الرياضة في حياتنا المعاصرة
أ. وليد القاضي*
تُعَد الرياضة، بلا شكٍ، من الأنشطة المهمة والمطلوبة في حياة الإنسان؛ إذ تقوِّي البدن وتشحذ الذهن وتنمِّي المهارات، وتُكسِب الجسد الحيوية والنشاط، كما أنها تساعد على سد أوقات الفراغ، لاسيّما لدى الشباب، وملئها بما ينفعه، بعيدًا عن مَواطِن الانحراف والفساد، فضلاً عن كوْنها وسيلة ناجعة لتبديد المشاعر السلبية التي قد تنتج عن الضغوط النفسية والعصبية. وبجانب فوائدها الفردية، تساعد الرياضة كذلك على تنمية روح التعاون والتآلف بين الأفراد والجماعات، بفضل ما تبثُّه من أخلاق حسنة، بما يؤدِّي إلى إقامة مجتمع صحي وقوي، يسوده الوئام والتناغم.
ولأجل هذه المزيّات النافعة المتعددة، حثَّ الأسبقون على أهمية ممارسة الأنشطة الرياضية؛ فأشاروا إلى أن صحة العقل من صحة الجسد، بقولهم “العقل السليم في الجسم السليم”، ودعا سيدنا عمر – رضي الله عنه – الناس في زمانه إلى تعليم أولادهم السباحة والرماية والفروسية. وقد حثَّ النبي – صلى الله عليه وسلَّم – على التحلِّي بما يقوِّي المرء وينفعه، وبما يبثُّ فيه الشجاعة والقوة، ليكون نافعًا لنفسه ومجتمعه، فقال: “المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ”، ويُتبِع عليه السلام ذلك بقوله: “احرصْ على ما ينفعُك”[1].
ومن محاسن الأمور أنْ وجدت مثل تلك الدعوات بمرور الزمن آفاقًا رحبة، حيث أصبحت الدول تُولِي مزيدًا من الرعاية والاهتمام للمجال الرياضي ومنتسبيه، كأحد أدوات القوة الناعمة التي تتنافس فيها الأمم، والتي تُبرِز تطورها واعتنائها بشبابها، فيما اتسعت رقعة المنشآت الرياضية، من نوادٍ ومراكز شبابية، تجتذب العديد من الأطفال والشباب، بما استحدثته من أنشطة وألعاب متنوعة، مثل كرة القدم، والجودو، والجمباز، والكاراتيه، والسباحة، وغيرها. أضِف إلى ذلك الحرص المتنامي للآباء أنفسهم على تعليم أبنائهم وبناتهم تلك الأنشطة، وتشجيعهم على ذلك؛ تعزيزًا لبُنيانهم وسلامهم البدني والنفسي. وهذه جميعًا مظاهر إيجابية للغاية، تنمُّ عن شيوع حالة من إدراك أهمية الرياضة في حياتنا، قد نسمّيها “الوعْي الرياضي”.
تغيُّر قِيَمي:
أمام هذه المظاهر المحمودة، تُبيِّن مشاهدات الواقع بعض الملامح غير الإيجابية، التي تتسلَّل شيئًا فشيئًا إلى النشاط الرياضي، على نحوٍ يستوجب تأمّلها ومتابعتها، والعمل على معالجتها. ويمكن تلخيص ذلك الأمر في كونه مُعبِّرًا عن نوع من “التغيُّر القِيَمي” الذي من شأنه أنْ يصيب الأهداف السامية من ممارسة الرياضة، ويَحُولُ تدريجيًا دون النظر إليها من منطلق دورها وموضعها الطبيعيَيْن.
ولعلَّ من المهم في هذا الصدد التفريق بدايةً بين ما يُعرَف بـ “الرياضة الاحترافية” التي تخص عددًا محدودًا من الأشخاص، و”الرياضة غير الاحترافية” التي ينخرط فيها أغلب الأطفال والشباب، رغم أنَّ لكلٍ منهما مشكلاته.
ففي النوع الأول، أي “الرياضة الاحترافية”، أصبح الهدف الرئيسي من الرياضة، الذي تتبعه باقي الأهداف، هو تحقيق الفوز والبطولات والأرقام القياسية والشُّهْرة والثراء، بما يعنيه من خروج عن الهدف الأصلي من الرياضة المتمثل في تهذيب الجسد والنفس، وتدريب الناس على التعاون وعلى الصراع الرقيق، وتسريب النزعات الصراعية في الإنسان من خلال قنوات شرعية. ومن هنا شاع لجوء البعض إلى المخدّرات والمنشّطات لتحقيق الفوز، دون اكتراثٍ بأي قِيَم أو معايير لا تقع داخل نطاق الرياضة، ودون أدنى نظرٍ حتى لتأثيرها القاتل أحيانًا[2].
