نقد الغرب في ميزان البشري
د. شيرين حامد فهمي*
نقد الغرب – منظومةً وفكرًا وحضارةً ومنهاجًا وسياسةً وسلوكًا – كتب فيه الكثيرون، غربيون وشرقيون، مؤمنون ولا دينيون، علماء اجتماع وعلماء فيزياء. اجتمعوا جميعًا – وإن اختلفت مشاربهم – على نقد مسلكٍ واحد، لم يفارق الغرب منذ نشأته، وهو في ظني، مسلك أكاد أجزم أني تلمسته في معظم الكتابات والأدبيات التي قرأتها حول تلك المسألة. إنه مسلك “الاستعلاء” أو “الاستكبار” الذي يمثل، في اعتقادي، السمة الأساسية في تعامل الغرب مع الآخر. إنه ذلك الاعتقاد الذي يتصور فيه الغرب أنه الوحيد والأوحد في القدرة على النظر والتفكير والتنظير والتحليل والإدراك؛ وبالتالي الأحق والأصلح والأجدر بالسيادة والهيمنة والسيطرة والاستحواذ، على حساب كل “آخر” لا ينتمي إلى تلك السلالة الغربية “الفريدة” من نوعها ….. كما يراها الغرب.
إذا وضعنا هذه الرؤية الناقدة للغرب في ميزان المؤرخ والمستشار “طارق البشري”، فسنشهد أمامنا توسيعًا وتكثيفًا لهذه الرؤية. ذلك أن “البشري” يقص علينا تاريخيًا – إن جاز القول – قصة الغرب معنا منذ البداية؛ قصة المحتل الغربي الذي سطا علينا، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وحضاريًا وثقافيًا، فإذا به يُربك خياراتنا وأولوياتنا. ولكن القصة ليست كلها قصة اعتداء الغرب علينا، كما يوضح المستشار، وإنما لها تكملة وكِمالة متمثلة في تمكين المسلمين لذلك الاعتداء، بكل أسف، سواءً بقصدٍ أو دون قصد.
إن نقد “البشري” للمنظومة الغربية يأتي في سياقٍ تاريخي. ذلك المُفكر القاضي المصري العربي المسلم الذي أمعن فكره ونظره، مستخدمًا خبرته القانونية والقضائية في رسم صورة واضحة وموسعة للتأثير السلبي – بل المدمر – للغرب على منطقتنا العربية الإسلامية؛ ذلك التأثير الذي ما زلنا نتجرع مرارته حتى هذه اللحظة. وفي ذلك نجد “البشري” يتجاوز النقد الجزئي منتقلًا إلى النقد الكلي الشامل.
لقد صب “البشري” نقده على أوروبا المحتلة في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث قامت بتفكيك الجامعة الدينية (الجماعة السياسية الإسلامية الحاكمة في العالم الإسلامي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي)؛ وهو الأمر الذي أسفر عن تغيرات جذرية وعميقة في صبغة العلاقات بين دوائر الانتماء، وفي طبيعة الأوضاع الاجتماعية والعادات الحياتية، وفي الحدود الجغرافية. باختصار، إن ما فعلته أوروبا المحتلة هو قيامها بتطبيق “ماكيت جغرافي وبشري” غريب على العالم الإسلامي، غريب على الشريعة، ولكنه متلائم ومتوافق مع رؤاها ومصالحها الغربية الاحتلالية. لقد هبطت أوروبا بنماذجها التنظيمية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، على العالم الإسلامي، مُخلّفةً نظم حكم حديثة بعيدةً كل البعد في إطارها الفكري والمرجعي عن المرجعية الإسلامية، وبعيدةً كل البعد عن أية مضامين إنسانية، ومنفصلةً كل الانفصال عن هوية الأمة وثقافتها.
