علم المناسبة في القرآن الكريم*
شوقي البوعناني**
يمكن التمييز ضمن علوم المناسبات في القرآن بين صنفين من المناسبات أحدهما يتعلق بمناسبة اللفظة للسياق الذي يكتنفها، وهو ما يجمعه مبحث تناسب الفواصل. والفاصلة كما يعرفها الزركشي: «كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع» (البرهان في علوم القرآن، 1: 53). والثاني هو تناسب معاني الجمل والوحدات التي تتجاوز حدود الجملة الواحدة، وهو ما يختص به علم المناسبات بين الآيات والسور. وقد فصل الزركشي بين «معرفة المناسبات بين الآيات»، الذي خصه بالنوع الثاني من أنواع علوم القرآن، وبين تناسب الفواصل الذي تناوله ضمن النوع الثالث من أنواع علوم القرآن لديه وهو «معرفة الفواصل ورؤوس الآي»؛ إذ ورد الكلام على تناسب الفواصل ضمن هذا النوع من علوم القرآن تحت عنوان «إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل».
أولا- تناسب الفواصل القرآنية:
خص الزركشي هذا النوع من المناسبات بمبحث مستقل عن المناسبة بين الآيات، وسمه بإيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل يقول فيه: «واعلم أن إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل حيث تَطَرد متأكد جداً ومؤثر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيراً عظيماً» (البرهان في علوم القرآن، 1: 60).
ويمكن التمييز بين نوعين من المناسبات في مستوى فواصل الآيات: نوع يرجع إلى المناسبة اللفظية، ونوع يرجع إلى المناسبة المعنوية. فأما النوع الأول فمداره على ما يُلاحظ من مشاكلة لفظية بين فواصل الآيات القرآنية [1]، والنوع الثاني مداره على اختيار اللفظة المناسبة للسياق من ناحية المعنى.
أ. المناسبة اللفظية بين فواصل الآيات القرآنية :
عدَدَ الزركشي في سياق الكلام على تناسب الفواصل، اثني عشر مظهراً من مظاهر العدول عن الأصل في الفواصل القرآنية مراعاة للمناسبة اللفظية بينها. نذكر منها خمسة تتضمنها الأمثلة الآتية (البرهان في علوم القرآن، 1: 61 – 67)
1. زيادة حرف مراعاة للفاصلة، ومثاله زيادة الألف في كلمة «الظنون» من قوله تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10] نظراً إلى أن فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين.
2. حذف همزة أو حرف اطراداً كقوله تعالى: ﴿وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: 4].
3. الجمع بين المجرورات في قوله تعالى: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)[الإسراء: 69]
4. تأخير ما أصله أن يقدم كقوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه: 67]
5. إفراد ما أصله أن يجمع كقوله تعالى: ﴿إِنَّ التَّقِينَ فِي جَنَّتِ وَنَهَرٍ﴾ [القمر: 54]
ب. المناسبة المعنوية في الفاصلة:
ترجع إلى المناسبة المعنوية بين المفردة وسياقها. يقول الزركشي: «اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره وإيقاع الشيء فيها بما يشاكله، فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى المذكور أولاً وإلا خرج بعض الكلام عن بعض. وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك. لكن منه ما يظهر ومنه ما يستخرج بالتأمل للبيب» (البرهان في علوم القرآن، 1: 78). وقد أورد الزركشي أمثلة متعددة على هذا النوع من المناسبات نكتفي منها بالآيتين:
(قلْ أَرَءيتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهُ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) [القصص : 71]
(قل أَرَءيتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهُ غَيرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلِ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [القصص : 72].
ورد في تحليل الزركشي للمثال الأول في (4-1) قوله : «لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة، وأضاف إلى نفسه جَعَلَ الليل سرمداً إلى يوم القيامة، صار الليل كأنه سرمد بهذا التقدير. وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر، لا سيما وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة. فصار النهار كأنه معدوم؛ إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والليل كأنّه لا موجود سواه؛ إذ جعل سرمداً منسوباً إليه سبحانه، فاقتضت البلاغة أن يقول : ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ) لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع ولا يصلح للإبصار» (البرهان في علوم القرآن، 1: 82).
فمناسبة كلمة الفاصلة لما سبقها في السياق مناسبة معنوية تتمثل في مناسبة السماع للظرف الليلي، ومثلها مناسبة الفاصلة في الآية الثانية، وقد جاء في تحليلها لدى الزركشي قوله: «لما أضاف جعل النهار سرمداً إليه صار النهار كأنّه سرمد وهو ظرف مضيء تنوّر فيه الأبصار. وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة. فصار الليل كأنه معدوم؛ إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والنهار كأنه لا موجود سواه؛ إذ جعل وجوده سرمداً منسوباً إليه، فاقتضت البلاغة أن يقول: (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إذ الظرف مضيء صالح للإبصار، وهذا من دقيق المناسبة المعنوية» (البرهان في علوم القرآن 1: 82). فالمناسبة في المثالين السابقين تتمثل في مناسبة مدلول كلمة الفاصلة لمعنى الآية.
ثانياً- علم المناسبات بين الآيات والسور :
هذا العلم خصه الزركشي، كما تقدّم بفصل من فصول كتابه (البرهان)، وهو النوع الثانى من أنواع علوم القرآن لديه، وهو يضبط موضوع علم المناسبات بين الآيات والسور، وهو العلاقات بين الآيات المتجاورة والسور المتجاورة في القرآن.
وفائدة هذا العلم هي «جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء» (البرهان في علوم القرآن 1 :36). فموضوع علم المناسبات بين الآيات يتعلق بالبحث في المنطق الذي يخضع له ترتيب الآيات والسور في المصحف، وهو ما يبينه البقاعي أحد أبرز أعلام هذا الفن؛ إذ يميز بين علمين للمناسبات: علم مناسبات عام وعلم مناسبات خاص بالقرآن. يقول: «علم المناسبات الأعم[2] من مناسبات القرآن وغيره علم تعرف منه علل الترتيب. وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب، وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب. فعلم مناسبات القرآن علم تُعرف منه علل ترتيب أجزائه» (نظم الدرر، 1: 5-6). فقد عرف البقاعي ما يمكن أن نسميه علم المناسبات العام بأنه علم يبحث في منطق ترتيب الأجزاء بقطع النظر عن ماهية تلك الأجزاء وماهية الكل الذي تكونه. وانتقل بعد ذلك إلى تعريف علم المناسبات الخاص بالقرآن بأنه علم يبحث في منطق ترتيب أجزاء القرآن. ولما كانت هذه الأجزاء آيات وسوراً، فإننا نلاحظ لدى البقاعي، ولدى عامة المشتغلين بعلم المناسبات القرآنية، أنهم يميزون ضمنه بين نوعين من المناسبات: مناسبات بين الآيات، ومناسبات بين السور.
أ. المناسبات بين الآيات:
يرجع مفهوم المناسبات بين الآيات إلى المناسبات بين الجمل المكونة للآيات، وهو ما يظهر في قول الزركشي، وتعضده طريقة المفسرين في إجراء المناسبة. يقول الزركشي في سياق الكلام على ارتباط الآي: «ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يظهر الارتباط بينهما لتعلّق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى فواضح. وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على جهة التأكيد والتفسير أو الاعتراض والتشديد وهذا القسم لا كلام فيه. وإما ألا يظهر الارتباط؛ بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف المشترك في الحكم أو لا» (البرهان في علوم القرآن 1: 40) ويظهر من كلام الزركشي أنه يستعمل الآية والجملة على أنهما مترادفتان.
كذلك نلاحظ في سياق احتجاج الزركشي لوجود النوع المعروف بالتخلّص في القرآن الكريم، وجود نوع من الوحدات القرآنية يتجاوز حدود الآية هو ما يطلق عليه الزركشي مصطلح القصة، وهو ما يظهر في تحليل الزركشي لعلاقة الآيات الآتية بما سبقها :
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَها عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْيَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، قَالَ أَفَرءَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَنِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرثةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبِ سَلِيمٍ، وَأَزْلَفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَيُرْزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغاوُنَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَضلنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَمَا لَنَا مِن شَافِعينَ، وَلَا صَدِيقِ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 69-102].
يقول الزركشي في تحليل علاقة مجموعة الآيات بما سبقها: «قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ) إِلى قوله: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، فهذا تخلّص من قصة إبراهيم وقومه إلى قوله هكذا، وتمني الكفار في الدار الآخرة الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسل، وهذا تخلص عجيب. وقوله: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ). وذلك أنه لما أراد الانتقال من أحوال أصنامهم إلى ذكر صفات الله قال: إن أولئك لي أعداء إلا الله، فانتقل بطريق الاستثناء المنفصل» (البرهان في علوم القرآن، 1: 43 – 44).
ومن خلال هذا المثال نقف على ثلاثة أنواع من المناسبات :
- مناسبة بين آيتين متعاقبتين.
- مناسبة بين مجموعة من الآيات داخل قصة واحدة.
- مناسبة بين قصتين متعاقبتين داخل سورة واحدة.
ومفهوم القصة هنا قريب جداً مما يطلق عليه المعاصرون مصطلح المتتالية (Sequence) من الجمل التي تدور على موضوع واحد. وبناء على ذلك فإنّ النوعين الأخيرين من المناسبة بين الآيات داخل القصة الواحدة، أو بين القصتين، أدخل في ما يعده المعاصرون أبنية كبرى للخطاب (Macrostructures) لأن العلاقات بين الآيات في هذه الحالة تتجاوز المستوى الموضعي الذي يتصل بالعلاقة بين الآيتين المتجاورتين إلى المستوى الكلي الذي يتصل بالعلاقة بين مجموعة من الآيات التي ينتظمها غرض واحد، وهذا المستوى هو الذي نتناول ضمنه أيضاً قضايا التناسب في مستوى السور القرآنية باعتبارها أبنية كلية.
