الثقافة الرقمية.. رؤية تحليلية
أ. نسرين حسن*
تمهيد
إذا كانت الثقافة هي مجموعة المعتقدات والعادات والسلوكيات المشتركة بين أفراد المجتمع الواحد، فإنه يمكننا القول بأن الثقافة الرقمية Digital Culture هي التغيرات الثقافية التي نتجت عن تطوير ونشر التكنولوجيا الرقمية وخاصة الإنترنت وشبكة الويب حيث تم دمج هذه التكنولوجيا في جميع أنشطة الحياة مما أثمر معطيات ثقافية جديدة يفرضها عالم التطور العلمي والحضاري. وبعد أن كانت الثقافة تعبر عن الموروث الفكري الذي تتميز به أمة دون الأخرى أدت الثورة التكنولوجية إلى توحيد شعوب العالم وتشكيلهم وفق النموذج الغربي الحداثي. فأصبحنا نُعرٍف الثقافة الرقمية باعتبارها مجموعة من أنماط السلوك والعادات والأعراف والمعارف المتبعة عند استخدام الأجهزة المتطورة في العالم الافتراضي، وامتلاك المهارات والمقدرات للمشاركة في هذا العالم الرقمي.
ونحاول في هذا المقال توصيف ملامح هذا العالم الجديد في بعض مجالاته ثم إثارة بعض المشاكل الناجمة عن الحياة في ظل هذا المجتمع الرقمي الافتراضي الجديد.
بعض ملامح الثقافة الرقمية الجديدة:
تمثل ثورة المعلومات التي يعيشها العالم في الوقت الراهن أحد أهم مراحل التطور الكبرى في تاريخ الإنسانية. ومن أهم نتائج هذه الثورة المعلوماتية التغيرات في المشهد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والإعلامي والتعليمي والمعرفي الحديث. وقد استلزمت التطورات الواسعة في هذا العالم الرقمي من الأفراد ضرورة الإلمام بالإمكانيات التقنية، والوصول إلى مستوى عالٍ من البراعة والمهارة في استخدام الكومبيوتر والهاتف الذكي والكاميرا الرقمية وغيرها من الوسائل التكنولوجيا الحديثة.
ونحاول هنا تلخيص بعض ملامح التطورات في المجالات المختلفة:
أولا: المجال الإعلامي: يمثل المجتمع الرقمي فرصة للمجتمعات والثقافات لتقدم نفسها للعالم، كما أنه يوفر لكل فرد مرتبط بالإنترنت فرصة أن يكون إعلاميا وصانعا للمحتوى أيا كان نوع هذا المحتوى، نصا مكتوبا أو صورة أو مقطع فيديو. إذ يمكننا القول أن الصناعة الإعلامية تعتبر من أكثر المجالات تأثرا بالثورة المعلوماتية، فمع ظهور هذا الشكل الجديد من الإعلام بأنماطه في استهلاك المعلومات وإنتاجها ونشرها والتشارك في مضامينها نشأت عدة ظواهر:
1-كسر احتكار المؤسسات الإعلامية التقليدية الكبرى التي مثلت لوقت طويل وسائل تواصل من طرف واحد، حيث يصعب على القارئ أو المشاهد أو المستمع إبداء رأيه فيما يتلقاه من خلالها. وساعد ذلك في ظهور ما يسمى بالإعلام الجديد أو ال New Media.
2-ظهور طبقة جديدة من الإعلاميين غير المتخصصين إلا أنهم أصبحوا محترفين في استخدام تطبيقات الإعلام الجديد.
3- ظهور منابر جديدة للحوار حققت درجة عالية من التفاعلية بين أطراف عديدة في جميع أنجاء العالم، فقد أصبح باستطاعة أي فرد في المجتمع أن يرسل ويستقبل ويتفاعل ويعقب ويستفسر ويعلق بكل حرية وبسرعة فائقة على ما يدور في هذا العالم الافتراضي، فأصبحت الأخبار والمعلومات في ظل هذا الإعلام الجديد تأتي أفقية تواصلية فتكون دائما غير مكتملة وقيد التطوير المستمر، وبهذا يصبح القارئ قادرا على تصحيح المعلومات أو الإضافة اليها.