لقد انتقد “البشري” قيام الغرب المحتل بتغيير صبغة العلاقات بين دوائر الانتماء التي كان يندرج في ظلها أهالي الإقليم الواحد، وانتقد قيامه بإحداث اختلال في موازين القوى بسبب عدوانه الكاسح على مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية بالعالم الإسلامي. وكانت النتيجة أن ساهم الغرب المحتل في تدشين جماعات سياسية، لم تظهر بموجب التفاعل الطبيعي بين دوائر الانتماء الموجودة بين الناس، إنما ظهرت بموجب عنصر خارجي ضاغط، فرض الحدود الإقليمية والبشرية وفقًا لرؤاه ومصالحه؛ وهو الأمر الذي أفضى بعد ذلك إلى قيام دول “ما بعد الاستقلال”، منبثقة عن جماعة سياسية غريبة عن الشعب، لا تمثله ولا تعمل لصالحه؛ وإنما جماعة تقتصر وظيفتها على إجراء تسهيلات تجارية ومرورية للخارج الغربي.
لقد رسمت القوى الغربية المحتلة حدود الدول العربية؛ وهو ما نطلق عليه حاليًا “الشرق الأوسط” أو “الشرق الأدنى” أو “الماكيت الجغرافي والبشري” الذي تشكلت في إطاره حركات التحرر الوطني، مما يؤكد على حقيقة عدم استقلالية وتحرر تلك الدول من محتليها.
أما بالنسبة لسياسات التدخل الغربي في النظم القانونية والتعليمية الإسلامية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، فقد أفرد لها “البشري” مساحةً — بل مساحاتٍ — واسعة من البحث والكتابة والتحليل. فتناول سعي الغرب نحو إقصاء الشريعة كخطوة تمهيدية لإقصاء الإسلام كنظام يدبر شئون الحياة للدولة والمجتمع على حد سواء. كما تناول سعي الغرب نحو توسيع دوائر النخب المتأثرة بالفكر الغربي، عبر إدخال وإقحام النظام التعليمي الحديث في البلدان الإسلامية، وهو ما سجله قائلاً: “كانت التكوينات المتأثرة بالفكر الغربي لا تعدو وقتها دوائر النخب السياسية، من كبار رجالات المجتمع ذوي المناصب الكبيرة. ولكن هذه الدوائر بدأت مع الوقت تتسع وتنشق. وذلك بسبب نظام التعليم الحديث الذي لم يكتفِ بإدخال العلوم الحديثة والعلوم الطبيعية واللغات، لكنه أُسس ونُظم على النمط الأوروبي، من حيث فصل علوم الدنيا عن علوم الدين، فركز على الأولى وأهمل الثانية إهمالًا”.
ويلفت “البشري” النظر، في هذا الصدد، إلى مسألةٍ مهمة، وهي أن حقبة الاحتلال البريطاني والفرنسي، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين الميلادي، على الرغم مما شهدته من تدخلات عقيمة في المجالين القانوني والتعليمي، إلا أن معايير الاحتكام كانت ولا تزال إسلامية، وكذلك التكوينات الفكرية والمعايير الوجدانية؛ وهو ما يختلف تمامًا عما شهده العالم الإسلامي بعد ذلك، في الألفية الثانية، في ظل القطب الأمريكي الأوحد، الذي وصلت فيه آثار التغريب إلى قلب المسلم وعقله وروحه.
ولكن في نفس الوقت، لم يُحَمِّل “البشري” الخطأ كله للغرب، وإنما حمَله أيضًا للمسلمين أنفسهم، وللنخب الإسلامية تحديدًا. فقام بتوجيه النقد صوب تلك النُخب، فيما يخص جمودها الفكري وقعودها عن التجديد الديني، مما أفضى إلى التدخل الغربي في مجالي التعليم والقانون، منذ أواخر القرن التاسع عشر، كما ذكرنا أعلاه. وهو جمود يراه المفكر ناتجًا عن اختلال موازين القوى بين العالمين الإسلامي والغربي؛ ذلك الاختلال الذي أصاب النخب الإسلامية بالصدمة والارتباك والخوف.
