التحيز والموضوعية في العلوم الاجتماعية

التحيز والموضوعية في العلوم الاجتماعية*

أ. د. جلال أمين**

عالم أو دارس الاقتصاد هو في نهاية الأمر، واحد من البشر. وهو كواحد من البشر لا يرى الأشياء نقية صافية، بل يراها، كما يراها سائر البشر، مختلطة بما في ذهنه من أفكار مسبقة أو بما في قلبه من مشاعر دفينة، والأرجح أنه يراها مختلطة بالاثنين: أفكار مسبقة ومشاعر دفينة.

ذلك أن الإنسان (بعكس ما يظن كثيرون) لا ينظر إلى الأشياء نظرة محايدة أو مجردة من الهوى، ولا أظنه يستطيع ذلك مهما حسنت نيته وصدق عزمه. إن من المشكوك فيه أن الطفل يأتي إلى العالم وذهنه كاللوح النظيف، فيكتسب من تجاربه أفكارًا ومشاعر لم تكن لديه من قبل، وتؤثر فيما بعد على رؤيته ومواقفه من التجارب التالية. الراجح الآن أن الطفل يأتي إلى العالم وفي ذهنه مخزون موروث من النوازع والمشاعر البدائية التي يواجه بها العالم، ومن ثم تأتى رؤيته للعالم ملونة (أو معكرة أو مختلطة) بهذه النوازع والمشاعر المسبقة. وإذا كان هذا صحيحًا فيما يتعلق بالطفل الذي ولد لتوه، فما بالك بعالم أو دارس الاقتصاد الذي مر بالفعل بتجارب سابقة تركت أثرها في عقله وعواطفه، فحملها معه وهو يُقبل على تأمل الظواهر الاجتماعية محاولًا أن يفهمها ويستخلص منها المعاني والقوانين؟ الأرجح أن ما يصل إليه من فهم لهذه الظواهر وما يستخلصه من معانٍ وتعميمات أو قوانين، سيكون بدوره متأثرًا بأفكار ومشاعر مسبقة.

هذه الأفكار والمشاعر المسبقة أُطلق عليها أكثر من اسم، وهذه الأسماء لیست متطابقة تمامًا فهي، وإن اشتركت في جزء مهم من مدلولها، تتفاوت بدرجة أو أخرى في معانيها وإيحاءاتها. فكما أنها توصف بالأفكار المسبقة،   (preconceived ideas) توصف أحيانًا بالتحيزات أو الأهواء  (bias, prejudice)  وأحيانًا بأسلوب أو نمط في التفكير .(Paradigm) وإذا تضمنت هذه الأفكار أو المشاعر المسبقة حكمًا أخلاقيًا أو جماليًا قد تسمى بالأحكام القيمية  .(value judgments) وإذا اجتمع للمرء عدد من الأفكار المسبقة التي تشكل فيما بينها نسقًا فكريًا وموقفًا متكاملًا من الحياة والمجتمع فقد يطلق عليها وصف الأيديولوجية (ideology)  أو يشار إليها بأنها تشكل ما يعتنقه المرء من فلسفة (philosophy) أو ميتافيزيقا    .(metaphysics)  من الممكن إذن أن نعرِّف هذه الأفكار المسبقة أو التحيزات والأهواء أو الأحكام القيمية أو الأيديولوجية أو الفلسفة أو الميتافيزيقا (إذا استخدمت هذه الألفاظ كلها بالمعنى الذي ذكرته حالًا) بأنها أفكار أو مشاعر يأتى بها الشخص المقبل على بحث ظاهرة من الظواهر، من خارج هذه الظاهرة التي يريد بحثها، ويقحمها عليها، فتأتى نتائج بحثه متأثرة بهذه الأفكار أو المشاعر المسبقة .

 لابد أن أتوقف هنا لضرب بعض الأمثلة لتوضيح ما قلته حتى الآن. فمن قبيل هذه المواقف المسبقة (أو الأهواء أو التحيزات… إلخ) الاعتقاد بأن التدخل الحكومي هو دائمًا سيء العاقبة، ومن ثم كلما قل تدخل الحكومة كلما كان هذا أفضل لرفاهية المجتمع، أو على العكس، الاعتقاد بأن تدخل الحكومة مفيد، بل وضروري لتصحيح مسار المجتمع وتحقيق تقدمه.

قد يكون من أفكاري المسبقة أن الناس بطبعهم أنانيون لا يحركهم إلا دافع المصلحة الخاصة، ولكن قد يميل غيري إلى الاعتقاد بعكس ذلك ويتوقع تصرفات أكثر نبلًا. قد يرى البعض أن تصرفات الناس لا تختلف كثيرًا عن تصرفات الحيوان، بينما يميل آخرون إلى موقف أكثر تبجيلًا واحترامًا للإنسان. قد يميل البعض إلى معاملة الناس كمتساوين بينما قد يراهم آخرون غير متساوين أو لا يستحقون معاملة متساوية. قد يرى البعض في التاريخ الإنساني قصة تَقدُم مستمر من الأسوأ إلى الأفضل، بينما قد يرى فيه آخرون قصة تدهور مستمر من الأفضل إلى الأسوأ. وقد يرى فريق ثالث أن التاريخ لا يكف عن تكرار نفسه، وأن ما يظهر لنا من تغيرات (إلى الأفضل أو إلى الأسوأ) ليست على درجة كبيرة من الأهمية، وأن الثابت الذي لا يتغير أكبر أهمية بكثير من المتغير.

ما الذي يجمع بين هذه الأمثلة كلها بالإضافة إلى أنها مواقف فكرية أو شعورية مسبقة، نأتى بها من خارج الظاهرة محل البحث، فنقحمها على هذه الظاهرة إقحامًا، فتأتى نتيجة البحث متأثرة بهذا الإقحام؟ يمكن أن نلاحظ ثلاثة أشياء على الأقل، تشترك فيها هذه الأمثلة كلها وأشباهها:

الملاحظة الأولى: أننا عادة نتبنى هذه الأفكار (والمشاعر) كمسلمات لا تقبل المناقشة، لا نشك فيها ولا نتوقف للتحقق من صحتها. إننا لا نتبناها بناءً على تفكير طويل فيها، بل نتبناها عادة دون التحقق من صحتها أو فائدتها، بل وكثيرًا دون أن نحس بابتلاعنا لها، وكأنها كالهواء الذي نتنفسه دون أن نشعر بدخوله في رئتينا. إننا نشعر بالدهشة إذا حاول أحد أن يثير الشك في صحة هذه الأفكار والمواقف التى نتخذها كمسلمات، كدهشتنا إذا أثار أحد الشك في عقيدة التقدم إذا كانت هذه عقيدتنا، أو في ضرورة معاملة الناس كمتساوين، إذا كانت هذه أو تلك من بين أفكارنا المسبقة. وقد ندهش جدًا إذا لفت أحد نظرنا إلى أننا (متحيزون) إلى هذا الموقف أو ذاك، إلى هذه الفكرة أو تلك، إذ من أصعب الأمور أن يكتشف المرء تحيزاته الخاصة التي يحملها كمسلمات، بينما يجد أسهل كثيرًا أن يكتشف تحيزات غيره. وحالتنا هنا تشبه حالنا ونحن نتأمل السمك في الماء، إذ نستطيع نحن بسهولة أن ندرك أنه محاط بالماء من كل النواحي، بينما لا يشعر السمك، على الأرجح، بوجود الماء أصلا.