كما أضحت عملية التدريب نفسها من القسوة بحيث إنها تتناقض أحيانًا مع ما هو “إنساني”؛ إذ يصبح الرياضيُّ جسدًا محضًا لا يستطيع هو نفسه التحكم فيه، حيث يتعيَّن عليه الانصياع لأوامر مدرِّبه وناديه الذي يستثمر في جسده. ثم بعد ذلك يتم “بيع” اللاعبين وشراؤهم فيما يمكن تسميته “سوق النخاسة الرياضية”، فيما تُرصَد لهم أموالٌ ضخمة، قد لا تُرصَد لمؤسسات تعليمية أو صحية أو خدمية في دولةٍ ما لعقود. وفي هذا الإطار، يتم استخدام أبطال الرياضة في الإعلانات، كما يمكن المراهنة على اللاعبين وعلى نتائج المباريات، بصورة تعني أن اقتصاديات السوق اقتحمت عالم الرياضة، حيث تصبح آليات السوق والعرض والطلب هي المتحكِّمة، في حقيقة الأمر، في تنظيم ذلك العالم[3].
ولا شك أن من شأن ذلك تحطيم قِيَم المشاركة والعمل الجماعي، وتدريجيًا تُطوَي “الروح الرياضية” التي كان يقبلُ في ضوئها الإنسانُ الهزيمة بصدرٍ رحب وطريقة متحضِّرة، لصالح ذيوع الأنانية والتنافس غير البنَّاء. وتلوح اليوم بالفعل بوادرُ ذلك، من قبيل التعصب لفريقٍ ما داخل البلد الواحد، بل ويتطرَّف الأمر إلى حدِّ عدم تشجيع الفريق الذي يُتوهَّم أنه يناهضه، في حال كان مُمثِلاً للبلد ككل. ومن ثمَّ، أصبحت المسألة بالنسبة لأصحابها “مصيرية”، قد تصل إلى حدِّ الخصومة والعداء، رغم أنها تدور في نهاية المطاف حول “لعبة” رياضية، هذا فيما تُهدَر فيها الأموال والأعصاب، وربما “الأخلاق”! ولعلَّ ما يكيله أنصار الفِرَق الرياضية لبعضهم البعض من سُبابٍ ولمْزٍ عقب بعض مباريات كرة القدم، على وجه الخصوص، يكفي للدلالة على ذلك.
من جهةٍ أخرى، أصبح النوع الثاني الأكثر شيوعاً (الرياضة غير الاحترافية)، يشهد كثيرًا من المظاهر السلبية؛ حيث أضحى تدريب الأولاد على أي رياضة يتطلَّب التفرغ شبه الكامل، بغرض تحقيق أرقام رياضية متقدمة للالتحاق بالفريق الأول في النادي، وهذا ممَّا يتنافى وأحد أهداف الرياضة؛ باعتبارها تزجية لأوقات الفراغ، ناهيك عن دور ذلك في فقدان جزء كبير من الذكاء الاجتماعي والمهارات الحياتية للأولاد، في ظل توالي معسكرات التدريب. ويحكي أحدهم أن السيارة العائلية أصبحت لديه بمثابة “الترانزيت”، حيث بها الكتب المدرسية والملابس، وربما بعض الطعام، حتى يستطيع الطفل المتدرِّب عمل واجباته ومواصلة يومه قدر الإمكان، وذلك بسبب كثافة التدريبات. هذا فضلاً عن عدم وجود الوقت ليلتقط فيه الطفل، الذي هو طفل، أنفاسه، في ظل الدوَّامة الحياتية التي يعيشها، بين المدرسة وواجباتها وتمارين النادي، ناهيك عن الدروس الخصوصية القائمة على الأرجح. وبإمكاننا ملاحظة هذا الأمر خصوصًا في السنّ الصغيرة.