ب. المناسبة داخل السورة القرآنية :
لقد مر بنا دفاع الزركشي عن وجود النوع المعروف بالتخلّص في القرآن الكريم. وهو نوع من المناسبة يكون بين قصتين متتاليتين داخل سورة واحدة. وهم يقصدون بالقصة مجموعة متضامنة من الجمل يجمعها غرض واحد من أغراض الكلام، وهو ما يطلق عليه المعاصرون مصطلح «المتتالية» كما مر بنا. لكن هذا النوع من المناسبات لا يستغرق السورة بأكملها. وقد رأى الزركشي أن مصطلح السورة نفسه يفيد أن الآيات في السورة الواحدة ترتبط بنوع من علاقات المناسبة يتجاوز العلاقة بين الأزواج من الآيات. يقول في تعريف السورة: «وقيل [السورة] من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها کاجتماع البيوت بالسور، ومنه السوار لإحاطته بالساعد. وعلى هذا فالواو أصلية. ويحتمل أن تكون من السورة بمعنى المرتبة؛ لأن الآيات مرتبة في كل سورة ترتيباً مناسباً، وفي ذلك حجة لمن تتبع الآيات بالمناسبات» (البرهان، 1 : 264). وهذا التعريف للسورة يفيد وجود جامع يربط بين آيات السورة الواحدة بما يؤهلها لأن تكون وحدة متضامنة قريبة مما يطلق عليه المعاصرون مصطلح “البنية الكبرى”. هذا الرابط بين أجزاء السورة، آيات وقصصاً، هو ما يعرف بمقصد السورة أو غرضها، وهو المحدد لعلاقات المناسبة فيها.
ومن مظاهر الوعي بأهمية البنية الكبرى في الخطاب القرآني ما ذهب إليه ابن عاشور من أن تحدي القرآن للمشركين قام على مفهوم السورة، ولم يقم على مفهوم الآية. وقد أرجع ذلك إلى أن من مظاهر الإعجاز القرآني ما لا يمكن تحصيله إلا بالسور مكتملة. يقول: «وإنّما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن؛ لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض. وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة، فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام. وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه. فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لِجُمله وتراكيبه وفصاحة ألفاظه. فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يُحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها» (التحرير والتنوير، 1: 337).
يبين هذا القول، بما لا يدع مجالاً للشك، أهمية مفهوم الغرض مقوماً من مقومات تناسب السورة لدى ابن عاشور. فاستيفاء الغرض هو عماد نظم السورة وبلاغتها باعتبارها نصاً متماسكاً. ويكاد ابن عاشور يحكم بأن إعجاز السورة وبلاغتها يتوقفان على استيفاء غرضها. وليس اعتبار الغرض في تناسب السورة بالأمر الذي ابتدعه ابن عاشور؛ بل نجد لدى المتقدمين إقراراً بأن تعيين غرض السورة هو القاعدة الأساسية التي يقوم عليها كل تحليل يهدف إلى الوقوف على وجوه تناسب الخطاب القرآني. من ذلك ما ينقله السيوطي عن بعض المتأخرين قوله: «الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر إلى الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام أو اللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها. فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعلته تبين لك وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة» (الإتقان، 3 : 376).
وهذه القاعدة، يبدو أن السيوطي وقف عليها لدى البقاعي الذي افتتح بها كتابه الموسوم بـ (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) (نظم الدرر، 1: 17-18). وقد عدّ البقاعي هذه القاعدة أفضل مما في كتابه كله، بل إنه أرجع الفضل في كل ما أنجزه في علم المناسبات إليها. يدل على ذلك ما قاله مشيداً بها في مقدمة كتابه (مصاعد النظر)، في سياق الدفاع عن كتابه (نظم الدرر): «والقاعدة التي افتتحت بها كتابي عن الشيخ أبي الفضل المغربي – رحمه الله – لم يسمعها منه غيري. لو كنت ممن يتشبع بما لم يعط، لم أنسبها إليه، فإنها أحسن من كل ما في كتابي. وهي الأصل الذي أبتني ذلك كله عليه» (مصاعد النظر، 1: 137). فهذه القاعدة، وهي من الأصول التي يقوم عليها علم المناسبات، تشبه إلى حد كبير ما ذهب إليه المعاصرون من علماء تحليل الخطاب، من أن الأبنية الكلية (Global structures) هي المحددة لانسجام الخطاب في كل مستوياته بما في ذلك مستوى الأبنية الموضعية (Local structures)، وهو مستوى العلاقات بين أزواج الجُمل. ونلاحظ لدى علماء المناسبات هذا الوعي بمفهوم مقصد السورة وغرضها باعتباره «أمراً كلياً مهيمناً على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن» على حد عبارة القاضي أبي الفضل المغربي. كذلك عرف المعاصرون البنية الكبرى في الخطاب تعريفاً يجعلها مطابقة لمفهوم الموضوع والغرض الرئيس الذي يدور عليه الخطاب. وهذا المعنى هو ما ذهب إليه البقاعي في تعريفه لعلم المناسبات بأنه علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن، وأن الإجادة فيه تتوقف على «معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها» (مصاعد النظر، 1: 142).
إن تجربة البقاعي مع علم المناسبات أدّت به إلى الوقوف على أهمية المعرفة بمقاصد السور في تبين المناسبات في مستويات السورة الموضعية والكلية، مما جعل البقاعي يسعى إلى تأسيس علم جديد مبتكر هو “علم مقاصد السور”، وأن يخصه بكتابه (مصاعد النظر)، وقد جاء في مقدمته تأكيد لضرورة الإلمام بمقصد السورة قبل الخوض في تناسب أجزائها. يقول في سياق الاحتجاج لأهمية علم مقاصد السور: «فإن كل سورة لها مقصد واحد يُدار عليه أولها وآخرها، ويستدل عليه فيها، فترتب المقدمات الدالة عليه على أتقن وجه، وأبدع نهج. وإذا كان فيها شيء يحتاج إلى دليل، استدل عليه. وهكذا في دليل الدليل، وهلم جرا. فإذا وصل الأمر إلى غايته، ختم بما منه كان ابتدأ، ثم انعطف الكلام إليه، وعاد النظر عليه، على نهج آخر بديع، ومرقى غير الأوّل منيع، فتكون السورة كالشجرة النضيرة العالية، والدوحة البهيجة الأنيقة الخالية، المزينة بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدرّ، وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكل دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السورة قد واصل أولها، كما لاحم انتهاؤها ما بعدها، وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كل سورة دائرة كبرى، مشتملة على دوائر الآيات الغر، البديعة النظم العجيبة الضم، بلين تعاطف أفنانها، وحسن تواصل ثمارها وأغصانها» (مصاعد النظر، 1: 149).
هذه الطريقة البيانية في إخراج السورة على صورة الشجرة ذات الأفنان، وفي إخراج مقاطعها في صورة الدوائر المتصلة، ليست بعيدة، في تقديرنا، عن طريقة المعاصرين في تمثيل الخطاب على شكل مشجر ينطلق من بنية كبرى رئيسة تتفرع إلى أبنية كبرى فرعية توسم بالمقاطع أو المتتاليات، وتتفرع بدورها إلى أبسط وحدات الخطاب وهي الجُمل. هذا مع الحفاظ على الاتصال بين المقاطع داخل الخطاب، والاتصال بين الجمل داخل المقطع الواحد. ونستفيد من طريقة البقاعي في التمثيل بالاستعارات والألفاظ بدل التمثيل بالمشجرات والخطوط، أنّ المناسبة داخل السورة القرآنية لها مستويات :
- المستوى الأول: مناسبة مقصود السورة لعنوانها.
- المستوى الثاني: مناسبة أجزاء السورة لمقصد السورة.
- المستوى الثالث: المناسبة بين متتاليات الآيات نفسها بناء على أن ترتيب المتتاليات داخل السورة يحكمه منطق الاستدلال على مقصود السورة، وأن مقدمات الاستدلال هي التي تستدعي ما بعدها من المتتاليات حتى تصل عملية الاستدلال إلى نهايتها.
- المستوى الرابع : يتمثل في مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها، وهي مناسبة ترتبط بمقصد السورة.
- المستوى الخامس: يتمثل في مناسبة فاتحة السورة لخاتمة سابقتها، ومناسبة خاتمة السورة لفاتحة السورة التالية لها في المصحف، وهو مستوى يتجاوز السورة الواحدة إلى العلاقات بين السور في المصحف. ونحاول في ما يأتي أن نتناول هذه المستويات تباعاً.
1. مناسبة عنوان السورة لمقصودها :
هذا المستوى من مستويات المناسبة ذكره السيوطي في (الإتقان)، وخصه بفصل “في مناسبة أسماء السور لمقاصدها”، قال فيه: «ومن هذا النوع [أي علم المناسبات] مناسبة أسماء السور لمقاصدها» (الإتقان، 3 : 387). وهذا النوع من المناسبات كان أحد عنواني كتاب البقاعي الذي اشتهر بعنوان (مصاعد النظر). وقد ورد في مقدمة الكتاب أنه أطلق عليه عنواناً آخر هو (المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل سورة للمسمّى) (مصاعد النظر، 1: (98). وقد جاء لديه في بيان مقصود سورة المؤمنين وعلاقته باسمها مثلاً : «مقصودها: اختصاص المؤمنين بالفلاح. واسمها واضح الدلالة على ذلك» (مصاعد النظر، 2: 303)
ولكن هذه السهولة في بيان مناسبة اسم السورة لمقصودها في هذه الحالة ليست متيسرة في كل السور، فنلاحظ أنه لجأ إلى شرح طويل لكي يثبت مناسبة اسم سورة البقرة لمقصودها. يقول فيه: «والمقصود من هذه السورة: إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل حال. وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه: الإيمان بالآخرة، ومداره: الإيمان بالبعث، الذي أعربت عنه قصة البقرة، التي مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سُميت بها السورة. وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه السلام؛ لأنها في نوع البشر، ومما تقدم في قصة بني إسرائيل من الإحياء بعد الإماتة بالصعق، وكذا ما شاكلها، لأن الإحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر، بمباشرة من كان من آحاد الناس. فهي أدل على القدرة، ولا سيما وقد أتبعت بوصف القلوب والحجارة، بما عم المهتدين بالكتاب والضالين، فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة، ووصف الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى، المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عباد الله. وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل عليهم السلام يرشدنا في كل أمر يحز بنا وشأن ينوبنا إلى صواب المخرج منه، فمن أعرض خاب ومن تردّد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد» (مصاعد النظر 2: 9 –10)
ففي هذا التحليل تكلّف كان يغني عنه ما ذهب إليه الزركشي مثلاً من توسيع معنى المناسبة وعدم تخصيصها بمقصود السورة. فقد تعرض في أثناء الكلام على «اختصاص كل سورة بما سميت» إلى وجوه تسمية سور القرآن، فلم يحصرها في مناسبة مقصود السورة، وذكر وجوهاً كثيرة لتسمية السور يمكن أن نرجعها إلى مناسبة خاصة من خصائص السورة تميزها عن غيرها من السور.