الملاحظة الثانية: أن هذه المواقف المسبقة لا تنتسب إلى ما اصطلحنا على تسميته بالعلم أو الموقف العلمي. إنها مواقف شخصية أو ذاتية لا موضوعية، وقد تم قبولنا وتبنينا لها دون إخضاعها للاختبار والتمحيص، بل إن من المشكوك فيه أن من الممكن أصلًا إخضاع معظمها للاختبار والتمحيص. إنها ليست إلا نتاج مشاعرنا وتفضيلاتنا الخاصة، ومن ثم ليس هناك من طريقة لإثبات صحتها أو خطئها بالالتجاء إلى التجربة أو الملاحظة. إن أي دليل يمكنني أن أقدمه من الملاحظة أو استقراء التاريخ لتأييد القول بأن التاريخ الإنساني هو تاريخ «تقدم مستمر»، يمكن أن يقدم ضده دليل لا يقل عنه قوة على أن هذا التاريخ هو تاريخ «تدهور مستمر». وكل دليل يمكن أن أقدمه على أن الناس هم في الأساس «متساوون» يمكن أن يدحضه دليل آخر بأن الناس هم في الحقيقة «غير متساوين». فإذا قبلنا تعريف كارل بوبر Karl Popper للكلام العلمي بأنه ذلك الكلام الذي توجد طريقة لإثبات خطئه إذا كان خاطئًا، فإن كل التقريرات السابقة التي ذكرتها كأمثلة للمواقف المسبقة التي يفرضها الباحث على الظاهرة محل البحث؛ لا يمكن اعتبارها من قبيل «الكلام العلمي».

الملاحظة الثالثة: أن هذا الإقحام لمشاعر وأفكار وتحيزات مسبقة على الظواهر التي نقوم ببحثها، وما يترتب عليه من تعكير النتائج التي ننتهي إليها من هذا البحث، يبدو لي وكأنه أمر حتمي لا فكاك منه، على الأخص في البحوث التي تنتمي إلى ما يسمى بالعلوم الاجتماعية، ولكن لعله أيضًا أمر حتمي في أي بحث في أي علم من العلوم بما في ذلك العلوم الأكثر انضباطًا وموضوعية. أقول هذا على الرغم من وجود اعتقاد شائع بعكس ذلك، إذ ما أكثر ما نصادف ادعاءات الموضوعية والحياد والتجرد من الأهواء.. إلخ، أو على الأقل زعْم الباحث بأنه يطمح إلى الالتزام الكامل بالموضوعية والحياد.

وقليل من التأمل كفيل في رأيي بإقناعنا بحتمية هذا الخضوع لتأثير الأفكار والمشاعر المسبقة، أو بما يمكن أن نسميه بحتمية «الميتافيزيقا»، حتى فيما يتعلق بأكثر العلوم موضوعية وأقلها تأثرا بالأهواء الإنسانية. فالإنسان ليس فقط كائنًا مفكرًا، ولكنه حزمة من أجهزة التفكير والإحساس والتذكر، والتخيل، وتوليد المطامح، والآمال.. إلخ، وليست هناك فواصل حديدية داخل الإنسان تمنع من تفاعل هذه النوازع الإنسانية المختلفة بعضها ببعض، أي تمنع من أن تقوم الأفكار بتغذية المشاعر والتخيلات وإثارة الآمال، أو بالعكس من أن تقوم المشاعر والتخيلات والآمال بتغذية الأفكار أو خلقها خلقًا. الإنسان، وإن كان يشبه جهاز الكومبيوتر أو الحاسب الآلي في أشياء، فإنه لحسن الحظ ليس نسخة مكررة منه. قد تكون ذاكرته أضعف وقدرته على القيام بالعمليات الحسابية أقل وأبطأ، ولكن الإنسان أقدر من الكومبيوتر على توليد الأفكار من المشاعر والمخاوف، وعلى توليد المشاعر والمخاوف من الأفكار.

هذه العلاقة، التي تبدو بديهية، بين التفكير والشعور، بين المعرفة والمشاعر الإنسانية، بين التقريرات العلمية والأحكام القيمية، أخلاقية كانت أم جمالية، لم يكن من الممكن إنكارها، فيما يبدو لى، لولا افتتان الإنسان افتتانًا شديدًا بما حققه من تقدم مذهل خلال القرون الأربعة أو الخمسة الماضية، في الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية. هذا التقدم المذهل في العلم والتكنولوجيا الذي حققه الإنسان، ومازال يحققه، وعلى الأخص في الغرب منذ عصر النهضة الأوروبية، يبدو أنه لعب برأس الإنسان في الغرب، إلى درجة أدت به ليس فقط إلى إعلاء شأن النشاط العلمي فوق كل ما عداه من أوجه النشاط الإنساني، بل وأيضًا إلى شيوع الظن خطأ في رأيي بإمكانية عزل هذا النوع من النشاط المتعلق بتحصيل المعرفة عن نوازع الإنسان الطبيعية الأخرى من مشاعر، ومطامح، ومخاوف، وخيالات.. إلخ.

كان الأجدر بنا أن نتذكر أن هذا النجاح الباهر الذي حققه الإنسان في التقدم بالمعرفة الإنسانية خلال الأربعة أو الخمسة قرون الأخيرة، حدث خلال حقبة قصيرة للغاية من عمر الإنسان الطويل، ناهيك عن عمر المملكة الحيوانية التي ينتسب إليها الإنسان. هذا العمر الطويل، وإن كان فقيرًا نسبيًا في التقدم العلمي، كان عمرًا حافلًا بالمشاعر والتجارب والمخاوف والطموحات التي كان لابد أن تترك آثارًا دائمة في هذا الجهاز المعقد الذي حاول الإنسان استخدامه لزيادة علمه ومعرفته بالعالم، وهو العقل.