4- المشاركة في وضع أجندات النقاش حيث ينجح الإعلام الجديد أحيانا في تسليط الضوء بكثافة على القضايا المسكوت عنها في وسائل الإعلام التقليدية، مما يجعل هذه القضايا هاجسا للمجتمع للتفكير فيها ومناقشتها ومعالجتها مع تفاوت أهمية هذه الموضوعات.
5-نشوء ظاهرة الشبكات الاجتماعية الافتراضية، وهي مجموعة من الأشخاص يتحاورون باستخدام وسائل الإعلام الجديد، لأغراض مهنية أو اجتماعية أو تربوية، وقد يكون هذا المجتمع الافتراضي أكثر قوة وفاعلية من المجتمع الحقيقي لانتشاره عبر المكان وتحقيق أهدافه بأقل قدر من القيود والمحددات.
6-اعتمدت الثقافة الرقمية على الصورة بأبعادها السيميائية والدلالية، فأصبحت الصورة في شبكات التواصل الاجتماعي آلية العالم الافتراضي التي تساهم بشكل فعال في التأثير وتشكيل الرأي العام وتوجيهه.
ثانيا: المجال التعليمي والمعرفي:
حقق العالم الرقمي في المجال التعليمي قفزة كبيرة مع جائحة كورونا، فبسبب تداعيات هذه الأزمة الصحية العالمية والحظر الشامل والجزئي أصبح التعليم رقميا حتى يمكن تجاوز هذه المرحلة المؤقتة بأقل خسائر ممكنة، فحدثت طفرة كبيرة في تحويل البيئة التعليمية التقليدية إلى بيئة رقمية من خلال تمكين الطلاب من التفاعل والاستفادة من التقنيات الحديثة وإكسابهم المهارات الشخصية والتقنية اللازمة للاستخدام الإيجابي للتقنية الجديدة. وقد وسعت الثقافة الرقمية بلا شك خبرات الطلبة وساهمت في إضافة موسوعة من المفاهيم والمعارف إلى عالمهم، وانتقلت علاقة الطالب بالكتاب من المطبوع إلى الرقمي، وأصبح معظم الأفراد يستفيدون من المكتبة الرقمية التي توفرها لهم وسائط الثقافة الرقمية. فعلى سبيل المثال تم وضع المناهج الدراسية والمحتوى التعليمي على بنك المعرفة المصري لجميع المراحل التعليمية لمساعدة الطلاب على استكمال دروسهم إلكترونيًا عبر الإنترنت في ظل أزمة مرض كورونا.
إلا أن هذا العالم الجديد قد وضع المعلم أمام تحد كبير نحو تطوير مهاراته الرقمية والتدريب المستمر عليها وعلى الأنظمة التقنية المختلفة والبرامج ووسائلها ليصبح عضوا فاعلا في المنظومة التعليمية.
أما في المجال العلمي والمعرفي فقد قامت العديد من المكتبات والجامعات والمجلات والمراكز البحثية بإتاحة مواقعها مجانًا للقراء والباحثين. كما حدث تغير كبير في مجال النشر العلمي من خلال شبكة الانترنت، حيث حدث تطوير وتسهيل وفتح قنوات جديدة للنشر العلمي، فالنشر الرقمي يعد تقنية رائدة ذات أهمية بالغة في دعم الباحثين وطلاب الجامعات، فقد مكنهم من تلبية احتياجاتهم المعلوماتية بقدر كبير من السهولة واليسر.