وقد لخص ابن عاشور هذه الخصائص المعتبرة في تسمية السور في ما يلي: «واعلم أن أسماء السور إما أن تكون بأوصافها مثل الفاتحة وسورة الحمد، وإما أن تكون بالإضافة لشيء اختصت بذكره نحو سورة لقمان وسورة يوسف وسورة البقرة، وإما بالإضافة لما كان ذكره فيها أوفى نحو سورة هود وسورة إبراهيم، وإما بالإضافة لكلمات تقع في السورة نحو سورة براءة، وسورة حم عسق، وسورة حم السجدة كما سماها بعض السلف، وسورة فاطر. وقد سموا مجموع السور المفتتحة بكلمة حم آل حم، وربما سموا السورتين بوصف واحد فقد سموا سورة الكافرون وسورة الإخلاص المقشقشتين» (التحرير والتنوير، 1: 91)
وبالجملة، إن تسمية السور لا تخرج عن المتعارف عليه في الثقافة العربية من قواعد في التسمية وضحها الزركشي بالقول: «ولا شك أن العرب تراعي في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه، أو تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائي للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها. وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء. وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها … » (البرهان في علوم القرآن، 1: 270)
إن إلحاح البقاعي على المناسبة بين أسماء السور ومقاصدها، خلافاً لبقية علماء المناسبات، يدل على وعي حاد لديه بأهمية المقصد (أو ما يعرف عند المعاصرين بالبنية الكلية) باعتباره محدّداً لانسجام أجزاء السورة. ومن أطرف ما يمكن أن يذكر في هذا السياق ما عمد إليه البقاعي من تفسير للبسملة في كل سورة من السور تفسيراً مناسباً لمقصودها على الرغم من أن الآية واحدة. من ذلك مثلاً أنه فسر البسملة في سورة النساء بعد بيان مقصدها على هذا النحو: «ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادة الأرحام العاطفة التي مدارها النساء، سميت «النساء» لذلك. ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد «بسم الله» الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور، «الرَّحْمَنِ» الذي جعل الأرحام رحمة عامة، «الرَّحِيمُ» الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة» (نظم الدرر، 5: 170-171).
وجاء في تفسير البسملة من سورة المائدة بعد بيان مقصودها قوله: «مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودلّ عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمه. وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار[3] «بسم الله» أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته، «الرَّحْمَنِ» الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته، «الرَّحِيمُ» الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبله على التخلق بصفاته» (نظم الدرر، 6: 1-2).
وهذا إن كان يكشف نوعاً من المبالغة في البحث عن المناسبات، فهو يدل على تمسك البقاعي بفهم للنص يقوم على التناسب بين أجزائه، كما يدل على أن المقصد العام هو المحدد لانسجام مكونات النص في مختلف مستوياته الموضعية والكلية.
2. مناسبة فواتح السور لأغراضها :
لا يبعد الاهتمام بمناسبة فواتح السور (وهي الآيات التي تفتتح بها السور) لأغراضها من الاهتمام بمناسبة أسماء السور لتلك الأغراض. فبالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من السور سُميت بفواتحها ولاسيما تلك المفتتحة بالحروف المقطعة كسورة «يس» مثلاً، فإن الفاتحة تحتل موقعاً خاصاً داخل السورة باعتبارها مقدمة لما سيأتي بعدها تناط بها مهمة تقديم الغرض الذي تُعقد عليه السورة. وشأنها في ذلك لا يختلف عن شأن سائر أنواع الخطاب، ذلك أنّ الفاتحة هي أوّل ما يصادف المتقبل للخطاب وهي لذلك تنهض بمهمة الإفصاح عن غرض المتكلم من خطابه. لهذا السبب أولى علماء المناسبة فواتح السور اهتماماً خاصاً، وهم في ذلك عالة على علماء البلاغة في كلامهم على براعة الاستهلال.
يقول السيوطي في سياق الكلام على فواتح السور: «وقال أهل البيان من البلاغة حسن الابتداء. وهو أن يتأنّق في أول الكلام لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً أقبل السامع على الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه ولو كان الباقي في نهاية الحُسن. فينبغي أن يؤتى فيه بأعذب اللفظ وأجزله وأرقه وأسلسه وأحسنه نظماً وسبكاً، وأصحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير المُلْبس أو الذي لا يناسب. قالوا: وقد أنت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك. ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يُسمى براعة الاستهلال، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله» (الإتقان في علوم القرآن، 3: 363).
ويرى علماء المناسبات أن القرآن يستجيب للمعايير التي ضبطها علماء البلاغة لبراعة الاستهلال. ولعل أهم تلك المعايير اشتمال الاستهلال على الغرض الذي سيق له الكلام، ويشير ابن أبي الإصبع إلى أن مفهوم براعة الاستهلال متفرع على مفهوم حسن الابتداء الذي ابتدعه ابن المعتز (ت 296هـ)، وهو يشير إلى كتاب ألفه في فواتح السور بعنوان (الخواطر السوانح في كشف سرائر الفواتح )[4] (بديع القرآن، 2: 64). وقد خصص القزويني الفصل الأخير من كتابه لهذا النوع البلاغي الذي أدرجه ضمن وجوه البديع، ولم يتعرض إليه السكاكي. يقول القزويني:
«ينبغي للمتكلم أن يتأنّق في ثلاثة مواضع من كلامه حتى تكون أعذب لفظاً، وأحسن سبكاً، وأصح معنى، الأول: الابتداء لأنه أول ما يقرع السمع. فإن كان كما ذكرنا، أقبل السامع على الكلام فوعى جميعه. وإن كان بخلاف ذلك، أعرض عنه ورفضه وإن كان في غاية الحسن. (…) وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود، ويسمى براعة الاستهلال. (…) الثاني: التخلص ونعني به الانتقال مما شبّب الكلام به من تشبيب أو غيره إلى المقصود مع رعاية الملاءمة بينهما؛ لأن السامع يكون مترقباً للانتقال من التشبيب إلى المقصود كيف يكون. فإذا كان حسناً متلائم الطرفين، حرّك من نشاط السامع وأعان على إضفائه إلى ما بعده، وإن كان بخلاف ذلك، كان الأمر بالعكس. (…) الثالث: الانتهاء لأنه آخر ما يعيه السمع ويرتسم في النفس. فإن كان مختاراً كما وصفنا، جبر ما عساه وقع فيما قبله من التقصير، وإن كان غير مختار، كان بخلاف ذلك. وربّما أنسى محاسن ما قبله» (الإيضاح في علوم البلاغة، 390-394).
وقد اكتفى القزويني بالتمثيل لهذا الوجه البديعي بالشواهد الشعرية، واكتفى بالقول في نهاية هذا الفصل : «وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البلاغة وأكملها. يظهر ذلك بالتأمل فيها مع التدبر لما تقدم من الأصول» (الإيضاح في علوم البلاغة، 395). كذلك اكتفى ابن أبي الإصبع بالإحالة على كتابه المذكور حول فواتح السور.
أما تحليل فواتح السور في ضوء هذه المفاهيم البلاغية فنظفر به لدى علماء المناسبات والمفسرين وفي دراسات علوم القرآن. فقد تناول الزركشي مناسبة الحروف المقطعة التي تفتتح بها السورة لبنيتها المعنوية. وقدم تحليلاً طريفاً للسور التي تفتتح بـ (الم) جاء فيه أنّ: «هذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة التي يتفرع منها ستة عشر مخرجاً ليصير منها تسعة وعشرون حرفاً عليها مدار كلام الخلق أجمعين، مع تضمنها سراً عجيباً، وهو أن الألف للبداية واللام للتوسط والميم للنهاية، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما. وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسطه، مشتملة على خلق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية من الشرائع والأوامر [كذا]. فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم» (البرهان في علوم القرآن، 1: 168).
كذلك ذهب الزركشي في السور، التي افتتحت بحرف واحد مثل سورة (ق) وسورة (ن) وسورة (ص)، إلى استنباط ألوان من المناسبة بين أغراض السورة والخصائص الصوتية للحرف الذي افتُتحت به السورة. يقول في هذا السياق: «وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك «ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ» [ق: 1]؛ فإنّ السورة مبنية على الكلمات القافية: من ذكر القرآن، ومن ذكرالخلق، وتكرار القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد، وذكر الرقيب، وذكر السابق، والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرْن، والتنقيب في البلاد، وذكر القتل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرّزق، وذكر القوم، وخوف الوعيد، وغير ذلك. وسر آخر وهو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح. وإذا أردت زيادة إيضاح فتأمل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة؛ فأوّلها خصومة الكفّار مع النبي، وقولهم: «أجعل الْأَلِهةَ إِلَيْهَا وَاحِدًا» [ ص: 5]، إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثمّ اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات، والكفارات، ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود، ثم اختصامه ثانياً في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم. وكذلك سورة ﴿نّ وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: 1]؛ فإن فواصلها كلها على هذا الوزن، مع ما تضمنت من الألفاظ النونية» (البرهان في علوم القرآن 169 – 170).
قد يوهم التحليل السابق أن الأمر يتعلق بمظهر صوتي للمناسبة يتمثل في تردد الأصوات التي بنيت عليها الفواتح داخل السورة بنسبة لافتة، غير أن الاستئناس بمناهج الأسلوبية الإحصائية يبين عدم دقة هذا القول[5]. وهو ما يفنده تحليل الزركشي السابق نفسه؛ إذ يبدو من التركيز على الكلمات المشتملة على صوت القاف في السورة المفتتحة به، والتركيز على معنى الخصام في السورة المفتتحة بحرف الصاد مثلاً، أن الأمر لا يتعلق بتردد كمي للحروف المقطعة داخل السور، ولكن يتعلّق بتردّد نوعي لهذه الأصوات يجعلها ذات وظيفة معنوية ترتبط بغرض السورة. فالتحليل السابق يسعى إلى إبراز نوع من المناسبة المعنوية بين الخصائص الصوتية للفواتح والأغراض التي بنيت عليها السور. وبقطع النظر عن الإشكاليات التي يمكن أن يثيرها التحليل السابق بين دعاة الاعتباطية ودعاة الرمزية الصوتية، وهي الإشكاليات المطروحة اليوم على مناهج التحليل الأسلوبي نفسها، فإن الأجدى، بالنسبة إلى موضوع بحثنا، أن نتوقف في تحليل الزركشي السابق على مبادئ التفكير النصي لديه، وتتمثل في توقفه عند ظاهرة التكرار باعتباره خاصية من خصائص الخطاب القرآني. فتكرار الصوت الواحد في السورة تكراراً وظيفياً من ناحية العلاقة بغرضها هو علامة من علامات نصية السورة وتناسبها؛ بل إن علم المناسبات، في جانب كبير منه، يقوم على رصد مظاهر التكرار والمشابهة والمقابلة والتلازم في المستويين اللفظي والمعنوي.
