المسيري وقضايا التجديد والاجتهاد*
سعيد شبار *
– في معنى التجديد والاجتهاد والحاجة إليهما:
لا نحتاج في هذه الورقة إلى تتبع أصول كل من التجديد والاجتهاد اللغوي والشرعي، في معاجم اللغة ومصادر الدين. لكننا نحتاج إلى توظيف بعض الخلاصات بعد النظر في هذه المصادر، وإلى بعض المراجعات للفكر الذي أنجز حولهما واستقر بفعل التداول التاريخي وهيمنة حركة الجمود والتقليد حتى غدا من المسلمات، كمسلمات الدين نفسه.
أولى هذه الخلاصات: الاستيعاب والشمول في مفهومي الاجتهاد والتجديد كما تعرضه أصول الدين قرأنا وسنة. مما ينسجم مع خصائص رسالة الختم الكونية الممتدة في الزمان والمكان، وحيث ينبغي لمظاهر التدين أن تتجدد باستمرار وللأجيال أن تجتهد باستمرار. ولهذا فالقرآن والسنة يعرضان الاجتهاد عرضا شاملا مستوعبا، ففي القرآن وإن لم ترد لفظة ” الاجتهاد” فقد ورد أصلها الذي هو بذل الجهد، مطلق الجهد، والذي منه كذلك الجهاد. فبذل الجهد واستفراغ الوسع مطلب شرعي دائم في كل أحوال الإنسان العادية والعبادية وكلها تدين ودين. وهذا مؤشر صحة وعافية على حركة الفرد والمجتمع والأمة، ترصد به درجة الفاعلية والعطاء، ولهذا كان الصدرالأول أكثر تجاوبا وتفاعلا مع هذا الأصل، ومن ثم كان أكثر عطاء وفاعلية وإنجازا في الميادين كلها. فكان الفرد المجتهد وكانت الأمة المجتهدة. أي أن الاجتهاد كان حركة أمة وأفراد. ومثل ذلك التجديد. فكما نص الحديث ” يجدد لها دينها”، والدين منهاج حياة لتحقيق التدين، فلا يقصر على جانب دون آخر، ويكون مستوعبا استيعاب الدين نفسه للإنسان والكائنات والوجود كله، باعتباره – بعبارة “المسيري”- مرجعية متجاوزة.
ثاني هذه الخلاصات، أن التداول التاريخي للمفهومين للأسف سحب عنهما هذه الخاصية. خاصية الشمول والاستيعاب، وأدخلهما في دوائر ضيقة من التعريف أملتها ظروف تاريخية صرفة أملت على معاصريها وجهات نظر في الفهم والتعريف. وكي لا نصادر منذ البداية على هذه التعريفات لكونها – أو بعضها على الأرجح – تستند إلى نصوص، نقول: إن الحديث الصحيح “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر” لا ينافي مطلق بذل الجهد والاجتهاد. لأن هذا اجتهاد في استنباط أحكام له شروطه ورجاله كما دل على ذلك قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. فهو اجتهاد خاص لا ينافي الاجتهاد العام. بل كلاهما يسند الآخر ويعضده. أما أن يختزل هذا الأصل الكلي في مبحث من مباحث الأصول ويتحول إلى عنوان لعمل تقوم به طائفة محدودة، فهذا سحب لفاعلية الأمة وتكريس لمنطق التبعية والجمود والتعصب، وهذا الذي حدث بالفعل لما طرأت على الأمة المذاهب والفرق والشيع، وتحول التدين إلى الانتصار إلى آراء وأقوال حلت محل الدين، وانقطع المجتهدون في الأمة، أو قل حوصروا وضيق عليهم، حتى ” لم يبق في الأمة قائم لله بالحجة” كما قيل.
ومثل هذا يصدق على التجديد كذلك، حيث عرف تعريفات اختزالية جعلته إحياء لما مات من السنن. وإن كنا لا ننكر أن يكون هذا العمل من مهام المجدد، لكن أصل التجديد يبقى أوسع في استيعابه لحركة التاريخ كلها، استيعاب الدين لها.
ولهذا فالتجديد والاجتهاد هما عمل بنائي استئنافي مستمر لا ينقطع، لا ينكر جهود السابقين لكنه أيضا لا يحجر على عقول اللاحقين حتى يحققوا كسبهم فـ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ﴾ (البقرة: 134).
