الصورة الأدبية للقرآن

الصورة الأُدبية للقرآن*

أ. مالك بن نبي

إن الجانب الأدبي للرسالة، ذلك الذي كان في نظر المفسرين التقليديين موضوع الدراسة الأول، يفقد بعض أهميته شيئاً فشيئاً في عصرنا الذي يهتم بالعلم أكثر من اهتمامه بالأدب.

وحقاً إن سيطرتنا القاصرة على عبقرية اللغة الجاهلية، لاتسمح لنا بأن نحكم – عن معرفة – على سمو الأسلوب في القرآن. ومع ذلك فإن هناك آية تستحق انتباهنا، وهي تمدنا في هذه النقطة بمعلومات تاريخية بالغة الأهمية. إذ أن القرآن يؤكد صراحة هذا السمو الذي يقصد به إعجاز العبقرية الأدبية في عصره، فهو يقذف في وجوه معاصريه بهذا التحدي المذهل:

(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [ البقرة: 23].

ولم يذكر التاريخ أن أحداً قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب، وأن إعجازه الأدبي قد أفحم فعلاً عبقرية ذلك العصر.

ولكن لدينا – فيما يخص بحثنا هذا – طرقاً أخرى لإصدار حكم، في هذا الجانب الخاص من المسألة.

فالنفس البدوية طروب في جوهرها، وجميع مطامحها وانفعالاتها واندفاعاتها إنما تتجلى في تعبير موسيقي موزون، وهو بيت الشعر الذي سيكون مقياسه خطوة الجمل السريعة أو الطويلة، وعلم العروض نفسه في جوهره بدوي، إذن فصورة العبقرية البدوية قد انطبعت في الشعر.

هذه اللغة الرخمية التي تردد خلالها صهيل الخيل، ودوت في جوانبها قعقعة السيوف، قد كانت تقصف هنا وهناك صيحات الحرب يطلقها الفتيان في كل مكان، إنما تعبر عن الحماسة الأسطورية التي كان بطلها (عنترة)، أو عن النشوة الشعرية التي كان فتاها ( امرؤ القيس).

والمجاز في اللغة العربية – كما سنرى فيما بعد – يستعير عناصره من سماء بلا سحاب، ومن صحراء بلا حدود، تعبرها القطا أو تثب خلالها الآرام، فهي لا تعبر عن أية حيرة روحية أو ميتافيزيقية، وهي تجهل دقائق المنطق، وتجريد الفكر الفلسفي أو العلمي أو الديني.

وثروتها اللفظية هي تلك التي تحقق حاجات الحياة البسيطة الخارجية أو الداخلية، لبدوي لا لحضري.

تلك هي الخصائص العامة لهذه اللغة الجاهلية الوثنية المترحلة البرية، التي سيطويها القرآن بعبقريته الخاصة كما يعبر عن فكرة عالمية.

وسيختار القرآن للتعبير عن هذه الفكرة صورة جديدة هي: (الجملة). فالآية القرآنية ستقصي ناحية شعر البادية، ولكن نسقه سيبقى على كل حال، إذ هي قد تحررت من الوزن فحسب فاتسع مجالها.

وهناك شهادات سجلتها لنا السيرة في ذلك العصر، تقدم لنا معلومات واسعة عن التأثير الغلاب الذي كان لآيات القرآن على النفس البدوية.

فعمر رضى الله عنه يتحول إلى الإسلام بفعل هذا التأثير، على حين قد عبر الوليد بن المغيرة –الذي كان مثالاً في الفصاحة والفخر الأدبي– عن رأية في (سحر القرآن) بقول: ” والله لقد سمعت كلاماً ماهو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق؛ وإنه يعلو ولا يُعلى عليه”.

قال ذلك رداً على أبي جهل عن رأيه فيما سمع من (محمد). هذه اللغة التي لم تعبر حتي تلك اللحظة –قبيل الرسالة– إلا عن ذكاء بدو الصحراء، تحتاج بقدر ما أن تثري لكي تشبع رغبات عقل واجهته –منذ ذلك الحين- المشاكل الغيبية والشرعية والاجتماعية بل العلمية أيضاً.

إن ظاهرة لغوية كهذه فريدة في تاريخ اللغات، إذ لم يحدث للغة العربية تطور تدريجي، بل بعض ما يشبه الانفجار الثوري المباغت، كما كانت الظاهرة القرآنية مباغتة.

وبهذا تكون اللغة العربية قد مرت طفرة من المرحلة اللهجية الجاهلية إلى لغة منظمة فنياً، لكي تنقل فكرة الثقافة الجديدة والحضارة الوليدة.

لقد ذهب بعض المفسرين إلى أن القرآن لم يستخدم مطلقاً ألفاظاً أجنبية عن لهجة الحجاز، مع أنه من البين أن في القرآن ألفاظاً جديدة، وخاصة تلك الألفاظ الآرامية التي استخدمها لتعيين مفاهيم توحيدية جديدة من الناحية النوعية، كلفظ (ملكوت)، والأسماء الخاصة مثل (جالوت وهاروت وماروت)، فمن وجهة الدراسات اللغوية يبدو أن القرآن وكأنما قد استحضر ثروته اللفظية الخاصة، وأنشأها إنشاءً بطريقة فجائية وغريبة.