ثالثا: المجال الاقتصادي:
يشهد الاقتصاد في ظل الثورة الرقمية تحولا كبيرا في الدعائم الأساسية للإنتاج، فإذا كانت عوامل الإنتاج في الاقتصاد التقليدي هم الأرض والعمالة ورأس المال، فإن الاقتصاد الجديد والمعروف باقتصاد المعرفة knowledge Economy يعتمد بالأساس على المعرفة التكنولوجية والإبداع والابتكار والمعلومات والرقمنة. فالمعرفة أضحت المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، وصار للذكاء المتجسد في برامج الكومبيوتر والتكنولوجيا أهمية تفوق رأس المال أو العمالة، ذلك أن هذه التكنولوجيا الجديدة تعمل في تحسين كفاءة الأداء لرأس المال البشري. وفي ظل هذا النظام الاقتصادي الجديد نجد تطبيقات عديدة مبتكرة، منها على سبيل المثال إيجاد أنظمة مبتكرة للدفع بالتجزئة من خلال شركات تسويق الكترونية ضخمة، ووجود وسائل نقل ذكية مثل شركة أوبر، وعملة البيتكوين الرقمية، وغيرها من إبداعات هذا الاقتصاد المعرفي الثوري.
رابعا: المجال التربوي:
للثقافة الرقمية تأثيرا كبيرا على المنظومة التربوية، فمن الملاحظ أن الأطفال في العصر الرقمي قد تعلقوا بوسائط الثقافة الجديدة بعد أن هيمنت على المجتمعات، فأثرت فيهم حتى بات يطلق عليهم مصطلح الأطفال الرقميين (Digital kids)، إذ أنهم ينمون في عالم زاخر بالرموز والأدوات الرقمية والتواصل الاجتماعي في ظل المجتمع الشبكي، وأصبحت الخبرات التي يحصل عليها الأطفال في سن مبكرة نتيجة تفاعلهم مع تطبيقات الألعاب وغيرها خبرات غير تقليدية، حيث أتاحت لهم التعرف على أحدث المعارف والاكتشافات، والاستفادة مـن خـدمـات المواقع الثقافية والمكتبات الإلكترونية، كما أدت دورًا إيجابيًا في عملية التعليم، وتـزويـد الطفل بخبرات متنوعة، وتعزيز المفاهيم الإيجابية حول القيم الثقافية والتعليمية الحديثة.
خامسا: المجال الثقافي:
لقد شكًل الوضع الخاص الذي عاشه العالم بسبب تفشي وباء كورونا مفهومًا جديدًا للثقافة الرقمية من خلال تسويق وترويج مظاهر ثقافية وفنية خلال مرحلة الغلق المجتمعي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أنه تم إطلاق نظام رقمي عالمي جديد من قبل شركة “جوجل” للفنون والثقافة، وهو عبارة عن منصة تسمح للمثقفين وهواة الفن بعرض أنشطتهم ومعارضهم. كما تم في مصر نقل العديد من الحفلات الغنائية والموسيقية والأوبرالية online في فترة الغلق الكامل خلال المرحلة الأولى من جائحة كورونا.
سادسا: المجال التواصلي:
إن التواصل باعتباره من أهم الحاجات الإنسانية الأساسية قد بلغ ذروة تحققه في هذا العصر، ذلك أن شبكة التواصل الرقمي مكنت الأفراد من تأسيس وصيانة روابط اجتماعية مع الأهل والأصدقاء من خلال تطبيقات خاصة طرحت نموذج للمجتمع المتشابك المساعد على تحقيق المزيد من التواصل الإنساني. فقد أعاد الكثيرون علاقات مع ذويهم وأصدقائهم بالمراحل الدراسية المختلفة والتي كانت قد انقطعت نتيجة الهجرة أو مشاغل الحياة المختلفة.
ومع انتشار وسائل التواصل الرقمي بصورة مذهلة تم إعادة تعريف الكثير من المفاهيم المستقرة منذ قرون وهي المجتمع والهوية والزمان والمكان والثقافة والخصوصية والسرية والقيم، فبدل من التعريف التقليدي للمجتمع بأفراده المقيمين على أرض واحدة في زمان ما أصبح هناك ما يعرف بالعالم الاجتماعي الافتراضي، فالمستخدمون يؤسسون في هذا العالم علاقات اجتماعية ربما تتطور إلى عمل أو زواج أو صفقة تجارية متجاوزين الحواجز المكانية، مع تسريع كبير لوتيرة الحياة. وقد أصبح من الشائع لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية إخفاء هوياتهم الحقيقية، ومع ما للهويات المجهولة من مضار على الحوار تتعلق بالصدق والموثوقية يرى البعض أن عدم معرفة الشخص الذي تحاوره معرفة شخصية يجعل الحوار يتسم بالجرأة والصدق إذ يحرر المستخدم نفسه من قيود الزمان والمكان والمجاملات.
