العنوان: حفظ الله الاتحاد السوفيتي: المسلمون السوفييت والحرب العالمية الثانية.
المؤلف: چيف إيدن.
المترجم: محمد صلاح علي.
الطبعة: ط. ١.
مكان النشر: الجيزة.
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر.
تاريخ النشر: 2023.
الوصف المادي: 407 ص.، 24 سم.
الترقيم الدولي: 978-977-6459-53-3
مقدمة حول الكتاب:
يؤطر كتاب “حفظ الله الاتحاد السوفيتي: المسلمون السوفييت والحرب العالمية الثانية” للعلاقة بين الاتحاد السوفيتي والطوائف الدينية المختلفة داخله في أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ مع الزحف النازي على الاتحاد السوفيتي إبان تلك الحرب، تبدى للحكومة السوفيتية أن تلجأ إلى نوع من مصادر الشرعية التقليدية التي سبق وهجمتها، ألا وهو الدين.
من هذا المنطلق يتناول چيف إيدن في كتابه التفاعلات التي ظهرت بين الاتحاد السوفيتي والزعامات الدينية في خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال التركيز على الزعامات الدينية الإسلامية، مع الإشارة إلى أوضاع الكنيسة الأرثوذوكسية. ويأتي هذا التناول من خلال إبرازه لأفكار رئيسة عِدة، منها: التحول الذي حدث في سياسة الاتحاد السوفيتي تجاه الدين والجماعات الدينية. توظيف الحكومة السوفيتية للدين كأداة للبروباجندا ضمن استراتيجيتها للتعبئة ضد ألمانيا النازية. إبراز أوضاع المؤسسات الدينية في ظل سياسة التسامح التي اتبعها الاتحاد السوفيتي في أثناء الحرب. وتبيين مظاهر الحياة الدينية التي مارسها الجنود على الجبهة وأهلوهم في الداخل، ومن ثمَّ الانتقال إلى موقف الموظفين السوفييت أنفسهم تجاه سياسة التسامح الديني، والتي شابها الغموض والالتباس.
ويشرح چيف إيدن في ثنايا كتابه كيفية تحول السياسة الدينية في الاتحاد السوفيتي في فترة حُكم (جوزيف ستالين)، من سياسة تهدف إلى فرض الإلحاد ومحاولة اقتلاع الدين من صدور الشعب السوفيتي، إلى تبني سياسة تسامح ديني مع الطوائف الدينية المختلفة. ويُعد هذا الكتاب مكملًا لسلسلة من الكتب التي تناول فيها إيدن – المؤرخ والأستاذ المساعد بكلية نورث ويسترن – الأوضاع التاريخية في منطقة آسيا الوسطى وروسيا.
وقد اعتمد إيدن في دراسته لأحوال المسلمين السوفييت إبان الحرب العالمية الثانية على مصادر شتى، لرسم صورة للتفاعلات التي أثرت على علاقة الحكومة السوفيتية – لا دينية التوجه – مع أفراد الشعب المؤمنين، وقد تنوَّعت هذه المصادر ما بين خُطَبٍ، ومذكراتٍ، وتقارير، وشهادات لشهود عيان، وغيرها. وبرغم عنوان الكتاب الذي يعكس تركيزه على أحوال المسلمين في الاتحاد السوفيتي، وسَّع إيدن دائرة الدراسة ليشمل أوضاع أتباع الكنيسة الأرثوذوكسية، وكيفية انعكاس السياسة الدينية عليهم.
وتقوم السياسة الدينية في الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب العالمية الثانية – بحسب الكتاب – على دمج الدين في الأداة الدعائية (البروباجندا) ذات الطابع المزدوج، فتركن في أحد جوانبها إلى تمكين الزعامات والمؤسسات الدينية، وحثهم على الدعوة إلى حرب مقدسة ضد ألمانيا النازية، وتوفير الدعم للجيش الأحمر من جُند، وموارد، وتمويل مالي، فيما يتمثل الجانب الآخر في الحث على دعم الاشتراكية السوفيتية، وغرس فكرة التآخي فيما بين شعوب الاتحاد السوفيتي، وبهذا مثلت البروباجندا مزيجًا بين ما هو ديني وما هو علماني في آنٍ واحد.