والواقع أن هذا الوضع يؤدي إلى أنْ تظهر الرياضة – وعلى النقيض تمامًا مما يُرجَى منها – كأحد عوامل الخلل المُحتمَلة في الأسرة. إذ إنَّ وتيرة التدريب تلك تنتقص بشدة من السلام النفسي والجوِّ الأُسَرِىّ، ويحرمهما من السكينة والدفء، حيث إنَّ تجاوز التمارين اليومية معدلها المعقول والإفراط فيها يؤدِّيان إلى نوع من التشتت، وضياع قِيَم التواصل والتجمُّع الفعَّال داخل الأسرة الواحدة. وكثيراً ما نرى هذه الأيام شكاوى أسرية عن عدم رؤية الأبناء والأحفاد مُجتَمِعِين في أيام الإجازات الأسبوعية كما اعتادت الأسر في العقود السابقة؛ نظراً لانشغال الأولاد في التدريبات الرياضية، بحسْب تلك الشكاوى. كما نسمع شكاوى أخرى من الآباء بعدم تواجد الزوجة في المنزل عند عودتهم إلى البيت بعد يوم عمل شاق؛ بسبب وجودها في النادي مع أحد الأبناء للتدريب على رياضة ما. ويتعاظم الأمر في حال تضاربت الفترات التدريبية للأولاد. أضِف إلى ذلك صعوبة تحقيق التوازن بين الأبناء، وعدم القدرة على منحْهم جميعًا نفس القدْر من الرعاية والاهتمام. ويبرز ذلك بوضوح في حال كان الابن المتدرِّب أكبر سنًا من إخوته؛ إذ قد يُعهَد لهؤلاء الصغار بتولِّي مهام واجباتهم المدرسية، أو إطعام أنفسهم… إلخ. وهي أمور قد تبوء بالفشل في أحيانٍ كثيرة، ما يترتب عليها – في حال استدامتها – فشلٌ دراسي أو أخلاقي مُحتمَل. وهكذا، يظهر نوع من التفريط والإهمال في واجبات بعض الآباء إزاء أبنائهم، رغم عدم تعمُّدهم ذلك.
فضلاً عن ذلك، تُظهِر الملاحظة أيضًا نوعًا من التقليد المقصود لـ “نجوم” بعض الألعاب الرياضية، دون مراعاة محاذير واحتياطات ممارسة اللعبة ذات الصلة، وأخلاق مَن يتم انتقائه لتقليده. وبالطبع، ليس في هذا الأمر ما يضير ما دام المُقلَّد قدوة حسنة، وكان التقليد حَسَنًا، ودافعًا نحو مزيد من التميز بالنسبة للشخص المُقلِّد. ولكن قد يُفرِط بعضُ هؤلاء في ذلك، على نحوٍ تتلاشى فيه الشخصية المستقلة للمرء. ويقترن بذلك أيضًا انتشار ظاهرة الاهتمام المُفرِط بالبنية الجسدية، والذي يبلغ أحيانًا حد “التقديس”؛ ونعني هنا أنْ يرصد الشخص كل ما يملك من وقتٍ وجهدٍ ومالٍ فقط لأجل بلوغ هيئة جسدية معينة، تكون لشخصية شهيرة على الأغلب.
على صعيدٍ آخر، قد يتخذ البعضُ الرياضةَ أحيانًا ساحة للتفاخر والتنافس الاجتماعي غير الصحِّي، بما يترتب عليه من تكبُّرٍ وبغيٍ وحسد، أو شغل عن أمور الآخرة. وقد يُثقِل بعضُ أولياء الأمور على أنفسهم بقَيْد أبنائهم بمراكز رياضية معينة تفوق قدراتهم المادية. ورغم أنه لا خلاف على أن هؤلاء الآباء، كغيرهم، يريدون لأولادهم الأفضل من كل شئ في الحياة، إلا أن ما يُعَاب في هذا الصدد هو الوصول أحيانًا إلى حدِّ ظلم النفس، وتكلُّف ما لا يُطاق.
من المرائي المهمَّة كذلك، لاسيَّما في رياضة مثل السباحة، هو تدافُع بعض الآباء، تحت التسويق الفائق للأكاديميات ذات الصلة، لإلحاق أطفالهم الذين لم يتجاوزوا بضعة أشهر لتعلُّم هذه الرياضة؛ بدعوى أن ذلك يُنشِئهم نشأةً رياضية سليمة. وقد تفتقر هذه العملية إلى تحرِّي قدرة الطفل البدنية والنفسية على الانسجام مع بيئة التدريب، ما قد ينطوي أحيانًا على نوعٍ من القسوة، بالنظر إلى أن بعض الأطفال في مثل هذه السنَّ الصغيرة قد لا يقوى على هذه البيئة، بل ينتابه الهلع والرِعْدة باستمرار، وهو ما يحول مطلقًا دون استمتاع الطفل بما هو مُجبَر عليه، ناهيك عن تعلُّمه، بل قد يشطُط ذلك إلى حدوث متلازمات نفسية سلبية لاحقًا.
