأجناس لا تتساوى، أن يجهروا بدعوتهم، فظهر من يطالب الدولة أن تعمل على ترقي المجتمع عن طريق توجيه عملية التطور أو الانتخاب الطبيعي في الجنس البشري، كما هو الحال في الحيوانات.
وأصبحت سياسات مثل الاستعمار، وتحسين النسل عن طريق التكاثر الموجه[7]، والفاشية[8]، والعنصرية، لها ما يبررها، لأنها بالرغم مما تتضمنه من آلام أو ظلم إلا أنها في النهاية تهدف إلى النهضة المادية والاقتصادية، وصلاح النوع الإنساني، ولا قيمة هنا للعواطف ولا مكان للضعفاء، أو من يحتاجون لرعاية…البقاء للأقوى..
من نفس المنطلق، فقدت الحياة الإنسانية حرمتها، وأصبح هناك مبرر (علمي) لأفعال مثل الإجهاض وقتل الرحمة (euthanasia)، سواء الإرادي أو غير الإرادي، وقتل المواليد (infanticide)، وهي أمور كان من الصعب تبريرها أو حتى التفكير فيها من قبل.
بل أن ممارسات الشذوذ الجنسي أصبحت تُبرر بأنها العودة للطبيعة الحيوانية. كذلك تناول عقاقير الهلوسة والمخدرات أصبحت تجد من يبررها، على رأس هؤلاء كان ألدوس هكسلي[9] (Aldous Huxley)، الذي كان له دور محوري في التشجيع على تناول عقاقير الهلوسة والمخدرات بين طلاب الجامعات في الستينات من القرن الماضي، تحت ادعاء أنها تعوض الإنسان عن التجربة الروحية للإيمان بالخالق.
وعلى مستوى الدول أصبح استعمار الدول المتخلفة من قبل الدول الأكثر تقدمًا، من أجل استغلال مواردها أمرًا منطقيًا، فالحروب من أجل القضاء على الفقراء وتشريدهم وطردهم من منازلهم، وقتل الأطفال والرضع أصبحت مبررةً من أجل تقدم الإنسانية، فهذا هو قانون الطبيعة.. والبقاء للأقوى..
الداروينية الاجتماعية والتكاثر الموجه في البشر (eugenics):
ربما ليست مصادفة، أن يكون أول من وضع تعبير eugenics)) أو ما يعرف أحيانًا (بعلم تحسين صفات الإنسان الوراثية) هو ابن عم دارون، فرانسيس جالتون (Francis Galton)، الذي أصبح مهووسًا بكتاب دارون (أصل الأنواع)، خاصة الفصل الذي يتحدث عن التربية الموجهة للحيوانات، فنجده يقول (لقد استولت عليَّ فكرة هل يمكن أن نحسن من النسل البشري؟ هل يمكن أن نتخلص من غير المرغوب فيهم ونكثر من المرغوب فيهم؟).
وكوَّن جالتون وابنه وابني توماس هكسلي، وهو رفيق وصديق لدارون، ما عرف باسم الجمعية البريطانية لتحسين النسل (The British Eugenics Society)، كانت عقيدة هذه الجمعية مبنية على عدم إعطاء أي اعتبار لمشاعر الحب أو التعاون أو الاتحاد، ويستلزم ذلك الحد من تقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للضعفاء وغير الأكفاء، لأن ذلك سيزيد من فرصتهم في الحياة عن طريق زيادة نسلهم، وذلك يتعارض مع مبدأ التخلص من الموروثات الضعيفة (elimination of poor genes) من أجل الحصول على أعراق قوية من الأفراد، في معظم الأحيان كان يعني ذلك المعاقين، ثم أمتد ليشمل كل الأجناس غير الأوروبية.
وانتشرت فكرة جالتون في أنحاء بريطانيا، وضغط أنصار هذه الفكرة على الحكومة البريطانية لاتخاذ خطوات إيجابية، تحت حجة أن الذين يعانون من التخلف والإعاقات هم سبب كل المساوئ في المجتمع من جرائم وسرقات وغيرها من كل أنواع الموبقات، وأصبح هناك أنصار كثيرون لهذه الفكرة، ومن الأسماء المشهورة التي أيدت هذه الفكرة الأديب المعروف برنارد شو George Bernard Show.
وكذلك الفيلسوف والناشط السياسي برتراند راسل (Bertrand Russell) الذي اقترح أن الدولة يجب أن تصدر قانون (تصريح التكاثر) (procreation tickets)، كي تمنع تداخل أنواع الجينات المنحطة مع الجينات الراقية، ويعاقب بشدة كل من يخترق هذا القانون، وذلك إذا حدث تزاوج بين فرد يحمل تصريح يدل على جين منحط مع آخر من ذوي الجينات الراقية.
تحولت فكرة تحسين النسل إلى مبدأ عام تبنته الحكومة البريطانية، وفي عام 1907 أُنشأت جمعية (تعليم تحسين النسل) ((The Eugenics Education Society، التي دعت إلى منع تزاوج الضعفاء والمعاقين عن طريق التعقيم، ووصفهم السير جيمس – كريشتون[10] (Sir James – Crichton-Brown) بأنهم (نفايات اجتماعية).
وفي رسالة لرئيس الوزراء، في عام 1910 كتب ونستون تشرشل Winston Churchill)) يقول: (إن تكاثر الضعفاء عقليًا أمر مزعج للجنس البشري).
وفي 1912 عُقد في بريطانيا المؤتمر العالمي لتحسين النسل (International Eugenics Conference) في ذكري جالتون الذي توفي في 1911، حضره علية القوم، منهم ونستون تشرشل، وابن تشارلس دارون Major Leonard Darwin))، والذي في مرحلة لاحقة تزعم حركة تدعو الحكومة البريطانية لإطلاق فريق من العلماء لديهم سلطة القبض والإحضار لكل من هو غير قادر (unfit)، ووضعهم جميعًا في مستعمرات خاصة، أو تعقيمهم.
قد لا يعرف الكثير أن عقيدة تحسين الجنس البشري، قد استمرت في بريطانيا حتى عهد ليس ببعيد، ففي عام 1946 اعتبر أحد علماء الاقتصاد المرموقين كينز (John Maynard Keynes) الذي كان يحتل منصب رئيس الجمعية، أن تحسين الجنس البشري هو أحد أهم فروع علم الاجتماع.