كما أن حركة التجديد والاجتهاد حركة تشمل تعريف وتكليف الإنسان الفرد في حياته وفي علاقته بالجماعة وعلاقة هذه الجماعة (الأمة) بغيرها من الأمم وبالكون المحيط حولها، بسننه ونواميسه، ولهذا فهي حركة تعريفية تركيبية تتجاوز كل مظاهر التبسيط والاختزال المدرسي والطائفي والفرقي، لأنها النصوص نفسها تتجدد بتجدد الفهم لها بما يتيحه كل زمان ومكان من معارف وعلوم واجتهادات.
حاجة عصرنا لإحياء هذين الأصلين أكبر من حاجة أي عصر سابق، فالأمة في حالة انهيار الآن لم تكن عليها قط في تاريخ سابق، ولا حتى في حروبها مع المغول والتتار، حيث كانت تسقط قلاع وتبقى أخرى محصنة، فشمولية الانهيار تستدعي شمولية في التغيير، وهو ما يقتضي بدوره إحياء لمفهومي الاجتهاد والتجديد بمعناهما المستوعب الشامل، وان لا أحد معذور في الأمة بحجة أو ذريعة. وأول مداخل هذا التغيير، تغيير الفهم لهذين الأصلين، وإعادة بناء فكر وثقافة الأمة على أسس غير طائفية ولا مذهبية، تكون مرجعيتها نصوص الوحي الملهم والمسدد وليس حروب وتطاحنات التاريخ، فلا بد من اجتهاد تحريري للفكر يعيد للأمة صلتها بأصولها ويحدد لها دورها في التاريخ ويزودها بالرؤى والمناهج والنماذج التي تحتاجها في مسيرتها، دون أن يعني هذا إلغاء لمظاهر التعدد والتنوع التي زخرت بها ثقافيا وحضاريا، لكن أن يحكم ذلك كله بنواظم تجعله تكاملا لا تقابلا وتميزا لا تحيزا وسلما وتسامحا لا احترابا وتقاتلا.
– في أطروحات التجديد المعاصرة والإخفاقات المتكررة:
لم يغلق باب الاجتهاد قط، وإنما الذي انغلق هو عقول وأذهان جمهور من المقلدين والمتعصبين الجامدين على النقول والأقوال مهما ضعفت وكانت مرجوحة، وإن كان هذا التيار العام الذي ساد ولا يزال طيلة عصور الانحطاط في الأمة، فإن استثناءات كثيرة شذت عن هذا الاطراد وعبرت بين الفينة والأخرى عن ضرورة هذا الأصل وحيويته، وبذلت بالفعل جهدها وخاضت معارك مع محيط الجمود والاستبداد، بدءا بالخليفة عمر بن عبد العزيز إلى جمال الدين الأفغاني، مرورا بالشافعي والغزالي وابن حزم وابن رشد وابن تيمية وابن القيم وابن خلدون والشوكاني وغيرهم.
لكن تعطل هذه الجهود الإصلاحية التجديدية، كما يرجع إلى هيمنة مظاهر الجمود والتقليد على فكر وثقافة الأمة، وإلى الاختلاف والتشرذم والانقسام الطائفي والمذهبي والفرقي ومظاهر الاستبداد والجور وقمع الحريات. يرجع كذلك – وخصوصا في عصرنا الحديث – إلى عدم توحد وتجانس رؤى الإصلاح والتغيير، وكونها محكومة بمرجعيات تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولا شك أن الاستعمار الحديث قد أسهم في هذه التجزئة بشكل أساسي، فقد قدم نفسه بصورتين مختلفتين تماما، إحداهما تعكس وجهه “الحسن” في الحضارة والنظم والحقوق والحريات.. ونماذج الإغراء المختلفة التي تؤطرها منظومة الاستهلاك العلمانية المادية، وهذه أسست لكل مظاهر التبعية والاستلاب لنماذجه ونظمه وأنماطه وللاغتراب في زمانه ومكانه. والثانية تعكس وجهه البشع في النهب والسلب والتدمير للمقدرات المادية والمعنوية في الأمة.. وهذا أسَّس لكل مظاهر المفاصلة والرفض والمقاومة. ونزعت طائفة نحو التوفيق بين المظهرين، بمنهج انتقائي يقوم على قبول أشياء ورفض أخرى.