وعلى كلٍ، فإن أكثر ما يُخشَى عليه ممَّا سبق من مظاهر أو جوانب غير إيجابية نعيشها اليوم في حياتنا الرياضية هو أنها قد تتحوَّل بسرعة هائلة، بفعل عمليات التأثير والتأثر التي تفرضها أدوات التواصل الاجتماعي المتنامية، إلى أنْ تكون أمورًا طبيعية تشكِّل رؤية الناس لحياتهم، ويتم توريث قِيَمها من جيلٍ إلى جيل، في عملية من “التنشئة الرياضية”، وهو ما قد يكون له بالتالي انعكاساته السلبية طويلة المدى على المجتمع. إذ لا يخفى أن عملية التنشئة تعتبر إحدى العمليات الأساسية لتكوين الفرد، الذي هو نواة المجتمع، بما يتضمَّنه ذلك من صياغة لشخصيته ونمط حياته وتفكيره، بل وإنسانيَّته؛ فهي دون شك بمثابة البذور التي تُؤْتي ثمارَها الخاصة في نهاية المطاف.
التأثير الحداثي:
في الواقع، إنَّه يمكن استشفاف تأثير الحداثة بوضوح في العديد ممَّا سبق من مظاهر؛ فلقد كان من نِتاج المنحى الحداثي، ذي الطبيعة المادية المحضة، الزحف الكبير للثقافـة المادية والاستهلاكية، ومنطق الربح السريع، وتصاعد النزعة الفردية، بالتوازي مع الاهتمام البيولوجي بجسم الإنسان، لينتقل إليه التقديس، بعد مـا تمكَّن الحداثيون من تحطيم كافة مؤثرات الغيبيات[4].
وقد بيَّن الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الفلسفة عند تصويره للحداثة بأنها “تبنِّي العلم والتكنولوجيا والعقل المنفصلين عن القيمة (Value-free) كآليات وحيدة للتعامل مع الواقع”. حيث أشار الى أن المنظومة الداروينية الغربية تظهر باعتبارها المنظومة الأخلاقية الوحيدة التي يمكن تفعيلها في هذا “الواقع”. ومن ثمَّ، يتراجع التراحُم بين أعضاء الجماعة كقوة محرِّكة للمجتمع الإنساني، ويحل محله التنافسُ والصراع بين الأفراد، وتصبح المنافسة هي الوضع الطبيعي للإنسان، وتؤدي إلى الكفاءة وتعظيم الإنتاج واستئصال مَن ليس كفؤا من خلال عملية مادية طبيعية. وبسبب تحييد المضمون الأخلاقي في هذا الإطار، وتقبُّل هذا الحياد، تصبح بعض الوظائف والهِوايات التي كانت هامشية، مقبولة في كثيرٍ من المجتمعات، بل مرغوبة ومركزية. وقد أصبحت هذه الوظائف حلمًا لارتباطها بقِيَم مادية منفصلة عن القيمة وكل العناصر الاجتماعية والإنسانية، مثل الشُّهْرة والمُتعة والثراء[5].
بسهولة، يمكن رؤية انعكاس ذلك فيما سبق بيانه، سواء في الاهتمام المُفرِط بالجسد أو ما يرتبط بعملية التدريب ذاتها من انغلاقٍ وتعسُّف، أو التهافت المُبالَغ فيه على “بيع” و”شراء” نجوم الألعاب الرياضية تحقيقًا للربح ومزيد من الشُهْرة، أو تراجع الروح الرياضية والتراحُم بين المشجِّعين، الذين هم أوصال المجتمع، أو التنافس غير المحمود، وتزايد الحرص على تحقيق منافع خاصة، حتى لو كان ذلك على حساب الآخر والمجتمع. هذا فضلاً عن انتقال الرياضة لدى البعض من كونها “هواية” و”وسيلة” لتعظيم المنافع البدنية والنفسية والمجتمعية، إلى “وظيفة” و”غاية” ذات أبعاد مغايرة تتجاوز بكثير حدَّها الطبيعي.
وقد أشار العديد من المتخصصين والدراسات الغربية إلى أن الرياضة كانت واحدة من أكثر الطرق تميزاً، التي تمَّ بها إنتاج حداثة القرن الماضي في العديد من بِقاع الأرض، بما فيها البلدان العربية والإسلامية؛ نظرًا لمخاطبتها الجمهور بشكلٍ رئيسي، ودورها الفعَّال في نقل الأفكار وغيرها ممَّا يُرَاد الترويج له[6].