3. مناسبة الفواتح للخواتم :
هذا النوع من المناسبة خصه الزركشي بفصل من كتابه وسمه بـ (مناسبة فواتح السور وخواتمها) والمقصود به هو المناسبة المعنوية بين آيات الافتتاح وآيات الختام في السورة. ومن نماذجه مناسبة فاتحة سورة القصص لخاتمتها. يقول الزركشي في تحليل هذه المناسبة: «وتأمل سورة القصص وبداءتها بقصة مبدأ أمر موسى ونصرته وقوله: ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) [سورة القصص :17] وخروجه من وطنه ونصرته وإسعافه بالمكالمة، وختمها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يكون ظهيراً للكافرين، وتسليته بخروجه من مكة، والوعد بعوده إليها بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُكَ إِلَى مَعَادِ) [سورة القصص : 185]» (البرهان في علوم القرآن، 1: 185-186). هذا المثال الذي ضربه الزركشي لمناسبة الفواتح للخواتم يبين أن مفهوم الفاتحة أوسع من الآية التي تفتتح بها السورة، ويشمل كامل القصة أو المتتالية من الآيات التي تفتتح بها السورة. فالعلاقة هنا هي علاقة تشابه بين الأحداث في قصة موسى مع فرعون من ناحية، والأحداث التي خاضها الرسول ﷺ في صراعه مع مشركي قريش.
وقد خص السيوطي هذا النوع من المناسبة برسالة وسمها بـ (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع تناول فيها سور القرآن سورة سورة، مبيناً في كل منها مناسبة مطلعها لمقطعها. وقد جاء عمل السيوطي هذا سطحياً متسرعاً، اكتفى فيه، في أغلب السور، بالإشارة إلى كلمات أو معانٍ تتكرر في بدايات السور وفي نهاياتها دون تحليل لوجه المناسبة. من ذلك مثلاً قوله في مناسبة أول سورة الروم لآخرها: «في أولها: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الروم: 12]، وفي آخرها: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الروم: 55]» (مراصد المطالع، 59).
وجاء لديه في مناسبة فاتحة سورة لقمان لخاتمتها قوله: «في صدرها: (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء) [لقمان: 10]، وفي آخرها: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحام) [لقمان: 34]»، (مراصد المطالع، 59).
ونكتفي من هذه الرسالة بهذه الشواهد التي توضح طريقة السيوطي فيها، وهي طريقة مختزلة يتعلّق صاحبها بأدنى مشابهة بين فاتحة السورة وخاتمتها. وربما لجأ إلى توسيع نطاق الفاتحة والخاتمة إذا لم يتمكن من العثورعلى هذه المشابهة، فنجد أنه لم يعثر في سورة الروم على المناسبة إلا بين الآية الثانية عشرة والآية الخامسة والخمسين منها، في حين تُعد السورة تسعاً وستين آية، وهو ما يكشف مقدار التكلف الذي وسم عمل السيوطي في هذا الكتاب.
أما البحث الجدي في مناسبات الفواتح للخواتم فنعثر عليه في كتب علماء المناسبات من المفسرين، من أمثال: الزمخشري والرازي وأبي حيان الأندلسي وابن عاشور. فقد أولى أبو حيان الأندلسي هذا النوع من المناسبات اهتماماً خاصاً في تفسيره، وقد أشار إلى ذلك في تفسير خواتم سورة البقرة. يقول: «ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وُصِفوا به من الإيمان بالغيب، وبما أُنزل إلى الرسول وإلى من قبله، كان مختتمها أيضاً موافقاً لمفتتحها. وقد تتبعت أوائل السور المطوّلة فوجدتها يناسبها أواخرها، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة، وذلك من أبدع الفصاحة، حيث يتلاقي آخر الكلام المفرط في الطول بأوّله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، يكون أحدهم آخذاً في شيء، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر، ثم إلى آخر، هكذا طويلاً، ثم يعود إلى ما كان آخذاً فيه أولاً. ومن أمعن النظر في ذلك سهُل عليه مناسبة ما يظهر ببادئ النظم أنه لا مناسبة له، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد ﷺ» (البحر المحيط، 2: 378).
ولئن عد أبو حيان الأندلسي هذا النوع من المناسبات من مظاهر الفصاحة العربية، فإن ابن عاشور أدرجها ضمن وجوه البديع، وعدها نوعاً من ردّ الإعجاز على الصدور، وهو ما يكشف قدرة ابن عاشور على تطوير الرؤية البلاغية التقليدية بما يمكنها من تجاوز الإطار الضيق الذي أجريت فيه بعض المفاهيم البلاغية التي لم يتجاوز إجراؤها عند علماء البلاغة حدود الجملة الواحدة، وحدود البيت الشعري الواحد. وقد تمكن ابن عاشور في مواضع متعددة من تفسيره من تجاوز هذا المستوى ليُجري هذا الوجه البديعي وغيره[6] فى مستوى أوسع هو مستوى السورة الكاملة، من ذلك مثلاً ما جاء في تفسيرالآية الآتية من خاتمة سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج : 73].
يقول ابن عاشور في تفسير الآية: «وفي افتتاح السورة بـ(يَا أيُّهَا النَّاسُ) وتنهيتها بمثل ذلك شبه برد العجز على الصدر. ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصة للخطبة والحوصلة للدرس» (التحرير والتنوير، 17: 338)، وفي هذا التحليل لوجه المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، ينطلق ابن عاشور في تحليل الأبنية الكلية لسور القرآن من قياس تلك الأبنية على نماذج الخطاب الإنساني من خطب ودروس.
ولم يقتصر البحث في مناسبات الفواتح والخواتم على السورة الواحدة؛ بل تجاوز السورة إلى السور المتجاورة، فكان البحث في مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها. وهو يندرج ضمن مبحث المناسبات بين السور.
ج. المناسبات بين السور:
نلاحظ حرصاً لدى المفسرين من علماء المناسبات، عند الانتقال من سورة إلى أخرى، على بيان وجه العلاقة بين السورتين المتتاليتين؛ أي وجه المناسبة بين السور بالنسبة إلى الذين يرون أن ترتيب السور في المصحف توقيفي، مثل: ابن الزبير والبقاعي والسيوطي والزركشي. وعلم المناسبات بين السور عند هؤلاء «مبني على أن ترتيب السور توقيفي». (البرهان في علوم القرآن، 1: 38). وقد خص ابن الزبير مبحث المناسبات بين السور بكتابه (البرهان في تناسب/ ترتيب سور القرآن)، وخصه السيوطي بكتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) الذي يذكر في مقدمته أنه ملخص من كتابه (أسرار التنزيل)[7]. وبنى المؤلفان مقدمتي كتابيهما على الاحتجاج لنظرية التوقيف في ترتيب السور داخل المصحف.
ويذهب ابن الزبير إلى أن مبدأ المناسبة مبدأ معتبر في ترتيب السور في المصحف سواء انطلقنا من نظرية التوقيف، أم من نظرية الاجتهاد. يقول في باب التعريف بترتيب السور، وهل ذلك بتوقيف من الشارع أم هو من فعل الصحابة؟: «اعلم أن الأمر في ذلك كيفما قدر فلا بد من رعي التناسب، والتفات التواصل والتجاذب، فإن كان بتوقيف منه ﷺ، فلا مجال للخصم بعد ذلك التحديد الجليل والرسم، وإن كان مما فوّض فيه الأمر إلى الأمة بعده فقد أعمل الكل من الصحابة في ذلك جهده، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه وفهمه، والعارفون بأسباب نزول الآيات، ومواقع الكلمات. وإنّما ألَفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله ﷺ وهذا قول مالك رضي الله عنه في حكاية بعضهم عنه، ومالك أحد القائلين بأن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين كما تقدم عنه، فكيفما دار الأمر، فمنه ﷺ عرف ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر» (البرهان في ترتيب سور القرآن 1: 183).
فحتى لو انطلقنا من القول باجتهاد الصحابة في ترتيب السور فإن هذا الاجتهاد لا يخلو من مراعاة مبدأ المناسبة، يقول الزركشي: «ومن ظن ممن اعتمد القول بأن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة أنهم لم يراعوا في ذلك التناسب والاشتباه فقد سقطت مخاطبته، وإلا فما المراعي وترتيب النزول غير ملحوظ في ذلك بالقطع، بل هذا معلوم في ترتيب آي القرآن، الواقع ترتيبها بأمره عليه السلام وتوقيفه بغير خلاف، ألا ترى أن سورة البقرة من المدني، وقد تقدمت سور القرآن بتوقيفه عليه السلام في الصحيح المقطوع به، وتقدم المدني على المكي في ترتيب السور والآي كثير جداً. فإذا سقط تعلق الضمان بترتيب النزول لم يبق إلا رعي التناسب والاشتباه، وارتباط النظائر والأشباه» (البرهان في علوم القرآن، 1: 184).
فإذا أخذنا في الاعتبار تعذر الترتيب التاريخي للقرآن؛ لأن الرسول لم يلتزم به في ترتيب الآي داخل السورة الواحدة، ولا في ترتيب السور التي ثبت أنه قرأها بترتيب مفارق للترتيب الزمني، فإن مبدأ المناسبة يكون هو المعتبر في اجتهاد الصحابة في ترتيب المصحف، سواء كان المعوّل عليه في هذا الاجتهاد توقيف الرسول أم إعمال العقل. وعلى هذا الأساس يكتسب البحث في تناسب السور مشروعيته باعتباره نوعاً من البحث عن الحكمة من ترتيب السور، سواء كان ذلك من فعل الرسول أم من فعل الصحابة. وتبين الحجج المعتمدة في المذهب المالكي أن ترتيب المصحف كان يعتمد أساساً على اجتهاد المجموعة التي كُلفت بجمع المصحف، وكان على رأسها زيد بن ثابت. ومن الأخبار التي تؤكد هذا الاجتهاد خبر قِران سورة التوبة بالأنفال، فقد ورد في كتاب (المصاحف) لابن أبي داود عن ابن عباس أنه قال: «قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما: بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله ﷺ مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: “ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا”، وإذا أنزل عليه الآية يقول: “ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا”، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقُبض رسول الله ﷺ، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ووضعتهما في السبع الطوال» (كتاب المصاحف، 225 – 226)
هذا الخبر على درجة من الأهمية؛ لأنه يكشف جانباً من الطريقة التي اعتمدت في جمع القرآن في المصحف العثماني، ويبين أن ترتيب الآيات داخل السور كان بتوجيه من الرسول ﷺ، وأن ترتيب السور داخل المصحف كان باجتهاد من الصحابة، وأن البسملة ليست آية قرآنية؛ بل هي علامة وضعت في المصحف للفصل بين السور، وهو المعتمد في المذهب المالكي. ولعل أطرف ما في هذا الخبر هو اعتماد الصحابة على مبدأ المناسبة في ترتيب سورتي التوبة والأنفال بناء على تشابه غرضي السورتين، ولا يستبعد أن يكون هذا المبدأ قد اعتُمد في ترتيب بقية السور طالما أنه كان حاضراً في أذهان من قاموا على جمع المصحف.