في مقدمة هذا العلم أو ذاك من العلوم الاجتماعية، كثيرًا ما نصادف تمييزًا بين التقريرات الوضعية (positive) والتقريرات القيمية (normative)، حيث يشار إلى أن الأولى تصف أو تحلل الظاهرة، بينما تتضمن الثانية حكما أخلاقيًا أو جماليًا على هذه الظاهرة، إشادة بها أو ذمًا لها، إيصاءً بالقيام بعمل معين أو بالامتناع عن القيام به. وكثيرًا ما تصادف أيضًا تحذيرًا من الاعتقاد بأن هناك أي طريقة للانتقال من أحد النوعين من التقريرات إلى النوع الآخر، إذ يقال: إنه ليس هناك جسر للعبور من أحدهما إلى الآخر، أي من وصف الظواهر كما هي، إلى تقييمها أخلاقيًا أو جماليًا. كما أننا لا نستطيع أن نستخلص من التقريرات القيمية أي تقرير وضعي عن حقيقة هذه الظواهر في الواقع. إن هذا الفصل الصارم بين النوعين من التقريرات قد يكون جائزًا من الناحية التحليلية، ولكنه ليس وصفًا صحيحًا للنشاط الإنساني في الحقيقة. فالحقيقة، هى أن الاثنين ممتزجان في النفس الإنسانية امتزاجًا يصعب معه جدًا الفصل بينهما.

ليس معنى هذا أن درجة الانحياز لا تختلف من شخص لآخر، أو أن الناس إذ يُقبلون على دراسة أو تحليل أو وصف ظاهرة ما، لا يختلفون فيما بينهم من حيث درجة «الحياد» أو «الموضوعية»، أو أن الموضوعية والحياد، ليسا من الصفات المحمودة أو المطلوبة في كثير من الأحوال. المقصود فقط هو أن الحياد الكامل ليس فقط مطلبًا عسيرًا، بل لعله مستحيل أصلًا، ومن ثم من العبث التظاهر بوجوده أو السعى من أجله. إن من الممكن، وكثيرًا ما يكون من المحمود، تقليل درجة التحيز وزيادة درجة الحياد، كما أن من المفيد دائمًا، أو في معظم الأحوال، محاولة المرء أن يكتشف طبيعة تحيزاته وأهوائه ومدى تأثيرها فيما يتخذه من مواقف، وأن يعترف بذلك كلما كان هذا ممكنًا. أما التخلص التام من كل التحيزات فأظنه مستحيلًا، وأشك كثيرًا في أن يكون حتى شيئًا مرغوبًا فيه.

للفيلسوف البريطاني برتراند رسل B. Russell. كلمة شيقة تعبر تعبيرًا جميلًا عن هذا المعنى الذي ذكرته حالًا، وهو استحالة التخلص من التحيز، إذ يقول:

«A mind perpetually open, will be a mind perpetually vacant»[1]

(العقل المفتوح على الدوام هو عقل فارغ على الدوام!)، أي أن استعداد المرء الدائم لقبول أي فكرة جديدة أو موقف، وتسامحه المطلق مع هذه الأفكار والمواقف الجديدة، لا يدلان إلا على أنه امرؤ لا يعتنق أي فكرة ولا يتبنى أي موقف على الإطلاق، إذ لو كان يعتنق أي فكرة أو يتبنى أي موقف لما أبدى مثل هذه الدرجة من التسامح.

أما إن «التحيز كثيرًا ما يكون مفيدًا ومطلوبًا، فيظهر في عدة أمور، منها ما تكتسب به الحياة من معنى، وما يضفيه على كثير من أوجه النشاط الإنساني من بهجة. تصور حالك وقد بدأت تتابع مباراة في كرة القدم بين فريقين دون أن يكون لديك أي تحيز لفريق دون آخر. إن فقدانك لأي تحيز في هذه الحالة قد يفقد المباراة، في نظرك، أي معنى.

ومن ناحية أخرى يشير إيريك فروم Eric Fromm إلى أن الأفكار المسبقة واعتناق أيديولوجية، واتخاذها كمسلمات لا تقبل المناقشة، تقوم لدى الإنسان مقام الغرائز عند الحيوان، فتوجه السلوك الإنساني وتعفيه من الحاجة، عند اتخاذ كل قرار، إلى أن يعيد التفكير للوصول إلى القرار الصحيح[2].

من هذه الوجهة من النظر قد تبدو الأفكار المسبقة والأيديولوجيات والتحيزات وكأنها ضرورة من ضرورات الحياة للإنسان وشرطًا من شروط البقاء. وقد تكون أيضًا ضرورة من ضرورات استمرار أي جماعة إنسانية. فاشتراك أي مجموعة من البشر في اعتناق نفس الأفكار المسبقة ونفس التحيزات والتسليم بها دون مناقشة قد يضمن استمرار الشعور بالانتماء والولاء من جانب كل من أفراد هذه المجموعة إلى المجموعة ككل، قبيلة كانت أو أمة، وقد يمثل خروج بعض أفرادها عن هذه المسلمات أو إثارتهم للشكوك حولها، تهديدًا لوجود الجماعة وقد يصيبها في مقتل.

قد يقال: إننا، حتى لو سلمنا بضرورة التحيز وفائدته في مواقف الحياة اليومية فهل يجب أن نقبل وجوده حتى في البحث العلمي الذي تفترض فيه «الموضوعية» وتجنب الخضوع لأي أهواء شخصية؟ وردى على ذلك، أنه حتى في البحث العلمي قد يكون التحيز ضروريًا لوجود الباعث على البدء أصلًا في البحث العلمي والاستمرار فيه، وأن المطلوب في البحث العلمي ليس غياب التحيز والأفكار المسبقة، بل إن هذا يكاد أن يكون مستحيلًا، بل المطلوب فقط الأمانة والنزاهة.

والأمانة أو النزاهة شيء مختلف عن غياب التحيز والأفكار المسبقة، إذ لا تتطلب الأمانة والنزاهة أكثر من عدم السماح بالتحيز والأفكار المسبقة بالتأثير في نتيجة البحث، إذا أتت هذه النتيجة مخالفة لتحيز الباحث وأهوائه. لعل هذا هو بالضبط ما كان يقصده الكاتب الدانماركي ك. هامسون [3](Knut Hamsun) من هذه العبارة البليغة التي وضعها في صدر كتاب له وصف فيه رؤيته الخاصة للحياة الأمريكية، من وجهة نظر ذاتية جدًا: «الحقيقة ليست شيئًا ذا جانبين ولا هي موضوعية، إنها ليست إلا موقفًا ذاتيًا، ولكنه خال من الغرض.

(Truth is neither two-sided nor objective; truth is precisely disinterested subjectivity)

إنني أفهم هذه العبارة بمعنى مؤداه: أن المطلوب في الباحث هو نفس المطلوب في الحَكَم في مباراة رياضية بين فريقين، لا أكثر ولا أقل. ليس المطلوب منه أن يكون مجردًا من أي تحيز لأي من الفريقين، فهذا التجرد من التحيز لا هو بالمطلوب ولا هو على الأرجح ممكن. المطلوب منه فقط ألا يسمح لتحيزه بأن يؤثر في النتيجة التي يعلنها. ولكن حتى هذا، وإن كان من السهل توفره في حكام المباريات الرياضية، فإنه من أصعب الأمور توفره في القائم ببحث أي موضوع، خاصة إذا كان من موضوعات العلوم الاجتماعية أو الإنسانيات.