لا يختلف إذن حاضر الأمة عن ماضيها من حيث الانقسام والاختلاف من غير نواظم جامعة وسقف موحد، والذي اختلف أسماء ومسميات في الفرق والأحزاب والاتجاهات. فهناك خط ليبرالي علماني في التغيير وآخر عروبي قومي وثالث يساري شيوعي أو اشتراكي ورابع إسلامي تجديدي أو محافظ… وداخل كل خط خطوط تمتد يمينا ووسطا ويسارا. والخطاب حول هذه الاتجاهات، بغض النظر عن حجم التمثيلية التي هي لصالح الخطاب الإسلامي الآن من غير منازع، هو خطاب حجاجي قائم على التدافع الميداني الجزئي، يتغذى من الخلاف ولا يبتعد كثيرا عن منهج المقارنات والمقاربات الذي ساد عند “رواد النهضة الأوائل”.. يحتمي بمرجعيات لرفض أخرى وبمقولات لنقض أخرى… إلخ. وحتى الاتجاهات التي تسعى إلى تبني خيار ذاتي قائم على إصلاح منظومة الفكر لا تلبث أن تجتالها حسابات السياسة أو مصالح فئوية تماما كما حدث لمشاريع النهوض السابقة.
تزخر المكتبات العربية الآن بمشاريع تجديدية كثيرة تعكس للأسف توجهات أصحابها وميولاتهم أكثر مما تعكس هموم الأمة وواقعها، يثبتون فيها ما يريدون لا ما هو واقع، ولهذا آل معظمها إلى زاوية الظل ولم يلق التفاعل ولا الاستجابة المطلوبين لعدم ارتباطه بالقضايا والهموم والمشكلات الحقيقية للأمة كما هي لا كما يريدونها، هي قراءات لواقع آخر هو الواقع الغربي في تاريخه وتجاربه وصراعاته وتحولاته، وكان التاريخ امتداد نمطي سكوني وقوالب جاهزة تصدق على الغرب وعلى الشرق، شمالا وجنوبا، بحيث تذوب كل الخصوصيات والمميزات والفوارق، هي في كلمة قراءات – في معظمها مرة أخرى – تكرارية تقليدية لا تختلف عن نموذج الجمود والتقليد المذهبي التاريخي في شيء.
إننا بحاجة إلى اجتهاد وتجديد إبداعي إنشائي استئنافي للجهود السابقة، فلم تسعف الأمة خيارات الرفض ولا القبول ولا التوفيق ولا المقارنة… لأنها تقع خارج كيانها النسقي المرجعي. أي خارج الرؤية الكلية التي تحدد جميع أجزائها وفروعها، وتربطها إلى خصائصها ومقوماتها. فالتجربة بنماذجها ومناهجها ومعارفها ينبغي أن تولد كلا لا جزءا بحركة دفع ومخاض (اجتهاد) من رحم المرجعية. المرجعية المتجاوزة التي تمنحها آفاقا أرحب وأوسع في التفاعل والعطاء والتكامل، وأغنى في التنوع والتعدد، وأعدل في الحقوق والحريات. إننا باختصار بحاجة إلى منهاج بنائي جديد للعلوم والمعارف المغذية للفكر والثقافة لصوغ خيارات تستند إلى الأصول المؤسسة في استيعابها وشموليتها لا إلى تجارب تاريخية تعكس تحيزات أصحابها أو خصوصياتهم المدرسية.
– الدكتور المسيري شاهد تجديدي:
لا أزعم بعد هذا الذي تقدم، أن اختيار الدكتور المسيري هو بديل أو استثناء عن الحالة التي وصفنا جزءا يسيرا منها، وأن مشروعه قد سلم من الآفات التي ذكرنا، لكن أستطيع أن أزعم أنه من البعض الذي بذل جهدا من أجل التحرر والتحرير الفكري والذي خاض تجربة تجديدية استغرقت مرحلة عطائه كلها. وبما أننا لسنا في مقام مدح أو إطراء، فيكفي أن نذكر من مميزات هذا الفكر:
أنه ينحو إلى الإبداع والتجديد في كل شيء، في أسمائه وموضوعاته وتحليله ونقده.
أنه يسعى إلى الشمول والاستيعاب والتجريد في رصد المظاهر والتحديات بحجم شمولها واستيعابها لمختلف مناحي حياتنا.
