سمينار تأجيل الأحكام الشرعية وتعليقها: دراسة في منهج تحقيق المناط
تحرير: أ. منال يحيى
عقد مركز خُطوة للتوثيق والدراسات في 24/03/2018 ندوة لمناقشة الورقة المقدمة من أ. د. محمد كمال امام والتي سبق نشرها على الموقع في قسم بحوث محكمة بتاريخ 23/01/2018 تحت نفس العنوان.
وقد شارك في الندوة :
- أ. د. أماني صالح: أستاذة العلوم السياسية بجامعة مصر الدولية.
- د./شريف عبد الرحمن: مدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.
- أ.د. محمد كمال الدين إمام. أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق، جامعة الإسكندرية
- أ.د. محمود عبد الرحمن: أستاذ ورئيس قسم الشريعة قسم الأصول جامعة الأزهر.
- أ. مدحت ماهر: باحث في العلوم السياسية بمركز الحضارة للدراسات والبحوث.
- أ. مصطفى مهدي: مدرس مساعد بقسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة عين شمس.
- أ. منال يحيى: باحثة في مركز خُطوة.
- أ. مهجه مشهور: مديرة مركز خُطوة.
- أ. هاني محمود: مدرس مساعد بقسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة عين شمس.
- أ. د. هبه مشهور: أستاذ الأدب الفرنسي بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وقد أدار الجلسة أ. مدحت ماهر.
وفيما يلي تفصيل ما دار في الندوة من حوارات ونقاشات.
الكلمة الافتتاحية: أ. مدحت ماهر.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرحب بأساتذتنا وأخواتنا وأهلينا في العلم. إذ العلم رحم بين أهله. أرحب بكم في مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، هذا المركز هو الفرع الثقافي للجمعية الخيرية للخدمات الثقافية والاجتماعية.
يأتي لقاء اليوم وهو لقاء من الأهمية بمكان، أستاذا وموضوعا، مع أ.د/ محمد كمال إمام أستاذ الشريعة والقانون، والموضوع الذي يطرحه اليوم هو موضوع جوهري في قضية تطبيق الشريعة، وهي القضية التي تُلخص فيها الجهود الكبيرة لمقاومة التغريب وألوان الغزو الفكري والاجتماعي المختلف. وتطبيق الشريعة له منطقة جوهرية تتعلق بالقوانين والتقنين، ويعتبر أ.د/ كمال إمامًا بارزًا بهذا الشأن، وهناك أجيال تدين له بالكثير في هذه المساحة .
كلمة أ. د. كمال إمام
بسم الله الرحمن الرحيم بداية أشكر المركز لدعوته هذا الجمع للحوار حول قضية أعتقد أنها قضية محورية في جسد التفكير التشريعي الإسلامي، وهي من القضايا التي يدور حولها جدل كثير، ولكن هذا الجدل في نهاية المطاف قد ينتهي بطرق مسدودة، شُغِلت في العقدين السابقين بثلاثة أمور أعتقد أنها رئيسة في مجال التقييم الخاص بالفكر التشريعي، وأنا لا أبحث في علوم التشريع ككل أو علوم الإسلام ككل، إنما أبحث في منطقة التفكير التشريعي والتأريخ العقلي للإسلام من زاوية علم أصول الفقه. شُغلت بموضوع المقاصد وموضوع الاجتهاد، والتدقيق في وضع هذا المفهوم الأخير في مكانه الصحيح وذلك بالتفرقة ما بين الاجتهاد والتجديد، وكانت وجهة نظري في هذا أن الاجتهاد يتعلق بالأحكام الشرعية وكيفية الاستنباط من داخل بنية مصادر الفقه، أما التجديد فهو الذي يتعلق بالنظم ولا يتعلق بالأحكام. وفي فترات تاريخنا المختلفة وجدت هذه التفرقة لكنها لم تُرصد، هذه التفرقة الأساس فيها أن الاجتهاد المتعلق بالأحكام هو اجتهاد في بعض الأحيان قد يظل في منطقة الضرورة الرئيسية التي لا يمكن أن يتحرك الفقه الإسلامي بعيدا عنها، ويأتي في مقدمتها ما أسماه الشاطبي بالاجتهاد في تحقيق المناط وهو اجتهاد لا يخلو منه مجتمع، إذ لابد من التفكير في النص والتفكير في الوقائع الحادثة ومحاولة إنزال هذه الأحكام على هذه الوقائع الحادثة، وكيفية هذا الإنزال في حد ذاته، وما هي آلياته، وما الطرق التي تؤدي إليه؟
وقد وجدت في هذه التفرقة المبدئية بين الاجتهاد والنظم مدخلا طبيعيا للقضية، لأن النظم هي التي تتطور مثال نظام القاضي الفرد في التاريخ الإسلامي، فمنذ عصر الرسول (ص) ساد نظام القاضي الفرد ثم أتت إضافات عدة لهذا النظام فتعددت مستويات التقاضي وتطورت عدة مرات وصولًا إلى محكمة النقض، وكل هذا يظل في إطار النظم، النظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي كلها في إطار النظم التي متغيراتها تنشأ ليس من النص وإنما من احتياجات الواقع، وتنشأ ليس في النص وإنما في الفكر العملي الذي يقوم به الناس، هذه التفرقة هي التي تؤدي في نهاية المطاف بالتعبير الأصولي إلى الجمع بين المتفرقات.