ويُظهِر التاريخ أن الرياضة الغربية برزت في شكلها الأصلي مع بداية ظهور الطبقة الأرستقراطية في القرن السابع عشر، كأحد الحلول لشغْل وقت فراغها، وتدريجيًا أصبحت جزءًا من نمط عيش الطبقات العليا. لتظهر من ثمَّ قوانين وقواعد اللعب بعد أن وجدت طبقة النبلاء أنها لا تستطيع ملاحقة أداء الطبقة الكادحة، والتي كانت بحكم أعمالها، تفوقها من حيث القوة البدنية والمهارات الحركية. وقد أدى الاعتماد المتزايد على الآلة في الفترات اللاحقة إلى تزايد أوقات الفراغ لدى مختلف الطبقات، ما أعطى من ثمَّ زخمًا لانتشار الأنشطة الرياضية[7]، حتى إنَّ الأندية الرياضية أخذت تظهر في أوروبا مع حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر[8]. ولم تلبث أن انتقلت هذه الظاهرة إلى البلدان العربية والإسلامية الخاضعة للاستعمار الأوروبي. وقد اعتقدت السلطات الاستعمارية أن ممارسة الرياضة في المدارس، والنوادي الرياضية، علامةً على التحضُّر والتمدُّن، ونقلت المنشورات للقرَّاء، نصًا وصورةً، فكرة مفادها أن الجسم المُشَكَّل جيدًا يعني أنَّ المرء يتمتع بصحة جيدة ولياقة بدنية و”متحضِّر”. وكثيراً ما وصف الصحفيون المباريات الرياضية بأنها فرصة للأمم لإظهار تطورها وتقدمها[9].
وفي هذا الإطار، تعدَّدت الرياضات وتنوَّعت دلالات ممارستها، بل وأصبح لها تصنيف طبقي خاص، له علاقة سببية بالعوامل الاجتماعية الثقافية وبالظروف الاقتصادية. وقد أظهرت الدراسات بالفعل أن هناك رياضات خاصة بالطبقات الدنيا، وأخرى بالطبقات المتوسطة، وثالثة بالطبقات العليا. فالطبقة الدنيا مثلاً تمارس كرة القدم واليد والملاكمة ورفع الأثقال والجمباز، وجميعها يتطلَّب قوة بدنية، وغير مكلّفة، مع نسبة حدوث إصابات مرتفعة. أمَّا الطبقة المتوسطة، فتميل لكرة السلة والسباحة والهوكي والجودو وسباق الحواجز، وهي رياضات تتسم بفنيَّتها، ووجود مسافة جسدية، ونسبة إصابات متوسطة. أمَّا الطبقة العليا، فتمارس التنس والجولف والفروسية والرماية والسلاح والاسكواش، وهي رياضات ذات تكلفة باهظة، وينعدم فيها الاحتكاك، وغالبًا ما تكون رياضات عائلية متوارثة[10].
من سُبُل التقويم:
كما سلفت الإشارة، تُعَد الرياضة من بين أدوات القوة الناعمة المهمّة التي تسهر الأمم على ترسيخها وتطويرها، لبناء مجتمع قوي البنيان رفيع الهمَّة. لكن أمام ما تُبرِزه النزعات السالفة المرتبطة بالمجال الرياضي، والتي يتعلَّق أكثرها – كما سبق – بالحداثة وقِيَمها المادية، قد يكون من الأجدى العمل على تقويمها، لتحقيق المُراد حقًا من الرياضة.
ولمَّا كانت الحداثة أساسًا “فكرًا” يرتكز على المناحي المادية، يستدعي الباحث هنا “فكرًا” أكثر شمولية، يُوازِن بين المادة والروح، يستمدُّ أساسه من قِيَم الإسلام التي تتلاءم وتتناغم في حقيقتها مع طبيعة الإنسان، والتي ما جاءت إلا لهداية الناس إلى أفضل السُبُل وأقومها، بما يحقق السعادة في الدنيا والآخرة. ويتمثَّل هذا الفكر في منظومة “فقه الحياة” بعناصرها الخمسة: المقاصد (بكليَّاتها الخمس المعروفة: حفظ الدين والعقل والنَّفْس والعِرْض والمال)، والقِيَم، والسُّنَن، والغَيْب، والأحكام الشرعية[11]. ومن اسمها، تسعى هذه المنظومة إلى تعزيز الانفتاح على الحياة بمجالاتها المختلفة وقضاياها المتنوعة التي يواجهها الناسُ في الأزمنة المتغيرة متسلحين برؤية إسلامية تكون الضامن لعدم خروج الحياة عن المسار الإيماني.
