إسلامية المعرفة

إسلامية المعرفة

أ. مهجة مشهور*

تقوم أي حضارة من الحضارات على عقيدة دينية أو فلسفية خاصة بها، إذ ما يميز أي حضارة هو الإطار النظري والقيمي الذي تبنى عليه هذه الحضارة والتي يتم التأصيل لها من خلال العلوم والنظريات المختلفة. ومنذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم فرضت الحضارة الأوروبية نفسها برؤيتها الرأسمالية المادية وإعلاء قيمة الفردانية على العالم كله، وقد تبنت شعوب الأرض مكرهة أو مختارة، بوعي أو عن غير وعي نموذج الحضارة الغربية كنمط حياة وكرؤية معرفية، فسادت مفاهيمها ومناهجها العلمية ونظرياتها المختلفة، وصار العلم ما يراه النموذج الغربي علماً، والمنهج ما يراه ذلك النموذج منهجاً. وكرس هذا النسق المعرفي المغلق المركزية الغربية على المستوى العلمي والمعرفي. ولم يكن المسلمون في مراحل صناعة العلوم أو بناء مناهجها شريكاً يعتد به، رغم أن حضارتنا كانت مصدراً هاماً من مصادر تكوينها في مراحلها الأولى.

فقد سبق وقدم المسلمون تجربة إقامة حضارة على أساس إيماني، فتجربتنا التاريخية علمتنا كيف تكون المعرفة المؤمنة سخية العطاء، إنسانية المنحى، فالنشاط المعرفي المنضبط بالرؤية الإيمانية ضرورة لإقامة الحضارة القيمية المتوازنة القوية. أما ما يتم الآن من تقليد العلم الغربي أو استيراده فهو لا ينشئ حضارة، أو يعيد بناءها بعد تفككها، إن هذا يصنع في أفضل حالات النجاح عالماً يدور في فلك حضارة الغير. قد يتقدم في سلم المدنية (المادية) لكنه على المستوى الحضاري لا يملك خرائطه الثابتة المتميزة. وليس المقصود إظهار الغرب بأنه شر مطلق، ولكن الحديث يدور على مسألة تأكيد الهوية الذاتية المؤمنة، وإعادة اكتشاف قدراتها الخلاقة في استئناف مسيرتها الحضارية.

وقد أدرك المسلمون حجم الأزمة التي يعيشون فيها والتي أدت الى خروجهم من سباق الحضارات الحاكمة في العالم، واختلف المفكرون حول أسباب هذا التخلف، يمكن في حقيقة الأمر تشخيص السبب الرئيس لهذه الأزمة بأنه القصور في إعمال قانون التجديد وسنته على المستوى الفكري والمادي والاقتصادي والاجتماعي. فالاطمئنان بالوضع القائم والركون اليه يؤدي بالضرورة الى التخلف عن الركب والخروج من حركة التاريخ.

وقد نتج عن إدراك المسلمين لأزمتهم ظهور حركات تجديد فكري في العالم الإسلامي والعربي، يمكن رصدها عبر المراحل التالية:

المرحلة الأولى: ظهر خلالها ما يمكن أن نطلق عليه فكر النهضة، والذي تشكل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وامتد الى العقود الأولى من القرن العشرين، ويطلق عليها د. طه العلواني[1] مرحلة الصدمة والانبهار المباشر بالغرب. وكان الخطاب في هذه المرحلة يؤكد على أن الإسلام لا ينافي العلم ولا ينافي الحضارة، وأنه صالح لكل زمان ومكان. استهدفت هذه الدعوة تحقيق نوع من التوازن في وجه هذه الحضارة الساحقة وإيقاظ ملكات المقاومة لدي المسلمين. ومن أبرز أعلام هذه المرحلة عبد الرحمن الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وجمال الدين الأفغاني وغيرهم.

المرحلة الثانية: بدأت بعد سقوط الخلافة العثمانية في النصف الأول من القرن العشرين. وقد بدا أن مرحلة الانبهار قد تم تجاوزها، وبدأت مرحلة المواجهة مع أفكار الغرب، فشاعت أفكار الموازنة والمقاربة والبحث عن وجوه الالتقاء بين الإسلام والثقافة الغربية. ومن أبرز أعلام هذه المرحلة مالك بن نبي الذي تركزت أعماله حول مشكلات الحضارة، وعلي شريعتي، ومحمد باقر الصدر الذي نجح في تقديم منهجية إسلامية بديلة، وغيرهم من الأعلام.