* النصوص متناهية والوقائع غير متناهية
الموضوع الثالث الذي شغلت به يتعلق بالنظر بمستويات مختلفة ما بين المجرد والمحدد لأن النص الإسلامي القرآني على وجه الخصوص هو نص مجرد وكل النصوص الآمرة والناهية هي في طبيعتها نصوص مجردة بمعنى أنها تستوعب حدود الزمان والمكان، ولذلك سادت قراءات خاطئة لما قال به الشهرستاني وقال به الآمدي من أن النصوص متناهية والوقائع لا متناهية فكيف يحكم المتناهي على اللا متناهي ! ورغم الصيغة الفلسفية البلاغية وراء هذا التعبير لكن علماء الأصول القدماء لم يقصدوا به ما يقوله المعاصرون سواء كانوا من الأصوليين أو كانوا من الدارسين عموماً لهذا النص، لأننا إذا نظرنا بنظرة علمية دقيقة: هل المتناهي هو النص أم المتناهي هو الوقائع؟ سنجد أن المتناهي هو الوقائع واللامتناهي هو النص، لأن النص هو كلام الله وبما أن الله سبحانه وتعالى خارج الزمن فكلامه أيضا خارج الزمن، وبالتالي هو اللا متناهي الذي لا حدود له ولا سقف له، وأن المتناهي هو ما يتم داخل الزمن وهو الوقائع الإنسانية؛ نحن لا نعرف ما سيحدث غداً لكن ستحدث غدا وقائع، فكلمة اللا متناهي عندهم تعني أن هذه الوقائع غير قابلة للعد أو الحصر لأن منها ما هو موجود الآن ونعرفه ومنها ما سيأتي في المستقبل ولا نعرفه، وبالتالي فهي نظرة تتعلق بأن هذه الوقائع هي وقائع لا يمكن أن يقوم الإنسان بحصرها لأنها خارج قدرته على الحصر، لكن لم يقل أحد من الأصوليين القدامى أن النصوص متناهية بالمعنى الذي نأخذ به الآن ولا أن الوقائع لا متناهية بالمعنى الذي نأخذ به الآن. هذا التفسير المعاصر أوصلنا إلى مشكلة أن هناك مناطق فراغ ما بين النصوص المتناهية والوقائع اللامتناهية.
