تحرير المرأة فى عصر الرسالة

الصفحات التالية من مقدمة كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة* لعبد الحليم أبو شقة**

كنت أعزم – منذ سنوات – على عمل دراسة متعمقة فى السيرة النبوية الكريمة تعتمد على كتب السنة، وذلك لتوفير أكبر قدر من التوثيق، فإن أخبار السيرة لم تخدم كما خدمت نصوص السنة، ولم تحقق أسانيدها ويميز فيها الصحيح من الضعيف. وكان دافعى لذلك أن السيرة وهى تعرض حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تشتمل على كثير من الأقوال والأفعال والتقريرات التى تدخل فى باب السنة ويتأسى بها المسلمون في حياتهم. ولذا ينبغي أن تعرض السيرة على المسلمين موثَّقة أكمل توثيق حتى يسيروا على هديها وهم مطمئنون إلى صحة ما يأخذون . وقد بدأت الدراسة بصحيح مسلم مع شرح الإمام النووى. ولكنى أثناء استعراض الأحاديث وتصنيفها فوجئت بأحاديث عملية تطبيقية تتصل بالمرأة وبأسلوب التعامل بين الرجال والنساء فى مجالات الحياة المختلفة. وكان سبب المفاجأة أن هذه الأحاديث تغاير تماما ما كنت أفهمه وأطبقه، بل ما تفهمه وتطبقه جماعات من المتدينين الذين اتصلت بهم وهم من اتجاهات مختلفة.

ولم يقف الأمر عند المفأجاة، بل شدتنى تلك الأحاديث – لخطورتها وأهميتها – إلى تصحيح تصوراتنا عن شخصية المرأة المسلمة ومدى مشاركتها فى مجالات الحياة فى عصر الرسالة، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وأسوق هنا إلى القارئ ما أشارت إليه بعض تلك الأحاديث الشريفة فلعله يشاركنى الشعور بالمفاجأة ولعلها تشده كما شدتنى إلى مراجعة واقعنا وفق هدايتها:

المرأة المسلمة تشهد صلاة العشاء وصلاة الصبح فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة المسلمة تشهد صلاة الجمعة وتحفظ سورة ق من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة المسلمة تشهد صلاة الكسوف على طولها البالغ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة المسلمة تعتكف العشر الأواخر من رمضان فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة المسلمة تزور زوجها – وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم – أثناء اعتكافه فى المسجد.

المرأة المسلمة تلبي الدعوة لاجتماع عام بالمسجد يدعو إليه مؤذن الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة المسلمة تطالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرس خاص للنساء لأن الرجال يغلبونهن عليه فى المسجد.

المرأة المسلمة تذهب تستفتي بنفسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قضاياها الخاصة والعامة.

المرأة المسلمة تأمر الرجال بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.

المرأة المسلمة تستقبل الضيوف وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم لهم الطعام.

المرأة المسلمة تفتح بيتها للضيفان من المهاجرين الأولين.

المرأة المسلمة تجلس مع زوجها ويشاركان الضيف طعام العشاء.

المرأة المسلمة تخدم الضيوف الرجال فى وليمة عرسها وتتحف رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب طيب.

المرأة المسلمة تشارك في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسقى العطشى وتداوى الجرحى وتنقل القتلى والجرحى إلى المدينة.

المرأة المسلمة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالشهادة مع أول غزاة للبحر، ويستجيب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة المسلمة تشهد صلاة العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحظى النساء بعظة خاصة بعد خطبة العيد.

المرأة المسلمة  يأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإن كانت شابة صغيرة مخدرة – أن تخرج لصلاة العيد فتشهد الخير ودعوة المؤمنين.

المرأة المسلمة  يأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإن كانت حائضا – أن تخرج يوم العيد متجنبة المصلى فتكون خلف الناس تكبر بتكبيرهم وتدعو بدعائهم.