وفي ضوء هذا النهج، يمكن الإشارة إلى عدة نقاط رئيسية ارتباطًا بالموضوع محل التناول، هي:
أولاً- عنصر الغيب، يجب أن يتم استحضاره من خلال توطين الأبناء وتربيتهم على الإيمان بالله تعالى، باعتباره الموفِّق والمُسدِّد ولا يأمر إلا بما ينفع، وأنَّ ما على هؤلاء سوى السعي، وعليه تعالى التوفيق، وأنَّ التوفيق لا يُنَال بشتَّى الحِيَل، المادية والمعنوية، ما لم يأذنْ به الله تعالى. ومن المهم التأكيد أيضًا على أهمية مفهوم استخلاف الإنسان في الأرض. فمن جهة، يجب أن يضع الطفل أو الشاب المُتدرِّب دومًا هذه الرؤية الكلية أمامه في شتى أمور الحياة، ومنها الرياضة، إذ ربما ينظر البعض إلى تدريب الطفل على أنه شئ ضروري لأن الناس يفعلون ذلك أو لأنها “موضة” أو لرغبة في تفريغ طاقة الأطفال وتجاوز سن المراهقة… إلخ. لكن حينما يُغرَس فى الطفل مفهوم الاستخلاف منذ بداية حياته، فإنه يستلهم من نفسه دوره فى الحياة، والإيمان بأهمية الرياضة حقًا فى حياته، مراعيًا فيها المعايير المشروعة، ومحققًا منها غاية الاستفادة.
ثانياً- لا شك أن مسألة ضبْط المقصد، أيْ الهدف من ممارسة الرياضة، والوقوف على معاييره وحدوده لدى تناول موضوع حيوي تنخرط فيه الأُسَر على اختلافها، يُعَد أمرًا بالغ الأهمية. وبالتالي، لا بد من توطين النفس بدايةً على أهمية ضمان عدم تجاوز الحدّ، وألا يطغى المقصد من الممارسة على أشياء أو قِيَم أو مقاصد أخرى. ويهمّنا في هذا الصدد التأكيد على أنه لا بد من الوعْي بالمكانة الحقيقية للرياضة – وليست أهميتها بالطبع – دون إفراط أو تفريط. فالإفراط يُعظِّم من هيمنتها بالقِيَم الحداثية الحالية بشكلٍ تُزوَى معه القِيَم الإنسانية وتنمحي، فيما يؤدي إلى حدوث خلل أُسرِي لا يمكن تعويضه بأي حال، سواء كان ذلك بالتقصير في تربية ورعاية الأبناء على نحوٍ متوازن ومُنصِف، بأنْ يأتي تدريب طفل على حساب آخر، أو في زعزعة سكينة الأسرة ذاتها، بما يترتَّب عليها من مشكلات – سبق بيانُها – هذا بينما يؤدي التفريط في ممارسة الرياضة إلى ضياع نشاط مهم وضروري للإنسان بدنيًا ونفسيًا وأخلاقيًا. ومن ثمَّ، ينبغي تحديد مقصد الرياضة في ضوء وظيفتها، وكونها وسيلة لجلْب مصالح هامة، تتمثل في حفظ عقْل الإنسان ونفْسِه، ومن ثمَّ مجتمعه الأوسع. وهذا يتطلَّب قطعَ النظر إلى الألعاب الرياضية على أنها غاية أو هدف في حدِّ ذاتها.
ثالثاً- تُحِيلنا النقطة السابقة مباشرة إلى عنصر القيمة وأهميتها في هذا الموضوع؛ إذ إن الإيمان بأن الرياضة جزءٌ من الحياة، وليست كل الحياة، يفترِض ضرورة إعمال قِيَم الاعتدال والتوازن في حياة الإنسان؛ أي التوازن بين ممارسة الرياضة والعمل والتعلُّم وصلة الرحم… إلخ. فالاعتدال من القِيَم السّامية التي حثَّت عليها الشريعة الإسلامة، ويقول الله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا“(البقرة: 143)، وقد فسَّرها النبيُّ عليه السلام بقوله: “وَسَطًا [أيْ] عدْلاً”. كما قال صلى الله عليه وسلَّم: “سدِّدوا وقاربوا، واغْدُوا ورُوحُوا.. والقصْد القصْد تبلُغُوا”؛ أيْ الزموا الوسَط، كما قاله بعضُ الشُّرَّاح[12].
