نعمت صدقي

نعمت صدقي

أ. مهجة مشهور *

ولدت نعمت صدقي في عام 1898 من أب مصري ثري وأم تركية، لم يكن لها إلا أخ واحد يكبرها بأحد وعشرين عاما، ولذا كانت قرة عين والديها، مجابة الطلبات، محاطة بكل رعاية وتدليل وعناية ممكنة.

تزوجت “نعمت صدقي” من دكتور مشهور هو الدكتور محمد رضا، وكان لشدة ارتباطها به وحبها له ودعمه لها أن كانت تحرص دائما على أن تقرن إسمه بإسمها على غلاف كتبها العديدة. فكان يأتي إسم المؤلف “نعمت صدقي” وتحت الإسم “حرم الدكتور محمد رضا”. رزقت “نعمت صدقي” ولد وأربعة بنات.

ولكن ماذا يميز”نعمت صدقي”؟ وماذا بها من إلهام يمكن أن يشحذ خيال وهمم أجيال جاءت بعدها بعقود طويلة؟

إن محور إلهام “نعمت صدقي” هو تمردها الهادىء على أوضاع نشأت فيها كانت يمكن أن تسوقها إلى حياة لا معنى لها ولا عطاء فيها، فقد اختارت “نعمت صدقي” منذ شبابها المبكر أن تكون لها رسالة في الحياة وأن تحيا من أجلها، ذلك رغم أن بيئتها التي نشأت فيها كانت تدفعها نحو حياة سهلة رغدة، فكان يمكن أن تخضع وتنساق لهذا التيار المريح، لولا وعي مبكر لديها وإرادة لاختيار ما هو أكثر صعوبة ولكنه أكثر جمالا وعطاء لتصبح في النهاية امرأة ملهمة للآخرين.

وقد أشارت الدكتورة “نعمات فؤاد” إلى هذا التميز في تقديمها لكتاب من كتب “نعمت صدقي”: “نعمت صدقي سيدة ثرية، ثقافتها فرنسية، والثراء ونوعية الثقافة، كان من الممكن أن يصنعا نمطا آخر من الشخصية، ليست هذا الطراز من التصرف  والسلوك، وهي بهذا ظاهرة للتأمل والاقتداء، حتى أسلوبها فهو عربي مبين[1]“.

بعد المرحلة الابتدائية استكملت “نعمت صدقي” تعليمها في المنزل على أيدي مدرسين في اللغة العربية والفرنسية والموسيقى (البيانو). وكان مدرس اللغة العربية ضعيف للغاية، فلم يشبع نهم “نعمت صدقي” لتعلم هذه اللغة، وفي الوقت الذي كان كل أقرانها لا يتكلمون إلا اللغة الفرنسية كلغة أولى للمنتمين إلى هذه الطبقة الاجتماعية، بدأت “نعمت صدقي” في تعليم نفسها اللغة العربية والنحو، كما بدأت تقرأ بنهم عيون الأدب العربي ودواوين الشعر وكتب دينية مختلفة في مجال علوم القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وفي مجال التوحيد والسيرة والفقه، كما أنها سعت إلى بعض رجال الدين المتميزين في عصرها لتتلقى العلم الديني على أيديهم، فتبلورت شخصية “نعمت صدقي” العلمية والدينية، شخصية نحتتها بمشقة على مدار أعوام من الاجتهاد في القراءة والبحث والاستيعاب والتفكر والتدبر.

لقد استثمرت “نعمت صدقي” كل نقاط الضعف في ظروفها وشخصيتها فجعلت منها  نقاط قوة تعمل لصالح رسالتها التي كانت تحلم بتحقيقها:

فهي المرأة الغنية التي تنتمي إلى طبقة تعيش حياة الصالونات والاحتفالات واللقاءات الاجتماعية المختلفة، وإذ بها تحول صالونها منذ أربعينيات القرن الماضي إلى مكان لدروس دينية أسبوعية يحضرها العشرات، في وقت لم يعرف بعد ظاهرة الدروس الدينية. وكانت لتلك الدروس أثرها العميق في نفوس عديد ممن كان يحرصون على الحضور، فهدي على يديها الكثيرون.

