روح الإسلام والبناء المجتمعي

الصفحات التالية من كتاب “ميلاد مجتمع”* لمالك بن نبي**

روح الإسلام والبناء المجتمعي

لمشكلات الإنسان طبيعتها الخاصة، فهى تختلف اختلافاً كلياً عن مشكلات المادة، ولايمكن أن تطبق عليها دائما حلول تستقي براهينها من الخارج. فجميع أنواع الحلول ذات الصيغة الاجتماعية التي نقتبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها، هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد، ولكنها تقتضي عند التطبيق عناصر مكملة لا تأتى معها، ولايمكن أن تأتي معها، لأنه لايمكن حصرها، ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها، أى لايمكن فصلها عن (روحها).

وإذن، فلكي نواجه بطريقة فنية أية مشكلة اجتماعية، ينبغي ألا يقتصر عملنا على اقتراض الحلول التي تأكدت صحتها خارج بلادنا، إذ أن الصيغة المقتبسة صحيحة بلا أدنى شك، ولكن في إطارها الاجتماعي، في محيطها الذي تخلقت فيه، في نفحة (الروح) التي تخيلتها.

هل معنى ذلك أن ندين كل اقتباس؟..

ليس أوهن ولا أضعف من أن نرفض الاستنارة بتجارب الآخرين، والإفادة من جهودهم، ولكن بشرط أن نرد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة.

وبعبارة أخرى، ينبغي أن نهيئ في بلادنا المحيط اللازم لتطبيق ما نتصور من حلول لمشكلاتنا الاجتماعية.

تلكم هي مشكلة الشروط الأولية، وهي مشكلة تثور أمامنا لا بالنسبة إلى الحلول الجاهزة التي نقبسها من الخارج، بل بالنسبة لجميع الحلول التي نتصورها لحل ما يواجه مجتمعنا من مشكلات، في مرحلته التاريخية الراهنة.

وقد يدهش بعض الناس أحياناً في أوساطنا المفكرة، حيث الفكرة الإصلاحية دائماً موضوع الاهتمام، يدهشون من أن الحلول التي أكدت صلاحيتها من قبل في المجتمع الإسلامي الأول لم تعد لها اليوم فاعليتها.

ولننظر مثلاً إلى ( الزكاة )، وقد كانت الدعامة التي قام عليها بناء الإمبراطورية الإسلامية، بجميع مؤسساتها الدينية والحربية، وجميع إداراتها الثقافية، وأعمالها الاجتماعية.

أما الآن، فلقد فقد هذا النظام الإسلامي تقريباً كل فاعليته الاجتماعية.

بل لننظر أكثر من ذلك إلى فكرة (إسلام) ذاتها، وهي التي نعرف دويها العميق في ضمير المسلمين الأولين، هذه الفكرة لم يعد لها اليوم الدوي نفسه، وقوة التوجيه لسلوكنا الفردي، ولأعمالنا وأفكارنا ومشاعرنا؟!

وبعض المسلمين – الذين مازالوا يحسون بقلوبهم بالمأساة، ولكن ليس لديهم ما يكفي من الصبر والأناة لدراستها – هؤلاء يترجمون دائماً عن المأساة قائلين: “إننا لم نعد مسلمين إلا بشهادة الميلاد”. وإنهم ليقرون الحقيقة ولكنهم ربما فعلوا شيئا أكثر فائدة لو أنهم لاحظوا ملاحظات أولية في وسطنا.

ومع ذلك فمن السهل أن نقوم ببعض الملاحظات لأشياء كثيرة الوقوع، لنوجه خطانا في الموضوع.

فيمكن أن نلاحظ مثلاً التأثير العظيم للحقيقة الإسلامية على الحضور الذين يشهدون صلاة الجمعة، وينصتون إلى خطبتها عند قدمي المنبر في المساجد.

إن كلمات الإمام التى تهبط من المنبر على هذا المستع المنصت تزلزل كيانه. وكثيراً ما رأينا في جوانب المسجد أحد المصلين ذائباً في دموعه، بل لقد نرى الإمام نفسه، وقد خنقته شهقاته وانفعالاته.