وامتدت حركة تحسين النسل إلى أمريكا في أوائل القرن العشرين، وفي مرحلة لاحقة تأسست الجمعية الأمريكية لتحسين النسل، وبينما حركة تحسين النسل في بريطانيا تبنت خطة التكاثر الموجه للصفات الجيدة، نجد أن الحركة في أمريكا تبنت بالإضافة لذلك، خطة التخلص من الصفات السلبية بين الفقراء وغير المتعلمين عن طريق سن قانون بتعقيم كل من ينطبق عليه تلك الصفات، وأصبح تطبيق هذا القانون في أمريكا بشكل منظم وصارم مثال يحتذي به، ففي القرن العشرين كان هناك 70,000 ضحية تم تعقيمهم قصرًا من المجرمين والمتخلفين عقليًا ومدمني المخدرات وفاقدي البصر أو السمع والمصابين بمرض الصرع أو السل أو الزهري. وتمت ممارسات مماثلة في السويد والنرويج وكندا، حتى أن الحركة النازية في ألمانيا استفادت من النظام الأمريكي الصارم، فنجد هتلر يعلن بفخر أنه يطبق القانون الأمريكي الذي يمنع تكاثر غير القادرين (unfit).
إذن فمبدأ تحسين النسل (eugenia) الذي كان أسوأ مظاهر تفعيله أثناء حكم النازي لألمانيا، كان أصله من إنجلترا وأمريكا، وكان لجالتون دور كبير في تأسيسه باعتبار أن التخلص ممن اعتبرهم (نفايات) المجتمع أو تعقيمهم هو الطريق إلى نهضة وتقدم الدول.
الداروينية الاجتماعية والاقتصاد:
كانت الداروينية الاجتماعية، هي السبب في انهيار المبادئ الأخلاقية، وظهور الرأسمالية المتوحشة، حيث لا مكان للفقراء والمهمشين، وحيث لا يوجد عدالة اجتماعية، والمبرر لهذا هو قانون البقاء للأقوى، وفلسفة (السمك الكبير يأكل السمك الصغير) (big fish eats the small fish).
ومرة أخري كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أول من طبق الداروينية الاجتماعية في الاقتصاد بأعنف صورة، ففي بداية القرن العشرين كان معدل وفاة العمال يصل إلى مليون عامل سنويًا، وكانت إصابات العمل التي تؤدي إلى إعاقات هي القاعدة وليس الاستثناء، وذلك بسبب سوء جو العمل وتكالب أصحاب العمل على المال، الذين من جانبهم لم يروا أي خطأ في هذه الأساليب، بل كما قال جون روكفلور (John Rocketeller) رجل الأعمال والصناعة الأمريكي المعروف (أن نمو الشركات الكبرى هو ببساطة قاعدة البقاء للأصلح. وهو قانون الطبيعة)
الداروينية الاجتماعية وحرمة الحياة:
قبل ظهور الداروينية لم يكن هناك أي جدل حول مبدأ حرمة الحياة الإنسانية، ولم تظهر أي أفكار تتعارض مع هذا المبدأ، مثل الدعوة للإجهاض وقتل المواليد وقتل الرحمة، لكن تزامن ظهور هذه الأفكار مع انتشار الفكر الدارويني، الذي كان له دور كبير في تغير نظرة الناس لمفهوم الحياة البشرية وقيمتها.
فعند الداروينيين الحياة ما هي إلا ظاهرة مادية بحتة، ولا يوجد ما يعرف بالروح، وكل ما نعتقد أنه روح ما هو إلا تصورات تحدث في الجهاز العصبي، وبالتالي فإن قيمة الحياة الإنسانية لا تزيد أو تختلف كثيرًا عن قيمة حياة الحيوانات التي ليس لها أرواح، وبالتالي فإن قيمة حياة الإنسان أو حرمتها، مثلها مثل قيمة حياة الحيوان وحرمتها أي تعتمد على ما يقدمه من فائدة.
ولذلك ينطبق على الإنسان نفس قوانين التكاثر الموجه (selective breeding) التي تنطبق على الحيوان، وكما أنه في الحيوانات يتم التخلص من الأنواع الرديئة بقتلها، كذلك يجب تبني سياسة مماثلة في تكاثر البشر للحصول على أفضل السلالات البشرية، وفي هذا يقول دكتور هانز فون هنتیج Hans von Hentig))، وهو من الدارونيين المؤمنين بضرورة تنقية النسل (إنه في حالة تكاثر الإنسان من الصعب تبني نفس الأسلوب المتبع في التكاثر الموجه للحيوانات، وذلك بقتل الأنواع الرديئة، والبديل هو أن نطارد السلالات الرديئة من البشر، وندفعهم للفناء، أو نضعهم في معتقلات، حيث لا يمكنهم الإتيان بأي ضرر، ومنع تكاثرهم، وذلك من أجل مصلحة المجتمع).
وفقًا لهذه الرؤية أصبح القتل الجماعي للمخلوقات الرديئة، منها الإنسان، ليس عملية ذات بال، وفي هذا يقول هيكل[11] Ernest Haeckle))، أنه بناءً على الرؤية الداروينية ورؤية مالتوس، معظم البشر يموتون، ولا يبقي إلا القادرين.
الداروينية الاجتماعية والعنصرية (Racism):
قبل ظهور الفكر الدارويني، كان الإيمان بأن البشر جميعًا يرجعون إلى أصل واحد، آدم وزوجه[12]، وأن الإنسان هو خلق الله الخاص وله روح خالدة، أمر لا محل للشك فيه، وبالتالي فحياة أي إنسان لها قيمة خاصة، ولا يمكن مقارنتها بحياة الحيوان، وعلى هذا الأساس أرسلت البعثات التبشيرية من الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتينية إلى خارج أوروبا، على قناعة بأنه من الممكن لغير الأوروبيين تبني الديانة المسيحية والثقافة الأوروبية.
إلا أن ظهور الفكر الدارويني قلب هذه المبادئ رأسًا على عقب، وأعطي لمن كانوا يؤمنون بالعنصرية، والتفاوت بين الأجناس البشرية مبررًا علميًا. وقد كان دارون نفسه، رغم إنه -كما يذكر المؤرخون- كان يعترض على فكرة العبيد من البشر، يؤمن بأن هناك فجوة كبيرة بين الأجناس الراقية من البشر والأجناس المنحطة الهمجية lowest savages))، واعتبر أن توضيح هذا الأمر هو أحد أهداف كتابه (The descent of man)، حيث يقول فيه (أننا المتحضرون من البشر نعمل ما في وسعنا كي نحد من ظاهرة تصفية الضعفاء، فنبني ملاجئ للفقراء والضعفاء، ونعالج المرضى بقدر استطاعتنا، ونقوم بالتطعيم ضد الأمراض، العمل الذي أنقذ الآلاف من مرضى الجدري، وهكذا فإن الضعفاء في المجتمع يتكاثرون. مثل هذا الفعل لا يمكن أن يقوم به أي مربي للحيوانات الأليفة، ولا شك أن هذا الفعل مضر بالنوع الإنساني، وسريعًا ما سيؤدي إلى فناء النوع، وهذا من جهل الإنسان)
من نفس المنطلق نجد الكاتبة لابوج (Lapouge) في ترجمتها الفرنسية لكتاب دارون (أصل الأنواع) تتوافق مع مقدم ترجمة الكتاب كليمونس روييه (Clemence Royer) الذي قال (ما هي نتيجة تقديم المساعدة والحماية للضعفاء والمعاقين والمرضي والأشرار وجميع هؤلاء الذين رفضتهم الطبيعة؟ النتيجة هي أن الإعاقات التي ابتلوا بها ستنتشر وتتكاثر، ويتكاثر الشر بدلاً من أن يضمحل وذلك على حساب الأصلح).