المرحلة الثالثة: يؤرخ لها من بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، حيث ارتبط الفكر الإسلامي بواقع الصحوة الإسلامية، وتنامى دور الخطاب التجديدي الذي يؤكد على دور الفكر والمعرفة والرؤية الكلية الخاصة للإسلام. ومن أبرز أعلام هذه المرحلة إسماعيل الفاروقي، محمد عمارة، طارق البشري، طه جابر العلواني، حسن الترابي، محمد مهدي شمس الدين وغيرهم. وقد تبلور في هذه المرحلة تيار يرى أن المشروع الإسلامي لم يعطِ البعد الفكري من الاهتمام ما يستحقه، وكان ذلك من أسباب عجزه عن بلوغ الهدف، ويسعى هذا التيار الى إيجاد الأساس المعرفي الإسلامي لحركة استعادة الوعي الحضاري. وقد أخذ هذا التيار شكل عدة مدارس، عمل في إطارها مجموعة من الباحثين والأكاديميين وتبنت عدة مصطلحات للتعبير عن رسالتها مثل: إسلامية المعرفة، أسلمة المعرفة، التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية وغيرها.

الرؤية الإسلامية الكلية أو ما قبل المنهج:

قبل الخوض في دراسة موضوع “إسلامية المعرفة”، يجدر بنا الإشارة الى أن الوعي بتميز الرؤية الكلية الإسلامية التي ينبني عليها مشروع إسلامية المعرفة كان سابقاً على قيام هذه المدرسة، فقد اعتمد تقديم هذا النموذج المعرفي الإسلامي على مجهودات معرفية قام بها مجموعة من المفكرين على رأسهم الأستاذ محمود شاكر الذي قدم مفهوم “ما قبل المنهج” للتنبيه على تلك الأبعاد المتصلة بالذات الإنسانية وباللغة وبالمعتقد وبالرؤية الكلية للكون والحياة الإنسانية وبالثقافة، تلك العوامل التي تؤثر على الباحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية فتشكل رؤيته وتحدد زاويته للنظر والتحليل والتفكير، مما يؤثر بالضرورة على نتيجة تحليله وطريقة فهمه وتفسيره.

يقول شاكر (يُقال إن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلواً تاماً مما قيل، هذا شيء لا أصل له، بل هو بهذه الصورة خارج عن طَوق البشر. هَبه يستطيع أن يخلي ذهنه خلواً تاماً مما قيل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، أفمستطيع هو أيضاً أن يتجرد من سلطان “اللغة”..؟ أفمستطيع هو أن يتجرد من سطوة “الثقافة”..؟ أفمستطيع هو أن يتجرد كل التجرد من بطشة “الأهواء” التي تستكين ضارعة في أغوار النفس..؟)[2]

“فعاصم (المعرفة) يأتي من قِبَل الثقافة التي تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به، لا من حيث هي معارف متنوعة تدرك بالعقل وحسب، بل من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها، والالتزام بما يوجبه ذاك الإيمان، ثم من حيث هي بعد ذلك انتماء الى هذه الثقافة انتماءً ينبغي أن يدرك معه تمام الإدراك أنه لو فرط فيه لأداه تفريطه الى الضياع..”[3]

“ورأس كل ثقافة هو الدين، … وبقدر تغلغله في بنيان الإنسان تكون قوة العواصم التي تعصم صاحبها من كل عيب قادح في مسيرة “ما قبل المنهج”، ثم في مسيرة المنهج الذي يتشعب منه”[4]

إذن فخلف كل رؤية معرفية معايير داخلية تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي. هذا النموذج يؤثر بالضرورة على بنية عقل الإنسان فيدرك الواقع من خلاله، فيستبعد ويستبقي، ويضخم بعض التفاصيل ويهمش بعضها. كل هذا يؤكد على محورية النموذج المعرفي أو الرؤية الكلية لدى الإنسان في التعامل مع الواقع.