عَرَض چيف إيدن في مقدمة كتابه مقاربات خمسٍ – عدَّها مقارباتٍ تقليديةً – لتفسير سياسة التسامح الدينية التي اتبعها الاتحاد السوفيتية، حمَلت كل واحدة منهن تفسيرًا محتملًا للدوافع التي وجَّهت السياسة السوفيتية تجاه المؤمنين في فتر الحرب العالمية الثانية، ويمكن إبرازها على النحو التالي:
- البروباجندا الخارجية: ترى هذه المقاربة أن سياسة التسامح الديني السوفيتية كانت بمثابة بروباجندا موجهة للعالم الخارجي، وخاصة العالم الإسلامي ودول الحلفاء، في مواجهة البروباجندا النازية القادمة من برلين وروما، والتي صوَّرت ألمانيا على أنها حامية الحرِّيات الدينية على عكس الاتحاد السوفيتي. وقامت حملة البروباجندا الخارجية تلك على تمكين زعامات دينية منن أمثال (إيشان بابا خان)، و(عبد الرحمن رسولوف)، و(آخوند علي زاده)، والبطريرك (سرغيوس) من أجل نشر فكرة أن المؤمنين في داخل الاتحاد السوفيتي يرفلون في حرية دينية غير مسبوقة، وتفنيد ما يُشاع ضد الاتحاد السوفيتي. ودُعِّمَت هذه البروباجندا بمنشورات وُجَّهت للنشر في الخارج مثل كتاب “حقيقة الدين في روسيا” للبطريرك سرغيوس، ومجلة “المسلمون في الشرق السوفيتي” الصادرة عن دار طشقند، وجريدة “بطريركية موسكو” الصادرة عن الكنيسة الأرثوذوكسية، وغيرها من المنشورات.
- البروباجندا الداخلية: وترى هذه المقاربة أن سياسة التسامح الديني بالأساس جاءت لضمان ولاء سكان التخوم السوفيتية، تلك المناطق التي احتلتها ألمانيا في الحرب العالمية الثانية أو هدَّدها الزحف الألماني، وبث فكرة أن الاتحاد السوفيتي هو حامي الحرية الدينية في تلك المناطق على عكس ألمانيا التي سوف تدمر مظاهر الحياة الدينية فيها، والتي تهدف إلى إبادة أهل هذه المناطق.
- تعبئة أفراد الأقليات الدينية: وترى هذه المقاربة أن سياسة التسامح هدَفت في الأساس إلى تجنيد أفراد من الأقليات الدينية المختلفة في صفوف الجيش الأحمر، لا سيَّما بعد الخسائر التي مُني بها الجيش السوفيتي في معاركه ضد ألمانيا النازية، فكان هدف سياسة التسامح تعويض هذه الخسائر من خلال إطلاق حملات بروباجندا على مناطق مثل القوقاز، والفولجا – أورال، وآسيا الوسطى قوامها كتابات وطنية وقومية لاجتذاب سكان تلك المناطق.
- الثورة من أسفل: وجاءت هذه المقاربة لتفسر سياسة التسامح الديني باعتبارها صحوة للشعور الديني لدى الشعب، وضعت ضغطًا على الحكومة السوفيتية – التي كانت تُعاني من أزمات في تلك الفترة – من أجل استعادة المؤسسات الدينية، وفتح الباب أمام النشاطات الدينية.
- استمرار السياسات المتَّبعة منذ ما قبل قيام الاتحاد السوفيتي: وترى هذه المقاربة أن سياسة التسامح تًعد استمرارًا للماضي، وأن القمع السوفيتي مثَّل شذوذا عن السردية الخطية للدين، وترى أن الهويَّة الدينية لم تكن المسوِّغ الأساسي للتعرض للقمع أو الاضطهاد، فكانت النُخب على اختلافها: سياسة، واقتصادية، وأكاديمية مُعرضة للقمع.
وبعد أن أورد إيدن تلك المقاربات الخمس، فإنه يرى أنه ما من مقاربة واحدة تقدم تفسيرًا شافيًا لتحول السياسة السوفيتية الدينية نحو “التسامح مع الدين”، فلكل فرضية مُقدمة من ثنايا تلك المقاربات أوجه قصور تُغفل جوانب من التفاعلات بين الحكومة السوفيتية والحياة الدينية على أرض الاتحاد السوفيتي. وقد تناول الكاتب الحياة الدينية لمسلمي الاتحاد السوفيتي من خلال خمسة فصول، يُمكن عرضها على النحو التالي:
الفصل الأول: الإطار: من سنوات القمع إلى “صفقة ستالين الجديدة”:
احتوى هذا الفصل على سردية خطية أبرزت مجريات الأحداث التي حوَّلت السياسة الدينية السوفيتية من القمع إلى سياسة اتسمت بحرية دينية غير معهودة – في ظل الحُكم السوفيتي – تمتعت بها الطوائف الدينية على اختلافها. فمنذ بدايات الاتحاد السوفيتي كانت النظرية اللينينية للدين على أنه رجعية لا مناص من اقتلاعها، ولا يتم ذلك إلا بالتخلص من رجال الدين.