إن النتيجة التي نخلص إليها مما سبق أن الصحابة الذين قاموا على جمع القرآن لا يبعد أنهم تحرّوا في ترتيب السور طريقة الرسول ﷺ في قراءة مجموعات من السور على نسق معين مثل السبع الطوال وسور المفصل. أما السور التي لم يثبت لديهم شيء في ترتيبها عن الرسول فلا شك في أنهم اجتهدوا في ترتيبها وفقاً لمبدأ المناسبة كما هو الشأن في سورتي براءة والتوبة. وبذلك يكون علم المناسبات بين السور قائماً على التسليم بالتناسب في ما ثبت فيه الترتيب عن الرسول، كما سلّموا بذلك في ترتيب الآيات داخل السورة، أو في ما لم يثبت فيه توقيف من النبي، وفي هذه الحالة نجدهم يسلمون بأن مبدأ المناسبة هو الأساس الذي قام عليه اجتهاد الصحابة في ترتيب سور القرآن. وهذا ما سعى كل من ابن الزبير والسيوطي إلى البرهنة عليه في مقدمتي كتابيهما عن تناسب السور، وهو ما دافع عنه ابن عاشور أيضاً في المقدمة الثامنة لتفسيره.
وقد اتخذ مبحث المناسبات بين السور منحيين: منحى موضعياً يهتم بمناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها، ومنحى كلياً يهتم بتناسب غرضي السورتين المتتابعتين. ونقدم في ما يلي المستوى الموضعي للعلاقات بين السور، ونردفه بالمستوى الكلي للعلاقات بين أغراض السور المتعاقبة.
1. مناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها :
خص الزركشي هذا النوع من المناسبات بفصل جاء فيه أن من أسرار القرآن: «مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها، حتى إن منها ما يظهر تعلقها به لفظاً كما قيل في: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفِ مَأْكُول﴾ [الفيل : 5] (لإيلاف قريش) [قريش : 1]. وفي الكواشي[8]: لما ختم سورة النساء آمراً بالتوحيد والعدل بين العباد، أكد ذلك بقوله في أول سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]» (البرهان في علوم القرآن، 1: 186). وهو يشير بذلك إلى متانة العلاقة بين خاتمة سورة الفيل وفاتحة سورة قريش. وقد رأى بعض العلماء أن هذه العلاقة شبيهة بالتضمين في الشعر.
يقول ابن عاشور: «وجوَز الفراء وابن إسحاق في (السيرة) أن يكون (لإيلف قريش) [قريش: 1] متعلقاً بما في سورة الفيل من قوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفِ مَأْكُول﴾ [الفيل : 5]. قال القرطبي: وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس، قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلّق معنى البيت بالذي قبله تعلّقاً لا يصح إلا به. يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل. فكما تلحق الآية بآية نزلت قبلها، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها» (التحرير والتنوير، 30: 555).
يُفهم من هذه الأقوال أن العلاقة بين السورتين تتجاوز المستوى المعنوي إلى المستوى التركيبي حتى أن بعض الصحابة عدّهما سورة واحدة، وهو ما أشار إليه السيوطي في تناسق الدرر بالقول: «هي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك؛ ولهذا كانتا في مصحف أُبَي سورة واحدة (أسرار ترتيب القرآن، 167).
وقد أثارت قضية تعداد السور جدلاً كبيراً بين العلماء لا مجال إلى الخوض فيه هنا. وما يهمنا فى هذا السياق هو الخبر المتعلق باعتبار سورتى الفيل وقريش سورة واحدة في حدّ ذاته لدلالته على أن تصوّر المصحف نفسه قائم على مبادئ نصية، جعلت الصحابة أنفسهم يتعاملون مع المصحف على أنه نص واحد ترتبط أجزاؤه بعلاقات تتراوح بين العلاقات العاملية كما في سورتي الفيل وقريش، وعلاقات المناسبة كما في بقية سور المصحف. وهذه العلاقات هي علاقات موضعية قبل أن تكون كلية بين أغراض السور المتتابعة.
أما بقية أنواع العلاقات بين السور فهي علاقات معنوية تتبعها المفسرون المشتغلون بالمناسبات بين السور. ومن ذلك ما أورده السيوطي غير معزو إلى قائله: «إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى كافتتاح سورة الأنعام بالحمد[9]، فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء[10] (…) وكافتتاح [فاطر: 1] : بـ (الْحَمْدُ الله)[11] فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ) [سبأ: 54][12] (…) وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح[13]، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به[14]، وكافتتاح سورة البقرة بقوله: (الم ذلِكَ الْكِتَبُ﴾ [البقرة: 1-2][15] فإنه إشارة إلى الصراط في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، وهذا معنى حَسَن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة» (الإتقان 3803-381). فهذه كلها من نوع العلاقات المعنوية بين السور. وهي علاقات موضعية تقتصر على آيتي الختام والافتتاح.
وللمناسبات بين السور وجهٌ آخر يتأسس على العلاقات المعنوية بين أغراض السور في كليتها، وهو ما يمكن وسمه بالمناسبات الكلية بين السور.
2. المناسبة الكلية بين السورتين المتعاقبتين:
هذا النوع من المناسبة بين السور يتجاوز، كما أشرنا، المستوى الموضعي للعلاقات بين الجمل إلى المستوى الكلي للعلاقات بين السور باعتبارها أبنية كبرى. وهذا النوع من المناسبات يشغل كامل كتابي ابن الزبير والسيوطي الموسومين بـ (البرهان في تناسب ترتيب سور القرآن) و(أسرار ترتيب القرآن). وقد حاول السيوطي في كتابه أن يصوغ قاعدة كلية للمناسبات بين السور مفادها أن كل سورة هي تفصيل لما ورد مجملاً في سابقتها، يقول في سياق الكلام على المناسبة بين سورتي الفاتحة والبقرة: «قد ظهر لي بحمد الله وجوهاً (كذا) من هذه المناسبات؛ أحدها: أن القاعدة التي استقرأتها[16] القرآن: أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها، وشرح له، وإطناب لإيجازه، وقد استمر معي ذلك في غالب سور القرآن، طويلها و قصيرها» (أسرار ترتيب القرآن، 56). وقد جاء في تطبيق هذه القاعدة على سورتي الفاتحة والبقرة قوله: «وسورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة. فقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: 2] تفصيله ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات، ومن الدعاء في قول: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان﴾ [البقرة: 186]، وفي قوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286]، وبالشكر في قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة : 152]. وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2] تفصيل قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21-22]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة : 29]؛ ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم الذي هو مبدأ البشر، وهو أشرف الأنواع من العالمين، وذلك شرح إجمال (رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]. وقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 3] قد أوما إليه بقوله في قصة آدم : ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 54]، وفي قصة إبراهيم لما سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ﴾ [البقرة : 126]، فقال: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأمتعه قليلا) [البقرة: 126]؛ وذلك لكونه رحماناً. وما وقع في قصة بني إسرائيل: (ثم عَفُونَا عَنكُم﴾ [البقرة : 52] إلى أن أعاد لآية بجملتها في قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163]، وذكر آية الدَّيْنِ إرشاداً للطالبين من العباد، ورحمة بهم، ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر، وما لا طاقة لهم به، وختم بقوله: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا ارحمنا) [البقرة : 286]، وذلك شرح قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:1]
وقوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] تفصيله ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدة مواضع؛ ومنها قوله: ﴿وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ حَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾ [البقرة: 284] والدِين [في الفاتحة]: الحساب [في البقرة].
وقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة: 5] مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعية، وقد فصلت في البقرة أبلغ تفصيل، فذكر فيها: الطهارة، والحيض، والصلاة، والاستقبال، وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمع، والعيد، والزكاة بأنواعها؛ كالنبات، والمعادن، والاعتكاف، والصوم، وأنواع الصدقات والبر، والحج والعمرة، والبيع، والإجارة، والميراث والوصية، والوديعة، والنكاح، والصداق، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والعدة، والرّضاع، والنفقات، والقصاص، والديات، وقتال البُغاة، والردّة، والأشربة، والجهاد، والأطعمة، والذبائح، والأَيْمَان، والنذور، والقضاء، والشهادات، والعتق. فهذه أبواب الشريعة كلها مذكورة في هذه السورة.
وقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] شامل لعلم الأخلاق. وقد ذكر منها في هذه السورة الجم الغفير؛ من التوبة، والصبر، والشكر، والرضا، والتفويض، والذكر، والمراقبة، والخوف، وإِلانة القول.
وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6] إلى آخر تفصيله ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء، ومن حاد عنهم من النصارى؛ ولهذا ذكر في الكعبة أنها قبلة إبراهيم، فهي من صراط الذين أنعم عليهم، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معاً؛ ولذلك قال في قصتها: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَط مستقيم) [البقرة: 142] تنبيهًا على أنها الصراط الذي سألوا الهداية إليه. ثم ذكر: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: 145]، وهم المغضوب عليهم والضالون الذين حادوا عن طريقهم. ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم. ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم) [البقرة : 213]. فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة.
وأيضاً قوله أول السورة: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] إلى آخره في وصف الكتاب إخبار بأن الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو ما تضمنه الكتاب؛ وإنما يكون هداية لمن اتصف بما ذكر [من صفات المتقين]. ثم ذكر أحوال الكفرة، ثم أحوال المنافقين، وهم من اليهود، وذلك [أيضاً] تفصيل لمن حاد عن الصراط المستقيم، ولم يهتد بالكتاب. وكذلك قوله هنا: (وقولوا ءَامَنَا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) [البقرة: 136]، فيه تفصيل النبيين المنعم عليهم. وقال في آخرها: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ [البقرة : 136] تعريفاً بالمغضوب عليهم والضالين الذين فرقوا بين الأنبياء؛ ولذلك عقبها بقوله: ﴿فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ، فَقَدِ اهتدوا) [البقرة: 137]؛ أي: إلى الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم كما اهتديتم. فهذا ما ظهر لي والله أعلم بأسرار كتابه» (أسرار ترتيب القرآن، 56 – 60).