**********************

من الصعب أن نحصي – على سبيل الحصر – المصادر المحتملة لمختلف التحيزات والأفكار المسبقة التي يحملها الباحث في موضوعات العلوم الاجتماعية والإنسانيات. وسأكتفى هنا بتناول أربعة من هذه المصادر المحتملة، مع يقيني بأن هناك مصادر كثيرة غيرها، بل وقد يكون بعضها أهم مما سأذكره الآن.

1- هناك أولًا المصلحة الخاصة، وأقصد بذلك أن تكون مصلحة الباحث الخاصة تتفق مع نتيجة بعينها من نتائج البحث، أو مع طريقة معينة في تناول الموضوع، أو مع اختيار موضوع معين للبحث بدلًا من غيره، أو كل هذا معًا. إذ ليس من الغريب في هذه الحالة أن «ينحاز» الباحث إلى الاتجاه الذي يتفق مع مصلحته. إن المثل العربي القديم «كل يغنى على ليلاه» ينطوى على معنى ذي صلة بما نقصده هنا. وكذلك المثل الشعبى المصرى «الغرض مرض» الذي يعبر ببلاغة مدهشة، وفيما لا يزيد على كلمتين، عن الانحياز الذي يفسد الرأى بسبب وجود مصلحة خاصة تُغَّلب رأيًا على آخر. هذه المصلحة الخاصة قد تكون مصلحة شخصية، ولكن الأغلب أن تكون فيما يتعلق بالبحوث الاجتماعية والإنسانية، مصلحة أمة، أو وطن، أو طبقة، أو جنس.

ما أكثر الأمثلة على الكتابات الاجتماعية والتاريخية التي تنطوي، صراحة أو ضمنًا، على تمجيد دولة أو أمة أو دين على حساب دول أو أمم أو أديان أخرى، أو تخدم مصالح طبقة ضد غيرها من الطبقات، أو تعلي من شأن جنس وتحقر من شأن الأجناس الأخرى، أو تؤيد سطوة الرجل على المرأة أو تحرير المرأة من سطوة الرجل… إلخ.

 2- من مصادر التحيز أيضًا، وقوع أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية مهمة، ينشغل بها الناس وتثير عواطفهم وتوجه تفكيرهم، ومن ثم بحوثهم وكتاباتهم أيضًا، في اتجاهات بعينها. قد يكون الحادث المهم نشوب حرب، أو وقوع أزمة اقتصادية حادة، خصوصًا إذا طال الأمد بالحرب، أو الأزمة، أو ظهور اكتشاف، أو اختراع مهم، أو مجموعة من الاكتشافات، أو الاختراعات تحدث تغيرات مهمة في طرق الإنتاج، أو تؤدي إلى ظهور سلع جديدة تؤثر بدورها في نمط الاستهلاك والسلوك الاجتماعي.

هل يمكن حقًا أن نفهم كتابات أصحاب المذهب التجاري في أوروبا خلال عصر النهضة، دون أن نعرف ما طرأ من تطورات مهمة خلال تلك الفترة على النشاط التجاري وحركة الملاحة ونشوء الدولة القومية واشتداد المنافسة بين الدول الأوروبية وبداية عصر الاستعمار الأوروبي؟ أو أن نفهم لماذا نشأ علم الاقتصاد أصلًا، على يد المدرسة الطبيعية في فرنسا والمدرسة الكلاسيكية في بريطانيا، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، دون أن نعرف ما طرأ من تطورات في الصناعة والزراعة ثم قيام الثورة الصناعية؟ هل يمكن أن نرد إلى محض المصادفة اشتداد قوة الاعتقاد بفكرة «التقدم» ابتداءً من منتصف القرن الثامن عشر، وزيادة قوتها طوال القرن التاسع عشر، مع تتابع الاختراعات والاكتشافات والتقدم العلمي خلال تلك الفترة؟

 3- من مصادر التحيز أيضًا، خصوصًا في الكتابات الاقتصادية، طبيعة الموارد الطبيعية المتوفرة في الدولة. فمن الطبيعي تمامًا أن يُنتج مجتمع زراعي لا يكاد يعرف الصناعة، كتابات يختلف طابعها والموضوعات التي تعالجها والأسئلة التي تطرحها، عن كتابات مجتمع صناعي يعرف الآلة وحياة المدينة، ويستهلك من مختلف أنواع السلع والخدمات ما لا يعرفه مجتمع زراعي.

قارن الأسئلة الاقتصادية القليلة جدًا، التي حاول سانت توماس الإكويني تقديم إجابة عنها في إيطاليا الإقطاعية في القرن الثالث عشر، بالأسئلة الاقتصادية التي ملأت كتابا كاملًا، كتبه آدم سميث في اسكتلندا في القرن الثامن عشر قبيل سنوات قليلة من الثورة الصناعية. أو قارن بين مفهوم الثروة الذي ساد في الكتابات الاقتصادية في عصر النهضة الأوروبية، عندما كان المصدر الأساسي للثراء هو التجارة، وبين مفهوم الثروة عند الاقتصاديين الكلاسيكيين الإنجليز الذين كتبوا في ظل الثورة الصناعية. كان معنى الثروة هو الذهب والفضة في عصر التجارة، فأصبح في عصر الصناعة مجموع السلع القادرة على إشباع أي حاجة إنسانية، وبدأ الاقتصاديون ينظرون إلى الذهب والفضة، والنقود عمومًا، على أنها مجرد غطاء أو حجاب تختفي وراءه الثروة الحقيقية، وهي السلع التي يتم شراؤها وبيعها بالنقود.

4- قد يتأثر البحث العلمي أيضًا والكتابات الاجتماعية بما قد يظهر في فروع أخرى من فروع المعرفة من تطورات مهمة تثير الجديد من التساؤلات، وقد تخلق الجديد من التحيزات. ومن أهم الأمثلة على تأثر الكتابات الاجتماعية والاقتصادية بما حدث من تطورات في العلوم الطبيعية، ما أثارته اكتشافات إسحق نيوتن (I. Newton) في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، من طموحات لدى المهتمين بدراسة القضايا الاجتماعية، بل ما سببته من نشوء بعض العلوم الاجتماعية أصلًا، كعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، عن طريق ما أدت إليه هذا الاكتشافات من تقوية الاعتقاد بوجود نظام طبيعي يحكم مختلف الظواهر، طبيعية كانت أو اجتماعية، وبوجود قوانين تحكم سير المجتمع كما تحكم مسار العالم المادى، وبأن هذه القوانين الاجتماعية يمكن اكتشافها والإفادة من معرفتها، كما أمكن لنيوتن اكتشاف تلك القوانين المهمة في العالم المادي، وحقق الإنسان فوائد جمة من اكتشافها بزيادة سيطرته على الطبيعة .