هذه الظاهرة قد خلقت من الوجهتين الأدبية واللغوية فصلاً تاماً بين اللغة الجاهلية واللغة الإسلامية.

وليس يغض من شأن هذه النتيجة ذلك الفرض الباطل الذي قال به المستشرق (مرجليوث)، فإن الجدال حول هذه المسألة قد صفي وأغلق في مصر بما قام به الرافعي ومدرسته من دراسات، فلم يعد (لفرض) العالم الإنجليزي مجال إلا بعض الدراسات المغرضة.

أية كانت وجهة الأمر، فإن المسألة اللغوية التي أثارها القرآن تستحق في ذاتها دراسة جادة تضم ألفاظه الجديدة، واستخدامه الفذ للكلمات، وخاصة في مجال الأخرويات، وربما ظفر علم التفسير من ذلك بمجال رحيب يستطيع فيه أن يلاحظ امتداد الظاهرة القرآنية.

ولقد كان حتماً على القرآن – إذا ما أراد أن يدخل في اللغة العربية فكرته الدينية، ومفاهيمه التوحيدية – أن يتجاوز الحدود التقليدية للأدب الجاهلي.

والحق أنه قد أحدث انقلاباً هائلاً في الأدب العربي بتغييره الأداة الفنية في التعبير، فهو من ناحية قد جعل الجملة المنظمة في موضع البيت الموزون، وجاء من ناحية أخرى بفكرة جديدة، أدخل بها مفاهيم وموضوعات جديدة، لكي يصل العقلية الجاهلية بتيار التوحيد.

على أن هذه المفاهيم ليست مترجمة في آيات القرآن فحسب، بل إن القرآن قد هضمها وتمثلها، ثم كيفها حتي تناسب العقلية العربية.

ومما يدلنا على هذا، أن نأخذ مثلاً التعبير الإنجيلي (مُلك الله Royaume de Dieu ) ونرى هل نجده في القرآن بالتعبير نفسه؟

إن القرآن لم يضعه بحرفه، بل شكله في هيئة خاصة تمنحه أصالته الإسلامية، فكلمة (Royaume) مرادفها العربي لفظ (ملك) ولقد تمثله القرآن في صورة اللفظ (أيام)[1].

والقرآن يتحاشى بهذا التكييف اللبس الذي قد ينشأ من الترادف بين الألفاظ (مملكة Royaume – ملك Domaine  – مُلك) أو لفظ كَون (Creation) الذي يغير كثيراُ من مغزى التعبير الإنجيلي.

فالقرآن قد وفق ولا شك في أن يصوغه في ذلك التعبير الأصلي (أيام الله)[2] الذي لا يعثر عليه أمهر المترجمين.

ويمكننا أن نسجل هذه الملاحظات نفسها بالنسبة لجميع المفاهيم الإنجيلية الأخرى التي جاءت في القرآن باللسان العربي، فقد تمثل مفهوم العبارة (Esprit Saint)، ثم صاغه في ذلك التعبير الموفق (روح القدس).

ولقد تعرضت الثروة اللفظية التي جاء بها القرآن في جميع تفاصيلها لمثل هذا التكييف الرائع، كما حدث لذلك الاسم الخاص (Putiphare) وهو اسم الشخصية الكتابية التي أطلقت عليها رواية القرآن لقب (العزيز) في قصة يوسف، ولنا أن نتساءل عما إذا كانت هناك صلة في المعنى بين الاسم الإسرائيلي واللقب القرآني، فالتفسير العبري يبدو أنه يقصد بكلمة Putiphare اشتقاقًا مصريًا يبدأ من الأصل Puti= favori: (عزيز)، والأصل phare (مستشار أو ناصح).

ونقلًا عن بحث القسيس (فيجورو Vigoureux) في الموضوع[3] نعرف أن هذه الكلمة مصرية مركبة معناها (عزيز الإله شمس).

وعلي أي من الرأيين نرى أن التكييف الاشتقاقي القرآني قد حذف اللفظ المكمل- الإضافي، ليتمثله في صورة أكثر تطابقًا مع روح التوحيد الإسلامية، فإذا به يكتفي بلفظة (العزيز)[4].

ومما يذكر أن هذا التكييف الذي تجنب صعوبة الترجمة الصوتية للحروف الأولى، قد حل مشكلة لغوية لا يتسنى لجاهل بالدراسات المصرية أن يحلها، حتى ولو كان في أتم حالات وعيه.