وهكذا شدنى هذا الأمر شدا قويا حتى انصرفت عن مشروع كتابة السيرة إلى مشروع جديد وهو عمل دراسة عن المرأة المسلمة فى العهد النبوى تلقي الضوء الساطع على التحرير الذى حظيت به المرأة فى عصر الرسالة. والذى شجعنى على المضى فى هذا المشروع الجديد هو الخطر البالغ الذى كنت وما زلت أراه، خطر سيادة مفاهيم وتصورات تخالف ما جاء به الشرع الحنيف من تحرير بالغ للمرأة خاصة إذا كانت هذه المفاهيم متعمقة فى نفوس جماعات من المسلمين وهم متدينون حريصون على إقامة شريعة الإسلام فى حياتهم الخاصة، وفى مجتمعهم أيضا.

إن إحقاق الحق فى موضوع المرأة مثل إحقاق الحق فى أى جانب من جوانب الشريعة، هو انتصار لشرع الله.

دوافع إضافية لتأليف الكتاب:

وكان يزداد اهتمامى بالمشروع كلما قرأت كتابا أو مقالا أو سمعت حديثا عن المرأة فى الإسلام فكثيراً ما تصدمنى آراء علماء أفاضل قدامى ومعاصرين لاتتوافق مع ماورد فى كتب السنة من نصوص صحيحة صريحة.

والأمثلة كثيرة أسوق الآن بعضا منها دون ذكر أسماء المؤلفين والكتاب حتى استبعد شبهة التجريح لرجال فضلاء وعلماء أجلاء تتلمذت على بعضهم وأكن لهم تقدير وإعزاز. والقصد بيان أن كل إنسان مهما علا قدره يؤخذ من كلامه ويترك، وجل من لايخطئ. ولابد من العودة إلى سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم نستهديها ونصحح بهديها أخطاء الرجال.

  • قال مؤلف فاضل – فى مجال الرد على من يرى مشروعية سفور وجه المرأة -: ( عليكم قبل أن تعالجوا الحجاب

[ أى الإذن بكشف وجه المرأة] أن تجمعوا من القوة والسلطة ما يطأ هامة كل شر ناجم حتى إذا كان فى المجتمع عينان اثنتان تحملقان إلى امرأة قد خرجت من بيتها سافرة، كانت فيه فى الوقت نفسه سبعون يدا تمتد إليهما لتقتلعهما من محجريهما).

أين هذا التحدى المسرف من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى شابا ينظر إلى امرأة شابة ويكرر النظر؟. فعن جابر بن عبدالله قال”: …. فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن[1] يجرين فطفق[2] الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحَّول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه…”. [رواه مسلم].

وعن عبدالله ابن عباس قال: “…. وأقبلت امرأة من خثعم[3] وضيئة[4] تستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبى صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها….” [رواه البخارى ومسلم]

ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للفضل بن العباس حين كرر النظر؟ إنه لم يزد على أن أشاح بوجه الفضل الجهة الأخرى. والفضل هنا شاب حدث وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسير بصحبته. بل هو رديفه على ناقته، فلا عاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقء عينيه ولا أدبه بضربة أو ضربات.

  • وقال عالم فاضل: (ثبت أن الوجه ليس عورة يجب ستره…. لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا لم يكن على الوجه وكذا الكفين شىء من الزينة) بينما أورد المؤلف الكريم – وقبل هذا التقرير بصفحات – أحاديث صحيحة تفيد مشروعية ظهور بعض الزينة كالكحل فى العينين والخضاب فى اليدين.
  • وقال أستاذ جليل: (يرى الإسلام فى الاختلاط بين المرأة والرجل خطرا محققا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج، ولهذا فإن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادى لامجتمع مشترك …. لهذا نحن نصرح بأن المجتمع الإسلامى مجتمع فردى لازوجى، وأن للرجال مجتمعاتهم وللنساء مجتمعاتهن، ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد وحضور الجماعة والخروج فى القتال عند الضرورة لماسة ولكنه وقف عند هذا الحد).