**********************

ليست هذه المصادر الأربعة للتحيزات التي تؤثر في الكتابات الاجتماعية، علمية كانت أو غير علمية، إلا بعض ما يخضع له الكاتب من مؤثرات. فلا شك أيضًا أن الكاتب يتأثر بدرجة علمه أو جهله بجانب معين من جوانب موضوعه، فتعكس كتاباته، على نحو أو آخر درجة هذا العلم أو الجهل. فهناك بلا شك بعض الحق في القول الشائع بأن «الإنسان عدو ما يجهل»، ومن ثم قد يسقط الكاتب من حسابه جانبًا مهمًا من جوانب موضوعه، ويهمله إهمالًا تامًا، لمجرد أن الكاتب قليل العلم به. بهذا العامل يمكن أن نفسر مثلًا إهمال الاقتصاديين التقليديين في بريطانيا، وهم يحاولون تفسير النمو الاقتصادي ومساره، إهمالًا يكاد أن يكون تامًا، لذلك الجزء من العالم الذي يسمى الآن بالدول المتخلفة أو النامية، وكأن العالم في نظرهم لم يكن يحتوي إلا على دول أوروبا وأمريكا الشمالية. ذلك أن معرفتهم بإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في ذلك الوقت، أي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت محدودة وبدائية وتقتصر مصادرها، في أحسن الأحوال، على كتب قليلة كتبها بعض الرحالة المغامرين الذين لم يكن لديهم اهتمام يذكر بشئون الاقتصاد والمجتمع.

هناك أيضًا من الاختراعات ما يُحدث تغيرات مهمة في نظرة الناس إلى العالم أو إلى بعض جوانب الحياة، ومن ثم يؤثر فيما يطرحه العلماء من أسئلة وفيما يقدمونه من أجوبة عنها. لا شك مثلًا أن الأسئلة التي طرحها علماء الفلك على أنفسهم بعد اختراع التلسكوب كانت مختلفة عن الأسئلة المطروحة قبله، وأن اختراع البوصلة قد غير من حدود العالم المعروف وأثار من الأسئلة ما لم يكن الجغرافيون يثيرونه قبل ذلك. بل إن من الممكن أن يقال: إنه لم يكن هناك شيء يمكن أن يُسمى بتاريخ العالم قبل أن يبدأ هذا التفاعل والتأثير المتبادل بين جزء من العالم وبقية الأجزاء، الذي أدى إليه نمو الملاحة البحرية بعد اختراع البوصلة، بل كان التاريخ قبل ذلك لا يزيد على تاريخ دولة أو أمة أو تاریخ عدد محدود من الدول المتجاورة.

قيل مرة: إنك إذا أعطيت صبيًا مطرقة بدا كل شيء في عينيه كالمسمار. فالقدرة على فعل شيء ما، لم يكن في دائرة الممكن من قبل يُغري بالقيام بهذا الفعل، وهذا الإغراء يدفع الذهن دفعًا إلى رؤية أشياء لم تكن تُرى من قبل أو إلى ملاحظة أشياء لم تكن تلفت نظره أو اهتمامه. لا بد إذن أن نتوقع أن يؤدي انتشار استخدام الحاسوب (أو الكومبيوتر) إلى إحداث تطورات مهمة في البحوث الاجتماعية، سواء فيما يتعلق بالأسئلة التي يحاول الباحثون الإجابة عنها أم حتى في مضمون هذه الإجابة، مثلما حدث من قبل عندما حلّ الكتاب المطبوع محل الكتاب المخطوط باليد.

وأخيرًا (وإن كان من المؤكد أنه ليس آخرًا) لا تخلو اللغة المستخدمة نفسها من أثر على مضمون الكلام الذي تستخدم للتعبير عنه. فلكل لغة من اللغات سماتها وطبيعتها الخاصة وحدودها وأوجه قوتها وضعفها، ويعكس كل هذا تاريخ الأمة صاحبة اللغة وظروفها. ومن الأمثلة الشيقة على هذا، ما لفت النظر إليه باحث أمريكي في لغات بعض القبائل من سكان أمريكا الأصليين، من خلو إحدى هذه اللغات من أي كلمة تدل على «المستقبل»، والأثر الذي لابد أن نتوقعه لذلك على مضمون الخطاب المتداول بين أفراد هذه القبيلة[4].  من الممكن أيضًا أن نضرب مثالًا على ذلك من الاختلاف في أثر الخطاب على السامع أو القارئ، بين لغة، كاللغة العربية، تستخدم في التعبير عن «الأمة» كلمة مشتقة من لفظ يدل على «الأم»، ولغة أخرى كالإنجليزية أو الفرنسية، تستخدم للتعبير عن نفس المعنيين (الأمة والأم) كلمتين (nation, mother) ليس بينهما نفس الدرجة من القرابة التي توجد بينهما في العربية.

**********************

لنفترض الآن أن التحيز موجود، فكيف يمارس هذا التحيز أثره بالضبط، في البحث العلمي؟ بعبارة أخرى، ما القنوات التي تجرى من خلالها التحيزات والأفكار المسبقة حتى تؤثر في نتيجة البحث العلمي فتلونها وتعكر صفوها؟

أستطيع أن أذكر هنا خمس قنوات على الأقل يمكن من خلالها أن يحدث هذا التأثير.

1- هناك أولًا أثر التحيز أو الفكرة المسبقة في تحديد الأسئلة التي يختار الباحث إثارتها والبحث عن أجوبة عنها. إذا كان تحيزك مثلًا ضد تراكم الثروة وشعورًا بالاحتقار إزاء الثراء الفاحش، كما كان تحيز الفلاسفة اليونانيين القدماء، فليس من المنتظر أن يكون من بين الأسئلة التي يهمك الإجابة عنها: ما الثروة، وما عوامل زيادتها؟ وبالفعل لم تكن مثل هذه الأسئلة مما أثار اهتمام أفلاطون أو أرسطو، بل لم يكن من المنتظر أصلًا أن تثير أي قضية اقتصادية اهتمامًا كبيرًا لديهم.