وبما أن التطور، تبعًا لنظرية دارون، لا يمكن أن يحدث إلا في وجود تباين بين مخلوقات النوع الواحد فقد رأى الدارويني الفرنسي جورج فاشييه لابوج George Vacher de Laponge))، أن نظرية التطور هي المسمار الأخير في نعش مبادئ الثورة الفرنسية، التي كانت تنادي بالحرية والمساواة والإخاء، واعتبر أنها مبادئ غير علمية، ويجب أن يحل محلها عدم حرية التصرف وعدم المساواة والانتخاب الطبيعي[13]، واعتبر هيكل أن هناك موانع بيولوجية تمنع ترقي أو تعلم الطبقات الوضيعة من البشر، مثل الأبورجين في استراليا وسكان الغابات في جنوب إفريقيا، لأن وراثة الصفات الرديئة لا يمكن تغييرها، وذلك بناءً على مبدأ عرف بالداروينية البيولوجية.
وكان هيكل يري أن هذه الأجناس ليس لديها مفهوم للزواج أو العائلة، فمثلهم مثل القردة يعيشون في الغابات ويتسلقون الأشجار بحثًاً عن الغذاء، وبالتالي قيمة الحياة البشرية غير متساوية، وأن قيمة الحياة لتلك الطبقات الوضيعة من الجنس البشري لا تزيد عن قيمة حياة القردة، ربما أعلي منها قليلاً.
ووصل الأمر إلى محاولة بعض الدارونيين إجراء تزاوج بين القردة والزنوج من أفريقيا، عن طريق التلقيح الصناعي[14]. ونجد أوسكار باسكال Oscar Peschel)) الباحث الألماني يكتب مقالة بعنوان (الإنسان والقرد)، يؤكد فيها تطور الإنسان من أصل قردة، وأن بعض البشر أقرب إلى القردة من غيرهم فيقول (إن البشر السود مختلفون كثيرًا عن الأوربيين، وهم أقرب إلى القردة، فأجسامهم صغيرة، والجمجمة نسبيًا صغيرة، والأطراف العلوية أطول، وعظمة الفخذ أطول.. كما إنهم أقرب للحيوانات، فالرائحة الكريهة تنبعث منهم، وشكل وجههم وصوتهم أقرب للحيوانات).
ويقول دكتور ريتشارد ويكرت (Richard Weikart) في كتابه من دارون إلى هتلر ((From Darwin to Hitler، أنه حتى نهايات القرن التاسع عشر، كانت الداروينية البيولوجية منصبة على الفروق بين الأوروبيين من ناحية، ومن ناحية أخري الأفارقة السود والأسيويين والهنود الأمريكان والأبوريجين، ثم تحول الأمر مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ليصبح التمييز العنصري بين الأوروبيين أنفسهم، فالجنس الألماني أو الآري يتميز على جميع الأوروبيين بالذات عن الجنس السامي من اليهود.
وهكذا أعطت نظرية دارون السند العلمي لفكرة عدم المساواة بين البشر، وبات الاختلاف البيولوجي بين البشر هو العمود الفقري للتطور. ولترسيخ هذه الفكرة، كان لابد من التأكيد على نقطتين: أولاً أن الإنسان لا يختلف كثيرًا عن أقرب الحيوانات، وثانيًا أن هناك فروقات جوهرية بين البشر أنفسهم، وفي هذا الشأن نجد هيكل يقول في كتابه التاريخ الطبيعي للخلق (The Natural (History of Creation (أن هناك فروق شكلية، وليست نوعية ضئيلة بين أرقي الحيوانات تطورًا وأحط أنواع البشر تطورًا، وأن هذه الفروق أقل من تلك التي بين البشر المنحطين والأنواع الراقية المتطورة (منهم).
المقصود بهذا أن أجناس من البشر المنحطين، تبعًا لرؤيته، هم أقرب للحيوانات منهم للبشر!! وتاريخ البشرية ملئ بالمحطات السوداء التي ارتُكبت فيها أبشع الجرائم، كانت الداروينية الاجتماعية هي المبرر لها، مثال ذلك فظائع التطهير العرقي، التي ارتكبها الاستعمار الألماني في أفريقيا، ناميبيا، عام 1904 من قتل وتعذيب لأهل البلاد، باسم التطهير العرقي، فيما عُرف بالهيريرو ريفولت أو ثورة الهيريرو[15] (Herero Revolt)، لم ينجو من ذلك لا رجال ولا أطفال ولا نساء، ويرى الباحثون أن هذه الفظائع كانت باكورة تطبيق مبدأ الداروينية في التخلص من الأجناس الأدنى من البشر.
وصلت قناعة الدارونيين بدنو الأجناس غير الأوربية، إلى درجة إنشاء حدائق حيوان خاصة، تُعرض فيها أجناس من البشر من أفريقيا وأسيا داخل أقفاص، جنبًا الى جنب مع القردة والحيوانات، عُرفت بحدائق حيوان البشر (zoo human)، وظلت هذه الحدائق موجودة في دول في أوربا وأمريكا حتى منتصف القرن العشرين، وربما من أشهر النماذج قصة الرجل المعروف باسم أوتا بينجا (Ota Benga) أو بي (Bi) التي تعني في لغتهم (الصديق)، وهو رجل كان له زوجة وأولاد، لكنه جُلب من إفريقيا، ووضع في قفص في حديقة الحيوانات، في ولاية سانت لويس، في الولايات المتحدة الأمريكية، بجوار القردة ليشاهده زوار الحديقة، باعتباره صورة بدائية أو حلقة من الحلقات المفقودة في سلسلة تطور الإنسان، وأخيرًا انتهى به الأمر أن ينتحر ليتخلص من الإذلال الذي تعرض له.
الحرب والسلام (Darwinian militarism):
عندما نقول إن أسوأ القرون التي مرت على البشرية، هو القرن العشرين، وتحديدًا السنوات التي أعقبت ظهور نظرية التطور، فإنما نتعرض لحقيقة تاريخية، فلم يفيق العالم على مدي الدمار والموت الذي لحق بمئات الملايين من البشر من جراء الفكر الدارويني، إلا في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويري عدد كبير من الباحثين أن هذا الفكر كان الدافع، والمبرر الأساسي لأسوأ الحروب في تاريخ البشرية فكما يقول وليام ثاير William Roscoe Thayer)) في كلمته الافتتاحية في الجمعية الأمريكية لدراسة التاريخ، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولي (أن الألمان لم يكونوا ليصابوا بهذا الجنون الذي دفعهم لشن هذه الحرب الشنعاء إلا بدافع من نظرية (البقاء للأقوى)[16].