إسلامية المعرفة[5]:

ما المراد بمفهوم إسلامية المعرفة؟ لقد أورد دعاة هذه الفكرة عدة تعاريف تفصح عن محتواها وتحدد معالمها:

-لقد عرف د. إسماعيل الفاروقي[6] -الرائد في الدعوة الى هذه المنهجية- إسلامية المعرفة بأنها إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام، بمعنى إعادة صياغة المعلومات وتنسيقها وإعادة التفكير في المقدمات والنتائج المتحصلة منها وتقييم الاستنتاجات التي انتهى اليها وإعادة تحديد الأهداف، على أن يكون كل ذلك بطريقة تجعل فروع المعرفة المختلفة تثري التصور الإسلامي وتخدم أهداف الإسلام.

-ويرى د. جعفر شيخ إدريس أن إسلامية المعرفة هي دعوة إلى أن يفكر العالم ويشاهد ويجرب ويستنتج وهو مؤمن بالله، وهي بذلك تضع للعالم المسلم حلاً لمشكلة نفسية وهي الانفصام بين شخصية الإنسان وهو يبحث في مجاله العلمي ويكتب ويناقش، وشخصيته وهو يتلو كتاب الله تعالى ويصلي ويصوم ويعاشر الناس.

-وقد عرَف د. عماد الدين خليل “إسلامية المعرفة” بقوله (تعني إسلامية المعرفة أو أسلمة المعرفة ممارسة النشاط المعرفي كشفاً وتجميعاً ونشراً من زاوية التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة).

-كما عرفها أبو القاسم حاج حمد بقوله (أسلمة المعرفة تعني فك الارتباط بين الإنجاز العلمي الحضاري البشري والإحالات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة، وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن ناظم منهجي ديني غير وضعي..، وليست الأسلمة مجرد إضافة عبارات دينية الى مباحث علم النفس والاجتماع وغيره، بأن نستمد آيات قرآنية ملائمة لموضوعات العلم المقصود أسلمته، إنما الأسلمة إعادة صياغة منهجية ومعرفية للعلوم وقوانينها).

-ويعرفها د. عبد الوهاب المسيري بأنها (البديل المعرفي الإسلامي عن النموذج المعرفي العلماني السائد).

-ويعرفها د. محمد عمارة بأنها المذهب الذي يقيم المعرفة على ساقين اثنتين: الوحي وعلومه، والكون وعلومه، وليس على ساق واحدة هي الوجود”.[7] فإسلامية المعرفة جعلت الوحي في قلب العملية المعرفية، وهي الميزة التي تجعله منفرداً عن بقية المعارف الإنسانية.

-وقد طور د. طه جابر العلواني منذ عام 1994 مركزية الوحي في النموذج المعرفي الإسلامي من خلال مفهوم منهجي جديد هو “الجمع بين القراءتين”. وقد احتل هذا المفهوم مكانة كبيرة في البناء المعرفي لقضية إسلامية المعرفة، وهو تعبير عن ضرورة قراءة الكتاب المنزل المعجز وهو كتاب الوحي المقروء، القرآن الكريم، وقراءة كتاب الكون المتحرك الذي يتضمن ظواهر الوجود كافة لتوجد المعرفة الحضارية الكاملة التي تمكن الإنسان من القيام بمهام الاستخلاف ومقتضيات العمران دون السقوط في وضعية مادية متجاهلة لله وللغيب من ناحية، أو السقوط في اللاهوتية والكهنوتية النافية للأسباب ولقوانين الحركة وصيرورتها ولكافة السنن الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية من ناحية أخرى. ويمكن فهم منهج القراءتين باعتباره منهجا يشتمل على قراءة تستصحب الوحي في محاولة فهم الكون واكتشاف سننه، يتم من خلالها النزول من الكلي الى الجزئي، والربط بين المطلق والنسبي، وقراءة أخرى تستصحب سنن الكون في فهم آيات الوحي، وهذه القراءة تمثل عروجاً من الجزئي النسبي باتجاه الكلي المطلق. وبذلك ينعدم الفصام المزعوم بين الوحي والمعرفة الموضوعية للكون والوجود.