لقد أوردنا هذا النص على طوله لأهميته في إبراز المنهج الذي اعتمده السيوطي في كتابه، وهو منهج يقوم على تحليل المناسبات بين السور على أساس علاقة الإجمال والتفصيل، فكل جزء من سورة الفاتحة هو مجمل يقابله تفصيله في سورة البقرة، وهذا الاختزال للعلاقات بين السور في الإجمال والتفصيل جعل تحاليل السيوطي متكلّفة أحياناً. ولعلّ منهج ابن الزبير، الذي لم يلزم نفسه بنوع واحد من أنواع العلاقات، أكثر استيعاباً لوجوه العلاقات بين السور، وإن كان نوع العلاقات البيانية هو الغالب عليها.
3. المناسبة بين مجموعات من السور:
ما يستدعي الانتباه في العلاقات بين السور محاولة علماء المناسبات تصنيف سور المصحف إلى مجموعات بحسب خاصية مشتركة بين سور كل مجموعة. من ذلك افتتاح مجموعة من السور بالفاتحة نفسها متمثلة في الحروف المقطعة نفسها، أو في صيغة واحدة من صيغ الحمد. وينقل السيوطي عن الكرماني[17] قوله: «إنما سميت السور السبع “حم” على الاشتراك في الاسم لما بينهن من التشاكل الذي اختصت به، وهو أن كل واحدة منها استفتحت بالكتاب أو صفة الكتاب مع تقارب المقادير في الطول والقصر وتشاكل الكلام في النظام» (الإتقان 3: 387). فالاشتراك في الفواتح عند الكرماني يعكس نوعاً من المشاكلة بين السور.
وتتابع السور المفتتحة بفواتح متشابهة في المصحف يعكس مراعاة مبدأ المناسبة في ترتيب السور. وأوّل مظاهر هذه المناسبة المناسبة في مقادير السور طولاً وقصراً. وبناء على هذا المظهر الكمي للمناسبة قسموا السور إلى أربع مجموعات بحسب عدد الآيات هي: الطوال والمئون والمثاني والمفصل، ويعرفها السيوطي بالقول: «السبع الطوال: أولها البقرة وآخرها براءة. (…)، والمئون: ما وليها، سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مئة آية أو تقاربها. والمثاني: ما ولي المئين لأنها ثنتها أي كانت بعدها، فهي لها ثوان والمئون لها أوائل. (…) والمفصل: ما ولي المثاني من قصار السور، سمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة (…) وآخره سورة الناس بلا نزاع» (الإتقان، 1: 220-221).
وإذا تجاوزنا هذا الوجه من وجوه المناسبة التي يصح وصفها بالكمية، وجدنا أنفسنا أمام وجه آخر أكثر أهمية يتصل بالمناسبة المعنوية بين السور، وهو وجه يبدو به المصحف كأنه سورة واحدة على حد تعبير أبي على الفارسي[18].
4. القرآن كله كالسورة الواحدة عند علماء المناسبات:
لقد تواتر لدى علماء المناسبات، ولدى ابن عاشور خاصة، تشبيه القرآن بالخطبة التي تفتتح بمقدمة، ويتوسطها الغرض الرئيس، وتنتهي بخاتمة؛ فقد جاء لديه في تفسير سورة الفاتحة أنها «مُنزَّلَة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي، وهو أعون للفهم وأدعى للوعي. وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال؛ لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم، وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنّق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله» (التحرير والتنوير، 1 : 153). فسورة الفاتحة لا تتوفر على هذه الشروط التي ينبغي أن تشتمل عليها مقدمة الخطبة النموذجية فحسب، بل إن ابن عاشور يجعل من سورة الفاتحة النموذج نفسه الذي ينبغي أن تحتذيه المقدمات في كل أنماط الخطاب البليغ. وأهم الشروط التي ينبغي أن تتوفر عليها المقدمة النموذجية في الخطاب ما أشار إليه ابن عاشور من اشتمالها على الغرض المقصود، وهو ما يعرف عند علماء البلاغة ببراعة الاستهلال.
وقد أجمع المفسرون من علماء المناسبات وغيرهم على أن سورة الفاتحة مشتملة على مجمل مقاصد القرآن الكريم، من ذلك ما جاء لدى ابن عاشور نفسه في تعليل وجوه تسمية هذه السورة بأم القرآن. وهو قوله: «ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه (…) وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوهاً ثلاثة: أحدها: أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أوّل أجزاء القرآن قد ظهر فيها، فجُعلت كالأم للولد في أنّها الأصل والمنشأ، فيكون أم القرآن تشبيهاً بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود.
الثاني : أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله ثناء جامعاً لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالألوهية وإثبات البعث والجزاء، وذلك من قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: 2] إلى قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة : 4]، والأوامر والنواهي من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة: 5]، والوعد والوعيد من قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ﴾ [الفاتحة: 7] إلى آخرها، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها؛ لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية، وهي صلاح الدارين، وذلك يحصل بالأوامر والنواهي. ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر، وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق، لزم تحقيق معنى الصفات. ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع، فإن قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: 12 إلى قوله: (يوم الدين) [الفاتحة: 4] حمد وثناء، وقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعبد) [الفاتحة: 5] إلى قوله: (الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6] من نوع الأوامر والنواهي، وقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ) [الفاتحة : 7] إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد، مع أن ذكر المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضَّالِّينَ يشير أيضًا إلى نوع قصص القرآن، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في: (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : 1] أنها تعدل ثلث القرآن؛ لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى.
الثالث: أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية. فإنّ معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها، وإما أحكام يقصد منها العمل بها، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص، والأحكام إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام في (الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: 2] يشتمل على سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة (الْحَمْدُ لِلَّه) من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص. (ورَبِّ الْعَالَمِينَ) يشتمل على سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها. و(الرَّحْمَنِ الرَّحِيم)ِ يشتمل على أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين. و(ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يشتمل على أحوال القيامة، و(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يجمع معنى الديانة والشريعة، و (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يجمع معنى الإخلاص الله في الأعمال. (…) و(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يشتمل على الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب، و(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة، وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين)َ يشتمل على سائر قصص الأمم الضالة، ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة – تصريحاً وتضمّناً – علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصًا على التذكّر لما في مطاويها» (التحرير والتنوير، 1: 133-134).
وهذا المعنى المتمثل في اشتمال سورة الفاتحة على مجمل أغراض القرآن الكريم هو الذي بنى عليه كل من السيوطي (أسرار ترتيب القرآن 49 – 52) وابن الزبير (البرهان في ترتيب سور القرآن،187-189) كلامهما على مناسبة سورة الفاتحة لما يليها من سور القرآن.
ومثلما نزلوا سورة الفاتحة منزلة المقدمة للقرآن كله، فإنهم نزلوا قصار السور في نهاية المصحف منزلة الخاتمة للقرآن كله. من ذلك مثلاً ما ذكره ابن الزبير في سياق بيان مناسبة سورة الكوثر لما قبلها من أن هذه السورة هي خاتمة الكلام على النعم في القرآن، يقول: «لما نهى عباده عما يلتذ به مَن أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكِبر والتغرّر بالمال والجاه وطلب الدنيا، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون وهو الكوثر، وهو الخير الكثير (…) ومن الكوثر والخير الذى أعطاه الله كتابه المبين الجامع لعلم الأولين والآخرين، والشفاء لما في الصدور (…) فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كل ما ذكره تعالى في كتابه من نعيم أهل الدنيا، تمكن من تمكن منهم، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا، ولا ذكر أحد المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه. والله أعلم» (البرهان في ترتيب سور القرآن 379-380). فسورة الكوثر، على ما ذهب إليه ابن الزبير، هي خاتمة غرض عام من أغراض القرآن جاء مفصلاً في بقية سوره. وهو غرض الامتنان على المؤمنين بنعمة الإيمان، ومبدأ ذلك ما ورد مجملاً في سورة الفاتحة في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6-7]. وقد وقع تفصيل هذا الغرض في سور كثيرة، ثم جيء بسورة الكوثر خاتمة لهذا الغرض بحسب ابن الزبير. وبهذا يصح ما ذهبنا إليه من أنهم يعتبرون القرآن كالسورة الواحدة. ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما ذهب إليه ابن الزبير في سياق بيان مناسبة سورة (الكافرون) لما قبلها من أنها خاتمة الكلام على أحد الفريقين اللذين ورد ذكرهما مجملاً في الآية السابقة من سورة الفاتحة، وهما طريق المنعم عليهم وطريق المغضوب عليهم من الكافرين. وقد ورد الكلام على الفريقين والطريقين مفصلاً في القرآن الكريم. وسورة (الكافرون) هي خاتمة الكلام على الفريق الثاني وهم المغضوب عليهم.
يقول ابن الزبير: «لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم. وأعني بالفريقين مَن أشير إليه في قوله سبحانه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 6-7]. فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:6- 7] إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق؛ إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك. (…) فكيف ما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب، وفصلت ذكره تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق. فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] إلى قوله: (إن شَانِئَكَ هُوَ الْأبتر) [الكوثر: 3] أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى: (قُل يأيها الكفرون) [الكافرون: 1] فبين سبحانه أن من قضى عليه بالكفر والموافاة عليه لا سبيل إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبداً (…) فقال لهم: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : 2-3 ] إلى آخرها. فبان أمر الفريقين، وارتفع الإشكال، واستمر كل على طريقه (…) فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما فُصل في الكتاب، يلح لك وجه تأخيرها. والله أعلم» (البرهان في ترتيب سور القرآن، 380-382). وبذلك تكون سورة (الكافرون) خاتمة هذا الغرض في القرآن.