* تحقيق المناط جهد المختص
إن النظر في الأحكام من أجل بسطها على الوقائع ليس نظرا ضروريا فحسب بل هو جوهر تحقيق المناط، لكن في مسألة تحقيق المناط ليس الجهد هو جهد قارئ النص ولا عالم النص وإنما هو جهد قارئ الواقع وعالم الواقع، وبالتالي الذي يؤدي دوره في تحقيق المناط ليس هو الفقيه وليس هو الأصولي ولكن هو عالم السياسة في مجال السياسة وعالم الاقتصاد في مجال الاقتصاد وعالم الاجتماع في مجال الاجتماع، لأن هؤلاء هم الذين يربطون الوقائع ويضعون ما نسميه في القانون “التكييف” الذي يجعلها في نهاية المطاف تعود إلى الفقيــه، فيستطيع أن ينزل عليها حكما شرعياً وهي ما نسميها الآن في القضاء “الوصف والقيد” فماذا يفعل وكيل النيابة؟ هو يقوم بوصف وقيد الحادثة، فهو يصف الحادثة بحيث يتعرف عليها، وهو لا يتعرف عليها بنفسه فقد يحتاج إلى طبيب نفسي أو يحتاج إلى طبيب شرعي، ثم يقول أن هذه الواقعة بهذا الوصف الذي وصلنا إليه ينطبق عليه حكم المادة كذا، تحقيق المناط هو هذا الأمر، ولذلك تظل العلوم البينية هي علوم أساسية في داخل تحقيق المناط، والدور الأساس فيها ليس للفقيه وإنما الدور الأساس فيه لأهل الاختصاص، فعندما نحمل الفقه القيام بهذا الدور فنحن نحمله ما لا يطيق ونطلب منه أن يدخل إلى ما لا يعرف، وكل هذا يثير من المشكلات أكثر مما يحل.
* الانهاء – والاستثناء- والإرجاء في تطبيق الشريعة
جزء من المشكلة نجده في موضوع تأجيل الأحكام الشرعية وتأجيلها بنسق تحقيق المناط، فنحن عندما نأتي إلى تحويل المجرد إلى محدد يحدث في بعض الأحيان نوعا من عدم قدرة العملية التطبيقية على تحقيق غايات وأهداف المجرد، ولذلك فعملية التأجيل هنا ليست متعلقة بالشريعة كمضمون ولكنها متعلقة بآليات التطبيق والوسائل وبمقاصد الشريعة، وأنا عندما أريد حماية الدين وحماية العقل أو النفس إلخ لابد أن أنظر إلى ماذا يحدث من وراء تطبيق النص، هل سيحدث ما تدعو إليه مقاصد الشريعة؟ أم سيحدث من وراء تطبيق النص ما نسميه نظريا “ما يناقضه”؟ فيؤدي إلى ما هو أسوء من الموجود، وبالتالي هذه النظرية مهمتها أن تضبط حركة التطبيق العملي، وفي ضبطها حركة التطبيق العملي قد تنظر إلى النص من خلال مستويات محددة، وعلى سبيل المثال قد يكون هذا النص قد انتهى دوره، والانتهاء هنا ليس نسخا -لأن النسخ لا يكون إلا في عصر الرسول (ص)، بعده لا يوجد نسخ – وإنما هو نوع من الإنهاء لأن الحكم بطبيعته عندما صدر لم يكن المقصود به الديمومة. إذن ما الذي يفرق بين الديمومة وبين إمكانية أن نجعله غير ثابت؟ إنها المقاصد الكامنة وراء هذا النص، فقد أعطيت مثالا في هذه الورقة للأحكام القابلة للإنهاء بأحكام الرقيق، ووصلت فيها أنه حتى لو تم استرقاق المسلمين الآن فلا يجوز للمسلم نتيجة المعاملة بالمثل أن يعود إلى هذا الأمر، لأن الإنسان وضعه الطبيعي الذي أراده له الإسلام هو أن يكون حرا، سواء كانت الحرية بالمعنى القانوني أو بالمعنى الفلسفي، وبالتالي فلابد أن يظل الإنسان حرا. ما فعلته الأحكام الجزئية في تاريخ الفقه الإسلامي هي أنها فتحت جميع الأبواب لإغلاق باب الرق في عصر كان الرق يعتبر فيها جزءا من التكوين الفكري وجزءا من البناء القانوني لهذه الفترة.