فالجمع بين القراءتين –كما يؤكد د. العلواني- هو “بناء لنظرية المعرفة التوحيدية التي تؤمن بأن للكون خالقاً واحداً أحداً، استخلف الإنسان وعَلَمه ما لم يكن يعلم، وجعل الوحي مصدراً إنشائياً أساسياً لمعرفته، والوجود مصدراً موازياً، بقراءتهما في إطار التوحيد الخالص تتكون المعرفة السليمة الرشيدة الهادفة، معرفة التوحيد والاستخلاف والأمانة والعمران والشهود الحضاري.”[8]

كيف تم التخطيط لتنفيذ مشروع إسلامية المعرفة؟

يعتبر بحث د. إسماعيل الفاروقي المعنون:Islamization of knowledge   والذي قدمه في مؤتمر إسلام آباد عام 1982، اللبنة الأولى في الرؤية الشاملة لفكرة إسلامية المعرفة. وقد حاول د. الفاروقي في بحثه الرد على سؤال محوري: كيف نقترب من العلوم الاجتماعية والإنسانية من أرضية إسلامية صرفة؟

فبدأ بتحديد مجموعة من المبادئ هي المكونة لجوهر الإسلام، ويرى ضرورة إخضاع النظريات والطرق والغايات الى هذه المبادئ في عملية إعادة تشكيل العلوم ضمن إطار الإسلام. وجاءت هذه المبادئ كالتالي:

  • وحدانية الله سبحانه وتعالى: فكل شيء في نطاق المعرفة إنما يحقق غاية أرادها الله تعالى، وذلك حتى يصبح النظام في هذا الكون نظاماً من الأسباب والغايات على قمتها تقف الإرادة الإلهية.
  • وحدة الخلق القائمة على قوانين وسنن، وواجب الإنسان أن يكتشف هذه السنن الإلهية وأن يفعلها لتحقيق مبدأ عمارة الأرض.
  • وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة: بما ينفي أي تعارض بين العقل والوحي، فكل ما يقرره الوحي لابد أن يكون منسجماً مع الواقع موافقاً له.
  • وحدة الحياة: سبب وجود الإنسان هو عبادة الله تعالى، وتتحقق تلك العبودية عن طريق الحرية والاختيار، فإرادة الإنسان الحرة هي التي أهلته لحمل الأمانة والقيام بدور الخليفة في الأرض. كما أن البشر كلهم متساوون، وإنما أعمالهم هي التي تميز بينهم.

وبعد هذا العرض لمنهجية أسلمة المعرفة وإطارها ورؤيتها المعرفية، انتقل د. الفاروقي الى استعراض الخطوات التنفيذية لخطة عمل مشروع أسلمة المعرفة، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

– إتقان العلوم الحديثة، وتقسيم هذه العلوم الى أنواع ومناهج ومسائل.

– المسح الشامل للعلم لتبين نشأته وتطوره التاريخي والإضافات الأساسية التي أسهم بها المتخصصون فيه، وتحديد أهم المراجع في هذا العلم.

– التمكن من التراث الإسلامي، حيث يتم تحديد ما يتصل بكل علم من العلوم في التراث الإسلامي. وهناك صعوبة في هذا الأمر نظراً لأن تصنيفات العلم الحديث لا توجد في التراث على هذا النحو، كما أن التراث قد يحتوي على معلومات قيمة لا يمكن تصنيفها طبقاً لأي تصنيف حديث. ولذلك فالأولى إعداد مجلدات من الموضوعات المختارة من التراث تضم ما له صلة بالعلوم الحديثة.

– التمكن من التراث الإسلامي (التحليل). لقد قام الأسلاف بواجبهم في ربط المشاكل التي واجهتهم بالنظرة الإسلامية، وعلينا –لكي نفهم بلورتهم للرؤية الإسلامية- أن نحلل كتاباتهم في ضوء الخلفية التاريخية، وهذا التحليل التاريخي لمساهمات التراث سيقودنا الى فهم أفضل للرؤية الإسلامية، نتعلم منه كيف فهمها الأسلاف وكيف حركتهم وكيف ترجموها الى مناهج تطبيقية.

– التقويم النقدي للعلم الحديث.

– التقويم النقدي للتراث.

– إعادة صياغة العلوم في إطار الإسلام.