قاسى رجال الدين اضطهادًا شديدًا على اختلاف أديانهم، فكان رجال الدين الأرثوذوكس يواجهون إعدامات بطرق وحشية، فمنهم من أُحرِق، ومنهم من أُغرِق، ومنهم من عُلِّق ببدال باخرة ليُمزِّق جسده، ومنهم من صُلِب وخُنِق بالشالات الكنسية. كما صودرت ممتلكات الكنيسة في عامي 1921 و1922، وحاول السوفييت بث الفرقة بين الطوائف المسيحية من خلال دعم الكنيسة الجَديددية الموالية للاتحاد السوفيتي في مواجهة الكنيسة الأرثوذوكسية.
لم تؤت السياسة السوفيتية ثمارها المرجوة، فلجأت إلى التفاوض مع من بقي دون اعتقال من زعماء الكنيسة الأرثوذوكسية، وعلى رأسهم المطران سرغيوس الذي صار فيما بعد بطريرك الأرثوذوكس السوفييت، وأعلن في عام 1927 موالاته التامة للحكومة السوفيتية، وهو ما أثار حفيظة بعض أقرانه. وتزامن مع التقارب الوليد بين الكنيسة والحكومة السوفيتية بداية حملة قمع ضد الدين الإسلامي.
جاءت حملة القمع تلك ضمن حملة بروباجندا واسعة تمثلت في نشاط واسع لعُصبة المناضلين الملحدين لمحاولة إقناع المؤمنين بأن إجابات الدين الميتافيزيقية لم تعد تصمد أمام تقدُّم العلم، وصورت العُصبة الإسلام على أنه قاهر للمرأة، مقارنِةً بين أحكام الشريعة ونظيراتها البلشفية، انطلاقًا من النظرة الشيوعية للمرأة على أنها بروليتاريا بديلة.
كما أدى تخبط والتباس القرارات السوفيتية بشأن الإسلام إلى خلق مساحة رمادية أتاحت للمسؤولين السوفييت حرية تسويغ العديد من الممارسات القمعية ضد الدين. وتزامن مع هذه الحملة نشاط للشرطة السرية لمصادرة المنشآت الدينية كالمدارس الدينية والمساجد، ودفع النُخب الإسلامية إلى حافة الإفلاس من خلال فرض الضرائب الباهظة عليهم.
استمر الاضطهاد الديني طوال فترة العشرينيات والثلاثينيات، واشتدَّ في عامي 1937 و1938 فيما عُرف بسنوات الإرهاب الكبير، فعانت الطوائف الدينية من وطأة قمع لا نظير له، وبلغ عدد رجال الدين الذي قٌتِلوا أو طُرِدوا عشرات الألوف، واتهم العديد من رجال الدين بالضلوع في ممارسات مناهضة للاتحاد السوفيتي. في المقابل روَّج ستالين لفكرة التآخي بين الشعوب السوفيتية، مقررًا أن كافة العداوات بين قوميات الاتحاد السوفيتي هي في الأصل عداوات طبقية ستزول في الأوضاع الاشتراكية الصحيحة.
استمرت الحياة الدينية في الاتحاد السوفيتي برغم هذه القمع والاضطهاد، كما ان البروباجندا المناهضة للدين لم تكن على مستوى النجاح المطلوب، وهو ما أرجعه “بيوتر كراسيكوف” أحد المسؤولين السوفييت إلى العنف المفرط الذي مارسته الحكومة على الدين، فلم تُلغ تلك الممارسات الدين، بل حولته إلى نشاط سري، وبقي غالبية الشعب السوفيتي على أديانهم، وظل الإلحاد في أكبر دولة ملحدة في العالم مذهبًا يعتنقه الأقلية من سكانها.
أضاف الغزو الألماني للأراضي السوفيتية بين عامي 1941 و1943 متغيرًا جديدًا للرؤية السوفيتية للدين، فمع هذا الخطر المحدق، لجأ السوفييت إلى عكس سياستهم، وإدماج الدين في البروباجندا السوفيتية، وفتح مسار تسامح ديني جديد عُرف بالصفقة الدينية الجديدة. وكان لُبُّ هذه الصفقة هو خلق بيروقراطية دينية تخضع لإشراف الحكومة المركزية، تمثَّل —في حالة الكنيسة الأرثوذوكسية — في (مجلس شؤون الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية)، وفي (مجلس الشؤون الدينية) لباقي الأديان. وقد منحت هذه المؤسسات صلاحيات محدودة لزعماء الأديان المختلفة، في حين مثلت طبقة رقابة جديدة في يد الحكومة السوفيتية.