وهناك أيضا الاستثناء فهي قاعدة تحتاج إلى إعادة فهم، لأنه في مجال الأحكام الشرعية ليس معناه أن لكل قاعدة استثناء، وإنما الاستثناء في مجال الأحكام الشرعية هو أن هذه الجزئية عند النظر إليها من خلال تحقيق المناط يرى الفقيه أنها ليست محكومة بهذا النص العام، وإنما حكمها في نص آخر فهذا ليس استثناء في حقيقته وإنما هو إدخال في قاعدة اخرى، لأن القاعدة الشرعية أو القاعدة الفقهية هي حكم كلي ينطبق على جميع مفرداته، عند البعض يكون الأغلب وعند البعض يكون الكل، لكن في نهاية المطاف أنا لا أرى فيها استثناء، ولكنها خروج من دائرة هذه القاعدة إلى القاعدة الأكثر التصاقا بها، لأن مناطق الفراغ قد تكون مقبولة في الحياة الطبيعية لكنها لا تحدث في البناء التكليفي أو البناء التشريعي، فهذا البناء من عند الله تعالى فلا يمكن أن نتصور فيه مناطق فراغ، ومناطق الفراغ التي تحدَّث عنها باقر الصدر لم يكن يقصد بها أنها مناطق ليست فيها أحكام ولكنها مناطق فيها أحكام تحتاج أن تتسع أو تضيق حتى تملأ هذه المنطقة الفراغية، أي أنه لا يوجد خلْق لأحكام جديدة في فكرة الفراغ التشريعي وإنما هو جهد جديد في فهم كيف تتسع الشريعة وكيف تضيق في بعض الظروف وفي بعض المجتمعات وفي بعض الحالات.
هناك أيضا الإرجاء؛ والإرجاء هنا نوع من التدرج، والتدرج هو التطبيق الجزئي بهدف الوصول الى التطبيق الكلي، أي ليس التطبيق الجزئي منفصلًا أو مقطوع الصلة عن التطبيق الكلي، بحيث لو أن هناك واقع لا يمكنني ان أطبق فيه الكل فإننا نتبع قاعدة ما لا يدرك كله لا يترك كله، هنا لا يوجد ما يترك كله لأن الكل في إطار الواجب بالمعنى الأصولي. وبالتالي وجدنا أن هذه الفكرة الرئيسية يمكن تلخيصها في هذه العناصر الثلاث التي هي: الإنهاء والإرجاء والاستثناء، مع ضبط مفاهيمهم. وهي في نهاية المطاف محاولة للتفكير في كيف يمكننا التعامل بمنهجية جديدة مع النص الإسلامي متحركًا، فالمشكلة تكمن في أن هناك جهود كثيرة قد بذلت من جانب علماء كبار، لكنهم درسوا النص في حالة سكون فأصبح الاقتراب منه اقترابًا ساكنًا وليس اقترابا متحركًا في ظل الحياة. النصوص الإسلامية لم تكن أبدا ساكنة “فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء :65] ” فهناك حركة متتالية في داخل البناء الاجتماعي، لذلك تظل الشريعة في دائرة ليس فقط عناصر الضبط الاجتماعي وإنما عناصر التلاقي ما بين الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبين الإيمان بأن الواقع لابد أن يكون حاضرًا ولابد أن يتحرك فيه الإنسان.
هذه مجرد أفكار أكثر منها فكر منضبط، وضبط هذه الأفكار هو مسؤوليتكم وإعادتها إلى صوابها مجهودكم، ولكن هي محاولة لطرح هذه المسائل من خلال رؤى كثيرة، مع عدم ترك منظومة العلوم الأصولية، وهذا ما جعلني اعتبر المقاصد الشرعية ليست علما منفصلًا كما دعا إليه الكثيرون من أساتذتنا في هذا الزمان وإنما هي مبحث في علم أصول الفقه لا يمكن أن نخرجه منها، وأن هذا المبحث ربما قصَّر فيه القدامى ليس لعدم العلم به وإنما للاهتمام بما كان هو أهم عندهم حيث كان التطبيق قليلاً ولكنه موجود داخل بناء الفكر الأصولي منذ نشأته.
وفي الختام لابد ان أفرق في الخريطة المعرفية لرؤيتنا العلمية ما بين الظاهرة المقاصدية وعلم المقاصد، وبين الظاهرة الأصولية وعلم أصول الفقه، وبين الظاهرة التشريعية وعلوم التشريع، فالظاهرة تعني أن بنية النصوص الإسلامية تستدعي أمرا ونهيا، وكانت تستخدم في عصر الرسول (ص)، ولكن لم تكن مبحثا علميا؛ هذا نشأ في مرحلة تالية في عصر التدوين عندما أصبح لنا مدونات ولنا علماء ينظرون إلى هذه المسائل ويقدموا فيها كتبا ويضعوا فيها مباحث وعلوما، فالمرحلتان رغم أنهما ينفصلان من الناحية العلمية لكنهما يرتبطان من ناحية التأسيس.