لقد أفضى قعود أهل العلم المسلمين عن التجديد الديني إلى اجتثاث “مجال المعاملات” من الشريعة الإسلامية، في عام 1883، ونقله من المحاكم الشرعية إلى المحاكم الأهلية، ومن التشريع الإسلامي إلى التشريعات الوضعية. أما تخاذل أهل السياسة والحكم، فقد تمثل في قيامهم بالموافقة على اتفاقيات أدت إلى اضطراب البناء التشريعي في أقطار الدولة العثمانية، حينذاك. وكان من أخطر تلك الاتفاقيات، “عهد التنظيمات” عام 1839، ثم “معاهدة برلين” 1840، ثم ما تلاها من افتتاح للمحاكم المختلطة المصرية عام 1875، والمحاكم الأهلية عام 1881.
ويُرجع “البشري” الجمود الفكري لدى العلماء المسلمين، في تلك الفترة (القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر)، إلى جمود الواقع الاجتماعي السياسي، لا إلى جمود الموروث الديني. فقد انكسرت حركة الإصلاح المؤسسي التي قادها “محمود الثاني” في اسطنبول و”محمد علي” في القاهرة (في النصف الأول من القرن التاسع عشر)، لا نتيجة مشكل فكري، إنما نتيجة مشكل سياسي متمثل في اختلال موازين القوى بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؛ وهو ذلك الاختلال الذي أفصح عنه “مؤتمر برلين” 1840، حينما هُزم “محمد علي”، ليُفرَض عليه فرضًا وغصبًا وإجبارًا القضاء على جيشه، وعلى مصانعه، وعلى مدارسه. “ومع منتصف القرن التاسع عشر، لم نعد نأخذ من فكر الغرب وعلومه ونظمه ما نريده نحن مما نحتاج إليه، ولكننا صرنا نُعطى منه ما يريد هو إدخاله إلينا”.
وكما انتقد “البشري” المسلمين على مستوى علماء الدين، فقد انتقد أيضًا النخب الثقافية والسياسية العلمانية التي كان لها دور — لا يقل سلبيةً — في تمكين الهيمنة الغربية، وتثبيت أركانها في دول المسلمين. فالنخب العربية العلمانية (سواءً مسلمة أو مسيحية) والتي اختارت “التجديد”، هي نخبٌ حادت عن الطريق؛ وذلك عبر سماحها بالانفصام المجتمعي بين الموروث والوافد، وعبر جلبها الإطار المرجعي الغربي، وغرسه غصباً في نسقنا الثقافي.
هؤلاء “المجددون”، بحسب منظور “البشري”، اقتفوا آثار الغرب في مسلكهم ومسارهم “النهضوي”؛ فإذا بهم يدعون إلى مشروع “نهضة” الغرب، دون إصلاح أو تجديد حقيقي يلبي مصالح الأمة، ويحقق رسالتها العالمية. وقد تحقق هذا “العوار” النهضوي فيما قامت به حكومات التحرر الوطني، منذ أواسط القرن العشرين؛ إذ كان استقلالها من الاحتلال الغربي (البريطاني والفرنسي) إسميًا فقط؛ فالاستقلال الحقيقي كان بعيدًا كل البعد عن تلك الحكومات “الوطنية”. وهنا يشير “البشري” إلى “تقنيات الاستقلال” التي استخدمتها تلك الحكومات، دون تطبيق فعلي لتلك “التقنيات”.
إذ كانت تلك “التقنيات” متأثرةً أكثر بقوانين الغرب عن تأثرها بالشريعة الإسلامية؛ وكانت متسقةً أكثر مع التصور العلماني للحركة الوطنية الذي أعقب الحرب العالمية الأولى. وهو ما يؤكد فرضية “البشري” في عدم استقلالية أنظمة التحرر الوطني حقيقةً بعد خروج جيوش الاحتلال في منتصف القرن العشرين؛ إنما كانت – بكل أسف – استقلالية “عن الذات”. ومن ضمن الأمثلة الواضحة والأدلة التي ساقها البشري ليبرهن بها على استقلاليتنا المختلة العقيمة التي فصلتنا عن ذاتنا الإسلامية: إلغاء الوقف الأهلي والمحاكم الشرعية في مصر بعد ثورة 1952؛ إلغاء جميع الطوائف والهيئات التي كانت تمنح الشعوب العربية قدراً من الحرية والحكم الذاتي والقدرة على مواجهة الاستبداد بعد ثورة 1952؛ قطع العلاقة بين النظام القانوني والنسق الأخلاقي المرتبط بالدين، بعد تحول النظام القانوني من نظام معيشة —كما كان يحدث في المجالس العرفية— إلى أداة تستخدمها الدولة في مواجهة أفراد هي غريبة عنهم؛ أيضاً بعد ثورة 1952.