 2- ولكن التحيزات والأفكار المسبقة كثيرًا ما تؤثر أيضًا في نوع الإجابة المقدمة عن السؤال المطروح. وليس معنى هذا بالضرورة أن تصبح الإجابة خاطئة، بل قد يُعني هذا فقط أن الإجابة تكون صحيحة في ظل مجموعة معينة من الافتراضات افترضها الباحث، سواء ذكرها صراحة أم لم يذكرها، ولم يدفعه إلى افتراضها إلا ما يحمله في طيات نفسه من تحيزات أو أفكار مسبقة. عندما أكد مثلًا الاقتصادي الإنجليزي (كينز) على أهمية مستوى الطلب الكلي في تحديد حجم الناتج القومي، بينما كان تأكيد الاقتصاديين التقليديين كله على جانب العرض ونفقات الإنتاج، لم يكن كينز أقرب إلى الحقيقة من الاقتصاديين التقليديين ولا كانوا هم أقرب إلى الحقيقة منه، بل كان كينز مهتمًا بعلاج أزمة اقتصادية قصيرة المدى، بينما كان الاقتصاديون التقليديون مهتمين بالتنبؤ بما يمكن أن يحدث للاقتصاد في المدى الطويل. كان كل منهما محقًا من زاويته وبحسب دائرة اهتمامه، وكان الاختلاف بينهما في دائرة الاهتمام عائدًا إلى تحيزات وأفكار مسبقة لا علاقة لها بالصحة والخطأ.

 3- تؤدى التحيزات والأفكار المسبقة أيضًا إلى اختلاف موضع التأكيد الذي يختاره الباحث. فقد لا يبدو أن هناك اختلافًا بين باحث وآخر فيما وصلا إليه من عوامل في تفسير ظاهرة ما، اللهم إلا في أن أحدهما يؤكد على أهمية بعض هذه العوامل بينما يؤكد الآخر على بعضها الآخر. إن لآدم سميث عبارة شهيرة كثيرًا ما يقتطفها المؤيدون لمبدأ الحرية الاقتصادية ولتخفيض درجة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلى حدها الأدنى، ولكن هذه العبارة لا تقول أكثر من أن ترك الأفراد أحرارًا في اتخاذ قراراتهم الاقتصادية دون أي تدخل من الدولة «كثيرًا» (often)ما يؤدى إلى تحقيق المصلحة العامة. وهي عبارة لا يبدو من الممكن أن يختلف أحد على صحتها، فهو لا يقول: إن المصلحة الخاصة تتفق دائمًا مع المصلحة العامة، بل يقول فقط: إن هذه كثيرًا ما تتفق مع تلك، وهو قول صحيح بلا شك. ولكن آدم سميث نفسه، ناهيك عن أنصار الحرية الاقتصادية في عهده وما بعده من عهود، وجدوا من المفيد، بسبب تحيزاتهم هم الخاصة وأفكارهم المسبقة، أن يتجاهلوا الفرق بين «كثيرًا» و«دائمًا»، وأن يتكلموا وكأن المصالح الخاصة للأفراد تؤدى دائمًا إلى تحقيق المصلحة العامة. وكأنهم وضعوا التأكيد كله على الحالات التي تتفق فيها مصالح الأفراد مع مصلحة المجتمع ككل.

نجد شيئا كهذا في كلام الماركسيين، بل وماركس وأنجلز نفسيهما، عن تفسير التاريخ بالعامل الاقتصادي. إن الماركسيين ساروا وراء ماركس وأنجلز في تفسير التاريخ وكأن العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد المحدد لمساره، فإذا احتج عليهم أحد بأن هناك حالات وأمثلة عديدة تظهر فيها أهمية العوامل الأخرى غير العامل الاقتصادي، سارعوا إلى تأكيد أن ماركس وأنجلز، وهم أيضًا بالطبع، لم يقصدوا أبدًا القول بأنه ليس هناك عامل غير العامل الاقتصادي، وقد يقتطفون كلمة شهيرة لأنجلز يؤكد فيها أنه لا هو ولا ماركس قصدا القول بأن العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد. ولكنهم جميعًا سرعان ما ينسون ذلك ويعودون، بسبب تحيزاتهم وأفكارهم المسبقة، إلى الكلام وكأن العامل الاقتصادي هو فعلًا العامل الوحيد.

كذلك ما أكثر الكتب والرسائل الجامعية التي تعترف في المقدمة بأن الظاهرة محل البحث تعود إلى عوامل كثيرة أو تحدث آثارًا عديدة غير العوامل أو الآثار التي يناقشها الكتاب أو الرسالة الجامعية، ولكن أصحاب هذه الكتب والرسائل يهملون هذا في بقية الكتاب أو الرسالة، ويعتذرون عن ذلك، إما بأن «المقام لا يسمح» أو أن «الوقت المتاح لم يكف»، لمناقشة كل العوامل والآثار المهمة، وتكون النتيجة بالطبع أن تسقط العوامل والآثار الأخرى من حساب القارئ كما سقطت من حساب الباحث. هذه الآثار التي يجرى إهمالها، كثيرًا ما يشار إليها بوصف «الآثار الخارجية» (externalities)وهي «خارجية» فقط بمعنى خروجها عن اهتمام هذا الباحث بسبب تحيزاته واهتماماته الخاصة، وليست بالضرورة «خارجية» بمعنى وجوب أو جواز استبعادها من نطاق البحث.

4- من بين القنوات المهمة التي تؤثر تحيزات الباحث عن طريقها في نتائج بحثه، الطريقة التي يختارها لتصنيف العناصر أو الظواهر التي يقوم ببحثها. إن عملية التصنيف (classification) عملية أساسية في البحث العلمي، بحيث يصعب تصور أن يتم بدونها أي بحث سواء في العلوم الاجتماعية أم غيرها، بل يبدو أن عملية التصنيف لازمة لتحقق أي تفكير على الإطلاق. ولكن من الصعب أيضًا أن نتصور أي عملية للتصنيف، خصوصًا في العلوم الاجتماعية، غير متأثرة بتحيز ما لدى الباحث أو ببعض أفكاره المسبقة.

إني أدخل إلى فصل من الفصول لإلقاء محاضرة فألقي نظرة على التلاميذ، فإذا بي أقوم بتصنيفهم في ذهني طبقًا لاعتبار أو آخر يحتل أهمية ما لديّ، وهي أهمية تعود بلا شك إلى تحيز أو آخر من تحيزاتي. فقد أكون ممن يعلقون أهمية على كثرة عدد الذكور بالنسبة إلى الإناث أو العكس، فأقوم بتصنيف الطلبة إلى ذكور وإناث. وقد يكون من المهم لديّ عمر الطلاب فألاحظ على الفور ما إذا كان منهم من تجاوز العمر المتوقع. وهناك عشرات المعايير الأخرى التي أستطيع تصنيف الطلاب طبقًا لها، كالمستوى الاجتماعي، ونوع ما يرتدونه من ملابس، محافظة أو غير محافظة، فضلًا عن الطول والقصر، أو لون البشرة، أو البلد الذي أتوا منه، أو درجة ميلهم لمقاطعة المحاضر أو للحديث إلى الجالس إلى جوارهم.. إلخ. ولكن كل تصنيف من هذه التصنيفات، وإن كان ضروريًا للقيام بأي بحث علمي عن هؤلاء الطلاب، فإنه يقوم ابتداءً على تعليق أهمية ما على هذا المعيار أو ذاك الذي جرى التصنيف وفقًا له، وتعليق أهمية أو عدم تعليق أية أهمية على شيء ما قد لا تكون له أي صلة بالعلم، بل الأرجح أن يكون ناشئًا عن تحيز.