أنه يبحث بعصامية وعمق وتدقيق في الظواهر والنماذج المدروسة ويطرح ويؤسس لبدائل حضارية وثقافية وجمالية وعمرانية وغيرها.
أنه يحرص على تحريك العقل وبث روح الإبداع والفاعلية فيه.
أنه يرفض النمطية والتقليد والانحباس والسكون.
أنه يؤطر أعماله برؤية كلية للذات والآخر تكاد لا تتخلف في كل الموضوعات التي يطرقها، خاصة تلك المتعلقة بالإنسان ونزعات تشييئه أو تطبيعه…
أنه شديد النفور والهروب من أن تجتاله السياسة أو مصالح فئوية…
أنه مستحضر دائما لهموم الأمة وصراعها وتخلفها…
هذه بعض من الخصال والمزايا الفكرية لا يملك قارئ لفكر المسيري إلا التسليم بها. قد يقال أغلب أو كل الباحثين يشتركون في ذلك. نقول، قد يصح هذا نظريا، لكن عمليا هذا نادر جدا، وهو عند د. المسيري متحقق إلى درجة كبيرة وهذا الذي يجعلنا نعتبره شاهدا تجديديا.
ولو أردنا اختصار مشروع المسيري في عنوانين كبيرين لوجدناه ينصب:
أولاً: على نقد الفلسفة المادية الواحدية والامبريالية العلمانية الشاملة التي تقود حضارة الغرب السائلة الآن (ما بعد الحداثة) حيث المراحل القصوى لتفكيك الكائن البشري وإدخاله دوامة العدمية واللامعنى والدمار النفسى والمادي، كاشفا عن كثير من تجليات هذا النموذج في مجالات وحقول مختلفة. وهذا ما نجد تفسيرا وتفصيلا له في أعمال مثل “إشكالية التحيز” و”العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” و” الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان” والكتب التي في معناها..
ينصب مشروعه ثانيًا على قضية المسلمين الأولى، لكن من زاوية رصد مختلفة، تعرف بالعدو الإسرائيلي وحركة الاستيطان واليهودية في تواريخها وجماعاتها والصهيونية الاستعمارية وكل ما يتعلق بهذا الكيان وبالحضارة الغربية الممجدة للقوة التي أنجبته وأنجبت ظواهر أخرى معه، كالنازية والفاشية وغيرها من النظم الكليانية. وهذا ما حوته ” موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”(**) الفريدة بحق في بابها، وبعض الكتابات الدائرة حولها والمواكبة لحركة المقاومة والتحرير على أرض فلسطين والمبشرة بزوال الكيان الاستيطاني الصهيوني.
إن د. المسيري ينحاز إلى مفهوم الأمة باعتباره نسقا وكيانا منفتحا وإلى إنسانها باعتباره امتدادا للإنسان حيث كان، بما في ذلك إنسان الحضارة الغربية، ومن ثم فهو شديد النقد لكل محاولات تسويته بالطبيعة واختزاله في جزء أو عنصر من ذاته بإلغاء كينونته وكرامته ووجوده وطموحه وكل شيء معنوي فيه.
وهذه عينها القيم الإسلامية التي جاء الإسلام يكفلها للإنسان ويميزه بها كإنسان.
وسنزيد هذا الأمر توضيحا من خلال حديثنا عن رؤية الكاتب وعن نماذجه وعن منهجه باعتبارها زوايا نظر متكاملة تعكس حقيقة إنسانية وكونية واحدة.
– الرؤية وفلسفة التركيب والاستيعاب:
الرؤية إطار مرجعي مؤطر، تمنح صاحبها القدرة على استشراف الأحداث والوقائع ووضعها مواضعها، كما تمنحه القدرة على التفسير والتشخيص وعلى التفريع عنهما. ولهذا فمن لا يملك رؤية لا تجد فيما يكتب وحدة ولا نسقية ولا ترابطا ولا إطارا كليا مستوعبا ترجع إليه الوحدات الجزئية. إنها باختصار وصفك وتحليلك ونقدك للأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلية كأنك تراها لشدة وعيك بها وإدراكك لها.