ومن الجدير بالملاحظة أن بعض المفكرين والكتاب والإصلاحيين ورجال الدين والمثقفين يتخذون من الفيسبوك فضاءً يناقشون فيه مع أصدقائهم ومعجبيهم أفكارهم الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية وغيرها، إذ يلجأ كثيرون إلى إنشاء ما يسمى “بالصفحات” pages أو “المجموعات” Groups .
وعلى الرغم ما قدمته الثقافة الرقمية من فوائد مهمة للبشرية، فإن هناك تساؤلات تثار حول التأثير السلبي المتوقع لتلك الثقافة على البشر من نواحي عديدة، وفى هذا السياق ننتقل إلى مناقشة الأوجه المختلفة التي تؤثر بالسلب على حياة الفرد والمجتمع في هذا العالم المعلوماتي الجديد.
الثقافة الرقمية.. مخاطر وتحديات:
إذا كان المجتمع الرقمي في المجتمعات المتقدمة هو وليد سيرورة الحداثة والعقلانية والتطور، فإن الطفرة الرقمية في المجتمعات النامية أصبحت واقعا معاشا إلى جانب بنية ثقافية تقليدية لمجتمعات ما زالت تعاني من الأمية. هذا الوضع خلق تناقضا في الوعي الثقافي للمواطن بين ثقافة تقليدية وثقافة حداثية تطمح إلى اللحاق بالركب الحضاري للعصر، فأصبح واقع الهشاشة الثقافية والرقمية يلقي بثقله على هذه المجتمعات. ويعتبر هذا الأمر هو السبب الخفي وراء كثير مما تعاني منه المجتمعات النامية من ظواهر سلبية.
- إدمان التواصل الشبكي:
في عام 1995 أدخل الطبيب النفسي الأمريكي “إيفان جولدبيرج” مصطلحا جديدا في مجال الطب النفسي هو “اضطراب إدمان الإنترنت” Internet Addiction Disorder ، ويعني إدمان الإنترنت اعتياد الشخص الجلوس أمام الأجهزة المتصلة بشبكة الإنترنت -سواء الكمبيوتر أو الهواتف الذكية- واستخدامهم لفترات طويلة دون الانتباه للوقت الذي قضاه أو يملك القدرة على التوقف. وبسبب هذا الإدمان فإن الشخص يهمل حياته الشخصية ومهام عمله اليومي ويفقد القدرة على الاندماج في المجتمع. ويكون اهتمامه منصبا فقط على الإنترنت ويعتبره نافذته الوحيدة على العالم، هذا العالم الافتراضي الخيالي. ومن الملاحظ أن المدمن للإنترنت يصاب بالتوتر الشديد والقلق المرضي إذا حدث انقطاع في شبكة الإنترنت، وهي حالة قريبة مما فيه آخرين من مدمني المخدرات والكحول والقمار. وعادة ما يعاني هؤلاء الأشخاص من العزلة الاجتماعية واضطرابات في النوم وأحيانا الاكتئاب. وهناك عدة أشكال لإدمان الإنترنت:
-إدمان المعرفة: ويكون في صورة الانبهار بالكم الهائل من المعلومات، الأمر الذي يؤدي إلى قضاء ساعات طويلة في التصفح والبحث في قواعد المعلومات. فهؤلاء الأفراد يبددون كمية غير مناسبة من الوقت في بحث وجمع وتنظيم المعلومات.
-إدمان الدردشة: ويتم في هذا النوع من الإدمان الاستغناء عن العلاقات الواقعية لصالح العلاقات الافتراضية.
-إدمان الألعاب.