بل إن تصنيفًا مهمًا وقديمًا يعود إلى الأيام الأولى لعلم الاقتصاد، وهو تصنيف عناصر الإنتاج إلى ثلاثة: الأرض والعمل ورأس المال، وقبل ذلك تصنيفها إلى عنصرين فقط، الأرض والعمل، ثم بعد ذلك إلى أربعة: الأرض والعمل ورأس المال والمنظم (أو رب العمل)، كان يعكس دائمًا، في مراحله المختلفة، بعض التحيزات السائدة التي أدت إلى تعليق أهمية على بعض مصادر الثروة أكثر من تلك التي تعلق على غيرها. ففى وقت لم تكن فيه الآلة تلعب دورًا كبيرًا في النشاط الإنتاجي، كان من المناسب تصنيف عناصر الإنتاج إلى عنصرين فقط، الأرض والعمل. ثم أصبحت إضافة رأس المال ضرورية منذ عصر الثورة الصناعية، أو على الأقل أصبحت هذه الإضافة مفيدة من حيث إسباغ مشروعية على ما يحققه الرأسمالي من ربح. ثم أصبحت إضافة المنظم أو رب العمل مفيدة أو ضرورية عندما بدأت تشيع ظاهرة انفصال ملكية المشروع عن مصادر التمويل، فانفصلت مهمة الرأسمالي (الذي قد يكون بنكًا من البنوك) عن مهمة مالك المشروع الذي يتحمل مخاطره ويتخذ أهم القرارات بشأنه، وهو مَن أصبح يسمى بالمنظم أو رب العمل، بينما لم يكن هذا التمييز ضروريًا (بين صاحب رأس المال ومالك المشروع) عندما كان مالك المشروع لا يستخدم من الأموال في العادة، إلا مدخراته الخاصة.

خلال العشرين سنة الأخيرة كثر الحديث عن الخصخصة (privatization) والمقارنة بين الملكية العامة والملكية الخاصة للمشروع، مع التأكيد، في العادة، على مزايا الملكية الخاصة. وعلى الرغم من أن عملية الخصخصة التي جرت، ولا تزال تجري، في البلاد المسماة بالنامية أو المتخلفة، كانت في العادة لصالح مستثمر أجنبي، أي يجري نقل الملكية عادة من الدولة التي يوجد فيها المشروع إلى مالك ينتسب إلى دولة أجنبية (هي في العادة دولة متقدمة اقتصاديًا)، فإن المناقشات نادرًا ما تتطرق إلى المقارنة بين آثار الملكية الأجنبية والملكية الوطنية للمشروع. والأرجح أن هذا التفضيل السائد لقصر التصنيف على (خاص / عام) دون إثارة التصنيف الآخر (أجنبي / وطني) تؤدى خدمة مهمة للمستثمر الأجنبي، الذي يرى من مصلحته أن تتم عملية الخصخصة دون إثارة أي شكوك تتعلق بطبيعة أو جنسية المستفيدين الحقيقيين من الخصخصة.

5-   تؤثر التحيزات والأفكار المسبقة أيضًا، في البحث العلمي، عن طريق اللغة التي تستخدم في إجراء البحث وعرض نتائجه، وما يستخدم فيه من تشبيهات وتعبيرات مجازية. إن وصف نمط معين من أنماط السوق أو نوع معين من أنواع العلاقة بين المنتجين بنظام المنافسة الكاملة (perfect competition)، في مجتمع وعصر يسود فيهما اعتبار «المنافسة» عملا محمودًا، وحيث يعتبر أي شيء «كامل» أفضل من أي شيء ناقص أو أقل اكتمالًا، هذا الوصف لابد أن ينقل إلى قارئ البحث تحيز الكاتب أو الباحث لصالح هذا النظام. وقل مثل هذا على وصف ظاهرة اقتصادية بأنها في حالة توازن (equilibrium)، إذ إن كلمة «التوازن» تثير شعورًا إيجابيًا أكثر مما تثيره كلمة الاختلال أو عدم التوازن (imbalance, disequi librium).  وكلما أمعن المرء في تأمل البحوث الاجتماعية من هذه الزاوية، لوجد أن خضوع هذه البحوث لأثر اللغة والتعبيرات المستخدمة أكبر بكثير مما نظن، وأن تلوين البحث أو «تعكير صفوه» الذي يترتب على هذا الأثر اللغوى، هو أخطر بكثير مما قد يظن علماء الاجتماع أنفسهم.

 نحن فيما يبدو وثنيون أكثر بكثير مما نظن، بمعنى أن لدينا ميلًا أقوى مما نظن، إلى التعبير عن الأفكار المجردة وكأنها أشياء محسوسة، أي إلى «تجسيد المجردات في محسوسات. فكما أن الوثني لا يستطيع تصور إله ليس له وجود مادي فيصوره في شكل صنم من الحجر أو حيوان مفترس أو كوكب من الكواكب، فإن لدينا كلنا ميلًا، تتفاوت قوته بالطبع من شخص إلى آخر، إلى التعبير عن الأفكار المجردة، كالحرية، أو الوطن، أو الجمال، أو القوة برموز مادية، كنشيد وطني، أو راية، أو ملك، أو ملكة، أو تمثال.. إلخ. ولكن استخدام الصور المحسوسة للتعبير عن مجردات يفسح مجالًا واسعًا لنقل التحيزات والأفكار المسبقة من الكاتب أو المتكلم إلى القارئ أو المستمع، إذ إن التزام الحياد التام، إذا كان التزام الحياد التام ممكنًا، يزداد صعوبة إذا حل المحسوس مكان المجرد فالعواطف والأهواء، فيما يبدو، أكثر تعلقًا بالأشياء المحسوسة منها بالأفكار المجردة، ومن ثم فإن تحويل المجرد إلى محسوس يخلق فرصًا أكبر لإثارة العواطف ومن ثم نقل التحيزات.