وجه “البشري” سهام نقده نحو حكومات التحرر الوطني – في الخمسينيات والستينيات للقرن العشرين – بسبب إقصائها الحركة الإسلامية عن الساحة السياسية، وإبعادها الفكر السياسي الإسلامي عن التأثير في الصياغات والرؤى السياسية. الأمر الذي نقل التوجه الإسلامي إلى مرحلة الخفوت، بعدما تضارب مع سياسات الأمن القومي القُطري.
ونتيجةً لكل ذلك، كما أورد مُفكرنا المحترم، استلمنا القرن العشرين بانفصامٍ حضاري في المرجعية والقيم ومعايير الاحتكام. فقد دبت حركة الانفصام في أرضنا، وضربت جذورنا، مع نهاية القرن التاسع عشر، حينما بدأنا — ولأول مرة — الدخول في صراعٍ بين الموروث والوافد، بعدما انقسمت نظمنا القانونية والتعليمية — ولأول مرة أيضاً — إلى ثلاث نظم متشاكسة مع بعضها البعض. فوجدنا على صعيد القضاء صراعاً بين المحاكم الشرعية والمحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية. ووجدنا على صعيد القوانين صراعاً بين القوانين الشرعية والقوانين المختلطة للأجانب والقوانين الأهلية. ووجدنا على صعيد التعليم صراعاً بين المدارس الدينية والمدارس الأجنبية والمدارس الأهلية. وظل هذا الانفصام يشتد ويتزايد علينا لأكثر من نصف قرن.
وما يجدر قوله في هذا المقام، إن نقل النسق الفكري الغربي على أيدي تلك النخب العلمانية، من أجل زرعه بالقوة في سياقنا الإسلامي العروبي، أدى إلى وظيفةٍ عكسية، كما يُدلي “البشري”. وضرب مثالاً على ذلك، في إشارته إلى مفهوم “العلمانية”. فالنسق العلماني — الذي ترعرع في البيئة الغربية — أخلف الديمقراطية، إلا إنه حينما نُقل إلينا، أخلف لدينا الاستبداد؛ لكونه أطلق يد الدولة من كل قيد فكري يرد عليها من خارجها، تحتكم إليه الجماعة المحكومة. مثال آخر، أشار إليه “البشري”، حينما تطرق إلى مفهوم “الدولة القومية”؛ تلك الدولة التي أدت بالغرب إلى السير في طريق التجميع والتوحيد، بينما أدت بنا إلى طريق التجزئة والتفتيت. صفوة القول، إن العالم الإسلامي لم يستفد من المخترعات الغربية، لكونها جاءت إلينا متصلةً بنظم علاقات دولية، أوجدت لدينا عكس ما أوجدته لدى الغرب، بل استخدمته ضدنا. “إن ما أدى بالغرب إلى السيادة هو ذاته ما أدى بنا إلى التبعية”.
وكما رأينا، كانت حكومات التحرر الوطني في منطقتنا العربية مركزًا أساسيًا لنقد “البشري”. تلك الحكومات التي عكفت منذ خمسينيات القرن العشرين على الاستهداء بنظم الغرب في تشكيل المؤسسات، فأخرجت لنا مشاريع “نهضة” قائمة على الاستبدال بمنظومة الغرب، بدلًا من إصلاح منظومتنا الذاتية.
ومما ساعد أيضًا على تمكن الغرب من العالم الإسلامي، توهج التيار العروبي العلماني، واستشراء الاستقطاب الثقافي بين القوى السياسية لدينا. جميعها كانت أسباباً مساعدةً على إضعافنا أمام الغرب، ومن ثم توغله في داخلنا، كما أوضح “البشري”.