وهكذا أعطت نظرية التطور المبرر العلمي لشن الحروب، باعتبارها أمر لا مفر منه لتحقيق تطور الإنسانية. ولا غرابة في ذلك، فدارون وهو يصف التنافس بين المخلوقات في كتاباته، استخدم تعبيرات (عسكرية)، مثل الصراع من أجل البقاء struggle for existence))، والصراع من أجل الحياة (battle for life) وحرب الطبيعة ((war of nature، ثم أنه اعتمد على مالتوس ونظريته ((Malthusian population principle في وقت كان تعداد الأوروبيين يزداد بصورة متسارعة، بالإضافة إلى أنه اعتبر الحروب وسيلة للتطور البشري.
الغريب أن الدارونيين يرون أن الحروب هي أيضًا الطريق إلى التطور الأخلاقي، فدارون يري أن كثيرًا من المبادئ الأخلاقية، كالتضحية، هي مسألة بيولوجية فطرية، فالقبائل أو مجموعات البشر التي تتمتع بصفات التضحية هي الأقدر على البقاء، ولذلك فهي تورث هذه الصفات لعدد أكبر من ذرياتها، ولكي يحدث ذلك فإنهم لابد أن يقتلوا أكبر عدد من القبائل، أو المجموعات المجاورة لها، التي لا تتمتع بنفس الدرجة من الفضائل، وهكذا فإن الحروب لا تُبقي فقط على الأقوى والأقدر، ولكن أيضًا على الأكثر أخلاقًا، وهكذا تنتشر الفضيلة!!!.
وفي تعليق لأحد الكتاب وهو بيسكال Peschel)) على الحرب التي شنها بيسمارك (Bismarck) لتوحيد ألمانيا، نجده يقول (إننا يجب أن نعتبر أن هذه الحرب مسألة مقبولة، ولا نلوم أحد عليها لأنها صورة من الصراع الدارويني من أجل البقاء، حيث ينتصر الإنسان الحديث والمرفوض يقضي عليه في القبور)
هتلر ودارون:
كتب كثير من المؤرخين عن هتلر باعتباره نموذج الشر في العصر الحديث، وأنه والعلماء الألمان في وقته كانوا على قناعة تامة بالرؤية الداروينية، بل ويدفعونه لتطبيقها، ويري كثير من الباحثين أن هتلر تبني مبدأ دارون في الصراع بين المخلوقات، والبقاء للأصلح، كمبرر للقيام بالفظائع التي قام بها للتخلص من الأجناس التي لا تنتمي للجنس الآري بصفة عامة، والسامية اليهودية بصفة خاصة.
يذكر الباحث جيري بيرجمان ((Berman Jerry أن فريتز ريدلخ (Fritz Redlich) وهو من العلماء المقربين لهتلر، عندما سُئل عن الفلسفة التي اعتنقها هتلر أجاب (الداروينية الاجتماعية، ومعاداة السامية التي نبعت من قناعته بالفلسفة الداروينية).
هذه الفلسفة التي أدت في النهاية إلى القضاء على ستة ملايين يهودي، وخمسة ملايين من أفراد الشعب البولندي، وغيرهم من فئات الغجر والعبيد التي رأي العلماء الألمان أنهم ينتمون لأجناس أدنى.
رغم أنه من الصعب الآن تحديد الأسباب التي دفعت ألمانيا تحت قيادة هتلر لإشعال الحروب العالمية، لكن من أقوي المبررات هي ما أشار إليه دارون بأن تطور الأمم وتقدمها يتحقق أساسًا من خلال التخلص من الضعفاء في خضم الصراع من أجل البقاء، وفي البداية التخلص من الدين.
وهكذا أصبحت الداروينية الاجتماعية مبررًا لأن تقوم المانيا باجتياح أمم قديمة مثل فرنسا، وفي كتاب (Mein Kampf) تأليف أدولف هتلر (Adolf Hitler)، باب كامل عن الأعراق والدول Race and Nations)) مستمد من الإيمان بالداروينية الاجتماعية، وأصبحت حتمية التطور هي المبرر للاعتداء على الدول وتفعيل أسوأ أنواع الظلم البشري.
باختصار فإن عقيدة الداروينية الاجتماعية، أعطت المبرر العلمي لأسوأ أعمال التطهير العرقي التي حدثت في التاريخ الحديث، كما أنها كانت المبرر لسياسة الاضطهاد العنصري، حتى وقت ليس ببعيد في أنحاء كثيرة من أوربا وأمريكا ضد الجنس الأسود وفي أستراليا ضد الأبوريجين وأنحاء أخري من العالم، وكانت بداية للحركة النازية والفكر النازي.
وللأسف إذا كان العالم، بعد ما رأي من فظائع الحروب العالمية، قد أعلن رسميًا رفضه للعنصرية، إلا أن الواقع القائم حتى يومنا هذا، يؤكد أن الفكر العنصري والقناعة بمبدأ التطهير العرقي ما زالت كما هو لدي عديد من الساسة والحكام، وما مذابح صبرا وشتيلا التي ذُبح فيها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف من النساء والشيوخ والأطفال الفلسطينيين ببعيدة عن التاريخ المعاصر، ولا مذابح البوسنة والهرسك حيث تم في مدينة واحدة القضاء على ما يفوق ثمانية آلاف إنسان مسلم على يد القوات الصربية تحت أنظار قوات حفظ السلام الهولندية، مما اعتبرتها أوروبا أسوأ مجزرة في تاريخ القارة منذ الحرب العالمية الثانية، ومذابح الهوتو والتوتسي في أفريقيا في التسعينات من القرن الماضي التي أودت بحياة مليون شخص ومئات الآلاف من النازحين إلى الدول المجاورة توفى معظمهم بسبب المياه الملوثة، وارتكبت حوالى 150 ألف جريمة اغتصاب أمام أنظار الأمم المتحدة والدول الكبرى وبوجود قوات حفظ السلام، وبدلاً من تعزيز دورها في حماية المدنيين وتقديم المساعدات الإنسانية سارعت إلى سحب القوات الأممية مما جعل الأحداث تتسارع، لدرجة أن الهوتو بدأوا في قتل كل من تقع عليه أعينهم دون تفريق بين امرأة أو شيخ أو طفل، وتحولت رواندا إلى مقبرة للتوتسي، تزامن ذلك مع ارتفاع نسبة الإصابة بمرض نقص المناعة (الإيدز) عشرات المرات، وأصبح ميثاق حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومعاهدة جنيف مرة أخرى مجرد أوراق لا قيمة لها، وما فعله أعضاء مجلس الأمن هو أنهم قد اجتهدوا لإطلاق مسمى حرب أهلية على ما يحدث في رواندا تجنباً لاستخدام كلمة (إبادة عرقية).