مضمون الرسالة

إن رحابة الموضوعات القرآنية وتنوعها لشيء فريد، طبقًا لتعبير القرآن نفسه {…مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ…} [الأنعام 6/ 38]، فهو يبدأ حديثه من (ذرة الوجود المستودعة باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار)[5] إلى (النجم الذي يسبح في فلكه نحو مستقره المعلوم)[6]، وهو يتقصى أبعد الجوانب المظلمة في القلب الإنساني، فيتغلغل في نفس المؤمن والكافر بنظرة تلمس أدق الانفعالات في هذه النفس. وهو يتجه نحو ماضي الإنسانية البعيد، ونحو مستقبلها، كما يعلمها واجبات الحياة، وهو يرسم لوحة أخّاذة لمشهد الحضارات المتتابعة، ثم يدعونا إلى أن نتأمله لنفيد من عواقبه عظة واعتبارًا.

وإن درسه الأخلاقي لهو ثمرة نظرة نفسية متعمقة في الطبيعة البشرية تصف لنا النقائص التي ينهي عنها، وينفر منها، والفضائل التي يدعونا إلى التأسي بها، من خلال حياة الأنبياء، أولئك الأبطال والشهداء في سجل ملحمة السماء؛ وعلى هذا الأساس يدفع القرآن المؤمن إلى الندم الصادق، حين يعده بالغفران، أساس التربية الجزائية في الأديان السماوية.

أمام هذا المشهد العظيم وقف الفيلسوف (توماس كارليل)، فما تمالك عنه، بل انبعثت من أعماقه صرخة إعجاب بالقرآن فقال: “هذا صدى متفجر من قلب الكون نفسه”[7] وفي هذه الصرخة الفلسفية، نجد أكثر من فكرة جافة لمؤرخ، نجد بعض ما يشبه الاعتراف التلقائي لضمير إنساني سام بُهت أمام عظمة الظاهرة القرآنية؛ وإن العقل الإنساني ليقف حائرًا أمام رحابة القرآن وعمقه، إنه بناء فريد ذو هندسة ونسب فنية تتحدى المقدرة المبدعة لدى الإنسان.

إن عبقرية الإنسان تحمل بالضرورة طابع الأرض، ليخضع كل شيء لقانون المكان والزمان، بينما يتخطى القرآن دائمًا نطاق هذا القانون، وما كان لكتاب بهذا السمو أن يتصور في حدود الأبعاد الضيقة للعبقرية الإنسانية؛ ومن المقطوع به أنه لو أتيح لأحد الناس أن يقرأ قراءة واعية يدرك خلالها رحابة موضوعه، فلن يمكنه أن يتصور الذات المحمدية إلا مجرد واسطة لعلم غيبي مطلق.

وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الذات تشغل فيه مكانًا ضئيلًا، إذ نادرًا ما يتحدث القرآن عن تاريخ (محمد ﷺ) الإنسان: إن آلامه العظمى أو مسراته لم ترد فيه قط؛ ولو تخيلنا النازلة التي أصابته في أوج دعوته بفقد عمه وزوجه لأدركنا مدى الدوي الرهيب لحدث كهذا، في حياة (رجل) كان حتى آخر لحظاته يبكي خديجة وأبا طالب، عندما كان اسماهما يُذكران أمامه، وعلى الرغم من هذا لا نجد أي صدى لموتهما في القرآن، بل ولا اسم الزوجة الحانية، الزوجة التي تقبلت في حجرها انبثاق الإسلام الوليد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مالك بن نبي (1992). الظاهرة القرآنية. دمشق: دار الفكر. ص ص. 189 – 196.

[1] ورد هذا في قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ) [ إبراهيم: 5]

[2] يقصد (بأيام الله) ما يحمله شعور الإنسان المتدين من أن للحق يوماً ينتصر فيه بقيام مملكته.

[3] الأب فيجورو (الكتاب المقدس والوثائق العلمية).

[4] يبدو أن كلمة “عزيز” قد انتقلت إلى حقل التفسير العبري عن طريق دراسات (موسى بن ميمون) تلميذ المدرسة الإسلامية بإسبانيا.  (المؤلف)

[5] يشير المؤلف بذلك على قوله تعالى {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان 31/ 16].

[6] يشير بذلك إلى قوله تعالى {… وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس 36/ 40].

[7] توماس كارليل (كتاب الأبطال).

عن مالك بن نبي

شاهد أيضاً

الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون

أ. د. طه جابر العلواني

بما أن القرآن ليس فيا تكرار ولا ترادف، ولا تحتاج آياته الكريمة إلى استعمال المؤكدات، فإن كل كلمة من كلماته - وإن بدت مرادفة أو مماثلة لأختها - فإنها تشتمل على معنى آخر إن لم تدل عليه بلفظها وبالاستعمال القرآني لها فإنها تدل عليه في سياقها وسباقها وموقعها.

علم المناسبة في القرآن الكريم

أ. شوقي البوعناني

يمكن التمييز ضمن علوم المناسبات في القرآن بين صنفين من المناسبات أحدهما يتعلق بمناسبة اللفظة للسياق الذي يكتنفها، وهو ما يجمعه مبحث تناسب الفواصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.