وهي إمرأة في زمن كان صوت المرأة العلمي والديني فيه خافتا باهتا، إلا أنها بدأت في كتابة المقالات في مجلات دينية، ثم إصدار مجموعة متتالية من الكتب التي شهدت توزيع عال دفع بدور النشر إلى التكالب على إعادة نشرها مرات عديدة.

وهي المرأة الخجولة التي لم تألف الاختلاط في طفولتها لطبيعة زمانها وطبقتها الاجتماعية، وإذا بها تفتح صالونها لمجموعة من الأدباء والمفكرين الذين كانوا يترددون عليها لكي ينهلوا من علمها الغزير، مثل د. عبد الصبور شاهين، ود. مصطفى محمود، والشاعر فاروق شوشة، ود. السيد رزق الطويل، والمذيع الأستاذ أحمد فراج وغيرهم كثير.

فكما قالت د. نعمات فؤاد: “نعمت صدقي” امرأة عاشت إيمانها، فلم يكن تدينها طقوسا، ولكنه كان عملا شاهدا، وسعيا دائبا، وبذلا سخيا، وكأنها تحقق مبدأ إسلاميا إنسانيا هو: (خير الناس أنفعهم للناس).

وقد صدر لنعمت صدقي في الفترة من 1968 الى 1977(سنة وفاتها) سبعة كتب هي على التوالي: نعمة القرآن، من تربية القرآن، معجزة القرآن، الجزاء، شعاع من القرآن، بديع صنع الله في البر والبحر، ورأيت وسمعت.

وقد كتبت “نعمت صدقي”  سنة 1947م كتابًا صغيرًا بسيطًا في لغته من 67 صفحة تدعو فيه المرأة المسلمة إلى الحجاب، وعنونته “بالتبرج”، وطبع هذا الكتيب مرة أخرى عام 1951م. ولكن في سبعينيات القرن الماضي تحولت الأنظار إلى هذا الكتيب بقوة فقد كان فيه من الريادة في موضوعه والصدق في التعبير ما جعله يحقق نجاحا ساحقا كلل مسيرة “نعمت صدقي” العلمية والدعوية. فأصبح هذا الكتاب دستورا لكل فتاة تبحث عن الطريق نحو استكمال أركان دينها بمظهر شرعي لائق، وكان سببا لهداية عدد كبير من الفتيات إلى ضرورة ارتداء الحجاب ومحوريته في مظهر الفتاة المسلمة. فكان الكتاب نقلة حقيقية لهذه الظاهرة في المجتمع ليس فقط في مصر ولكن على امتداد العالم الإسلامي. إذ لم تمض على طبعه عشرة أيام حتى نفدت كل النسخ لهذه الطبعة التي كانت من عشرة آلاف نسخة. فأعادت طبعه مرة تلو الأخرى، حتى وصل عدد طبعات هذا الكتاب عام 1975 إلى 19 طبعة في مصر وحدها، وكذلك تم طبعه في السعودية والكويت وفي سوريا والعراق طبعات عديدة. كما تم ترجمته إلى لغات عديدة منها: اللغة الإندونيسية واللغة الفارسية واللغة التركية واللغة الملاوية.

لقد قدر الله سبحانه وتعالى لنعمت صدقي أن ترى نتاج مجهوداتها العلمية والدينية والإنسانية التي بذلتها على مر سنين حياتها في هذا النجاح الكبير لواحد من كتبها، فرأت التأثير الإيجابي الضخم الذي حققه هذا الكتاب الصغير على المجتمعات الإسلامية كتتويج ونجاح للرسالة التي نذرت حياتها لها.