وفي هذا السياق، يجب أن تلتزم عملية التدريب نفسها بقِيَم الرفق والرحمة، من خلال عدم الإفراط في الدورات التدريبية، وكذا التحلِّي بالتأنِّي والحلْم، ومراعاة ما تتطَّلبه كل مرحلة عمرية من اهتمامات. ويُتوسَّم في هذا السياق مراعاة أحاديثه عليه الصلاة والسلام وما أقرَّه، مثل: “إنَّ لنَفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لِأهلِكَ عليكَ حقًّا؛ فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ”[13]؛ وقوله: “إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ”[14].
بالمثل، ينبغي على الآباء الرفق بأنفسهم، بعدم إلحاق أولادهم بنوادٍ تُهلِكُهُم اشتراطاتُها المادية، عملاً بقوله تعالى: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” (البقرة: 286)، وقوله عليه السلام: “إذا نَظَرَ أحَدُكُمْ إلى مَن فُضِّلَ عليه في المالِ والخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إلى مَن هو أسْفَلَ منه”، وقوله كذلك “لا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ”[15]، وقول الحكماء: “رحمَ اللهُ امرأً عرف قَدْر نفسِه فلَزِمَه، وعرف حدَّه فوقف عنده، وعرف ما عنده فقنع به”. وبالطبع لا يعني ذلك – بأي حال – تثبيط المرء عن السعي والأخذ بالأسباب، لكن لا بد من التحلِّي في ذلك بقِيَم القناعة والرضا.
رابعاً- في المقابل، يتعيَّن مراعاة البُعْد الفقهي والأحكام الشرعية ارتباطًا بالشأن الرياضي، حيث يجب القضاء على ظاهرتَي التفاخر والتنمُّر، سواء ارتبط ذلك بالبنية الجسْمانية أو ارتياد نوادٍ معينة أو ارتداء ملابس ذات ماركات محدَّدة… إلخ. إذ لا يساعد ذلك إلا على إذكاء روح الغيرة والحقد والحسد، وشيوع التنافس غير البنَّاء، وتفكك الروابط التراحمية داخل المجتمع الواحد. وقد قال عليه السلام: “إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ”[16]. وقال: “مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجسَدِ، إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”[17].
كما تفرض الأحكام الشرعية على المُتدرِّبين الذين يلجأون للمنشِّطات وغيرها، لتحقيق نقاط أو فوزٍ ما في مباراة أو لعبة، عدم المخاطرة بأنفسهم فيما يورِدها المهالك، فقد نهى الله تعالى عن ذلك، بقوله: “وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ“(البقرة: 195). إذ إنَّ حياة المرء بالطبع أوْلى وأكرم من آلاف النقاط، فيما تُعَد قاعدة “درْء المفاسد خيرٌ من جلْب المصالح” إحدى أهم قواعد الفقه الإسلامي الحاسمة السارية في مختلف العصور. ومن ثمَّ، يجب على هؤلاء استيعاب أهميتهم في مجتمعاتهم، وأنهم هم قاطرتها، ويمثِّلون بشكلٍ أو بآخر نماذج تقتدي بها الأجيال التالية، فعليهم أن يكونوا مُشَرِّفين رياضيًا وعلميًا وأخلاقيًا.
ارتباطًا بذلك، يجب على الآباء الاهتمام بالجوانب التربوية والتأديبية بجانب تعلُّم الرياضة وممارستها، مصداقًا لما يُروَى: “ما نَحَلَ [أيْ أعطى] والدٌ ولدًا أفضل من أدبٍ حَسَن”، و”أكْرِموا أولادَكم وأحْسِنوا أدَبَهم”. إذ تنشأ بذلك شخصيات قوية رفيعة الخُلُق، تُراعِي حقوق غيرها ودورها في مجتمعها. ويقتضي ذلك عدم إهمال التعلُّم لأجل الرياضة، خاصة وأنَّ ذلك يؤدي إلى تعطيل الطاقات ويُسهِم في تراجع الأمم. وفي حديثه صلى الله عليه وسلم المذكور أعلاه “سدِّدوا وقاربوا، واغْدُوا ورُوحُوا”، حثُّ على ضرورة السعيْ وإعمال الهمَّة والعزيمة اقترانًا بحُسْن التوكُّل على الله تعالى في شؤون الحياة كلها.