وكنت أطمع من الأستاذ الجليل – إذا كان يقصد إنكار الاختلاط المستهتر العابث فحسب – أن يوضح أن الإسلام يشرع مشاركة المرأة فى الحياة الاجتماعية ولقاء الرجال فى حدود ضوابط وآداب تكفل استقامة هذه المشاركة وتجعلها خيرا للمرأة والمجتمع. وهذا ما دلت عليه النصوص المتكاثرة من السنة، وقد سبق إيراد بعضها فى هذه المقدمة، وقد توافر ما يزيد على ثلاثمائة نص من صحيحى البخارى ومسلم تفيد مشاركة المرأة فى مجالات الحياة بحضور الرجال.

  • وأورد مؤلف فاضل الحديث الآتى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة عليها السلام : ” أى شئ خير للمرأة؟ ” قالت : ألا ترى رجلا ولا يراها رجل، فضمها إليه وقال: ” ذرية بعضها من بعض”. قال المؤلف : “رواه الأربعة وقال الترمذى : حسن صحيح). وذلك ليدلل على وجوب قرار المرأة فى بيتها.

والحديث ضعيف، رغم وروده كثيرا على ألسنة الخطباء وعلى صفحات الكتب والمجلات، ولم يَرِد فى أى من الكتب الأربعة بل رواه البزار – مع بعض اختلاف – وقال عنه الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد: (رواه البزار وفيه من لم أعرفه). وقال عنه الحافظ العراقى فى تخريجه لأحاديث كتاب إحياء علوم الدين: رواه البزار والدارقطنى فى الإفراد من حديث على بسند ضعيف.

هذا من حيث السند، وأما من حيث المتن فهو مخالف مخالفة صريحة للنهج الذى سار عليه الصحابيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شاركن فى الحياة الاجتماعية ولقين الرجال فى مناسبات كثيرة جدا كما أوضحت من قبل.

  • وقالت مؤلفة فاضلة : ( أورد الهيثمى فى مجمع الزوائد عدة أحاديث كلها ضعاف ولكن مجموعها يقويها ويجعلها حسنة لغيرها تفيد أن القواعد من النساء فقط كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الشابات).

هكذا يكون الاعتماد على أحاديث كلها ضعيفة لتأبيد اتجاه يريد إبعاد المرأة الشابة عن المسجد، بينما الأحاديث الصحيحة فى البخارى ومسلم تؤكد حضور الشواب للمسجد. ومن أولئك أسماء بنت أبى بكر، وعاتكة بنت زيد (زوج عمربن الخطاب) وفاطمة بنت قيس، وأم الفضل، وزينب امرأة ابن مسعود، والربيع بنت معوذ، وغيرهن كثير.

ورد فى مجلة إسلامية سؤال من قارئ جاء فيه: (نحن جماعة من الطلبة المسلمين هنا فى بلد فى أوروبا نحاول أن نطبق الأحكام الشرعية على أنفسنا قدر المستطاع، وقد تزوج أحدنا وزوجته تلبس الحجاب الشرعى ولكنها تشعر بالوحدة والانفراد حيث لا توجد نساء أخريات يلبسن الحجاب الشرعى أو يتكلمن اللغة العربية. والسؤال هو: ما هو المدى المسموح به من الاختلاط بين زوجة أخينا هذا – مصحوبة بزوجها طبعا دون خلوة – وبين الطلبة المسلمين هنا؟) .

وقد أجاب أستاذ كريم على السؤال بالآتى: (الاختلاط ممنوع أصلا فى الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: “إياكم ودخول الرجال على النساء …” ويباح استثناء  إذا كانت هناك ضرورة شرعية على أن يظل محصورا فى حدود هذه الضرورة).

وهكذا كانت الفتوى تقريرا قاطعا بأن الاختلاط محظور أصلا ويباح عند الضرورة، بينما فى نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يفيد أن لقاء المرأة الرجال – وهو الذى يسمونه الاختلاط – مشروع أصلا. وقد ثبت فى السنة المطهرة مشاركة المرأة زوجها فى استقبال الضيوف وخدمتهم، إلى جانب لقائها الرجال فى كثير من المجالات العامة والخاصة.