هذا ما نحسبه متوفرا بشكل كبير عند الدكتور المسيري. فهو يحدد منذ البداية منطلقات الصراع، باعتباره صراعا دائرا بين مرجعيتين. “المرجعية المتجاوزة والمرجعية الكامنة أخذ شكل صراع بين دعاة الإيمان بالإنسان المتجاوز للطبيعة، الذي يستند وجوده إلى نقطة خارج النظام الطبيعي من جهة، ومن جهة أخرى دعاة الإيمان بالطبيعة المادية التي تحوي داخلها ما يكفي لتفسيرها”(1).
وبعبارة أكثر وضوحا، يقول: “يمكن تقسيم الرؤية السائدة في عصرنا الحديث إلى قسمين:
– رؤى متمركزة حول الإنسان باعتباره كائنا مركبا متعدد الأبعاد، صاحب وعي تاريخي وعقل ومنظومات معرفية وقيمية لا يمكنه العيش دون هدف أو غاية، يعيش داخل العالم الطبيعي متميزا عنه متجاوزا له…
– أما الرؤية الثانية فهي رؤية متمركزة حول الطبيعة. والطبيعة بسيطة. حتمية لا غائية، أحادية البعد لا تاريخ لها ولا حدود. خالية من القيمة، لا يشغل الإنسان فيها أية مكانة خاصة. فالطبيعة لا تعرف الفارق بين الإنسان والقرد ولا تميز بينهما. فثمة قانون طبيعي واحد صارم يسري على كل الكائنات لا يمكن لأي منها تجاوزه”(2). وكنموذج على ما يمكن للرؤية أن تتيحه من قدرة على التجريد والاستيعاب برد الفروع والأجزاء إلى أصولها المؤطرة لها، نجده يرد مفهوم “الإباحية” مثلا إلى الرؤية المعرفية الإمبريالية العلمانية كما يرد إليها مفاهيم كثيرة متعلقة بـ: (المساواة والتسوية، ونظرية الحقوق، والأقليات، والعقل الأداتي، وقضايا الترشيد في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والعلوم الإنسانية، والتمركز حول الأنثى… إلخ). يقول بخصوص النموذج الأول: ” ونحن نرى أن انتشار الإباحية في العالم الغربي ليس مجرد مشكلة أخلاقية وإنما هي قضية معرفية. فالإباحية هي جزء من هذا الهجوم على الطبيعة البشرية وعلى قداسة الإنسان ومحاولة تفكيكه. فقد قامت الرؤية العلمانية الامبريالية بتطبيع الإنسان، أي رأته كائنا طبيعيا ماديا بسيطا وحسب. ونظرت إليه باعتباره مادة نسبية صرفة لا قداسة لها (…) فتجريد الإنسان من ملابسه هو نوع من نزع القداسة عنه حتى يتحول الإنسان خليفة الله في الأرض في الرؤى الدينية، ومركز الكون في الرؤى الإنسانية إلى مجرد كم يوظف ويستغل بحيث يصبح مصدرا للذة. ومن هذا المنظور يمكن أن نرى الإبادة النازية لليهود وغيرهم على أنها شكل من أشكال الإباحية أو الامبريالية الكاملة التي تؤدي إلى موت الإنسان الفعلي. فهي حولت البشر إلى صفوف وتلال لحم توظف وينتفع بها. ولذا فنحن نرى أن ثمة تشابها بين اللحظة النازية واللحظة التايلاندية في الحضارة العلمانية. فكلاهما أسقط القداسة عن الإنسان ورآه مادة استعمالية توظف في أعمال السخرة في ألمانيا وفي أعمال البغاء في تايلاندا(3) .
يكشف هذا النص، الغني بالدلالات، كذلك عن إمكان جمع ما يبدو متناقضا أولا علاقة بينه في إطار رؤية معرفية واحدة تتوحد على مستوى النظر وتختلف على مستوى التطبيق. وقدم الكاتب نموذجا آخر بخصوص التخلص من الفائض البشري غير المنتج في النموذج النازي الشمولي عن طريق (التسخين) أي بالوضع في أفران الغاز، وفي النموذج الليبرالي الديمقراطي التقليدي عن طريق (التبريد) أي بالوضع في دور العجزة والملاجئ والمحاضن وغيرها. فمنهج التخلص من الفائض مختلف لكن الرؤية المؤطرة واحدة.