الفصل الثاني: ستالين إمامًا: البروباجندا السوفيتية الإسلامية في الحرب العالمية الثانية:
يستعرض إيدن في ثنايا هذا الفصل كيف وظفت الحكومة السوفيتية الزعامات الدينية المسلمة في الاتحاد السوفيتية في دعايتها ضد الغزو الألماني، فكانت الزعامات الدينية كعبد الرحمن رسولوف وإيشان بابا خان ونظاراتهما الدينية أداة طيعةً في يد السوفييت من أجل حشد المسلمين ودعمهم لجهود الجيش الأحمر على الجبهة من خلال خُطب تمحورت في معظمها حول ذم النازيين، ومدح الاتحاد السوفيتي باعتباره حامي حمى الحريات الدينية، والحض على القتال المقدس ضد الألمان.
كان صعود رسولوف إلى تزعُّم النظارة الدينية المركزية مشوبًا بالألاعيب، إذ ظفر رسولوف بهذه النظارة عن طريق الوشاية برفاقه من المشايخ، وحاز من خلال ذلك على ثقة الحكومة السوفيتية وأصبح عميلًا لها في منطقة الفولجا – أورال. تواصلت الحكومة السوفيتية مع رسولوف لتبلغه بأنها ستتوقف عن قمع النشاط الديني الإسلامي، وستعيد افتتاح ما غُلِّق من المساجد، وأن عُصبة المناضلين الملحدين سوف تركز جهودها على مناهضة الفاشية، في مقابل تعاون النظارة الدينية التي يرأسها رسولوف مع الحكومة.
ظهر دور رسولوف من خلال خطبه التي ألقاها لشحذ همم المسلمين لدعم الجيش الأحمر، والدفاع عن الوطن (الاتحاد السوفيتي) في مواجهة عدوه الخبيث (النازيين)، غير أن مما أورده الكاتب في حق رسولوف عدم تمكنه من الأحاديث والآيات القرآنية، فكان يلحن أو يحرف بعض الآيات والأحاديث خدمة لأغراضه. بيد أن خطب رسولوف لم تكن ذات درجة عالية من التأثير في أشهر الحرب الأولى.
وضع السوفييت إطارًا من أجل إثارة انطباع لدى المسلمين بأن الجيش الأحمر هو جيشهم، وأن الاتحاد السوفيتي هو وطنهم الجامع. وهو ما اعتمده رسولوف في خطبه اللاحقة، إذ اعتبر الخطر النازي خطرًا على العالم الإسلامي ككل، فاصطبغت خطبه بطابع أممي – على عكس البروباجندا السوفيتية الاعتيادية التي تُركز على الهوية السوفيتية – جعل فيه الهوية الإسلامية هوية جامعة لكافة المسلمين في الدفاع عن أرض الاتحاد السوفيتي ضد النازيين ضمن حرب مقدسة، وورغم أن كافة خُطب رسولوف كانت تخضع لمراقبة السوفييت إلا أنهم تغاضوا عن هذا الانحراف. وزادت هذه الصبغة الأممية في خطابات لاحقة، فصور رسولوف الألمان على أنهم أحفاد المستعمرين الأوروبيين الذي سعوا إلى تدمير الثقافة الإسلامية في العصور الوسطى، ويسعون في العصر الحديث إلى تدمير الثقافة الإسلامية في شمال وشرق أفريقيا.
وعلى غرار نظارة رسولوف الدينية، استقطبت الحكومة السوفيتية إيشان بابا خان – الذي اعتقلته مرتين في السابق – وجعلته على رأس نظارة دينية لمسلمي آسيا الوسطى وكازاخستان في عام 1943. وعلى عكس خُطب رسولوف، ركز بابا خان على الطابع القومي لمسلمي آسيا الوسطى، مبرزًا معالم الإسلام في تلك المنطقة كالأضرحة المقدسة للأولياء والرموز الدينية، ومؤكدا على أن الغزو النازي يسعى للتمدد إلى آسيا الوسطى وانتهاك هذه الرموز الدينية، وتحويلها إلى مادة للسخرية والاستهزاء، وإلى قمع الثقافة القومية. واتجه بابا خان إلى التأكيد على أن الاتحاد السوفيتي وطن جامع لكافة قومياته، محفزا المسلمين على القتال إلى جانب باقي القوميات السوفيتية لحماية قوميتهم، وبذل العطاء لدعم الجيش.
دفعت جهود رسولوف وبابا خان الاتحاد السوفيتي إلى إنشاء نظارتين جديدتين في أقل من عام: أولاهما: نظارة شمال القوقاز تحت زعامة (خضري غيبكوف)، ونظارة ما وراء القوقاز تحت زعامة المرجع الشيعي (علي زاده آخوند)، وتمثل دورهما كسابقتيهما في حث المسلمين على المشاركة في الحرب للدفاع عن أرض الأجداد مع بقية شعوب الاتحاد السوفيتي.