كلمة أ.د. محمود عبد الرحمن:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شكرا جزيلا لاهتمام المركز بطرح هذا الموضوع المهم “تحقيق المناط”، وأنا سعيد بما قدمه د. كمال إمام وأُسهب قليلا في شرحه وتفصيله. إن موضوع تحقيق المناط كان له عناية قديمة كل في عصره، فالإمام الغزالي من أوائل من تكلم في تحقيق المناط والسبل التي يجب أن تراعى فيه في كتاب المستصفى، والإمام الشاطبي له كلام طويل في هذا الأمر، وهو أول من تكلم بما أسماه تحقيق المناط الخاص، وبيّن أن تحقيق المناط ينقسم إلى تحقيق مناط عام وتحقيق مناط خاص يُعنى بكل شخص، ولا يُعنى فقط بالحادثة أو بالظرف فلكل شخص تحقيق مناط في مسألة تخصه أو فيما ألم به. الموضوع الذي أمامنا له علاقة بنسبية الأحكام وله علاقة بالرخص وله علاقة بالاختلاف وله علاقة بوقتية الأحكام، ويلحق به الكلام عن الفراغ التشريعي والفتوى وتصرف المكلفين، أي إنه ضارب بجذوره في كافة الموضوعات الأصولية، وأؤكد على ما أشار له أستاذنا من أنه لا غنى عن القواعد الأصولية لأنها حاكمة ونحن نتحرك في عالم التطبيق.
النصوص متناهية والوقائع غير متناهية
قول العلماء أن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية غير مقصود به “متناهية” بمعنى تنتهي ولكن بمعنى عددها محصور، والوقائع “غير متناهية” أي متجددة، لأن الحدث لا يحدث مرتين في الكون وانما ينتهي بوقوعه، فالحدث إن كان مشابها لآخر في الصورة إلا أنه شيء آخر وعمل آخر فهو متجدد ومستمر، وغير مقصود بالمتناهية أنه يُوقف العمل بها كما يظن بعض المعاصرين، إن النصوص وإن كانت محصورة إلا أن معانيها ممتدة ومتسعة، وهناك مستويات للنص الواحد، ففي عصر يفهم على وضع صحيح، وفي عصر آخر يفهم على وضع آخر صحيح أيضًا دون وقوع تضارب بين الفهمين ولكنه اتساع للدلالة وانفتاح لها، وكما قدر الله في الأرض أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين إلى يوم القيامة قدر في النصوص معانيها ليوم القيامة، فمعاني النصوص تبقى إلى يوم القيامة لا تتوقف ولكن يظهر لكل جيل من المعاني على قدر احتياجه، كما يظهر لكل جيل من المعادن والأحجار إلى يوم القيامة، لأن الذي خلق الكون هو الذي أنزل الأمر لقوله تعالى : “أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ” [الأعراف :54]. فالذي له الخلق له الأمر وكما قدر في الأرض أقواتها ومياهها قدر في النصوص معانيها إلى يوم القيامة.
ومن الحكمة النظر في المقاصد والغايات، وهذا له شروطه، فعطاء النص ممتد، ولكن من يغوص إلى هذا النص ويُخرج منه المعنى؟ وإذا كانت النصوص قد جاءت تلبي الحاجات الظاهرة الواضحة بصريح العبارة إلى يوم القيامة فسنحتاج إلى ملايين النصوص، فلا تطيق الأمة حفظ هذه الملايين، وستنشغل بأشياء هي رزق أجيال أخرى، وفي نظري هذا من إعجاز النص.