ومع ذلك فإذا ماقضى هذا المستمع صلاته، بقيت (الحقيقة) التي زلزلت كيانه في المسجد، ولم تتبعه إلى الشارع.

فالمسلم حين يتخطى عتبة المسجد ينتقل إذن من حال إلى حال أخرى.

وهذا يضطرنا إلى أن نسجل ملاحظتنا: إن هناك انفصالاً بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي، هناك افتراق بين المبدأ والحياة.

والمسلم يعيش اليوم هذا الانفصال الذي يمزق شخصه شطرين: شطر ينظم سلوكه في المسجد، وشطر ينظمه في الشارع.

إن المسلم يخضع لنظام يشبه إلى حد كبير ( الدش الاسكتلندي)[1] فهو يتعرض لأشد التأثيرات النفسية تعارضاً، فإذا ما تخطى عتبة المسجد يوم الجمعة فإنه يشعر بدفء في قلبه، ودفء في نفسه. ولكنه بمجرد أن يضع قدمه في الشارع يعاوده البرد فيحتل قلبه ونفسه.

واليوم غدا الانفصال بين الروحي والاجتماعي، وآثاره هي ما نلاحظ في سلوك المسلم الحديث في المسجد والشارع.

وبعبارة أخرى: يجد المسلم (نفسه) في محيط المسجد، لأن المسجد هو الذي ينشئ بالنسبة لضميره الوسط الأولي الذي تكون فيه، فهو يجد (شخصه).

ولكنه على عتبة المسجد يفقد صلته بهذا الوسط الأولي، ويجد نفسه في نطاق الظروف الاجتماعية التي تمحو (شخصه) وتبعث فيه (الفرد الخام).

فالمجتمع مضطر أن يستعير من الطبيعة، أعني من غرائز الفرد طاقته الحيوية اللازمة لأداء نشاطه.

ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع مالم يسبق تكييفها، أعني مالم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا، تعيد تنظيم هذه الطاقة، وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان، حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما.

فالمشكلة التي نواجهها هنا إذن ذات جانبين: جانب اجتماعي وجانب نفسي. وقد أرتنا أوجه التعارض السالفة أنه لكي نعالجها من كلا جانبيها يجب أن تكون لدينا ( فكرة) عليا، تصل ما بين الروحي والاجتماعي، وتجري من جديد تركيب الشخص المسلم تركيباً يجعله يتماثل مع ذاته، في المسجد وفي الشارع.

ولقد أكدت الفكرة الإسلامية فيما مضى صلاحيتها في بناء مجتمع استطاع أن يؤدي نشاطه المشترك بطريقة بالغة التوفيق.

لقد أخضعت هذه الفكرة الطاقة الحيوية لدى البدوي العربي لنظامها الدقيق، فجعلت منه إنساناً متحضراً ومحضراً. والأمثلة كثيرة على أن هذه الفكرة أظهرت فاعليتها  الكاملة في إعادة تنظيم وتوجيه الطاقة الحيوية التي أسلمتها شبه الجزيرة العربية إلى عصر النبي عليه الصلاة والسلام.

فعندما كان النبي مشغولاً في المدينة بالمطالب المادية للدولة الإسلامية الفتية، من أجل مواجهة ضرورات الحرب، التي ستبدأ بمعركة بدر، كان صحابته يقدمون له عن طيب خاطر جزءاً من أموالهم، ويعقب سعد بن عبادة على عمله بتلك الكلمة المعبرة:

” يارسول الله: خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت”.

هذا مثال يرينا كيف أن الطاقة الحيوية في صورة غريزة التملك المطبوعة في الإنسان، تتحول إلى طاقة محكومة منظمة موجهة نحو المهام الاجتماعية.

وأياً ما كان الأمر فإن عملية إعادة التنظيم والتوجيه ينبغي أن تكون المهمة الأولى في خطة النهضة الإسلامية، لأن تحقيقها هو الذي يوجد الشرط الأول لتحويل الجهود في نطاق هذه النهضة إلى جهود فعالة.