كانت رؤية “نعمت صدقي” الدينية رؤية وسطية ذات بعد تربوي حاكم. فكانت من خلال لقاءتها الأسبوعية وفي علاقتها بأبنائها وأحفادها تدعو إلى تقوى الله تعالى، وذلك دون العزوف عن التمتع بما خلق الله تعالى للإنسان من متاع الحياة، فيكون هذا التمتع سبيل لذكره وليس للغفلة عنه تعالى. فعلَمت كل من يعرفها كيفية الاستمتاع بالطبيعة والموسيقى، والتأمل والتفكر فيهما للارتفاع عن ثقل المادة وجزئيات الحياة السريعة الملهية.

كذلك علمتهم أن للمرأة دور في المجتمع يتحقق عبر سعيها لاكتشاف إمكانياتها وطاقاتها الكامنة، والعمل الدؤوب المخلص في هدوء واحتشام وخلق رفيع، بحيث تقدم نموذج حضاري للمرأة كإنسان مستخلف له دور معتبر في عمران الأرض.

وأخيرا كانت لنعمت صدقي وجه آخر لحياتها، وهو الوجه الخيري الإنساني. فقد شاركت بقوة في الأعمال الخيرية في هدوء كعادتها. فتبنت -رحمها الله- مشروع الأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين طبيبة الأطفال لمكافحة مرض روماتيزم القلب في مصر، ذلك المرض الذي كان متفشيًا في مصر وكان سببا في وفاة العديد من الأطفال في سن مبكرة. فتحملت “نعمت صدقي” تكاليف شراء الأرض وبناء وتجهيز مستشفى روماتيزم القلب بالهرم، وقد بارك الله تعالى في مجهودات كل من د.زهيرة و”نعمت صدقي” والمجموعة الكبيرة التي التفت حولهم حتى اختفى هذا المرض من مصر أو كاد.

كذلك أنشأت “نعمت صدقي” دار للمسنات تقديرا منها لحال المرأة التي يتقدم بها العمر ولا تجد من يرعاها، وشكرا لله تعالى أن كان أبناءها وأحفادها حولها إلى يوم فارقت الحياة الى بارئها.

رحم الله “نعمت صدقي” تلك المرأة الهادئة البسيطة التي لم تغادر حياتنا الدنيا إلا وقد سطرت فيها صفحات من العطاء العلمي والديني والإنساني والخيري، صفحات ملهمة لكل امرأة أو إنسان لا يستسلم لأقداره أو يجعلها حجة من أجل تقاعسه عن العطاء، ولكن يسعى لتطويعها لتحقيق رضا ربه وإضافة خير للإنسانية.

رحم الله “نعمت صدقي” تلك المرأة التي أعطت نموذجًا في وقت مبكر لقوة المرأة وقدرتها على المساهمة في بناء مجتمعها بعيدًا عن صخب دعوات تحرير المرأة.

رحم الله تعالى “نعمت صدقي” تلك المرأة التي وعت وطبقت الحديث النبوي الشريف “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.

[1] نعمات فؤاد، تقديم كتاب بديع صنع الله في البر والبحر. تأليف نعمت صدقي. دار الاعتصام . 1978. ص. 10.

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

الإسلام والنسوية ونساء غزة

أ. منال يحيى شيمي

شرعت في كتابة هذا المقال في محاولة للاقتراب من مفهوم "النسوية الإسلامية" وتحديد موقعه على خريطة النسوية العالمية والتعريف به وتحديد الموقف منه من منظور حضاري إسلامي.

علاقة الزوجين من منظور فقه الحياة

أ. منال يحيى شيمي

تشهد الساحة الثقافية في مصر منذ فترة جدلا حادا حول موضوعات تتعلق بالزواج ومؤسسة الأسرة، يشتمل هذا الجدل على تفاصيل مثل: واجبات الزوجة داخل المنزل...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.