لقد كان التيار العروبي العلماني — المكتسح في الخمسينيات والستينيات للقرن العشرين، وما يحمله من صبغة علمانية متعارضة مع واحد من أهم أسس التصور الإسلامي — مسئولاً عن تمكن القوى الغربية من ديارنا وثرواتنا وعقولنا؛ وإبعادنا عن ذاتنا الحضارية الإسلامية. وقد تجلى هذا التيار، في القرن العشرين، متمثلاً في “عروبة الشام” التي ناهضت الدولة العثمانية، وفي “مصرية 1919” التي ناهضت الاحتلال البريطاني.
وكانت نتيجة بعدنا عن ذاتنا الإسلامية، انقسامنا فيما بيننا، ونشوء الاستقطابات الثقافية فيما بين أحزابنا وقوانا السياسية. فبعد أن كنا ذاتاً إسلاميةً واحدةً، صرنا ذواتاً متعددة ومتشاكسة؛ وهو ما تجلى في مصر بعد قيام ثورة 1952، كما أورد “البشري”. وتمثل الخطأ الجسيم في إنفاق الوقت والجهد لحل الاستقطابات الثقافية بين القوى السياسية، بدلاً من إنفاق الوقت والجهد لحل الاستقطابات حول سياسات الدولة المراد بناؤها. فالثورة لم تقم من أجل حل الاستقطاب الثقافي؛ وإنما من أجل حل الاستقطاب السياسي.
الوسطية في التعامل مع الغرب
ورُغماً عن نقد “البشري” لهيمنة الغرب على العالم الإسلامي، وكذلك نقده لتهاون المسلمين في اتخاذ ردة الفعل المطلوبة، إلا أنه لا يمانع من الأخذ من الغرب، ولكن في ظل شروط صارمة. فبرأيه، ليس الغرب كله ضالاً، بل هناك غرب رشيد، برع في تصميم النماذج التنظيمية. ومن ثم، فلا ضير في استلهام تلك النماذج لتنظيم شئون الجماعة الإسلامية. فالنموذج النيابي (البرلمان)، على سبيل المثال، نموذج يشتمل على مبادئ رشيدة، مثل مبدأ التمثيل النيابي، ومبدأ توزيع السلطات، ومبدأ القرار الجماعي. وهي جميعها مبادئ وإجراءات يسهل هضمها حضارياً، وإدخالها في إطارنا المرجعي، شريطةً ألا نأخذ منهم الأسس المرجعية لتلك النماذج والإجراءات؛ إذ إن الأساس المرجعي في الإسلام متعلق أولًا وأخيرًا بالأصول الشرعية العامة، وبالغايات والأهداف العليا، وهي محل خلاف كامل وشامل مع الحضارة الغربية.
ومن ثم، يصير التجديد الحضاري — الذي ننشده كمسلمين— متمثلًا في هضم النموذج التنظيمي الغربي (كأداة وأسلوب وإجراء فقط) في داخل سياقنا التاريخي الحضاري الثقافي. فالتجديد — من منظور “البشري” — لابد وأن يكون على علاقةٍ واتصال وتجاوب مع القديم الموروث؛ وحينئذٍ سيصير ذا طابع حضاري خاص، باقٍ ومتجدد. وذلك خلافاً لما تراه فئة “المجددين” التي تستحضر النموذج الغربي كله، بإطاره المرجعي، ثم تغرسها غرساً في بيئتنا الثقافية ونسقنا الحضاري، كما ذكرنا أعلاه.