وقد تم هذا العمل في المجتمع الإسلامي الأول بفضل رعاية الفكرة القرآنية، لا على أنها مفاهيم تدرس وتعلم على يد فقهاء الشريعة، ولكن على أنها (حقيقة) عاملة مؤثرة، تجمع في نظامها مباشرة كل ما يقوم به الفرد من أعمال وإشارات، على ما جاء في حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنه: ” لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها”.

ونريد أن نبين كيف يتم تكييف الفكرة الدينية للطاقة الحيوية، وإخضاعها لنظامها فعندما نعد الفرد عند نقطة الصفر نجده في الحالة التي يطلق عليها بعض المؤرخين المسلمين كلمة: ( الفطرة) أي مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة، فالفرد في هذه الحالة ليس في أساسه إلا ( الإنسان الطبيعي).

غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إخضاع غرائزه لعملية تكييف، وليس من شأن هذه العلمية القضاء على الغرائز، ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية، فالحيوية الحيوانية الممثلة في الغزائر بصورة محسة لم تلغ، ولكنها خضعت لقواعد نظام معين.

في هذه الحالة يتحرر الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في ذاته، ويخضع وجوده كله للمقتضيات الروحية التي أوجدتها الفكرة الدينية في نفسه، إيجاداً يمارس معه حياته في هذه الحالة الجديدة طبقاً لقانون الروح.

وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع، ربيب الفكرة الدينية،طريق تطوره، وتكتمل شبكة علاقاته الداخلية، بقدر امتداد إشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشكلات المادية لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله.

وحتى تتفق تلك الحضارة مع المقاييس المتجسدة تسلك منعطفاً جديداً، يتطابق مع (النهضة)، كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأوربية، ومع استيلاء الأمويين على الخلافة بالنسبة للدورة الإسلامية. وفي الحالتين كلتيهما فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لايملك سيطرة الروح على الغزائر، وحينئذ تشرع الغزائر في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي غرفناها عن عهد بني أمية،إذا أخذت الروح تفقد نفوذها، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد.

وكلما واصل التاريخ سيره، واصل التطور عمله في نفسية الفرد، وفي البناء الأخلاقي للمجتمع، الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع، ينكمش التحرز الأخلاقي في أفعال الفرد الخاصة شيئاً فشيئاً.

ولو استطعنا مراقبة هذه الظروف النفسية بوسيلة دقيقة، بغية تتبع نتائجها – كما هو الشأن في معامل الطبيعة – لأمكننا أن نلاحظ انخفاضاً في مستوى أخلاق المجتمع.

وبعبارة أخرى: نلاحظ نقصاً في الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية، وإن هذه الفكرة تتناقص دائماً، منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل.

فأوج الحضارة، وأعنى به ازدهار العلوم والفنون فيها، يلتقي من وجهة نظر ( علم العلل Ethiologie) مع بدء مرض اجتماعي معين لما يلفت انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع، لأن آثارها المحسة لاتزال بعيدة، وبهذا تواصل الغريزة – المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية – سعيها إلى الانطلاق والتحرر، وتستعيد الطبيعة سيطرتها على الفرد، وعلى المجتمع، شيئاً فشيئاً.

فإذا ما بلغ هذا التحرر تمامه، عادت الغرائز إلى سيطرتها على مصير الإنسان، وبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة، بظهور الغريزة التي تسفر عن وجهها تماماً. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية، تعود الأشياء كما كانت في مجتمع منحل، ضرب نهائياً في ليل التاريخ، وبذلك تتم دورة في الحضارة.

هذه الدورة الكاملة تضيء لنا جميع المراحل التي تمر بها الطاقة الحيوية خلال حضارة، ولكنها تضيء خاصة المرحلة الأولى، عندما تخضع خضوعاً تاماً لنظام فكرة دينية.

وهي ترينا في أي الظروف تتم عملية التنظيم لتلك الطاقة الحيوية، في ظل سيطرة الفكرة الدينية. وهذه النظرة أساسية في أي مشروع يستهدف إعادة تنظيم الطاقة، بغية إعادة بناء شبكة علاقات معينة.