أود أن أوسع قليلاً ما أختصره استاذنا في قضية الإنهاء ، إن النصوص متناهية فعلا، ولكن كما قال أستاذنا أن النص متناهي في العدد، فهو حوالي 70 ألف كلمة، تكتب في 300 صفحة (المصحف)، فالنصوص محصورة لكن عطائها غير محصور. مثلًا اختلفوا في الولد عندما أخذت بويضة من امرأة فوضعت في امرأة أخرى بعد تلقيحها، فالولد لمن ولَدت أم لصاحبة البويضة؟ فاختلف العلماء بأن هذا مقياس الشبه، فإذا نُظِر إلى التكوين فهو ابن الثانية وإذا نُظِر إلى أصل البويضة مهما ضئل حجمها فهي الأصل فهو للأولى، هنا يأتي نص ليغيث لقوله:” إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ” [المجادلة :2] رغم أن الآية نزلت في الظِهار ولم تنزل لتحديد النسب، فكانت دلالة منطوق فقط كما يقول الأصوليون ، وكان نظر الصحابة متوجهًا دائما إلى المعاني لا إلى الألفاظ فقط، وكان الرسول (ص) يعلم ويربي أصحابه على الاجتهاد في المعاني، يقول الإمام ابن العربي في أحكام القرآن “إن الوقوف عند ظواهر الشريعة هدم للشريعة”، كما قال الله تعالى: ” الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ” [البقرة :275] فالوقوف عند قضية الأكل يحتاج إلى فهم فالأكل له مدلول لغوي هو التناول، ولكن هم قد يلبسون بالربا ويركبون سيارات من الربا، فأنا لا آكل الربا ولكن أبني به مسكنا وهذا ليس أكلا، ولكن هذا من قبيل إبدال الألفاظ أو الخاص الذي يراد به العام، هكذا لا يمكن أن أحدد المعنى المراد إلا بالنظر في السياقات كي نفتح النص والدلالة فيه. فإن القرآن يخاطب أمة عاقلة وأمة ذكية ويفتح لهم بابا من الاجتهاد، فيخطئوا حينا ويصيبوا أحيانا، بدلًا من أن يتوقف العقل المسلم -والذي هو مناط التكريم – فالإنسان قد يستوي مع بقية المخلوقات إلا في قضية العقل والوصول إلى الحقيقة ولذة المعرفة، فإذا حرمه القرآن من هذا وجاءت النصوص تنص على كل شيء فقد حرمه من جزء من إنسانيته، فهو يراعي هذه الإنسانية ويفتح لها المجال حتى لو أخطأ، وإذا أخطأ يصوب له غيره، فالحق ليس حكرا على شخص واحد فقط في الدنيا ولكنه يصيب و يخطيء فإذا أصاب أيدته علماء الأمة وإذا أخطأ يردونه كما يرد العلماء بعضهم بعضا ويناقش بعضهم بعضا ويحرر بعضهم بعضا.
إذا عدنا إلى كلام الإمام الغزالي فهو يقول إن تحقيق المناط ضرورة لكل شريعة، وتحقيق المناط يُحيى النص؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشى على الأرض ، وهذا يعني أن ينتقل القرآن من حال الوجود في القلب أو في النفس إلى حركة مرئيه، فهذا انتقال من حالة السكون الذي أشار إليه د/ كمال إمام إلى حالة الحركة. والحركة هذه ليست معصومة ولكن النص معصوم، حتى لو كانت الحركة من الصحابة، بل وبعض الحركة من النبي (ص) استدرك القرآن عليها ليبين أن هناك فرق بين عصمة النص وعصمة التطبيق، بالطبع بعد إقرار القرآن لفعل الرسول يكتسب العصمة في التطبيق لكن في أثناء تطبيقه نزل القرآن ليقول: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ ” [الأنفال :67]، وينبغي أن نقر ببعض الأخطاء التطبيقية في التاريخ عند النظر في النص، فالقصور كان في التطبيق، قد يحدث قصورا في التطبيق فيُرجع إلى النص مرة أخرى وينظر به حتى يكون التطبيق مطابقا للمراد، وعلم المقاصد هو علم ضابط للمراد حتى يُيسر الأمر، سيدنا أبو بكر الصديق لما أراد جمع القرآن في البداية وقف سيدنا عمر وقال كيف تفعلون شيء لم يفعله رسول الله (ص)، فرد عليه هو والله خير، وهذا تحقيق مناط؛ لأنه نظر إلى الواقع ووجد أن قارئوا القرآن يموتون ويستشهدون ويذهبون وسيكون القرآن بعد ذلك محل جدل حينما ينقرض هذا الجيل ويأتي جيل آخر يختلف في القرآن.