وأخيرًا وليس آخرًا، مذابح كمبوديا والخمير الحمر التي قام فيها الحاكم بول بوت (Pol Pot) بقتل ثلث شعبه، وهو ما يقرب من ثلاثة ملايين من البشر، متأسيًا بالثورة الثقافية في الصين، كان الشعار المرفوع في حكم بول بوت هو (بقاؤك حيًا لا يحقق أي فائدة، موتك لا يعنى أي خسارة!)، وخلال خمسة سنوات، أصبح الشعب فيها عبيد لأهواء دكتاتور ملحد، منع الأديان والعبادات والتملك والأسرة، وأصبح الشعب فيها عبيد يعملون بالسخرة، أصبح القتل والاغتصاب فيها هو القاعدة بدلاً من الحياة.
يتبين من هذا العرض السريع للداروينية الاجتماعية، أن التبعات السياسية والاجتماعية لنظرية دارون هي أخطر بكثير من أي نتائج علمية، هذا إذا افترضنا أن هناك أي نتائج علمية لهذه النظرية، لذلك ظل دارون لعدة سنوات مترددًا قبل أن ينشر كتابه (أصل الأنواع)، ورغم أنه ربما لم يتوقع أن تكون له تلك التبعات إلا أنه كان محقًا عندما قال إنه يشعر وكأنه يرتكب جريمة قتل لأنه كان يدرك تمامًا أن نظريته هي قتل لعقيدة الإيمان بوجود خالق، لينطلق الإنسان، مثله مثل أي حيوان آخر، في صراع من أجل البقاء، إلا أن صراع الإنسان مع نفسه أشد وأقصي ضراوة من صراع الحيوانات، لأنه يسخر ذكائه وفكره من أجل القضاء على نفسه.
وقد يري البعض أن الحروب العنصرية والاستعمار وغيرها كلها كانت موجودة قبل دارون، وهذا صحيح، فالشر وجد منذ أن وجدت البشرية، إلا أنه كان دائمًا (شرًا)، ولم يستطع أحد أن يبرره، إلى أن ظهرت نظرية دارون لتعطي المبرر العلمي لمن يرتكب هذه الفظائع، ولذلك لم يُظهر أي من المسئولين عن فظائع الهولوكوست، أثناء محاكماتهم بعد انتهاء الحرب العالمية، الندم لما قاموا به، بل كانوا على قناعة تامة بأنهم على صواب، وأن ما فعلوه هو تفعيل قانون التطور لما فيه صالح البشرية.
وقد يقول آخرون أن نظرية التطور ليس لها علاقة بما قام به الساسة فهم الذين أساءوا فهمها، وطبقوها تبعًا لأهوائهم، لكن الرد على هذا أنه لم يساء فهم أي نظرية علمية حقيقية أخرى، لم يسئ أحد فهم نظرية أينشتين أو نيوتن أو أي نظرية أخرى، والسبب أن كلها كانت نظريات علمية حقيقية، أما نظرية التطور فهي رؤية فلسفية، تحولت إلى عقيدة، أساسها الصراع من أجل الحياة، والبقاء فيها للأصلح.
لذلك حتى لو حاول الداروينيون الآن نسيان هذا التاريخ الأسود، وطمس تعبير الداروينية الاجتماعية، يظل مفهوم الصراع من أجل البقاء هو عمود هذه الفلسفة[17]، وفي غياب الإله يصبح كل شيء مباح.
End Notes:
1- Richard Weikart. From Darwin to Hitler. Evilionary Ethics. Eugenics, and Racism in Germany. Palgrave macmilan. 2004.
2- Bergman. Jerry. Hitler and the Nazi Darwinian worldview. How the Nazi eugenic crusade for a superior race caused the greatest Holocaust in world history Joshua Press. Kindle Edition 2014.
3- Corpo. Ulisse Di; Antonella Vannini. Origin of life, evolution and consciousness in the light of the law of syntropy. Ulisse Di Corpo. Kindle Edition.
4- Bergman, Jerry. The Dark Side of Charles Darwin. Master Books. Kindle Edition, 2011.
5- Henry Morris. The Long War Against God. Master Books Edition. Seventh Printing, 2014.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(هناك إله)
(There is God)
لم يكن الهدف الأول لهذا البحث إثبات وجود الخالق، ولكن كان الهدف هو النقد العلمي لواحدة من أخطر نظريات الفلسفة المادية، وهي نظرية التطور الدارويني، وبيان أنها ما كانت أبدًا نظرية علمية، بل هي عقيدة ودين جديد يدعمه فريق من العلماء والفلاسفة ورجال السياسة الذين يدعون إلى ما يسمونه (النظام العالمي الجديد) حيث لا إله ولا خالق ولا مسئولية.
إلا أننا في كل خطوة خطوناها، وجدنا أنفسنا أمام حقيقة ثابتة، لا تتغير لا مفر منها، وهي أن هناك قوة عليا، لا حدود لقدرتها، قوة خارج نطاق كل القوانين الطبيعية والفيزيائية، ليس لها بداية وليس لها نهاية، هي التي بدأت الكون، وهي التي خلقت ما فيه من مخلوقات، وهي التي وضعت قوانينه وتهيمن عليه وعلى ما فيه من مقدرات، هذه القوة هي التي نسميها نحن (الله) عز وجل، هذه الحقيقة هي التي اتفقت عليها جميع الأديان، وجاء جميع الرسل ليعرفونا بها ويدلونا عليها.
هذه الحقيقة هي نفسها التي توصل إليها عدد غير قليل من الفلاسفة والمفكرين بعد سنوات من الإلحاد والعناد، ربما من أشهرهم أنتوني فلو (Antony flew)، الفيلسوف الذي سخر أكثر من خمسين سنة من عمره يدعو إلى الإلحاد، وفجأة قبل وفاته أعلن تراجعه عن كل ما دعا إليه، ونشر كتابًا يعلن فيه إيمانه بوجود إله، وضع له عنوان (هناك إله).
ولا شك أن النصف الثاني من القرن الماضي، الذي يعتبر بحق بداية الانفجار العلمي، حيث توالت فيه الاكتشافات العلمية في جميع فروع العلوم، سواء في علوم الفضاء أو البيولوجي أو الجزيئات الحيوية أو الإلكترونات وغيرها، والتي هي لا شك، لأصحاب الفطرة السليمة، دافعًا لمزيد من الإيمان واليقين بوجود الخالق عز وجل، إلا أن هناك من أصروا على أن يتبعوا أهواءهم، بحجة رفض كل ما هو وراء الطبيعة، فجعلوا من العلم والتقدم العلمي دين وإله يعبد، وافتعلوا صراعًا بين العلم والدين، اختطفوا فيه عباءة العلماء وادعوا أنها حكرًا عليهم، فإما أن تكون معهم في جانب العلم، أو أنك في جانب الجهل والتخلف الذي يؤمن بالإله والغيبيات.