-الإدمان المالي: وفيه يتصرف الشخص بأمواله من خلال شبكة الإنترنت في أمور ليس بحاجة إليها كالمشاركة في أسواق المال أو المزادات.
-الإدمان الجنسي: وفيه يقضي الشخص أوقات طويلة على المواقع الإباحية وغرف المحادثات الرومانسية.
- التأثير السلبي على الأطفال:
لقد حذّر الأطباء من تداعيات نفسية وجسدية تطال الأطفال جراء استعمالهم المفرط للأجهزة الإلكترونية، فهم أكثر عرضة للقلق والاكتئاب والعزلة والشعور بالوحدة والكسل والخمول واضطرابات النوم، بالإضافة للإدمان المرضي، وفقدان المقدرة على التفكير الحر، وتعزيز ميول العنف والعدوان لديهم، خاصة وأن نسبة كبيرة من الألعاب الإلكترونية تعتمد على العنف في التسلية فيستمتع الطفل بلعب التدمير وقتل الآخرين. أما عن الأمراض الجسدية التي يسببها الجلوس أمام أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية لساعات طويلة، فتتمثل بالسمنة والخمول الجسدي والصداع وإجهاد العين وتشنج العنق وآلام في الكتفين والظهر.
كما شكلت وسائط الثقافة الرقمية مخاطر كبيرة على سلامة الأطفال وخصوصيتهم، إذ زادت فرص تعرضهم للمحتوى غير اللائق (الصور الجنسية والإباحية والعنيفة والمواد العنصرية والتمييزية وخطاب الكراهية والمواقع التي تروّج لسلوكيات غير صحية مثل إيذاء النفس والانتحار…)، بالإضافة إلى التنمر والتحرش.
والملاحظ اليوم أن نسبة الثقافة المكتوبة قد تضاءلت بشكل لافت للانتباه لدى الأطفال، فثقافة المطالعة كقيمة معرفية وإنسانية تشهد تراجعًا مؤلمًا في نسبة القراءة بين الصغار، حيث أشار الكثير من الباحثين وعلماء الاجتماع إلى أن علاقة الطفل بالكتاب أصبحت علاقة مخيبة للآمال ومحبطة، بل تكاد تكون ثقافة معدومة، والسبب في ذلك دون أدنى شك هو سيطرة الثقافة الرقمية بكل ما تحويه من إيجابيات وسلبيات على فكر وسلوك الأطفال والشباب، فأصبحت تشكل إدمانًا رهيبًا لم يعد بإمكان هذا المتلقي التخلص منه.
- التأثير السلبي على اللغة:
تأثرت اللغة العربية كثيرا بظهور الإنترنت، فقد لجأ المستخدمون إلى الأحرف والأرقام اللاتينية للتعبير عن أنفسهم في المحادثات المكتوبة بينهم، فأصبح من المعتاد عند عدد من مستخدمي الإنترنت والهواتف الذكية الذين لا يتقنون اللغة الإنجليزية الكتابة باللغة العربية ولكن باستخدام الأبجدية الغربية، وإدخال بعض الأرقام إلى جانب الحروف للدلالة على الصوت المطلوب الذي لا توفره الأبجدية اللاتينية، والغريب أن هذه الظاهرة لا تزال مستمرة إلى الآن على الرغم من تطور تطبيقات الإنترنت باللغة العربية وحل المشكلات التي وجدت في البداية.
لقد أسهمت الثقافة الرقمية فى تراجع استخدام اللغة العربية الفصحى لصالح العامية، حيث تتأثر اللغة والتعامل بها بخصوصية طبيعة الوسيط الناقل؛ فالخطاب المكتوب مثلًا يطور القواعد النحوية بطريقة أكثر دقة وثباتًا من الرسائل الالكترونية. كذلك ونتيجة لضعف المستوى عند الفرد واعتياده على ممارسة تخاطبه اليومي باللهجات المحلية، فقد تدهورت اللغة العربية لديه من المستوى الفصيح إلى مستوى متدنٍ. ومع تعدد أدوات الثقافة الرقمية واتساع دائرة إنتاج النصوص لتشمل الفرد بمستوياته المختلفة التعليمية والفكرية وغيرها؛ زاد الوضع اللغوي تعقيدًا نتيجة لتبادل حركة النصوص بين معظم أفراد المجتمع باللهجات المحلية الدارجة وحينئذ تصبح قواعد اللغة والهجاء غير مهمة.