وإذا كان الشارع الحكيم قد سنَّ آدابا لهذه المشاركة حتى تتم فى استقامة وصلاح، فقد سنَّ آدابا للزواج وللطعام والشراب وللبيع والشراء لتتم فى استقامة وصلاح أيضا. أما الحديث الذى أورده الأستاذ الكريم صاحب الفتوى فمقصود به النهى عن الدخول على النسأ فى خلوة.

وبعد … فهذه أمثلة مما يتداوله العلماء والكتاب الذين ينبعثون من رغبة فى بيان أحكام الشريعة. وهناك أمثلة أخرى من كُتَّاب متغربين يناصبون الشريعة العداء ويحرصون على تسفيه أحكامها أو ما يظنون أنه من أحكامها وهى منه براء. وقد ذكر لى صديق أنه كلما عرض وجهة نظره فى توضيح حكم من أحكام الشريعة يتصل بقضية من قضايا الاجتماع أو السياسة يقول له زميل من أساتذة الجامعة المرموقين: (هذه هى وجهة نظرك أنت نتيجة ثقافتك واطلاعك على أفكار الغرب المتطورة ولكنها لا تعبر عن حقيقة الحكم الشرعى كما ورد فى القرآن أو فى السنة أو فى كتب الفقه بدليل أن كثيرا من علماء الإسلام يقولون كلاما مخالفا لكلامك تمام المخالفة).

وأحسب أن علينا البلاغ المبين للشاردين الذين ساعد على شرودهم أخطاء وقع فيها علماء وكتاب أفاضل. وأرجو أن أكون – بالمنهج الذى اتبعته فى هذا الكتاب – قد يسرت لأمثال ذاك الأستاذ الاطلاع على أحكام الشريعة من مصادرها الأصلية. وليس على وجهات نظر مسلمين يجتهدون فيصيبون أو يخطئون ويقربون أو يبعدون عن الشريعة السمحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عبدالحليم محمد أبوشقة (2002). تحرير المرأة في عصر الرسالة: دراسة عن المرأة جامعة لنصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم. 6ج. ط. 6. الكويت: دار القلم. ص ص. 28- 38.

** عبدالحليم محمد أحمد أبوشقة وشهرته عبدالحليم أبوشُقّة، كاتب و مفكر إسلامي تخرج من كلية الآداب قسم التاريخ، ولد في حي الجماليه بالقاهرة في 28 أغسطس 1924م الموافق 28 محرم 1343هـ.

[1] ظعن: أى نساء على الإبل.

[2] طفق ينظر: جعل ينظر.

[3] خثعم: اسم قبيلة.

[4] وضيئة: من الوضاءة وهى الحسن والبهجة.

عن عبد الحليم أبو شقة

شاهد أيضاً

الإسلام والنسوية ونساء غزة

أ. منال يحيى شيمي

شرعت في كتابة هذا المقال في محاولة للاقتراب من مفهوم "النسوية الإسلامية" وتحديد موقعه على خريطة النسوية العالمية والتعريف به وتحديد الموقف منه من منظور حضاري إسلامي.

علاقة الزوجين من منظور فقه الحياة

أ. منال يحيى شيمي

تشهد الساحة الثقافية في مصر منذ فترة جدلا حادا حول موضوعات تتعلق بالزواج ومؤسسة الأسرة، يشتمل هذا الجدل على تفاصيل مثل: واجبات الزوجة داخل المنزل...

2 تعليقان

    • يمكنك الاطلاع على الببليوجرافية التي أعدها مركز خُطوة للتوثيق والدراسات عن المرأة وتحديد العناوين التي تحتاجينها، الببليوجرافية متاحة على الرابط التالي
      http://www.khotwacenter.com/darsh-8/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.