من ناحية أخرى أثارت الطائفة الإسماعيلية، والتي تقع خارج نفوذ النظارات الدينية الأربع السابقة، وتقيم في منطقة بدخشان في طاجيكستان، وزعميها الروحي الأغا خان (السلطان محمد شاه)، أثارت رِيَب الاتحاد السوفيتي، لاسيما وأن الأغا خان كان على علاقة وثيقة بالنظام البريطاني، وكان ممن يعدُّهم النظام السوفيتي من الرأسماليين. فكان ثمَّة محاولات للاتصال بهذه الطائفة، فوجهت الحكومة السوفيتية خطابات باللغة الفارسية لهذه الطائفة، كانت من ضمن جهود البروباجندا السوفيتية، وعملت تلك الخطابات على جذب أفراد الطائفة الإسماعيلية في العالم، فجاءت مشابهة لخطابات رسولوف وبابا خان، ولكن في نفس الوقت مؤكدةً احترام الاتحاد السوفيتي للأغا خان، وعلاقته بالنظام البريطاني باعتبار أنه تفضَّل ومال ناحية دول صديقة للاتحاد السوفيتي في محاربته للنازيين، واتخذ له مقامًا في بريطانيا.
الفصل الثالث: التفاوض بشأن التسامح الستاليني: المؤسسات الإسلامية في زمن الحرب:
ركز إيدن في هذا الفصل على بيان العلاقة التبادلية بين الحكومة السوفيتية والزعامات الدينية المسلمة، إذ خلقت صفقة ستالين الجديدة المذكورة آنفًا اعتمادًا متبادلًا بين طرفيها، ففي حين استفادت الحكومة السوفيتية من توظيف البروباجندا الدينية في التمويل الحربي وتعبئة الموارد، خلقت على الجانب الآخر مجالًا عامًا للزعامات المسلمة مكنهم من التفاوض على مزيد من الحريات والصلاحيات. كما كان هناك مزج بين ما هو ديني وما هو سوفيتي في إطار تلك البروباجندا الدينية التي اعتمدت عليها صفقة ستالين، فعلى سبيل المثال كانت الزكاة – وهي ركن من أركان الإسلام – من أجل جمع التبرعات للجش الأحمر، وكانت الأعياد كعيد الأضحى وسيلة للحكومة من أجل توجيه الأضاحي إلى العائلات المعوزة، وكان المسجد من سُبل جمع التبرعات كذلك.
وقد حازت هذه التبرعات رضا ستالين، كما خلقت سلسلة من التداعيات المتصلة ببعضها البعض، فمع الإفراج عن عدد أكبر من الأئمة من السجون السوفيتية (الجولاج)، وجمع تبرعات أكثر، حظيت الجماعات المسلمة بفرص أكبر للتفاوض على افتتاح مساجد جديدة، ومع افتتاح تلك المساجد، رُقِّي عدد أكبر من أهل العلم ليصبحوا أئمة لتلك المساجد، وهكذا دواليك. أشرفت النظارات الدينية – التي كانت تحت إشراف الحكومة – على عملية تعيين هؤلاء الأئمة، وأشرف مجلس الشؤون الدينية على عملية افتتاح المساجد الجديدة، ومراقبتها، وإعداد التقارير والإحصاءات بشأن النشاطات الدينية الإسلامية.
إلى جانب عملية المراقبة، عانت عملية تعيين الأئمة وافتتاح المساجد من عملية التسجيل القديمة، والتي عُدَّت ضرورية لمزاولة الأنشطة الدينية وفق القانون السوفيتي، فكانت الفيصل بين النشاط القانوني المسموح به داخل الاتحاد السوفيتي، وبين النشاط الخارج عن القانون. بيد أن مساحة الحريات الدينية قد توسعت زمن الحرب، فظهرت منشورات إسلامية بلغات القوميات المسلمة، وأصبح النشر الإسلامي شرعيًا مع نشر رسولوف لكتابه “دين الإسلام”، وفتحت مدرسة إسلامية في طشقند لتخريج أئمة جُدد، وإن كان مشروطًا عليها أن يكون نصف طلابها من عملاء مفوضية الشعب. وهكذا أصبحت ممارسة كافة أركان الإسلام مسموحًا بها، باستثناء الحج، والذي ظل حتى قبل عام 1944 ممنوعًا.
في عام 1944 أرسل الاتحاد السوفيتي رحلة للحج من ستة أفراد، كانت بمثابة بروباجندا لتبييض وجه الاتحاد السوفيتي، وفي العام التالي، بلغ عدد الحجاج 17 حاجًّا من بينهم رسولوف وبابا خان، استقبلتهم السلطات السعودية باعتبارهم مبعوثين من الاتحاد السوفيتي، وفي عام 1946 وعام 1947 زاد عدد الحجاج في رحلات الحج إلى ثلاثين حاجًّا وأربعين حاجًّا على التوالي، ولكن ألغيت كلتاهما. ظلت سياسة التسامح الديني ممتدة حتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن مع قدوم عام 1946 بدأت نذر التضييق الديني تظهر من جديد، وفي عامي 1947 و1948 كان هناك تشديد على عدم تسجيل جماعات دينية جديدة، غير أن الامتيازات التي حصل عليها المسلمون ظلت كما هي.