كذلك فقد ظهرت سلوكيات تعبيرية جديدة لم تكن في قيم المجتمع. فلغة هذا الجيل المتداولة على المنصات الإلكترونية تعرف بلغة “الإيموجي” وهي خليط من العربية المحلية والإنجليزية ولغة الأيقونات واللايكات التي تنتشر على وسائل الاتصال محل اللغة العربية: أيقونات عدد من رسوم القلوب للتعبير عن الحُب، والأزهار المتكررة للتعبير عن تمني الصحة وحسن الحال، واليدان المضمومتان للتعبير عن الشكر، وصيغ التمنيات الجاهزة للتعبير عن المباركة بالأعياد، بدلاً من المعايدات ذات الطابع الحميم وما يميزها من مشاعر التودد والتقارب، وعليه أضحت المشاعر النفسية والاجتماعية مختزلة بعدد من هذه الرموز، أو منوطة بها لأنها تتيح نقل هذه المشاعر بطريقة سهلة وبسيطة.
وحتى باستخدام اللغة الإنجليزية، ظهرت لغة جديدة سميت “لغة الإنترنت”، ومن أمثلة على تلك اللغة استخدام الحروف LOL للدلالة على الضحك بصوت عال، Laugh Out Loudly في أثناء الحوار أو الدردشة، والخطير في الأمر أن تأثير لغة الإنترنت امتد إلى الحياة الواقعية للناس، إلى درجة أن بعض الطلاب يستخدمها للكتابة والتعبير. فبدأ ظهور فجوة تتسع يوما بعد يوم بين اللغة الرقمية واللغة المكتوبة أو المقروءة على الورق، من حيث البنية أو الشكل والنظام والقوة.
- التأثير السلبي على الثقافة:
المتتبع لمسار الثقافة الرقمية الجديدة يجد أنها نجحت فى إشاعة نمط التثقيف العام أمام المستخدمين دون استثناء، إلا أنها بإتاحة الفرصة لهذا النمط من التثقيف الأفقي؛ ليكون في متناول الجميع دون قيود، تم تسطيح الثقافة وإشاعة هيمنة العمومية في الكتابة على مصراعيها، حتى إن الكثير من المستخدمين استساغ أن يطلق لذَاته ما شاء من الألقاب التي كانت سابقًا حكرًا على النخب، وذوي الاختصاص، بعد أن أصبح الكثير من المستخدمين يتعاطى الكتابة أو على الأقل إعادة إنتاجها، حتى إن كان غير مؤهل لها، سواء تم ذلك بإبداعه الذاتي، أو باستخدام تقنية النسخ واللصق، ودون أن يكلف نفسه مشقةَ البحث والقراءة المكثفة كما كان الحال عليه من قبل، حتى أصبحنا اليوم إزاء تدفق سيل من النصوص الباهتة، لغة ومبنى ومحتوى، نتيجة لذلك، ظهر مفهوم “المثقف الرقمي” أو الافتراضي، إذا جاز التعبير، متلقيًا كان أو ناشرًا لها، وذلك بغض النظر عن عمق ثقافته أو سطحيتها، وقد أطاح ذلك بمعايير الثقافة التقليدية، سواء من حيث إلغاء احتكار دور النشر، والتوزيع لها، أو الحد من دور المكتبة، في تدفق المعرفة إلى الجمهور، أو من حيث الافتقار إلى معايير الجودة، وإهمال الحرص على متانة المعلومة ودقة المضمون جانباً، الأمر الذي أدى إلى ظهور ثقافة عصرية مُسطحة تفتقر إلى معايير الرصانة، وفى هذا الصدد أكد “هابرماس” على أن الثقافة في عصر الحداثة دخلت مرحلة التصنيع، وأصبحت سلعة مثلها مثل السلع التجارية، هذا لأنها ارتبطت بالآلة الإنتاجية الاقتصادية، وظهرت عملية الإنتاج الجماهيري للكتب والمجلات الترفيهية رخيصة الثمن.