فهذا نموذج يمكن تعميمه على كل القضايا التي تناولها الدكتور المسيري والتي يرجعها إلى ما يسميه كذلك بـ: ” النموذج المهيمن” الذي لا يمكن دفع تحديه الشامل إلا بنقد شامل لأطروحاته فـ “لا يمكن التحرر من قبضة النموذج المهيمن، إلا من خلال نقد كلي ينصرف إلى مجمل البناء النظري الغربي. يوضح نقط ضعفه وقوته ومواطن تصوره وتميزه”(4) .
– النموذج والتفسير بالحال والمآل
التفسير بالنموذج من بنات أفكار الدكتور المسيري، ليس كفكرة مجردة فهذه موجودة ومستعملة، لكن كبناء نظري وعملي وكمقدرة استكشافية تحليلية تركيبية وتفكيكية.. فهذا الذي أضفى على نماذج الدكتور المسيري علمية وحيوية مثيرة.
فالنموذج وسيلة للتعرف على الشيء في حاله ثم على الظاهرة ككل في شبكة علاقاتها الممتدة، أي في مآلاتها المختلفة. وهذا الذي يسميه الدكتور المسيري بـ: “المقدرة التنبؤية للنموذج”، فكلما ازداد النموذج إحاطة ازداد تركيبا، وكلما ازداد تركيبا ازداد قدرة تفسيرية.
والنماذج عنده أنواع كثيرة (تحليلي، إدراكي، كامن، تفكيكي، تركيبي، اجتهادي…إلخ)”(5) .
والنماذج التي ينتقدها الدكتور المسيري ترجع إلى نموذج كلي مهيمن وهو النموذج التحديثي الذي ولج عصر ما بعد الحداثة، والذي يوضحه الكاتب بقوله: “ما بعد الحداثة هو تحقق للعوامل التفكيكية داخل المنظومة التحديثية. وأنه تحقق للنسبية الكامنة في النموذج التحديثي بحيث تصبح نسبية كاملة وصيرورة تامة وسيولة شاملة. وإذا كانت المنظومة التحديثية أدت إلى تفكيك الإنسان وإحساسه باللامعيارية.. وإذا كانت الحداثة هي احتجاج الإنسان على ما يحدث له.. فإن ما بعد الحداثة هو تطبيع كامل لهذه اللامعيارية، وتعبير عن تقبل الإنسان لحالة التشيؤ الناجمة عن التحديث”(6).
ولهذا فالنموذج السنغافوري مثلا هو تعبير عن تحول الإنسان إلى وحدة اقتصادية قادرة على الإنتاج والاستهلاك والبيع والشراء، بحيث تصبح البلاد كلها مجموعة من المحلات والسوبرماكتات والفنادق والمصانع. وينظر الناس إلى أنفسهم لا كبشر وإنما كوحدات إنتاجية استهلاكية. والنموذج التايلاندي هو تعبير عن الإنسان الجسماني حيث يتحول تماما إلى أداة للمتعة في عصر ما بعد الحداثة والاستهلاكية العالمية. والنموذج النازي هو تعبير مباشر عن الإنسان الطبيعي حيث نظر إلى البشر جميعا باعتبارهم مادة استعمالية يمكن توظيفها، ومن هنا تم تقسيم البشر إلى نافعين وغير نافعين. والنموذج الصهيوني تبلور حاد للفكر العلماني الامبريالي الاستعماري المادي، حيث نظر إلى فلسطين كأرض صالحة للاستغلال وإلى شعبها كمادة بشرية يمكن أن تنقل (ترانسفير).
استعمال الدكتور المسيري للنماذج لا يقف عند حد النقد والتحليل والتفكيك والتركيب، وإنما يتجاوز ذلك إلى الإبداع وفتح باب الاجتهاد أمام العقل، فالنماذج الحضارية الغربية ليست نهاية اجتهاد العقل البشري ويمكن لحضارات أخرى أن تقترح نماذج أكثر إنسانية ومرونة وتعبيرا عن الخصوصية البشرية وتحررا من هيمنة التفسير المادي.