ولعل أهم من جعل سورة الكوثر نهاية لغرض من أغراض القرآن (هو غرض الامتنان بالنعم) ما ذهب إليه ابن الزبير من أن سورة المسد نهاية للكتاب كله يقول: «هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة، فهي مع ما تقدّمها واتصل بها في قوة أن لو قيل قد انقضى عمرك يا محمد وانتهى مما قلدته من عظيم أمانة الرّسالة أمرك، وتأدية ما تحملته، وحان أجلك. وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجاً، واستجابتهم بعد تلكُئهم. والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك، وإن كان أقرب الناس إليك، فقد فصلت سورة (قُلْ يَاَيُّهَا الْكَافِرُونَ) بين أوليائك وأعدائك، وبان بها حكم من اتبعك ومن عاداك ولهذا سماها ﷺ المبرئة من النفاق، ليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان، وأن القرابات غير نافعة، ولا تجديه شيئاً إلا مع الإيمان. (…) وها هنا انتهى أمر الكتاب بجملته» (البرهان في ترتيب سور القرآن، 383-384).
وهو يقول في سياق الكلام عن مناسبة سورة الإخلاص: «ولما كمل مقصود الكتاب واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبّر واعتبر وأناب كان مظنة الاستعاذة واللجأ من شرّ الحاسد وكيد الأعداء، فختم بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ، وشر الثقلين» (البرهان في ترتيب سور القرآن، 385).
فالكلام هنا عن خاتمة مقصود الكتاب كله، وهو كتاب في دعوة الناس إلى التوحيد، وهذه الدعوة هي جماع أغراض القرآن الكريم. فالفاتحة تضمنت إجمال هذا الغرض المتمثل في الدعوة إلى الإيمان بمالك يوم الدين، وقد تضمنت سورة النّاس الاستعاذة بملك الناس من شر الوسواس الذي قد يحول دون الالتحاق بفريق المنعم عليهم من المهتدين. وقد ورد لدى ابن البقاعي أن هذه السور الثلاث التي ختم بها القرآن مناظرة للسور الثلاث التي افتتح بها يقول: «فكانت هذه السور الثلاث الأخيرة مشاكلة للثلاث الأولى في المقاصد وكثرة الفضائل: الإخلاص لسورة التوحيد- آل عمران، وهو واضح. والفلق للبقرة، طباقاً ووفاقاً، فإنّ الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر، والفلق للعوذ من شر الخلق، المحصل لكل خير، وفي البقرة (أعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ﴾ [البقرة: 67]، ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السحر) [البقرة: 102]، ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم﴾ [البقرة: 109]. والناس للفاتحة، فإنه إذا فرغ الصبر الذي هو مسكن القلب، الذي هو مركب الروح، الذي هو معدن العقل، كانت المراقبة، فصار ذلك بمنزلة تقديس النفس بالتوحيد والإخلاص، ثم استعاذة من كل شر ظاهر، وكل سوء باطن، للتأهل لتلاوة سورة المراقبة وما بعدها من الكتاب على غاية من السداد والصواب، فاتصل الآخر بالأوّل أي اتصال بلا ارتياب، واتحد به كل الاتحاد، إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب. فإنه اكتفى -أولاً- بالاستعاذة المعروفة، كما يُكتفى في أوائل الأمور بأيسر مأمور، فلما ختم الخاتمة، جوزي بتعوذ من القرآن، ترقية له إلى مقام الإحسان» (مصاعد النظر،3: 317).
وبذلك تقوم العلاقة بين السور الثلاث الأولى والسور الثلاث الأخيرة في المصحف على التناظر بين الفواتح والخواتم سورة لسورة، الفاتحة تناظرها سورة الناس على أساس أن الفاتحة جامعة لكل أغراض القرآن المتمثلة في الهداية إلى سبيل الإيمان، وأن سورة الناس خاتمة لتلكم الأغراض بالتعوذ من شياطين الإنس والجن المانعة من تحقيق ذلك الغرض، وأن سورة الفلق مناظرة لسورة البقرة في طلب الخير والتعوذ من شر الخلق، وأن سورة الإخلاص مناظرة لسورة آل عمران في غرض التوحيد، ولا يصح القول بعلاقة المناظرة هذه إلا ممن يعد القرآن كله بمنزلة السورة الواحدة.
ثالثاً- علم توجيه المتشابه اللفظي:
تناولنا في العنصر السابق علوم المناسبة بمستوياتها المختلفة، لكن دور مفهوم المناسبة لا يقتصر على هذه العلوم التي اتخذت من مبحث المناسبة موضوعاً لها، بل يتجاوزها إلى علوم أخرى اتخذت من مفهوم المناسبة أداة إجرائية لتناول موضوعات أخرى. ونذكر هنا علم توجيه المتشابه اللفظي[19]، وقد عرفه السيوطي بالقول: «والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، بل تأتي في موضع واحد مقدّماً وفي آخر مؤخراً، كقوله في البقرة: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطةٌ﴾ [البقرة : 58] وفي الأعراف: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) [الأعراف: 161]، وفي البقرة: ﴿وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 173] وسائر القرآن (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [النحل: 115][20]. أو في موضع بزيادة وفي آخر من دونها نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنذَرْتَهُمْ) في البقرة [الآية: 6] وفي يس [الآية: 10] ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ)، وفي البقرة [الآية: 193] ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وفي الأنفال [الآية: 39] ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، أو في موضع معرفاً وفي آخر منكراً، أو مفرداً وفي آخر جمعاً، أو بحرف وفي آخر بحرف آخر، أو مدغماً وفي آخر مفكوكاً، وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات» (الإتقان، 3: 390-391).
لقد أشار السيوطي إلى التداخل بين علمي المناسبات والمتشابه اللفظي، وهو ما يظهر على نحو أفضل في تطبيقات هذا العلم التي تعرف بتوجيه المتشابه؛ أي تأويل هذه الاختلافات اللفظية بين الآيات بما يناسب السياق الذي وردت فيه كل آية من الآيات المتشابهات، وقد أورد السيوطي بعض الأمثلة بتوجيهها، من ذلك الآيتين الآتيتين:
أ. ﴿ذَلِكَ الْكِتَبُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة : 2].
ب. (َتِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [لقمان: 2 – 3].
يتمثل الاختلاف بين الآيتين المتشابهتين في نسبة الهدى في (أ) للمتقين، وفي عطف الرّحمة على الهدى في (ب) ونسبته للمحسنين. ووجه السيوطي هذا التشابه بأنه: «لما ذكر هنا [في آية البقرة] مجموع الإيمان ناسب “المتقين”، ولما ذكر ثم [في آية لقمان] الرحمة ناسب “المحسنين”» (الإتقان، 3 : 391).
يظهر من هذا التوجيه أن الأمر يتعلق بالاختلافات بين الآيات المتشابهة أكثر مما يتعلق بالتشابه بينها، وتوجيه هذا الاختلاف يكون ببيان مناسبة الألفاظ المختلفة للسياق الذي يكتنفها. ويمثل مفهوم المناسبة، هنا، أداة إجرائية لتفسير هذا الاختلاف برده إلى اختلاف الأغراض والسياقات التي تكتنف الآيات. فالأمر لا يتعلّق هنا بالمناسبات بين الآيات، ولكنه يتعلق بالمناسبات بين الألفاظ والكلمات المجاورة لها. وقد يعمد علماء المتشابه اللفظي إلى ربط الاختلاف اللفظي بسياق الآية الكلي، وبالغرض الذي بنيت عليه السورة بأكملها، كما في المثال الآتي المقتبس من ابن الزبير:
أ. (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلُّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ [الأنبياء : 92-93].
ب. (وَإِنَّ هَذهِ أَمَتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون : 52-53].
يوجه ابن الزبير الاختلاف المتمثل في ورود لفظة (زبرا) في آية (المؤمنون)، وخلوّ آية (الأنبياء) منه بأن «قوله في آية المؤمنون (زبرا) تأكيد لافتراقهم، وانتصابه على الحال الواردة بياناً وتأكيداً لقبح تفرقهم وشنيع مرتكبيهم، فناسب ذلك مقصود هذه الآية هنا من التخويف والإنذار، ولم يكن ليناسب آية الأنبياء لبنائها على غير ما قصد هنا، لما تقدمها من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم، وتعريفه بما منح سبحانه متقدّمي الرسل، وما أعقبهم صبرهم على أممهم. (…) فقدم له، عليه السلام، في سورة الأنبياء من قصصهم ما ثبت فؤاده. وصار جليل هذا التأنيس مما بنيت عليه السورة. (…) فمن حيث الإشارة إلى ما ذكر لم يكن ليناسب ذلك تأكيد افتراقهم وتشتتهم. ولما رجع الكلام للآية الثانية، بعد تثبيته عليه السّلام، وتأنيسه، إلى التعريف بمرتكبات الأمم، وذكر ما استحقوا به ما عوقبوا به، وأن كلاً من المكذبين أخذ بذنبه، كان ذلك مظنة تأكيد المرتكب، فقيل: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرا)» [المؤمنون: 53] (ملاك التأويل 2 :854).
فالبحث في مناسبة اللفظة تجاوز في هذا التوجيه مستوى الآية والسياق الموضعي إلى البحث في مناسبة الغرض الذي بنيت عليه كل سورة من السورتين، ولذلك كان توكيد تفرق الأمم السابقة بلفظ (زبرًا) مناسباً لغرض التخويف والإنذار الذي بُني عليه الخطاب الموجه إلى المؤمنين للاعتبار بتجارب الأمم السابقة، وغير مناسب لغرض تأنيس الرسول بتجارب الأنبياء السابقين الذي بنيت عليه سورة الأنبياء.
فالأمثلة السابقة توضح أن مفهوم المناسبة أداة إجرائية يستعملها المفسر في توجيه الآيات المتشابهات للوقوف على سبب الاختلاف بينها، فموضوع علم توجيه المتشابه هو تعليل الاختلافات بين الآيات المتشابهة لفظاً، خلافاً لعلم المناسبات بين الآيات والسور الذي يمثل فيه مفهوم المناسبة موضوع العلم نفسه. لذلك اعتبرنا علم المتشابه علماً آيلاً إلى المناسبة وليس علماً من علوم المناسبة. أي أنّ البحث في المتشابه يؤول إلى البحث في المناسبة.
رابعاً- علم نظام القرآن: نحو أفق جديد لعلم المناسبات :
إذا تجاوزنا عصري البقاعي والسيوطي إلى فترات متأخرة في الزمن وجدنا أن الدارسين المتأخرين لم يعودوا يقنعون من مظاهر الانسجام في الخطاب القرآني بعلاقات المناسبة، ذلك أن بعض الدارسين انتقل من مفهوم المناسبة إلى مفهوم النظام في الخطاب القرآني. من هؤلاء يمكن أن نذكر عبد الحميد الفراهي (ت 1930م) الذي سعى إلى تأسيس علم جديد وسمه بـ«علم نظام القرآن»، وألف في ذلك مجموعة من الكتب أهمها كتابه الموسوم بـ (دلائل النظام)[21]
1. علم نظام القرآن عند الفراهي :
يقول الفراهي في خطبة (دلائل النظام) حول الغرض من تأليف الكتاب: «أما بعد فهذا كتاب أفردناه لذكر دلائل النظام، ونريد بالدلائل:
- ما يدل على وجود النظام في القرآن ويثبته.