أخيرًا، إن الجوانب السلبية التي تثيرها الحداثة في صورتها الرياضية، على النحو السالف أعلاه، تتطلَّب بإلحاح ضرورة الوعْي بها والتصدّي لها، لا مزيد من الانخراط فيها، لاسيَّما وأننا ننغمس تدريجيًا في شتى أشكال الحياة الحداثية الأخرى، كما في المأكل والملبس وغيرهما، فيما تساهم التقنيات الحديثة في تسريع وتيرة ذلك بقوة. ولا شك أن ذلك من شأنه أن يُفضي بشكل أو بآخر إلى الانسلاخ اللاشعوري من هويتنا لصالح هوية وفكر مغايرَيْن لنا جملة وتفصيلاً. ومن ثمَّ، يجب التمسك بما تزخر به ثقافتنا وشريعتنا من قِيَم وعادات وتقاليد أصيلة، والعمل على صِقَل ذلك، مع تحرِّي ما يصل إلينا من مظاهر وافدة؛ فما وجدنا فيها من شيٍ نافع قبلناه، وما هو غير ذلك رددناه. وهذا لا شك من جملة المسؤولية الأخلاقية التي ينبغي التحلِّي بها للحفاظ على هوية الأجيال الجديدة التي يفتنها بريق الحياة الغربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث دكتوراة في العلوم السياسية.
[1] صحيح مسلم، رقم 2664.
[2] عبد الوهاب المسيري، “الحداثة المنفصلة عن القيمة: الأخلاق والأزياء والرياضة”. الجزيرة، 20 ديسمبر 2005،
[3] المرجع السابق.
[4] علا ماضي، “القول بين التحديث والحداثة والمعاصرة”. مجلة كلية التربية بالمنصورة، المجلد 109، العدد 1، يناير 2020، ص ص 359 – 360.
[5] عبد الوهاب المسيري، “الحداثة المنفصلة عن القيمة: الأخلاق والأزياء والرياضة”. الجزيرة، 20 ديسمبر 2005،
[6] Steven Connor, “Sporting Modernism”.
https://stevenconnor.com/sportingmodernism /sportingmodernism.pdf
انظر كذلك كلاً من:
Peter Mahlmann, “The Role of Sport in the Process of Modernisation: The Kenyan Case”. Journal of African Research & Development, Vol. 22, 1992, Pp. 120 – 131. https://www.jstor.org/stable/24326231 & – Shaun T. Lopez, “On Race, Sports, and Identity: Picking up the Ball in Middle East Studies”. International Journal of Middle East Studies, Vol. 41, No. 3, August 2009, Pp. 359–361.
https://www.jstor.org/stable/40389248
[7] جلال العبادي. علم الاجتماع الرياضي. (بغداد: دار الفكر العربي، 1989)، ص ص 123 – 129.
[8] عمران عبد الله، “الجمعيات والنوادي الرياضية.. من عتبات الحداثة إلى ساحات الاحتجاج”. الجزيرة، 31 أغسطس 2023، https://tinyurl.com/4ramk8sn
[9] Murat C. Yıldız, “Institutions and Discourses of Sports in the Modern Middle East”. In: Nicholas S. Hopkins and Sandrine Gamblin. Sports and Society in the Middle East. (Cairo: American University in Cairo Press, 2016). Pp. 16 – 17, 34, 36 – 38.
[10] إسماعيل محمود حسن. مبادئ علم الاتصال ونظريات التأثير. (القاهرة: الدار العالمية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2003)، ص 202.
[11] يُعَد مركز خطوة سبَّاقًا في صكّ هذا المصطلح، وكانت باكورته في هذا الشأن كتابٌ بعنوان “نحو تأصيل لفقه الحياة: الطفولة نموذجًا” (2010)، والذي انتهى إلى الخماسية المذكورة. ثم كتاب “الغنى والفقر بين العولمة وفقه الحياة” (2018).
[12] انظر: مقصد الوسطية في الإسلام، على الرابط التالي: https://tinyurl.com/yj6r5nmj
[13] صحيح البخاري، رقم 1968.
[14] صحيح مسلم، رقم 2594.
[15] صحيح البخاري، رقم 6490؛ وصحيح مسلم، رقم 2963.
[16] صحيح أبي داود، رقم 4895؛ وصحيح مسلم، رقم 2865.
[17] صحيح مسلم، رقم 2586؛ وصحيح البخاري، رقم 6011، واللفظ لمسلم.