فنموذج الكرسي مثلا رمز التقدم في مرحلة من المراحل ليس اختيارا نهائيا، ولا دليلا على تفوق عقل أو عرق بشري معين، وليس لأن الغرب المهيمن قد اختاره ينبغي على الكل اختياره. لا بد إذن من استئناف الاجتهاد بما يضمن راحة الإنسان أكثر. فالجلوس إلى الأرض والاقتراب منها فلسفة معينة والابتعاد عنها اختيار آخر. ولهذا كانت راحة الدكتور المسيري – كما يحكي عن نفسه في إحدى صالات مطار عربي – وهو متعب أن يجلس على سجاد وثير لا على كرسي متصلب. لكن الخلفية الكامنة وراء نموذج الكرسي جعلت موظفا يهمس في أذنه بأن هذا ليس سلوكا حضاريا – وعلق على هذا الحادث بكون السلاف كانوا يقدمون القرابين البشرية حتى (ق9 م) وهم جلوس على الكراسي. وأن العرب والصينيين كانوا يفترشون الأرض ويتحركون في إطار حضارات جد مركبة. فكانت الخرافة مع الكرسي وكانت الحضارة مع افتراش الأرض. فعلينا إذن أن ننتظر حتى يكتشف أحدهم خطورة الكراسي على العمود الفقري وعلى الأخشاب وأشجار الغابات”(7).
ففتح باب الاجتهاد والتجديد وسيلة لإعادة بناء النماذج وفق منظور ورؤية مختلفة. فأحيانا تُعطى الأولوية لنماذج تافهة أو عادية على نماذج أكثر خطورة. لكن في سياق الرؤية المهيمنة تبدو الأمور كما تطرحها آلة الإعلام. فحادث تصادم قطار بسيارة حادث مهم للغاية يظهر في العناوين الرئيسية. أما تنامي الأطفال غير الشرعيين والإحصائيات الضخمة بخصوصه، فليس حدثا على الإطلاق ولكن طرفة. وخبر زواج الممثلة (فلانة بنت فلانة) للمرة الخامسة بعد طلاق متكرر، من شاب في عمر ابنها، حدث مهم للغاية. أما موت المئات والآلاف من الفقراء والمنكوبين في بلدان لا حول لها ولا قوة، أو حتى قتلهم وتصفيتهم بدوافع استعمارية فلا يستحق الوقوف عنده. فكل ما هو مادي تكنولوجي يساهم في الدورة الإنتاجية وفي الربح فهو مهم، وكل ما هو أخلاقي قيمي ليس مهما”(8).
“فالدفاع الشرس عن الشذوذ الجنسي (مثلا) والدعوة إلى تطبيعه هو في جوهره ليس دعوة للتسامح أو لتفهم وضع الشواذ جنسيا، بل هجوم على المعيارية البشرية، وعلى الطبيعة البشرية باعتبارها مرجعية نهائية ومعيارا ثابتا يمكن الوقوف على أرضه لإصدار أحكام وتحديد ما هو إنساني وما هو غير إنساني. والشذوذ الجنسي هو محاولة لإلغاء ثنائية إنسانية أساسية هي ثنائية الذكر والأنثى التي تستند إليها المعيارية الإنسانية”(9).
والشيء نفسه يقال في ظاهرة تفتيت وتجزيء المجتمع إلى نماذج متباينة من الأقليات التي تتزعمها حركات جديدة تدعو إلى التسوية وليس المساواة، فنجد “جماعات تدافع عن الفقراء والسود والشواذ وحقوق الحيوانات والأطفال والعراة والمخدرات وفقدان الوعي وعن كل ما يطرأ وما لا يطرأ على بال، ولعل شيوع الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية في العصر الحديث هو الذي يفسر سر انتشار الديانات الطبيعية والعبادات الجديدة والنزعات الكونية والدفاع الحلولي الكموني عن البنية، فكلها دعوات تؤكد أسبقية الكون عن الإنسان وتدعو الإنسان إلى الذوبان في الكون، وتلغي كيانه كمقولة مستقلة عن عالم الطبيعة”(10).