فإعادة التنظيم تستلزم الظروف نفسها، أعني فكرة دينية جديدة. ولقد برهنت تجربتنا اليومية على أمرين:

1- إن الفكرة الإسلامية لم يعد لها في سلوك الفرد ما كان لها من فاعلية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

2- وأنها تستعيد خلقها بصورة تلقائية عند قدمي المنبر، في محيط المسجد.

ونستلخص من الملاحظة الأولى أن المسلم لايحتفظ باستقلاله الأخلاقي، ابتداء من اللحظة التي يغادر فيها المسجد، فهو يسقط تحت سطوة قانون العدد. وبدلاً من أن يؤثر على الوسط طبقاً لمثله الأعلى ومبادئه، نجد أن الوسط هو الذي يؤثر عليه، فيجرده من مثله الأعلى، ويهدم مبادئه.

والملاحظة الثانية ترينا أن المسلم يعثر على استقلاله الأخلاقي في جو المسجد، إذ يكون اجتماع أشخاص، يخلق تأثير الوعظ لديهم الظروف الأولية التي ظهرت فيها الفكرة الإسلامية على عهد المسلمين الأولين. وقد كانت الطاقة الحيوية لدى صحابة النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الظروف لا منظمة فحسب، وإنما موجهة لأداء نشاط مشترك، نعرف تاريخه.

فإذا ما شعر المسلم في عصرنا هذا، وفي جو المسجد، بسيطرة الفكرة الإسلامية على غرائزه، وإذا ما وجد نفسه يضل عن هذا الشعور بمجرد خروجه إلى الشارع، فمعنى ذلك أنه لايجد في الحياة الإطار الضروري الذي ينقذ استقلاله الأخلاقي. حين يوجه طاقته وجهة أغراض حسية مناقضة لمثله الأعلى.

ومن الممكن أن نقيس، بالنظر إلى الماضى، أهمية هذه الملاحظة حين نسأل أنفسنا عما كان يمكن أن يحدث من المسلمين الأولين لو أنهم بدلاً من أن يدعوا إلى تحقيق مثلهم الأعلى بالطرق العملية، اكتفوا بصلاة داخل مسجد من أجل تحقيقه؟… من المؤكد في هذه الحالة أنهم ما كانوا ليغيروا من الوسط الجاهلي باحتفاظهم باستقلالهم الأخلاقي في جميع الظروف، وإنما هو الوسط الجاهلي الذي ربما كان قد حولهم إلى مشركين.

إن المشكلة التي تواجه المسلم اليوم هي تقريباً المشكلة نفسها التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ” لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مالك بن نبي (2002). ميلاد مجتمع. دمشق: بيروت:  دار الفكر ، دار الفكر المعاصر. ص ص. 102 – 114.

** مالك بن نبي (1323هـ/ 1905- 1393هـ/ 1973م) مفكر جزائري، من أعلام الفكر الإسلامي، وأحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين.

[1] هذا التعبير يطلق على تقاليد الاسكتلنديين في استخدام (الدش)، لأنهم يصبون منه ماء ساخناً، يتبعونه بماء بارد.

عن مالك بن نبي

شاهد أيضاً

علم “تجديد الصلة بالله”

د. عبد الرزاق بلعقروز

نحاول هنا تسليط الضوء على النواة المركزية التي راهن عليها مالك بن نبي من أجل استيفاء الشروط لدخول دورة حضارية جديدة، هذه النواة متعددة التسمية في برنامجه النقدي والتأسيسي.

نحو تأصيل لفقه الحياة: الطفولة نموذجًا

تأليف: د. شريف عبد الرحمن سيف النصر، أ. مدحت ماهر الليثي، أ. منال يحيى شيمي، أ. د. هبة مشهور، أ. مهجة مشهور

عرض: أ.تقى محمد يوسف

في ظل المشكلات التي تواجهها الأمة الإسلامية اليوم وعلى رأسها مشكلة مستوى الخطاب الديني الذي لا ينهض باحتياجات الأفراد أو المجتمعات ولا يقوم بتوجيههم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.