**********************

لیست هذه الطرق أو القنوات الخمس التي ذكرتها فيما تقدم، والتي تنتقل من خلالها تحيزات وأهواء الباحث إلى البحث العلمي، إلا بعض طرق نقل التحيزات والأهواء، فلا شك أن هناك غيرها، ولكن لعل ما ذكرته هو من أهمها. وقد تعرض كثيرون من الكتاب لظاهرة التحيز والأفكار المسبقة في العلوم الاجتماعية، بل كتب بعض مؤرخي العلم والمهتمين بفلسفة العلوم عن الجوانب أو الأسس غير العلمية أو الميتافيزيقية للعلوم الطبيعية نفسها، التي نميل إلى الاعتقاد بأنها أكثر حيادًا بكثير من العلوم الاجتماعية وأقل تأثرًا بتحيزات العالم وأفكاره المسبقة[5].

وفيما يتعلق بعلم الاقتصاد بالذات انقسم الكتاب في تاريخ الفكر الاقتصادي إلى قسمين متميزين، من حيث موقفهم من إبراز هذه التحيزات. فبعض مؤرخي علم الاقتصاد يفضلون رواية قصة تطور هذا العلم وكأنها قصة تطور عقلي أو فكري أو منطقي بحت، أي وكأنها قصة الانتقال من فكرة، أو نظرية أقل دقة، أو أقل اتساقًا، أو أقل صدقًا في وصف الواقع، إلى فكرة أو نظرية أخرى أكثر حظًا من الدقة أو الاتساق أو الصحة. في هذه الحالة تُروى القصة على أنها قصة تطور «التحليل الاقتصادي»، وكثيرًا ما تحمل الكتب التي تميل إلى هذا الاتجاه هذا الاسم بالذات، أو اسمًا قريبًا منه، فتسمى «تاريخ التحليل الاقتصادي» أو «تاريخ النظرية الاقتصادية».

ولكن هناك نوعًا آخر من مؤرخي علم الاقتصاد يعطي أهمية أكبر لأثر التحيزات والمعتقدات المسبقة، أو أثر المناخ الاجتماعي والفكري السائد في أية عصر من العصور، على النظريات والأفكار الاقتصادية التي ظهرت فيه، فيُبرزون هذا الأثر وما لحقه من تغيرات بين عصر وآخر. وكثيرًا ما يميل أصحاب هذا الاتجاه إلى تسمية كتبهم «تاريخ الفكر الاقتصادي» أو «تاريخ الأفكار الاقتصادية»، وهم على أية حال أقل ثقة، لهذا السبب نفسه، بأن الكتابات الاقتصادية تنتسب إلى «العلم» بنفس الدرجة التي تنتسب إليه البحوث في الظواهر الطبيعية، كما أنهم أقل ثقة بأن «علم» الاقتصاد يتطور باستمرار من الأقل إلى الأكثر دقة، ومن القريب إلى الأقرب من الصحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:

جلال أمين (2008). فلسفة علم الاقتصاد: بحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد. ط. 1. القاهرة. دار الشروق. ص ص. 15- 36.

** عالم اقتصاد وأكاديمي وكاتب مصري، أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة عين شمس (1965- 1974)، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (1979- 2011)

[1] G. Allport: The Nature of Prejudice, Addison Wesley, Reading, Mass 1945, p.20: اقتطفها

[2]  لا يستخدم إيريك فروم في هذا الصدد كلمة تحيز أو كلمة أيديولوجية أو عبارة الأفكار المسبقة، بل يستخدم كلمة الدين، ولكن ما يقصده بالدين هنا ينطبق على ما ذكرناه حالا عن التحيز أو الأفكار المسبقة. إنه يستخدم كلمة الدين بمعنى واسع جداً يظهر من عبارته ليس هناك ثقافة أو حضارة (Culture)، في الحاضر أو الماضي، ولا يبدو أن من الممكن أن توجد ثقافة أو حضارة في المستقبل، يمكن وصفها بأنها لا تعتنق ديانة ما Fromm, E: To Have or to Be? Abacus, (Jonathan Cape, London, 1982, p. 135) وهو يفسر هذه العمومية أو الحتمية لظاهرة الدين على النحو التالي:

إن من الممكن تعريف الانسان بأنه ذلك النوع من أنواع الثدييات العليا (Primates) الذي ظهر عند تلك النقطة من التطور التي بلغ فيها الاعتماد على الغريزة حده الأدنى، وبلغ فيها تطور المخ حده الأقصى. هذا الاجتماع بين الحد الأدنى من الاعتماد على الغريزة والحد الأقصى من تطور المخ لم يحدث قط من قبل في التطور الحيواني، وهو يمثل، من الناحية البيولوجية، ظاهرة جديدة تماما. هذا الافتقاد للقدرة على التصرف بناء على ما تمليه الغرائز مع امتلاك القدرة في نفس الوقت على الشعور بالذات (self-      (awareness  وعلى التفكير (reason) والتخيل (imagination)، وهي قدرات تتجاوز تلك القدرة على التفكير العملي (instrumental thinking) لدى أكثر الثدييات ذكاء، خلقا لدى الإنسان الحاجة إلى قوة موجهة (a frame of orientation) وإلى موضوع للولاء (an abject of odevotion) حتى يتمكن من الاستمرار في الحياة، فبدون خريطة للعالم الطبيعي والاجتماعي الذي يحيط بنا، أي بدون صورة للعالم والمركز الفرد فيه، صورة منظمة ومتسقة الأجزاء، لابد أن يشعر الإنسان بالاضطراب، ويفقد القدرة على أن يتصرف بشكل هادف وعلى نحو متسق (purposefully and consistently)، إذ إنه في هذه الحالة لا يجد أى قوة تدفعه في اتجاه دون آخر، ولا يرى أمامه أي نقطة ثابتة تمكنه من تنظيم كل ما لديه من انطباعات، وحتى لو كانت هذه الخريطة خاطئة فإنها تحقق وظيفة نفسية مهمة. ولكن هذه الخريطة لم تكن في أي وقت من الأوقات خاطئة تماما، ولا كانت في أي وقت من الأوقات صائبة تماما (المرجع السابق، ص ١٣٦)

[3] Knut Hamsun: The Cultural Life of Modern America, Harvard University Press, Cambridge, Mass, 1969.

[4] Whorf, B.L.: Language, Thought and Reality, MIT Press, Cambridge, Mass, 1965, pp. 166-8

[5] انظر مثلًا

Burtt, E.A.: The Metaphysical Foundations of Modern Physical Science, Kegan Paul, London, 1925.  

عن جلال أمين

شاهد أيضاً

فقه التحيز: من التحيز للنموذج الغربي إلى التحيز لنموذج إسلامي بديل

أ. د. عبد الوهاب المسيري

قضية التحيز في المنهج والمصطلح هي إشكالية تواجه أي دارس، ولكنها تواجه المثقف في العالم الثالث بحدة.

التحيز وضرره على الفقه والمعرفة

العنوان: التحيز وضرره على الفقه والمعرفة: رسالة الحجاب للطريفي نموذجًا. المؤلف: أحمد سالم، عمر بسيوني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.