– المنهج وحدة وتعدد:
هناك منهاج كلي يضبط الرؤية والتصور ويحدد الأصول والكليات، وهناك مناهج جزئية تتفرع عنه وتتعدد بتعدد الحقول والمجالات التي تختص بها، وهذا الذي قصدناه بالوحدة والتعدد على مستوى المنهج. ويخطئ من يجعل منهجا جزئيا منهاجا كليا مستوعبا شاملا كما يفعل أصحاب التفسير المادي الجدلي الدياليكتيكي أو التفسير الليبرالي العلماني أو المثالي الطوباوي التجريدي.. فهذه مقاربات جزئية لظاهرة قد تصيب وتخطئ، لكنها على كل حال ليست مقاربة شمولية للظاهرة كلها. ومن ثم إخفاقات هذه المناهج في الرصد والنقد، والتحليل، لتأثرها بما هو خارج عن نسقها وبنائها والاكتفاء بالاستعارة والنقل منه دون تطوير كفاءات وقدرات إبداعية مستقلة. ففرق بين الاغتراب في نموذج وبين الإفادة منه. وهذا ما باشر الدكتور المسيري بنقده، وخصوصا منهج المقارنات والمقاربات الذي عكس مرحلة احتكاك قوية بين العالمين الإسلامي والمسيحي عبَّر فيها كُتَّاب هذه المرحلة عن اندهاشهم وتأثرهم البالغ بالتفوق الغربي. يقول: ” يتبارى المتبارون في إثبات أن الإسلام سبق العالم في منح المرأة حقوقها، وفي نظم الإدارة الحديثة.. وكل هذا يعني أن الإسلام يكتشف شرعيته بمقدار اقترابه من النموذج الحضاري الغربي. وبالتدريج يتم تغريب النموذج الإسلامي، بحيث يتفق مع النموذج الحضاري الغربي الحديث. والسمة الأساسية لكل المشروعات الحضارية أنها جعلت الغرب نقطة مرجعية نهائية ومطلقة. أي أنها استبطنت رؤية الغرب لنفسه ولمشروعه الحضاري. وأصبح الغرب هو التشكيل الحضاري الذي سبقنا وعلينا اللحاق به “(11).
يحافظ الدكتور المسيري إذن على مسافة تتركه بعيدا عن الانخراط التلقائي في النماذج الجاهزة. فلا يسمح باختراق نسيجه الثقافي وإن كان أكثر احتكاكا بها وتعرف عليها. وهذا ما يجعله قادرا على توظيفها توظيفا أسلم. لذا نجده يعتمد مناهج كثيرة (نقد، تحليل، تركيب، تفكيك، وصف، بيان، تجريد، تطبيق، تصنيف، تأريخ…) واعتماد مناهج ومقررات العلوم الإنسانية والاجتماعية في الانتروبولوجيا والاقتصاد والنفس والفن والآداب.. مما يجعله فعلا فضاء غنيا متنوعا لا يستطيع ضبطه والحفاظ على توازناته بحسب متطلبات الموضوع إلا خبير متمرس يملك قدرات توجيهية وتركيبية عالية تجعل هذه الأجزاء في نهاية المطاف وفي التحليل الأخير كلا واحدا وبنية متماسكة تعكس المرجعية والرؤية الكامنة وراءها. ونحسب أن الدكتور المسيري واحدا ممن قطعوا أشواطا بنائية تجديدية في اتجاه تحرير فكر الأمة وتنويره من الارتهان لنماذجه القديمة الجامدة أو الارتهان لنماذج حديثة مغايرة فصولا وأصولا.
الهوامش
* المقال منشور في العدد 129، مجلة المسلم المعاصر.ص ص. 251- 266.
* أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانيةجامعة القاضي عياض بالمغرب.
(**) انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي كشفت عن حقائق وأطروحات جديدة بخصوص المسألة اليهودية والصهيونية في تواريخها وجماعاتها ووظيفيتها وأشكال استيطانها وتوطينها وفرقها القديمة والحديثة… وكل ما يتصل بها من مفاهيم ومعارف على امتداد الأجزاء الثمانية المكونة للموسوعة.
(1) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر المعاصر ودار الفكر. ط 1، 1423/2002، ص: 64.
(2) الفلسفة المادية، ص: 153.
(3) الفلسفة المادية، ص: 97.
(4) العالم من منظور غربي، دار الهلال، كتاب الهلال.
(5) انظر إشكالية التحيز، ط1، 1415/1995، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ونقابة المهندسين. ج1، ص: 6 وما بعدها.
(6) الفلسفة المادية، ص: 121 وما بعدها.
(7) العالم من منظور غربي، ص: 85.
(8) العالم من منظور غربي.. ص: 111.
(9) الفلسفة المادية ص: 70.
(10) الفلسفة المادية، ص: 69-70.
(11) العالم من منظور غربي ص: 94-95.