وقد أنشئ المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1981 لحمل مهمة الإصلاح الفكري والمعرفي على أساس من هذا التصور المبدئي الذي قدمه د. إسماعيل الفاروقي. ثم تطورت فكرة إسلامية المعرفة لتصبح أكثر عمقاً وتركيبية على يد د. طه جابر العلواني عضو مجلس أمناء المعهد. فقام بالتأكيد على ست دعائم يتم عليها إرساء قضية إسلامية المعرفة، وهي:

  • بناء الرؤية الإسلامية وخصائص التصور الإسلامي.
  • بناء قواعد المنهجية الإسلامية.
  • بناء منهج للتعامل مع القرآن الكريم، واستخراج المبادئ العامة لكل علم من الكتاب الكريم.
  • بناء منهج للتعامل مع السنة النبوية المطهرة، واستخراج المبادئ العامة لكل علم منها.
  • إعادة دراسة تراثنا الإسلامي وفهمه وقراءته قراءة نقدية تحليلية معرفية تخرجنا من الدوائر الثلاث التي تحكم أساليب تعاملنا مع التراث، وهي دائرة الرفض المطلق، ودائرة القبول المطلق، ودائرة التلفيق الانتقائي العشوائي.
  • بناء منهج للتعامل مع الفكر الغربي والتراث الإنساني المعاصر.
  • استشراف آفاق المستقبل المعرفي الإسلامي، وتشجيع الإنتاج الإبداعي في كل المجالات الإنسانية والاجتماعية الإسلامية.

وأخيراً تم تجاوز التشبث بمصطلح “إسلامية المعرفة” لصالح أي من المصطلحات المعبرة عن نفس الموضوع مثال “المنهج التوحيدي للمعرفة” أو “إسلامية العلوم الاجتماعية والإنسانية” أو “التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية”.

ولعل مما يحسب لمدرسة إسلامية المعرفة أنها قذفت بالعقل الإسلامي في لب المعركة الفكرية، إذ كان المسلمون يواجهون الفكر الغربي عبر المقاربات والمقارنات وكأنه المرجع المطلق، وللمرة الأولى يتم الحديث عن تفكيك الفكر الغربي ومقولاته المعرفية لتتم إعادة تركيبه من خلال منظور ديني غير وضعي. فأضحت “إسلامية المعرفة” تسمية لمدرسة فكرية إسلامية، انخرط في الدعوة لها والكتابة عنها والتثقيف على أفكارها قطاع من الأكاديميين الإسلاميين في الجامعات، ومجموعة من العلماء والمثقفين، ولم يقتصر دعاتها والمتحمسون لها على طائفة أو مجموعة خاصة، وإنما استعار عنوانها الكثير من المهتمين بإصلاح الفكر الإسلامي وتأثر بفكرتها آخرون وإن لم يقتبسوا تسميتها.

الخاتمة:

أكد د. عبد الحميد أبو سليمان أن نجاح مشروع إسلامية المعرفة يتوقف على ثلاثة شروط أساسية[9]، وهي:

أولاً: قوة البناء النفسي أو الشجاعة النفسية: فمن الملاحظ أنه لم تقم في التاريخ قائمة لأمة لا يتمتع أبناؤها بالقوة والشجاعة النفسية، والأمة الإسلامية لم تفرض نفسها على التاريخ ولم تؤثِر فيه أقوى ما يكون التأثير إلا بما أوتيته أجيالها الأولى المؤسسة للحضارة الإسلامية من شجاعة انتفت معها مشاعر الخوف والدونية. وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم في قول الله سبحانه وتعالى: “خذ الكتاب بقوة” مريم-12. والكتاب رمز للحضارة والإصلاح وأساسهما، والقوة تشمل كل ألوان القدرة التي تنبع في أساسها من القوة النفسية للأمم.