الفصل الرابع: صلوات الجيش الأحمر وأشعار الجبهة الداخلية: لمحات من حياة المسلمين السوفييت في زمن الحرب:
يركز هذا الفصل على مظاهر استمرار الدين برغم القمع الذي شنه النظام السوفيتي عليه في عقدي العشرينيات والثلاثينيات، فيبرز إيدن ممارسات دينية للجنود على الجبهة ممن عدُّوا أنفسهم مسلمين، أو مسيحيين، أو حتى ملحدين، فلم يكن كل من أبدى مظهرًا دينيًا من الممارسين الملتزمين بالدين قبل الحرب، بل كان بعضهم أعضاء في الكومسمول (اتحاد الشباب الشيوعي اللينيني)، ومفوضية الشعب للشؤون الداخلية، غير أنه لا ملحدين في الحرب على حد تعبير الكاتب. واعتمد الكاتب على مذكرات جنود شاركوا في الحرب العالمية الثانية، وخطابات بين الجنود وذويهم في الجبهة الداخلية، وكذلك تناول الكاتب ازدهار الحياة الشعرية الإسلامية في أثناء الحرب من خلال ما دونه الدارسون والأنثروبولوجيون في هذا الصدد.
ارتبط الجنود السوفييت على اختلاف مللهم في أثناء معارك الحرب العالمية الثانية بالأذكار الدينية التي لقنها إياها أهليهم قبل مقدمهم إلى ساحة القتال، فكان الجنود المسلمون كثيرًا ما يرددون الأدعية، ويتلون سورًا من القرآن الكريم، وقد خاط كثير منهم بعض الآيات القرآنية على معاطفهم العسكرية إيمانًا منهم بأنها ستنجيهم في المعارك، وكان المسلمون يؤدون صلواتهم في الغابات بعيدًا عن أعين قادتهم المتشددين. وبالمثل، كان الجنود من المسيحيين يخيطون آيات من الكتاب المقدس على معاطفهم، ويعلقون الصلبان والأيقونات كتمائم، وكانوا يصلون من أجل النجاة من الحرب.
عكست الخطابات فيما بين الجنود وذويهم كذلك ارتباط هؤلاء الجنود بالدين، ففي الخطابات التي يرسلها الجنود في الجبهة إلى أهلهم نجد طلبات لهم بالتوجه إلى دور العبادة أو رجال الدين الإسلامي والمسيحي كل بحسب دينه لطلب الدعاء بالعودة سالمين من الحرب، بل نجد أن كثيرًا من الأهالي غير المتدينين زاد إيمانهم وأصبحوا لا يفارقون دور العبادة. والأدهى من ذلك أن بعض القادة في الجيش الأحمر زاد تعلقهم بالدين، فكان البعض يهدي الأجراس والأيقونات إلى الكنائس، وكان آخرون يحضرون قداسات بعد انتهاء الحرب. ولم تكن الرقابة السوفيتية بالمتعنتة تجاه اللغة الدينية في تلك الفترة، بل كان تركيزها على جوانب أخرى كمعاقبة المشتكين من عدم العدالة في توزيع المعونات، أو من سوء معاملة القادة العسكريين.
ويُمكن تلمس اللغة الدينية كذلك في الشعر الديني الإسلامي الذي ازدهر إبان الحرب العالمية الثانية، والذي تنوعت موضوعاته ما بين الأسى على فراق الأهل وفقدان الأحبَّة، والأسْر، والمواساة، والشكوى من التهجير. وقد جمعت الأشعار الدينية ما بين اللغة الدينية وتجربة الحرب مع الجيش الأحمر، فنجد في بعض القصائد الابتداء بالبسملة، ونجد في بعضها توجيه التحية للحزب الشيوعي على سبيل المثال. وكان ازدهار الشعر في تلك الفترة يرجع إلى طبيعته الشفهية في المقام الأول، فكثير من القصائد لم تكن مكتوبة، بل تناقلتها الألسن إلى أن كتبها الدارسون، أو من سمعوها بعد ذلك، كما كان لتشجيع النظام السوفيتي للشعر الوطني في فترة الحرب أثر في حفز الإبداع الأدبي للشعراء المسلمين، أسهم في إثراء التراث الشعري الإسلامي في وقت الحرب.