ومن ثم يصير الحل — وهو حل واحد من ضمن حلول أخرى — وفق “البشري”، لإشكالية “نحن والغرب”، هو التجديد الحضاري؛ أي الاستفادة من النماذج التنظيمية الغربية دون استحضار إطارها الفكري الغربي، ثم وضع تلك النماذج على أرضيتنا الثقافية والحضارية، لكي تنمو في وسطها، وتترعرع بمائها. وهنا يؤكد “البشري” على سعة ورحابة المرجعية الإسلامية القادرة على استيعاب نظماً متعددة، وفقاً لأوضاع الزمان والمكان. وفي ذلك إشارة من المؤرخ المفكر إلى الخطأ الذي وقع فيه الكثير من الإسلاميين، حينما اعتبروا الإسلام نظاماً سياسياً واجتماعياً بدلاً من اعتباره مرجعيةً عامةً رحبةً، تستوعب الاختلاف، ولكن وفق شروط معينة. وفي ذلك دعوة من “البشري” إلى الإسلاميين لتوسيع أفقهم ومدركاتهم تجاه الإسلام؛ فلا يحصرونه في نظام معين ثابت، وإنما يفتحون له الآفاق لكي يصير مرجعية كبرى فضفاضة، تسع الجميع تحت مظلتها.
صفوة القول
يتميز موقف “البشري” بالاتزان والوسيطة والتروي، فهو يقف ضد “التجديد” الذي يسلب ذاتنا وهويتنا وشخصيتنا لحساب الآخر، إلا أنه — في الوقت ذاته — لا يمانع إطلاقاً من اقتباس أدوات ووسائل الآخر، والانتفاع بها من أجل خيرية الجماعة الإسلامية، شريطةً ألا يتعدى هذا الاقتباس دائرة الأدوات، متطرقاً إلى دائرة المرجعيات والغايات. بمعنى آخر، لا يقف “البشري” مع الغرب مطلقاً، كما إنه لا يرفضه مطلقاً.
وظني، أن “البشري”، بمرجعيته وقناعاته الإسلامية تلك، قد اقتفى منهاج القرآن والنبوة في اتخاذ هذا الموقف. فأما منهاج القرآن، فهو يؤكد على حتمية الاختلاف بين الناس، باعتباره أصلاً وسُنةً من سُنن الخلق، التي أرادها الله عز وجل. “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير” (الُحجرات، 13). فبالتعارف يتعايش ويتأقلم البشر المختلفون مع بعضهم البعض، ويتبادلون المنافع فيما بينهم، تحقيقاً للخير العام. وأما المنهاج النبوي، فقد تمثل في تعامله عليه الصلاة والسلام مع الآخر — الكافر المُهادن حينذاك— بطريقةٍ طبيعية، يحدث من خلالها تبادل مشروع في المنافع. فقد قًبِل عليه الصلاة والسلام أن يكون في جوار “مُطعًم ابن عدي” الكافر المُهادن، ليحميه من إيذاء كفار قريش في مكة. وكذلك قَبِل عليه الصلاة السلام أن يقترض دروعاً من “صفوان بن اُمية”، الكافر المُهادن أيضًا، في غزوة حُنين. بمعنى آخر، ليس هناك ضير، شرعاً، من الاستعانة بأدوات غير المسلم، وإن كان كافراً، ما دامت هذه الأدوات تصب في صالح الأمة.
إلا أن مسألة علاقتنا مع الغرب تتضمن إشكاليةً أساسيةً وجوهريةً ومفصليةً، لا يمكن نسيانها أو التجاوز عنها؛ وهي إشكالية الاعتداء الغربي المستمر على أمتنا الإسلامية، على امتداد قرونٍ ماضية؛ وتحديدًا منذ قيام الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي؛ بل واستمرار ذلك الاعتداء إلى يومنا هذا. وفي الحرب الأمريكية الأوروبية الإسرائيلية على غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، خير شاهد ودليل على ذلك. هذه السلسلة من الاعتداءات مستمرة، لم تنقطع منذ عشرة قرون تقريباً. وإن انقطعت، فهي تلتقط أنفاسها فقط، لعد العُدة من أجل شن اعتداءٍ جديد.
إن التبعية للغرب هي أساس المرض في جسد أمتنا الإسلامية؛ وكل ما سواها أزمات ليست إلا أعراض لذلك المرض العُضال. وطالما تناول “البشري” هذا “المرض” في مؤلفاته، مؤكداً إنه لا سبيل إلى الديمقراطية والعدالة والكرامة والحرية في بلاد المسلمين إلا بالتحرر من تلك التبعية. باختصار، لا مجال لنجاح أي ثورة تحررية حقيقية — تحقق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية لشعوبنا — إلا بعد “فك الارتباط” من تلك التبعية.