ثانياً: سلامة منهج التفكير الحضاري: فبلوغ أي مجتمع للنجاح التاريخي والإنجاز الحضاري يتوقف على مقدار ما يتوفر له من الوعي الكامل بعنصري الزمان والمكان. فالفكر الذي ينكفئ على نفسه فكر مهزوم عقيم منحسر، وعقلية التقليد الناجمة عن العزلة الفكرية وقصور منهج الفكر عن الشمولية والانضباط والتحليل وتحري الأسباب لابد من أن تنتهي وأن تزال كل آثارها. إن تفوق منهج التفكير في سياق الظروف الخاصة بكل عصر، وما تحتوي عليه من إمكانيات وما تثيره من حاجات وما تطرحه من تحديات ومتغيرات أمر ضروري، ولا يتحقق نجاح ولا تكون غلبة الأمة من الأمم أو حضارة من الحضارات إلا بقدر توفر هذا الشرط في منهج فكرها ودليل فعلها.

ثالثاً: نهج الخلافة الذي ينطلق من رؤية حضارية تنبع من روح الحب وقصد الخير للخلق كافة: إن ما يميز الرؤية الحضارية أنها تنطلق من منظور شمولي إيجابي، يهتم بحاجات البشر ويسعى لما فيه مصلحتهم، وبالتالي فإنه بقدر ما يتحقق للأمم والحضارات من شمولية الرؤية الحضارية التي تنبع من روح المحبة للخليقة يكون نصيب تلك الأمم والحضارات من الاستمرار والبقاء. وما نراه اليوم من مقاومة شعوب كثيرة للحضارة الغربية إنما هو تعبير عن قصور هذه الحضارة عن أن تشمل بعنايتها ورعايتها الشعوب الأخرى، وذلك لغلبة الروح العنصرية والمادية الفردية عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.

[1] حسن العمري (2003). إسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر. بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع. ص. 20.

[2] محمود محمد شاكر (1987). رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. القاهرة. مطبعة المتنبي.

[3] محمود محمد شاكر. مرجع سابق.

[4] محمود محمد شاكر. مرجع سابق.

[5] مشروع التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، مفهوم موازي لمفهوم إسلامية المعرفة تبنته جامعة الإمام محمد بن سعود بالمملكة العربية السعودية.  

[6] إسماعيل الفاروقي (1982). أسلمة المعرفة. مجلة المسلم المعاصر. ع. 32.

[7] إسماعيل الفاروقي (2001). إسلامية المعرفة. بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع. ص. 7.

[8] إسماعيل الفاروقي (2001). مرجع سابق. ص. 8.

[9] عبد الحميد أبو سليمان (1996). معارف الوحي: المنهجية والأداء. مجلة إسلامية المعرفة. ع. 3.

المراجع

  1. إسماعيل الفاروقي (2001). إسلامية المعرفة: المبادئ العامة- خطة العمل- الإنجازات. ط. 1. بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع.، الطبعة الأولى 2001.
  2. جمال الدين عطية (2009). إسلامية المعرفة: الخبرة والمسيرة. الجيزة: دار الفاروقوق، 2009.
  3. طه جابر العلواني (1994).، إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات. ط. 2. فيرجينيا: الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الثانية- 1994.
  4. طه جابر العلواني (1996).، إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم. ط. 1. القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1996.
  5. طه جابر العلواني (2006). الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون. ط. 1. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، يناير 2006.
  6. تحرير د. عبد الوهاب المسيري (1995). إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد. القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 1995.
  7. عماد الدين خليل (1988).، حول “إسلامية المعرفة” المصطلح والضرورات. مجلة المسلم المعاصر. ع. 53.
  8. عماد الدين خليل (1992). مدخل إالى إسلامية المعرفة: مع مخطط مقترح لإسلامية علم التاريخ. ط. 3. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. سلسلة إسلامية المعرفة؛ (9.) المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1992.
  9. محمود محمد شاكر (1982). رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. القاهرة. مطبعة المتنبي.

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

Islamization of Knowledge

By: Mrs. Mohga Mashhour

Translated by: Ms. Rehab Jamal Bakri

Revised by: Prof. Neamat Mashhour

Any civilization depends on a religious belief or a philosophy. The distinctive feature of each civilization is its theoretical and value-based frame which is rooted through different sciences and theories.

إسلامية المعرفة وفلسفة التكامل المعرفي

د. عزيز البطيوي

إن الحديث عن فلسفة التكامل المعرفي هو حديث ينتمي إلى مجال الإبستيمولوجيا ولا يندرج ضمن مباحث العلم ذاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.