مستويات تحقيق المناط ( الفرد، الأسرة، الأمة)
قد يمتد الأمر إلى تحقيق مناط خاص يتعلق بشخص أو بمستوى كالأطفال أو الكبار، تقول السيدة عائشة: “جاء الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد” ومن طبيعة هؤلاء الناس أنهم يرقصون ويلعبون، وطبيعة العرب طبيعة صارمة، فأعطى رسول الله (ص) لكل طبيعته فتركهم يلعبون ويقيمون المسابقات، وتريد السيدة عائشة أن تنظر لهذا الشيء الجديد فقال لها الرسول “تشتهين تنظرين” قالت “نعم” فوقفت خلف الرسول (ص) تنظر من فوق كتفه حتى إذا ملت واكتفت فقال “أمللتِ” قالت “نعم” ثم قال عليه السلام عبارة هي بمثابة المرشد إلى تحقيق المناط “فاقدروا قدر جارية حديثة السن تسمع اللهو”، فالسيدة عائشة صغيرة ولها حكم وتحتاج إلى أن تلعب، فهذا حكم قد يليق بالسيدة عائشة ولا يليق بغيرها، كون أن الحكم يليق بهذا ولا يليق بغيره هذا هو تحقيق المناط؛ معرفة ودراسة الواقع حتى يرشد إلى تنزيل النص.
ومثال آخر: النص في ضوال الإبل، فقد قال صلى الله عليه وسلم “لا يأوي الضالة إلا ضال” فحينما يجد أحدكم إبل ضال يتركها، وقال(ص) “مالك ولها معها حذائها وسقائها” فهي ترعى الماء والغذاء المخزن عندها حتى يلقاها ربها، والجمل يصبر على العطش قرابة أسبوع والأكل قرابة شهر حتى يجده صاحبه.
بعدها اجتهد سيدنا عثمان وأمر بإيواء الضال من الإبل وبيعها وأخذ مالها ووضعه في بيت المال مع بيان الصفات.
ثم بعدها اجتهد سيدنا علي اجتهاد آخر، فقد أنشأ أماكن يأووا فيه الضال من الإبل حتى يسأل عنها ربها. فهل هم غيَّروا من كلام النبي (ص)؟ لا وإنما هم نظروا في المقصد، والمقصد الشرعي هنا هو حفظ المال لأربابه، فقال ابن قتيبة عن قضية تحقيق المناط في قصة سيدنا علي: ” كانت الإبل في عهد الرسول (ص) مأبلة تمتنع من السباق” أي كانت إبل قوية تمتنع من السباق وبعد دخول مجموعة مهجنة من الإبل إلى الأمر فكانت الإبل لا تمتنع من السباق، وأيضا خف بعض دين الناس فاحتيج إلى الأمر، أي إلى إمساكها. قد يمنع تحقيق المناط في جانب ويترك في جانب، قد يمنع الأفراد أن يأووا الضالة ولكن قد لا يمنع النظام شرعا من إيواء الضالة فيكون بمثابة النائب عن صاحب المال، فيستطيع أن يضمن أو أن يؤدي عنه.
وقد سُئِل النبي(ص) السؤال الواحد وأجاب عنه إجابات متعددة: ما هي أفضل الأعمال؟ فجاءت إجاباته عليه السلام: بر الوالدين – الصلاة في وقتها – حج مبرور. فلا يقول للفقير أفضل الأعمال إطعام الطعام. أو يأتي إنسان مات أبوه وأمه فيقول له بر الوالدين. أي أن ذكر الحكم في محله هو تحقيق للمناط، فيعطي كل إنسان الإجابة التي تناسبه، فلا يوجد أفضل الأعمال على الإطلاق وإلا نقع في تعارض بين النصوص وهي غير متعارضة في الحقيقة.