ولعل ما يحدث في غزة الآن من مقاومةٍ صامدةٍ، أذهلت شعوب العالم كلها على امتداد عشرة أشهر كاملة، لعل تلك المقاومة تصير هي أولى المحاولات الحقيقية لكسر حلقة التبعية. فهي مقاومةٌ لا تتحدى فقط القوة العظمى في العالم — الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل — وإنما تتحدى أيضاً النموذج الأمريكي بأكمله؛ بمفاهيمه الليبرالية، والرأسمالية، والعلمانية، والمادية. هي مقاومةٌ تجاهد من أجل حفر نموذجها الخاص بها، المُستلهم من نسقها الحضاري الإسلامي، وهو الاستقلال الحضاري، الذي يجب أن يأتي في مقدمة أي استقلال عن التبعية. فالاستقلال الحضاري يجب تحقيقه أولاً، قبل أي استقلال سياسي اقتصادي.
فالاستقلال الحضاري يُعيد قراءتنا لذاتنا وشخصيتنا من جديد، لنستحضرها ونحييها، بعد أن أماتتها التبعية على امتداد عقود…فنعرف من نحن، وما دورنا، وما رسالتنا، وأين مكاننا، وماذا نريد…وهي قضية لطالما استرعت انتباه “البشري”، فجعلته ينادي دوماً بضرورة تحقيق الاستقلال الحضاري أولاً قبل أي استقلال آخر.
فاستعادة الذات والمرجعية والقيم يجب أن تتم قبل استعادة الأرض والثروة والإقليم. ولعلنا في أمس الحاجة إلى تكاتف شعوب “الجنوب” مع تلك المقاومة؛ تكاتفا يفضي في النهاية إلى هزيمة النموذج الغربي، بكل قيمه ومفاهيمه ومعاييره وتصوراته. ولعلنا نستحضر هنا ما طرحه الفيلسوف والمفكر الفرنسي رينيه جارودي حينما دعا إلى بناء نموذج “الجنوب” الإنساني، ليكون ذا خصوصية متجاوزة للفكر المادي اللاديني، وقادراً على تحدي النموذج الغربي المهيمن. وظني، أنه قد ظهرت بالفعل ملامح تبلور نموذج ذلك “الجنوب” الإنساني في أواسط شعوب الغرب، التي هبت هبةً تاريخية، لم يسبق لها مثيل، ضد مجازر الكيان الصهيوني، وضد القوى الغربية الداعمة له. وهو أمرٌ عجيبٌ حقاً، أن تصير أوروبا وأمريكا — وليس العالم العربي والإسلامي — مسرحاً لتلك الهبات الشعبية الكاسحة، التي ضحى فيها طلاب غربيون بمستقبلهم الدراسي في الجامعات من أجل الصدع بكلمة حق؛ ومن أجل الانتصار للقيم الإنسانية على أي قيم مادية أخرى.
فهل ستشهد الأيام والشهور والأعوام المقبلة اكتمال بناء نموذج “الجنوب” الإنساني، باصطفاف الشعوب العربية والمسلمة جنباً إلى جنب مع الشعوب الغربية؟ وكسر ذلك النموذج الغربي المهيمن الجشع الذي أضر الجميع، بل أضر الكون كله؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.
قائمة المصادر والمراجع
طارق البشري، نادية مصطفى (مقدمة)، التجدد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2015).
عمرو عبد المنعم شريف، محمد عمارة (مقدمة)، وهم الإلحاد، (مكتبة الأزهر: القاهرة، 2013).
طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة: الحوار الإسلامي العلماني، (دار الشروق: القاهرة، 2006)، الطبعة الثالثة.
طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة: ماهية المعاصرة، (دار الشروق: القاهرة، 2006)، الطبعة الثالثة.
روجيه جارودي، عمرو زهيري (مترجم)، أمريكا طليعة الانحطاط، (دار الشروق للنشر والتوزيع: القاهرة)، ١٩٩٨.