يخلص الكاتب إلى أن الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة نقطة تحول في التعبير الديني والحياة الدينية في الاتحاد السوفيتي بشكل عام، فلم ينحصر الدين في فترة الحرب في إنشاء منظمات خاضعة للحكومة، بل كان التمثُّل الأبرز لتغير عقلية المسلمين تجاه ما هو مسموح به من نشاطات دينية، فعلى عكس سني الاضطهاد في العشرينيات والثلاثينيات، صارت المساجد ملآ بالمصلين، وحفلت المزارات الدينية والأضرحة في المناطق الريفية، وأصبحت حلقات الذكر الصوفية مظهرًا عامًا بعد أن كانت محصورة في طبقة من الأشراف القائمين على الأخويات. كما ظهر دور مهم للنساء في الحياة الدينية في فترة الحرب، فكنًّ يشكلن نسبة كبيرة من رواد المساجد، ومارس بعضهن الأعمال الدينية كإمامة النساء، وتغسيل الموتى منهن، وقاد بعضهن اجتماعات مثل تجمعات دراسة القرآن والخط العربي. كما امتزج المنهج التقليدي لدراسة الفقه في المناطق الجبلية مع المنهج الجديد الذي انتشر في السهول بفعل عمليات التهجير، فنتج منهج فقهي هجين يجمع بين الاثنين.
الفصل الخامس: البيروقراطيون حيارى: مراقبة المسلمين في كازاخستان بعد الحرب:
عرض إيدن في هذا الفصل لمشكلة التخبُّط الذي أصاب المسؤولين السوفييت في تنفيذهم لسياساتهم الدينية، إذ عجز كثير منهم عن تطبيق تلك السياسة على أرض الواقع، والأدهى أن العديد من الموظفين في اللجان التنفيذية لم يكونوا على دراية بمضمون هذه السياسة من الأصل، والعديد من الجماعات الإسلامية لم تكن على علم بها كذلك. وكان هذا التخبط مرده إلى الالتباس والغموض في السياسات الدينية السوفيتية ذاتها، فلم تكن على نسق واحد، أو لم يشرف عليها مسؤولون ذوو عقلية واحدة.
كان قوام السياسة الدينية السوفيتية أن تظهر الدولة بمظهر الراعي للدين، وهو ما سيوسع نطاق مراقبتها للأنشطة الدينية، وكان نظام التسجيل هو لب تلك السياسية، لا يمكن لجماعة دينية أو مسجد أن يمارس نشاطات دينية بلا تسجيل رسمي. ويقوم الموظفون السوفييت بعملية التسجيل تلك ومن خلالها يجمعون المعلومات حول المؤسسات، والجماعات، والأنشطة الدينية في أثناء عملية التسجيل وبعدها. أنتجت هذه السياسة على أرض الواقع – برغم جودتها من الناحية النظرية – إسلاما رسميًا (في المؤسسات المسجلة القانونية)، وإسلامًا غير رسمي (في الجماعات غير المسجلة وغير القانونية). مثل الإيشانات (مشايخ الصوفية)، غير أن المشكلة الأكبر بالنسبة لهذه السياسة تمثلت في عدم إدراك المسؤولين التنفيذيين لما تعنيه تلك السياسة أو عدم مبالاتهم بها، فكان منطقهم أنها بما أن الدولة قد سمحت للمؤمنين بأن يؤدوا صلواتهم، فليؤدوها إذن في أي مكان، بيد أن السياسية الدينية تقضي بأنه من غير المسموح لأي جماعة ممارسة نشاطات دينية خارج إطار دور العبادة.
أرجع الكاتب سبب الحيرة واللامبالاة لدى المسؤولين السوفييت التنفيذيين إلى غموض المعلومات التي يجب عليهم أن يجمعوها، كعدد المؤمنين وتركيبتهم الدينية، فلم يكن من الممكن في كثير من الأحيان الوصول إلى مثل تلك المعلومات. كما أن العديد من الأنشطة الدينية في المناطق الريفية أو البدوية كالقرى الكازاخية – وبحكم طبيعة تلك المناطق غير المتمدنة – لم تكن تُسجَّل، فالحياة البدوية تستوجب إقامة الصلاة في العراء دون الحاجة إلى مبنى للمسجد، وهو ما حال دون تسجيل الأنشطة غير المرخصة من الناحية العملية في السهول الريفية.
استمرت السياسة الدينية السوفيتية في حالة من التخبط والالتباس منذ أيام الحرب الأولى، وبرهان ذلك أن العديد من الباحثين يختلفون في تقدير سنوات فترة التسامح تلك، ففي حين يرى البعض أن فترة التسامح الديني قد انتهت رسميا في عامي 1948 و1949، يرى آخرون أنه كانت هناك إرهاصات على انتهائها في مرحلة أبكر. كما انعكس هذا التخبط في السياسات السوفيتية ذاتها وكيفية تطبيقها، فبينما سمحت قرارات ستالين للأئمة والجماعات الدينية بفتح المساجد والعمل، فلم يكن هناك ما يوجب على المسؤولين السماح لهم بذلك، فكانت السياسة في كثير من الأحيان مقيَّدة برغبة من هم في السلطة لا بحق الجماعات الدينية في ممارسة الدين.