- وما يهديك إلى معرفته وطريق استنباطه.
فهذان قسطان: الأول نظري والثاني عملي، وكلاهما أصولي، يبحث في عن الأصول الكلية للنظام عموماً، ولنظام القرآن الحكيم خصوصاً. ومن هذه الجهة هو فن مستقل من البلاغة، بل هو الذروة العليا منها. ولولا القرآن وإعجازه، ما اهتدينا إليه. كما أنا لم نطلع على حقيقة البلاغة ومنهجها، لولا كشف القرآن القناع عن وجهها (…) ثم نزيد عليهما قسطاً ثالثاً، نورد فيه أمثلة لترتيب المطالب وترتيب سورة مع سورة» (الفراهي، 1968: 11-12). فعلم النظام فرع من فروع البلاغة، وهو فنّ مستقل، أي إنه لا يندرج ضمن أحد الفروع الثلاثة المعروفة لعلم البلاغة، وهذا الكلام على درجة من الأهمية لأنه يكشف وعي الفراهي بضرورة تأسيس علم لبلاغة النصوص في مقابل علم البلاغة التقليدي؛ الذي لم يتجاوز حدود الجملة والبيت الشعري الواحد. وعلم النظام أشمل من علم المناسبات الذي يقتصر على العلاقات الموضعية بين الآيات في نظر الفراهي.
لكن الفراهي يُعمق النظر في هذا المستوى من المناسبة، ويضع له قواعد تقترب به من العلم، ويتجاوز فيه مستوى البنية الكبرى القائمة على مقصد السورة الى محاولة استخراج ما يصفه المعاصرون بالبنية العليا للسورة. ونظام السورة يقوم عند الفراهي على أجزاء تركيبية تنقسم الى أجزاء إجمالية وأجزاء تفصيلية. والأجزاء الإجمالية عنده أربعة هي: (الفراهي، 1968: 72)
– العمود: ويعرفه بأنه «جماع مطالب الخطاب. فإليه مجرى الكلام، وهو المحصول والمقصود منه، فهو يسري فيه كالروح والسر» فالعمود على هذا هو الغرض الرئيس في الكلام.
– التمهيد: هو مقدمة الكلام التي تتضمن القصد منه، وتناط به وظيفة شد انتباه السامع حتى يتابع بقية الكلام.
– المنهج: هو التوجه بالكلام الى مخاطب محدد بأسلوب مناسب (إما الى النبي أو المؤمنين أو المنكرين …)، وهو معنى قريب من مفهوم المقام.
– الخاتمة.
أما الأجزاء التفصيلية فيذكر منها الفراهي ثمانية هي: 1- التعليل، 2- التفريع ببيان الفروع، 3- التأصيل ببيان الأصول، 4- التفصيل المجمل، 5- التمثيل، 6- إيراد المشابه، 7- إيراد المقابل والضد، 8- التنبيه بالوعد والوعيد والتحسين والتقبيح.
ويظهر مما سبق أن الأجزاء الإجمالية للنظام تتصل بالعلاقات الكلية بين مقاطع السورة، وهي تتأسس على الخطة المعتمدة في ترتيب أجزاء السورة، وفي التوجه بالخطاب الى مخاطب معين. أما الأجزاء التفصيلية فتتصل بالعلاقات الموضعية التي تكون بين الآيات والجمل.
2. النظام المعنوي للسور عند عبد الله دراز:
ليس الفراهي وحده مَن تكلم على مفهوم النظام من المتأخرين؛ ذلك أن أحد معاصريه، محمد عبد الله دراز (ت1958) ألف كتاب وسمه ب(النبأ العظيم) حاول أن يؤسس لنهج جديد في تحليل الخطاب القرآني يقوم على مفهوم وحدة النظام المعنوي في السورة، وقد اختار أن يطبق منهجه هذا على أطول سورة في القرآن وأكثر سورة إثارة للجدل من زاوية انسجام خطابها نظراً لتشعب أغراضها وتعددها ولطول فترة نزولها التي استمرت تسع سنوات، وهي سورة البقرة.
وهو يرى أن مَن يتصدى لبيان نظام المعاني في السورة الواحدة ملزم بأن ينطلق في ذلك من بيان المقاصد الأساسية التي بنيت عليها السورة قبل الخوض في علاقات المناسبة الموضعية بين أجزاء السورة وآياتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منقول بتصرف من:
شوقي البوعناني (2018). مبدأ الانسجام في تحليل الخطاب القرآني من خلال علم المناسبات. ط. 1. الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. ص ص. 43- 116.
** باحث تونسي متخصص في اللغة العربية وآدابها.
[1] الفواصل هو المصطلح الذي ارتاه علماء القرآن مقابلاً لمصطلح الأسجاع في النثر نظراً للخلاف بينهم في جواز إطلاق مصطلح الأسجاع على مقاطع الآيات القرآنية، وهو مبحث نفصل القول فيه في الفصل الأول من الباب الثاني الذي تخصصه لمفهوم الآية.
[2] على الرغم من ورود هذه الكلمة في بعض المخطوطات التي اعتمد عليها المحقق الأعم» (نظم الدرر1، 5، الهامش 7)، فإنه أثبت كلمة (الأهم)، وهو، في تقديرنا، خطأ وقع فيه. فالسباق يدل على انتقال البقاعي من التعريف بعلم المناسبات العام الذي يشمل مناسبات القرآن وغيرها إلى تعريف علم تناسب الآي، وهو خاص بالقرآن الكريم، وهو ما دعانا إلى هذا التصحيح لما نعتقد أنه تصحيف أصاب بعض المخطوطات التي اعتمد عليها المحقق.
[3] الأرجح أنها «الأخبار»، وأن هذا تصحيف تسرب للتحقيق أو لأصل المخطوط.
[4] لم نقف على هذا الكتاب الذى يبدو أنه طبع بتحقيق حفنى شرف وصدر عن مطبعة الرسالة في القاهرة سنة 1960.
[5] ما اطلعنا عليه من إحصائيات تتصل بالقرآن يشير إلى أنه لا يوجد ما يميز الحروف المقطعة في فواتح السور من الناحية الكمية، من ذلك أن حرف الصاد تكرر في سورة (ص) 29 مرة على 3065 هو إجمالي عدد الحروف في السورة، فنسبة التكرار غير ذات دلالة مقارنة بالحروف الأخرى، خلافاً للسور المفتتحة بـ «الم» حيث تكون نسبة تردد هذه الحروف مرتفعة، ففي سورة البقرة تكرر الألف 3544 مرة، وتكرر حرف اللام 3201 مرة، وتكرر حرف الميم 2192 مرة، وهذه أعلى نسب الحروف تردداً في السورة، وقد بلغ عدد حروفها 26249 حرفاً. انظر جدول إحصائيات سور القرآن على الموقع http://www.intellaren.com/articles/ar/qss تاريخ المعاينة 28/ 1/ 2013م لكن هذه النسب ليست لها دلالة خاصة نظراً إلى أن نسبة تردّد هذه الحروف لا تبتعد عن نسبتها في أنواع الخطاب الأخرى. وقد أشار الزركشي إلى ذلك بالقول : إن هذه الحروف كثرت في الفواتح دون غيرها من الحروف لكثرتها في الكلام البرهان في علوم القرآن، 1: 168).
[6] انظر مثلاً كيف وسع ابن عاشور مفهوم المقابلة، وجعله صالحاً لتحليل العلاقات بين المتتاليات من الآيات كما في تفسير الآية 22 من سورة النحل وما بعدها. التحرير والتنوير، 16: 141
[7] مطبوع تحت عنوان (قطف الأزهار في كشف الأسرار) كما أشرنا إليه في المقدمة.
[8] الإشارة إلى موفق الدين الكوراني ( 600 هـ) وله ثلاثة تفاسير أولها مطول يحمل عنوان تبصرة المتدكر وتذكرة المتبصرة وثانيها يحمل عنوان التلخيص في تفسير القرآن العزيز ويبدو أنه مختصر من الأول والثالث يحمل عنوان كشف الحقائق وشرح الدقائق». (الأعلام، 1: 274-275).
[9] الآية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا برهم يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1].
[10] الآية: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة : 120].
[11] الآية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رُسُلًا أُولَى أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر: 1].
[12] لآية: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْبَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ)[سبأ: 54].
[13] الآية : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد: 1].
[14] الآية : فسبح اسم ربك العظيم [الواقعة: 96].
[15] الآيتان : (الم ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 1-2].
[16] في نسخة أخرى غير المخطوطةا الاسلامية التي اعتمد عليها المحقق، واستقر بهاوقد أشار إليها المحقق في هامش التحقيق. أسرار ترتيب القرآن، 56).
[17] هو تاج القرّاء محمود بن حمزة الكرماني (ت 505هـ) سبقت الإشارة إليه في مقدمة البحث، وهو صاحب كتاب البرهان في توجيه متشابه القرآن والقول السابق مقتبس من تفسيره الموسوم بـ ( غرائب التفسير وعجائب التأويل) (2 : 1037)
[18] هذا القول بنسب الى الام عالم الفياريال الحمايل به الحياة على جواز الابتداء بالتنقي إذا كان جواباً على المالية الية القيامة بين عن افتتاح سورة القيامة بلا النافية كالسورة الواقية فإنه يجوز أن يكون النفى في فاتحة سورة القيامة جواباً على كلام سابق في سورة أخرى. (مغني اللبيب 3 336).
[19] لا بد من التمييز بين نوعين من المتشابه في القرآن المتشابه المعنوي، ويقابله المحكم ويقصدون به الآيات الملتبسة الدلالة والمتشابه اللفظي ويقصدون به الآيات التي تتشابه لفظاً.
[20] وردت في موضعين من القرآن في سورتي [المائدة: 3] و[النحل: 115].
[21] هذا الكتاب لم ينشر في حياة الفراهي، ولكنه نشر بعناية بدر الدين الإصلاحي سنة 1986م، وهو تلميذ لأحد طلبة الفراهي أختر أحسن الإصلاحي، وانظر كذلك تفسيره الذي يحمل عنوان (تفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان)، ويتضمن تطبيقاً لنظريته في نظام القرآن على سور بأكملها.