عالم الإلحاد:
دعنا نتخيل أن ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) وغيره من زعماء الملحدين في العالم نجحوا في دعوتهم، وأن العالم سقط في أيدي الإلحاديين، وأصبح الجميع على قناعة بأنه لا يوجد خالق، ولا يوجد إله، فكيف سيكون شكل هذا العالم، وهل سيكون هناك مشاكل، وما هي تلك المشاكل وما هي أسبابها؟
أعرف أن مجرد طرح هذه الفكرة هو أمر مخيف، وكأننا فجأة وجدنا أنفسنا بدون إرادة منا، ركابًا في طائرة، لا نعلم من جاء بنا، وما الغرض من رحلتنا وما هي وجهتنا، بل لا يوجد قائد ولا توجد مرجعية!
ويصبح الأمر أكثر رعبًا عندما نبحث الأمر تفصيليًا، وبطريقة علمية، لنرى القضايا التي يمكن أن تثار في عالم من الإلحاد، وكيف يقدم لنا الملحدون الحلول لها.
فإذا بدأنا في التساؤل عن الغائية، لماذا نحن هنا، ما هي الغاية من هذه الرحلة؟ ولماذا بعضنا يعاني ما يعانيه من صعوبات، تصل إلى حد الكوارث، وآخرون يعيشون عمرهم في ترف وما يبدو أنه سعادة دائمة؟
يجيب الملحدون على لسان ريتشارد دوكنز فيقول (أن الكون هو مجرد قوي عمياء، وجينات تتكاثر، بعض الناس سيعانون، وآخرون هم المحظوظون، ولن تجد سببًا لذلك، ولا يوجد عدل. في النهاية لا يوجد مصمم لهذا العالم، ولا غرض من الوجود، ولا يوجد شر ولا خير، لا شيء إلا قسوة بلا رحمة أو إحساس.. فذرات الـ (DNA)، لا تعرف الإحساس، ولكننا فقط نتحرك ونحن نرقص (أي ننفعل) لموسيقاها (أي لحركتها).
إذًن هذه هي الإجابة، فالدارونيون يرون أنه لا غاية من هذا الوجود، نحن مجرد تجمع لجزيئات من المادة، فحياتنا وتصرفاتنا، هي مجرد رد فعل لحركة تلك الجزيئات المادية، الصراع من أجل البقاء، أو الجين الأناني selfish gene.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا لأن طبيعة العقل البشري أن يتساءل عن كل ما حوله من موجودات، مثل الكون ونشأته؟ فرغم أن العلم أثبت لنا أن للكون بداية، ولكننا لم نعرف مما نشأ الكون؟ هنا يجيب الإلحاديون أن البداية من لا شيء، أو أن الكون بدأ نفسه بنفسه، أو كما يقول ستيفن هوكنز إنها الجاذبية وميكانيكا الكوانتم (quantum physics)!!! وما عليك إلا أن تتقبل هذه الإجابة، لأنهم هم العلماء، الذين أوتوا من العلم ما لم تؤت أنت، حتى لو أنهم ضربوا بعرض الحائط جميع قوانين الفيزياء والمنطق.
ثم إذا تساءلت كيف انضبطت قوانين الكون بهذه الدقة المتناهية؟ وما هو مصدر القوانين الفيزيائية التي تحكم هذا الكون، بدءًا من حركة أضخم المجرات والنجوم إلى أصغر الذرات ومكوناتها، والتي لولا دقتها وثباتها لما أمكن تحقيق أي اكتشاف علمي، ولما قامت واستمرت أي صورة من صور الحضارة التي ننعم بها الآن؟ وكيف أن كوكب الأرض دونًا عن كواكب المجموعة الشمسية، هو الكوكب الوحيد الصالح للحياة؟ في عالم الإلحاد، يجيب الإلحاديون فيقولون إنها الصدفة والعشوائية، ألا تعلم أن هناك ما لا نهاية له من الأكوان، التي لا نراها ولن نراها، وأن الحظ هو الذي أوجدنا على كوكب الأرض!!! ونحن العلماء نستطيع بحساباتنا الدقيقة أن نثبت ذلك، إنها نظرية الأكوان المتعددة، ألم تسمع بها؟
ثم تظهر قضية الخلق، فلابد لأي إنسان عاقل أن يتساءل كيف نشأت الحياة على الأرض؟ كيف تحولت المواد الكيميائية إلى مادة حية، تتكاثر وتنمو، وكيف تنوعت فأعطت هذا التنوع الذي لا حدود له من المخلوقات الحيوانية والنباتية، وكثيرًا مما لا نعلمه؟ ثم كيف أن كل خلية من خلايا هذه المخلوقات تعمل ليل نهار، وتتجدد بانتظام دقيق، ففي كل ثانية تمر علينا يتجدد ويموت ما لا يقل عن مليون خلية في جسدنا؟ وما الذي يجعل خلية غريبة هي البويضة الملقحة، تنزرع في رحم الأم، وبدلاً من أن يلفظها جسدها، كونها نسيجًا غريبًا عنه، فإنها تحافظ عليها وتغذيها، وهي تنمو وتتشكل، فتتكون منها أعضاء وأجهزة متباينة، هذا كبد، وتلك كلي، وعظام، ودم.. إلى آخره، رغم أن كل خلية من خلايا هذه الأجهزة تحمل نفس المعلومات الجينية كاملة؟
وفي عالم النبات، من أين لحبوب صغيرة متشابهة في الشكل، تُزرع في تربة واحدة، فإذا بحبة تنمو لتصبح زهرة مبهجة، والأخرى تصبح شجرة فارهة شاهقة الارتفاع تطرح الثمرات المتشابهة منها وغير المتشابهة، والتي يتباين طعمها، حتى لو تشابهت في الشكل.
يجيب العالم الدارويني، السر معروف أنه الـ (DNA)، الشفرة الجينية، إنها لغة الحياة، لقد اكتشفنا بالعلم كل شيء، فالـ DNA هو الإجابة عن هذه الأسئلة، الشفرة مكتوب فيها كل مواصفات الكائنات، ثم الطفرات الجينية العشوائية والانتخاب الطبيعي شكلا معًا التنوع في المخلوقات الذي تراه حولك على الأرض، تمامًا كما قال دارون.
وإذا تجاوزت كل هذا وتساءلت من كتب الشفرة الجينية التي تجعل من خلية واحدة تتشكل لتصبح إنسانًا، أو فيلًا، أو فأرًا، أو أي مخلوق آخر؟ يجيب العالم الملحد، أنه التشكيل الذاتي للجزيئات الكيميائية، لا يوجد تخطيط ولا يوجد موجه.