الخاتمة:
إن أهم ما أبرزه إيدن في خاتمة كتابه أن انضمام المتدينين ومنهم المسلمون إلى الحرب ضد ألمانيا النازية لم يكن بالأساس مدفوعًا بالبروباجندا الدينية السوفيتية، ولكنه ظهر في رؤية هؤلاء المسلمين للحرب على أنها حرب للبقاء، فعندما رأى هؤلاء المسلمون ما فعله الألمان وحلفاؤهم بالمناطق التي احتلوها، وقع في أنفسهم شيء دفعهم إلى القتال، ألا وهو الدفاع عن العائلة، والأهل، وعما ألفوه من الحياة، فلم تكن الحرب حربًا من أجل ستالين، بل حربًا ضد هتلر.
وعلى عكس كثير من الباحثين الذين رأوا ان النظارات الدينية في العهد السوفيتي كانت مجرد أدوات رقابية ووسيطة في النظام السوفيتي، يرى إيدن أن تلك النظارات قد لعبت دورًا مهمًا في الحياة الدينية السوفيتية، وساق للتدليل على ذلك حججا عدة، منها أن دور الإفتاء كانت السمة الأبرز لدى المسلمين على تحوِّل سياسة الاتحاد السوفيتي، كما أن كثيرًا من بروباجندا دور الإفتاء لم يكن مرجعه موسكو، بل كان مضمونه في الأساس صنيعة النخب الدينية القائمة على النظارات الدينية، كما أنه من غير المقبول — وفق رؤية الكاتب — القول بأن الزعماء الدينيين ودور الإفتاء كانت مجرد أبواق دعائية للسوفييت، بل مارس القائمون عليها الأعمال الدينية التقليدية كالإمامة، والزيجات، وعمليات الختان وغيرها، إلى جانب براهين أخرى تثبت أن دور الإفتاء السوفيتية كانت تمثل قوة لها ثقلها في أثناء الحرب العالمية الثانية.
كما يرى الكاتب أيضًا أن الحياة الدينية السوفيتية كانت على درجة أكثر من التعقيد تتجاوز ثنائية الديني – العلماني، ففي حين يرى البعض أن الدين كان عاملًا مهمًا في أثناء الحرب العالمية الثانية لدى المواطنين السوفييت، فقد نحا البعض – ومنهم جنود شاركوا في الحرب – إلى القول بأن الدين لم يكن له أي تأثير عليهم أثناء القتال، وهو ما يشير إلى وجود سردية علمانية لأفراد قد نشأوا في بيئة متدنية غير أن أنهم توجهوا إلى المبادئ العلمانية بفعل البروباجندا والتأثير السوفيتي، فالمشهد الديني كان متنوعًا.
وجملة القول، فإن هذا الكتاب يمثل دراسة لجانب من جوانب الحياة السوفيتية قل التطرق إليه، كما يقدم على منهجه التاريخي صورة تفاعلية ترسم لنا كيف كانت الحياة الدينية في الاتحاد السوفيتي، وكيف تعامل السوفييت مع الدين باعتباره عنصرًا أصيلًا في المجتمع قهر البروباجندا العلمانية، وتشبثت به أطياف كثيرة من الشعب السوفيتي. كما يقدم الكاتب من خلال اعتماده على وثائق حديثة الظهور سردية جديدة تتحدى السرديات التقليدية حول الدين في الاتحاد السوفيتي، وخاصة بشان دور النظارات الدينية، فبرغم أنها كانت مؤسسة بقرار سوفيتي، إلا أنه منذ ظهورها أخذ دورها يتوسع شيئًا فشيئًا، وباتت فاعلًا بارزًا إلى جانب الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية.
وتتمثل أهمية هذا الكتاب في تناوله لحقبة زمنية وضعت أساس النظرة البرجماتية للاتحاد السوفيتي، ومن بعده روسيا الاتحادية، تجاه الدين، والتي تمثلت في جعل الدين أداة لتحقيق مصلحة النظام بدل معاداته، فوظف النظام السوفيتي الدين في وقت الأزمات من أجل التعبئة والدعم، وهو ما نراه لدى زعماء روسيا اليوم فيما يتعلق بسياساتهم نحو الدين، وإن كان الدستور الروسي علمانيًا من الناحية النظرية.
عرض: أ. أحمد خميس أحمد
ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الإسكندرية.