- التأثير السلبي على الهوية:
لا شك أن تحديات الثقافة الرقمية في ظل المجتمع الشبكي تفرض تحديد مفهوم المواطن الافتراضي، وأيضًا التساؤل عن دلالات الانتماء، بحكم أن الوجود الافتراضى في المجتمع الشبكي يحتم على الإنسان المستخدم التنقل بين ثقافات عدة بل التردد على أوطان مختلفة، متجاوزًا الحدود الجغرافية والزمنية، فهو في وضعية تنقُل دائم بين عالمين: أحدهما افتراضي ممتد يتيح له المستجدات العالمية التي تكسبه وجوده الافتراضي وتمنحه مواطنة عالمية، والآخر حقيقي يعيد ربطه بواقعية مجتمعه المحلى، مما يُؤدي إلى وجود المواطنة الافتراضية كوسيلة وموت الهوية الوطنية كقيمة، وتنامى موجة الاغتراب بشكليها السياسي والاجتماعي. فالحضارة الرقمية ثقافتها خاصة بها، حيث أصبحنا بصدد التنميط الثقافي الكوني للجيل الجديد في الملبس والذوق والطعام والشراب (فاست فود) والتفضيلات الموسيقية، والانتماء إلى الشلَّة الرقمية، فلم تعد الهوية مربوطة بالتاريخ والمكان، حيث نسفت التقنية الرقمية حدود الزمان والمكان، من ثم أصبحنا بصدد هوية الحساب الرقمي والموقع على تقنيات التواصل الاجتماعي في اتجاه نحو هوية كونية افتراضية، ومعه قد تتحول الهوية الوطنية والثقافية إلى مجرد انتماء رسمي شكلي (جواز السفر وبطاقة الهوية). فأكثر ما هو حميمي يخصنا وهي هويتنا تأثر بتقنية الاتصالات الرقمية، ومما يزيد الأمر خطورة أن كثيرا من الناس يبني شخصية بديلة له على الإنترنت وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فتغيرت بداخلنا الطريقة التي نتصور بها هويتنا.
ومن السلبيات الكبيرة للتكنولوجيا الجديدة انعدام الخصوصية الذي تتسبب في الكثير من الأضرار المعنوية والنفسية لدى الأفراد، قد تصل في بعض الأحيان لأضرار مادية، فملف المستخدم على الشبكة الإلكترونية يحتوي على جميع معلوماته الشخصية إضافة إلى ما يبثه من هموم، وهذه المعلومات قد تصل بسهولة إلى يد أشخاص قد يستغلونها بغرض الإساءة والتشهير.
الخاتمة:
لا سبيل للعودة إلى الخلف في مجال التكنولوجيا الرقمية، وكل الجهود لتجاهلها أو تقييدها بالتشريعات غالبا ستبوء بالفشل، إذن لا جدوى من الإنكار إنما يجب وضع سياسات ذكية تعظم من فوائد التكنولوجية الجديدة وتقلل من الارتباكات الحتمية المصاحبة. كذلك، ولتعظيم الفائدة المرجوة من هذه التكنولوجيا الجديدة، يمكن السعي للدمج بين الثنائيات، بين الاقتصاد التقليدي واقتصاد المعرفة، بين التعليم النظامي والتعليم الإلكتروني، بين العولمة والمحلية. وبذلك يمكن جني مميزات كلاهما في تكاملهما معا.
وأخيرا يجب الالتفات إلى معنى مهم في تعاملنا مع التكنولوجيا الحديثة، وهو ضرورة التمييز بين توظيف هذه التكنولوجيا لصالح الفرد والمجتمع وبين الارتهان لها بما يجعل الشخص تابع لها ضامرا نفسيا أمام سطوتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة في العلوم السياسية.