هنا تجد نفسك محاصر بإجابات لا تملك أي رد منطقي على أي منها، فنتسائل وقد فاض بك الكيل، من الذي أعطي هذه الجزيئات الوعي، كيف عرفت الخير من الشر والقبح من الجمال والحب من البغض، كيف أصبح لها ضمير، ورؤية وخيال، وذاكرة، وحرية اختيار؟ ثم من الذي يقرر ما هو خطأ وما هو صواب، وما هو شر وما هو خير؟ ما هي المعايير؟ من يضعها وما هو مصدرها وكيف يمكن أن نتفق عليها؟ ما هي المرجعية لكل هذا؟
يجيبك فرانسيس كريك Francis rick))، بما يعتبره نظرية مدهشة، كما جاء في كتابه الذي يحمل نفس الاسم (the Astonishing hypothesis) حيث يقول (إنك وكل ما يسعدك أو يحزنك، كل ذكرياتك، وكل طموحاتك، وكل مشاعرك، وأحاسيسك، وإرادتك الحرة، ما هي إلا تفاعل جزيئات في شبكة معقدة من الخلايا العصبية).
وهنا تجد أن عليك أن تتوقف، وتتساءل بينك وبين نفس كيف أثق فيما يقوله هؤلاء العلماء، إذا كنا جميعًا مجرد جزيئات مادية، دبت فينا الحياة نتيجة تفاعلات كيميائية عشوائية؟
ثم كيف في هذا المجتمع الذي يريدوننا أن نحيا فيه، يمكن أن نؤاخذ من يقوم بسرقة أو اغتصاب، أو أي تصرف يحقق مصلحة له؟ فهو لم يقم إلا بالاستجابة للحركة المادية للجزيئات في عقله. وقد يجئ مكابر آخر ليقول لك أن القاعدة الذهبية التي تتوافق عليها الغالبية في مجتمع ما والتي تقول لا تفعل للآخر ما لا تحب أن يُفعل بك، كفيلة بالحفاظ على سلام المجتمع، هنا تتذكر أن فظائع النازية والشيوعية وقنابل هيروشيما ونجازاكي التي أفنت مدن بأكملها، وغيرها من أعمال يندي لها الجبين، لم تكن نتاج فكر فردي، ولكن كلها حدثت بتوافق مجتمعي.
عندها تدرك أن هذا المجتمع الإلحادي، هو في الواقع أحط من مجتمع الحيوانات فلم نسمع عن حيوان شرير وآخر طيب، أو حيوان ظالم وآخر عادل، فالحيوانات تسعى بغريزتها لسد حاجاتها من الطعام والشراب والتكاثر، لكن مجتمع الإلحاد يحكمه الصراع، والبقاء فيه للأقوى، لمن يستطع أن يتعدى استيفاء حاجياته إلى الاستيلاء على حاجات الغير، والقضاء عليه بحجة التطور.
وهنا تكتشف أنك تُستدرج إلى عالم من الخيال السقيم، قد يكون في ظاهره العلم والإنسانية، ولكن في باطنه الظلم والقسوة والفجور، فإما أن تنجرف معه، وإما أن تفيق وتفر منه هاربًا وأنت تتذكر قول الله تعالي:
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين).
لماذا لا يؤمن الإلحاديون بوجود إله؟
الواقع أن الإلحاد ليس كله نوع واحد، هناك من لا يؤمنون بوجود إله، وهؤلاء هم الملحدون الصرحاء (atheists)، وهناك اللاأدريون (agnostics) وهم غير المتأكدين من حقيقة وجود إله. كذلك يجب أن نفرق بين مَن يبحثون عن الحقيقة واستقروا في النهاية على قناعة مفادها أنه لا توجد أدلة كافية على وجود إله، وبين مَن يبحثون عن الحقيقة كي تطمئن قلوبهم، وهو في حد ذاته أمر محمود. وهناك من يؤمنون بوجود إله إلا أنهم لا يؤمنون بالرسل وهم (الربوبيون)، وفي الواقع هؤلاء لا يختلفون كثيرًا عن الملحدين، لأن عدم الإيمان بالرسل يعني أنه لا يوجد تكليف وأن كلٌ يعبد ما يحلو له بالطريقة التي تناسبه، طالما لا توجد رسالة.
أما الأسباب التي تدعو عامة الناس للإلحاد فهي عديدة، وقد تختلف قليلاً من مجتمع لآخر، على سبيل المثال في المجتمعات العربية معظم من يدَعون الإلحاد على الأقل في البداية، لا يفعلون ذلك بناء على قناعة علمية بنظرية التطور، كما هو الحال عند الملحدين في الغرب، ولكن إلى حد كبير هي ردة فعل للصورة التي يُقدم لهم بها الدين والإله، بجانب دوافع أخري.
ولكن إجمالاً نجد أن الغالبية العظمي ممن ينكرون وجود إله، سواء في الشرق أو الغرب، هم مبهورون بالعلم والتقدم العلمي الذي يزداد يومًا بعد يوم، خصوصًا في حالة البعد عن الدين، وقد يري البعض منهم أنه في عصر العلم علينا أن ننبذ أو نزدري كل ما هو قديم، وأن الأديان والإيمان بوجود خالق هذه (موضة) قديمة، هؤلاء مجرد أتباع مبهورين بالتقدم العلمي، ولم يفكروا في الأمر بأي صورة جدية، ولم ينظروا في عواقب الإلحاد، ولا يريدون أن يصدعوا أنفسهم بالبحث في ما إذا كانت نظرية التطور، تعتمد على أدلة منطقية أم لا، فهم يضعون ثقتهم في العلماء الذين فكروا نيابة عنهم، ويكفي أن النتيجة التي وصل إليها هؤلاء العلماء تحقق لهم ما يريدونه من عدم التزام ولم يبقي لهم إلا الانطلاق ليمارسوا حياتهم حسبما تقودهم أهواؤهم.
ثم أن هناك من يحلوا لهم أن يتحرروا من أي التزام أدبي أو تشريعي يترتب على الإيمان بوجود خالق، فوجود إله يعني ضرورة الالتزام بما أمر به والانتهاء عما نهي عنه، ويعني أن هناك حياة أخري، فيها يطبق العدل الإلهي، وهم يرون أن هذه مسئولية هم في غني عنها، ولذلك فهم يتبعون العلماء من الدارونيين بحثًاً عن السعادة في إشباع شهواتهم في الحياة، بدون التزام من ناحية، ومن ناحية أخري للتخلص من وخذ الضمير.
ثم إن هناك فئة من العلماء والباحثين يُعتبرون جهلة لما هو خارج نطاق تخصصاتهم الدقيقة، والأهم من ذلك أنهم يدركون – وبمعنى أصح مهددون – بأن عدم إيمانهم بنظرية دارون يعني فقدانهم لكثير من المميزات العلمية والمادية وله تأثير سلبي على مسارهم العلمي والوظيفي.
لكن لا شك أن هناك رؤوس الإلحاد وحوارييهم، وهؤلاء هم الذين يضعون القواعد والأهداف التي يسير عليها كل من يتبعهم، ويدافعون ويجادلون عن الإلحاد، حتى لو ظهر أن هناك اختلاف بينهم في الأسلوب، أو في وجهات النظر، إلا إنهم جميعًا يتفقون على ضرورة محاربة الدين، وأنه لا محل لفكرة الإله، هؤلاء الزعماء الإلحاديين هم الذين يصطنعون الحجج والبراهين ويسبغونها بصبغة العلم، ثم يعرضونها للقطيع من البشر من باقي الفئات كي تبدو وكأن قضيتهم قضية مبنية على الأدلة والبراهين العلمية.
والحقيقة أن الحجج التي يقدمها هؤلاء إلى أتباعهم كأدلة على عدم وجود إله ويريدون أن يخدعوا بها المجتمع، هي نفس الحجج التي تثبت وجود خالق قادر حكيم ومهيمن على هذا الكون وما فيه، ولذلك كما يقول الباحث فرانك توريك Frank Turek)) في كتابه (السرقة من الإله) (Stealing from God)، إن الإلحاديين استلبوا حججهم من الإله ليجعلوا منها حجة على إنكار وجوده، فادعوا أن العلم والتقدم العلمي قد أثبت أنه لا حاجة لوجود الإله، ولو أن هناك إله حقيقة لما كان هناك شر في هذا العالم، يصيب البعض ويخطئ الآخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حسن علي نور الدين نصرت (2018). الحقيقة والخيال في نظرية التطور: تحليل علمي لنظرية التطور الحديثة لتشارلز دارون. جدة: دار المدني. ص ص. 498.
[1]فيليب جونسون (Phillip. Johnson): هو في الأصل محامي أمريكي وأستاذ في القانون في جامعة بيركلي، لكنه أهتم بقضية تحليل وتقييم أدلة نظرية التطور، وأشهر مؤلفاته كتاب (محاكمة دارون) (Darwin on Trial)، وهو أحد مؤسسي جماعة التصميم الذكي (Intelligent design)، التي تعرض نظرية التطور العشوائية باعتبار أن الأدلة في الطبيعة والكون تشير إلى وجود مصمم ذكي (إلي إله)، وهو من مؤسسي مركز الأبحاث المعروف باسم (Discovery Institute’s Center for Science and Culture).
[2]مهم هنا أن ندرك أن الحجة أو التساؤل الذي يطرحه الدراونيون بقولهم، من أوجد الله؟ تعرف في علم المنطق بحجة عدم التطابق، لأننا نقارن شيء بآخر لا مثيل له (تخيل أنك تقول إن الطباخ هو الذي طبخ الطعام، فيسأل أحدهم من طبخ الطباخ!!. فالقاعدة المنطقية تقول إن كل ما هو مبتدئ لابد أن له من مبدئ، والكون مبتدئ، ولذلك لابد أن له من مبدئ ليس له بداية.
[3]تدل إحصائيات معهد جالوب على أن مستوى الإلحاد بين العلماء أضعاف مستواه بين عامة الناس على سبيل المثال في إحصاء أجري في عام كانت نسبة الملحدين بين العلماء 41%، و18% ممن لا يؤمنون بوجود إله، ولكن يؤمنون بوجود قوة أو روح عليا (universal spirit or higher power)، واللاأدريين 7%، بينما 33% فقط هم المؤمنون بوجود إله في مقابل 4 %، 12%، 1%، و83 % على التوالي بين عامة الناس.
Scientists and Belief, Nov. 5, 2009 www.pewforum.org/2009/11/05/scientists-and-belief/ accessed 5 January 2018.
[4]لاحظ كلمات الحرب الموت المجاعات.
[5]Thomas Malthus من أههم مفكري الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع الإنجليز (1834-1766)، وقد عرفنا به في التمهيد.
[6]Tierra del Fuego مجموعة من الجزر في أمريكا الجنوبية.
[7](Eugenics) التنقية العرقية للبشر هي فلسفة مبنية على إعتبار أن البشر لا يختلفون عن الحيوانات فلابد أن تطبق عليهم، بالقوة وسائل التطهير العرقي للتخلص من السلالات الرديئة والعمل على تكاثر السلالات الصالحة عن طريق وضع القوانين اللازمة لتحقيق ذلك وصاحب هذه الفلسفة هو أبن عم دارون فرانسيس جالتون ((Francis Galton ولم تتوقف الحكومات الغربية عن تطبيقها إلا بعد الحروب العالمية الثانية، وفظائع الهلوكوست التي نتجت عن تطبيق هذه الفلسفة.
[8] Fascismالفاشية هي قناعة متطرفة بسيادة دولة أو جنس فوق الآخرين، ورفض الديمقراطية، والإصرار على الطاعة لحاكم يتبني العنصرية واستثارة الجماهير كوسيلة للسيطرة وليس بالمنطق.
[9]الدوس هكسلي (Aldous Huxley: كاتب وفيلسوف أنجليزي هو أخو جوليان هكسلي (Sir Julian Huxley)، وحفيد توماس هكسلي (Thomas Huxley) المعروف بكلب دارون الشرس Darwin’s bulldog))، وجميعهم كانوا من الملحدين الدارونيون.
[10]Sir James Crichton-Brown كان من أشهر أطباء علم النفس البريطانيين (1938 – 1840).
[11]Ernest Haeckle، سبق التعريف به، وهو من أشد المتحمسين الألمان لنظرية دارون، وأصدر عدد من المؤلفات تدعو وتدعم الداروينية الإجتماعية والإعداد للفكر النازي.
[12]هذا لا يمنع أنه كان هناك دعوة إلى أن البشر ليسوا جميعًا من أصل واحد وهي ما تعرف باسم (polygenism)، وقد استخدم الشاعر المعروف فولتير (Voltaire) وغيره هذه الدعوة لمحاربة ما اعتبروه، الفكر القديم للكنيسة وهو فكر الأصل المشترك أو (monogenism) لكنها ربما لم تجد القبول ولا الانتشار العام كما حدث بعد ظهور نظرية دارون.
[13]determinism المقصود بها الإنسان مسير، ولا وجود لحرية الإرادة.
[14]طبعًا هذه المحاولات لم تنجح لأن البويضة كما شرحنا في الفصل التاسع عشر لا تسمح بدخول أي حيوان منوي إلا من نفس النوع.
[15]مذبحة الهيريرو (Herero Genocide) تعتبر أول مذبحة بغرض التطهير العرقي في القرن العشرين، حدثت بين 1904 و1909.
[16] Richard Weikart. From Darwin to Hitler. Evilionary Ethics. Eugenics, and Racism in Germany. Palgrave macmilan. 2004. P. 163.
[17]نتذكر هنا أن العنوان الكامل لكتاب دارون هو (أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، أو البقاء للأصلح في صراع الحياة) وهو عنوان كافي للتعبير عن الهدف من الكتاب.
(Origin of Species by Means of Natural Selection or the Preservation of Favored Races in the Struggle for Life).