كأن تحقيق المناط إذن يفيدنا في فك التعارض الظاهري المتبادر للذهن، ذكر الإمام الغزالي كيف نحقق المناط ويكون لنا ضابط؟ فليس الأمر متروكًا لكل منا أن يحقق المناط بطريقته وتكون هناك القراءات الشخصية أو القراءات المتعددة، مما نراه الآن من تحدي النص وتعارض القراءات أو موت الكاتب …إلخ مما يعطل النص أو يبقى النص حروفا ويبطله معنى، فنحن نريد أن يظل النص يعمل.
خمس طرق لضبط تحقيق المناط
ذكر الإمام الغزالي خمس طرق لتحقيق المناط هم: الحس والعقل والعرف واللغة والطبيعة.
الحس: حينما يريد الفقيه مثلًا أن يحقق المناط في الماء المطَلق الذي لم يتغير، حينما يحدد أن هذا الماء تغير أو لا فان هذا ياتي عن طريق الحس؛ اللون والطعم والرائحة، بما يسمح بمعرفة ما إذا كان هذا الماء تغير أو لم يتغير، والحكم واحد وهو أن الماء لو تغير تَغيُراً مخرِج له عن إطلاقه فهو ليس بطَهور أي لا يصلح للوضوء، فلابد من تحقيق المناط في هذا الماء هل هو طاهر أم غير طاهر، وليس على الفقيه أن يدخل المعمل ويحلل الماء بل يحتاج إلى واقع وهو سيُنزل الحكم عليه، ولذا فلا ينبغي على العالِم بالواقع أن يبتعد عن النصوص أو يبتعد عن الفقه، ولا ينبغي للفقه أن يبتعد عن الواقع، لا بد من الالتقاء حتى إن بعض العلماء المعاصرين اشترط في المجتهد أن يكون قد أخذ طرفًا من العلوم الإدارية ومن علوم الفيزياء لأنها سنن الله الكونية، فلا يُنزل النصوص على فراغ أو على واقع هلامي أو على واقع ليس له وجود، وإنما يعيش الواقع، ولذلك هناك حاجة إلى تبسيط العلوم الحياتية بما يتناسب مع دور الفقيه، فالفقيه يجب أن يكون عنده معرفة من علوم الطب وليس أن يكون طبيبًا، فهو لا يكشف على المرضي ولكن يكون على علم بقضية الاستنساخ مثلا أو الحقن المجهري، كذلك يجب أن يكون عنده طرفًا من علم الاقتصاد فيعرف كيف يسير دولاب العمل في البنوك حتى لا يناجي في الفضاء ولا يــُسمع له. إن فقيه النصوص غير فقيه الواقع، ففقيه الواقع مستغني عن أهل النصوص لأنه مل من الجمود، فكل منهم ناكر الآخر، ولا يوجد تلاقي بينهما، فيجب إنشاء جسر بين العلم وبين الواقع كما ذكر د/ كمال في الورقة، أو إيجاد صلح بينهما، فقد حدثت خصومة بينهما منذ عقود فجرفت الأمة بعيدًا عن دينها وما فيه من عظمة، إذن يجب التجسير العلمي بين الفريقين فمن يقوم به ؟
الأمر الثاني في تحقيق المناط هو العقل، فللعقل دور في ملاحظة المصالح والمفاسد وخاصة في منطقة ما يسميه علماء المنطق بالكل المشكك، وهو الشيء الذي له مراتب؛ أي أفراده متفاوتة المراتب، كالغرر في البيع، مثلا في بيع الغرر يكون أحيانًا غرر كبير وأحيانًا غرر صغير، وأحيانا يكون الغرر متضائل جدا، فالعقل سيدرك الغرر الكبير والصغير حتى ينزل الحكم ويحكم بفساد الحكم أو بصحته.
الأمر الثالث العرف؛ والعرف هو الواقع الاجتماعي الذي له أثر في فهم المسألة [كما ورد في الحديث أن النبي (ص) لقي قومًا أتين بالعرس فقال لهم هل كان معكم اللهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو والمهاجرين غير لك] هذا مراعاة للعرف الاجتماعي.
الأمر الرابع اللغة؛ واللغة هي ما يُسمى عند العرب، وهي اللغة الصحيحة، وليس الذي حدث فيه نقل كالتصوير مثلا، فقد تم إنزالها على الالتقاط الفوتوغرافي أو حبس الظل، فهذا ليس تحقيق جيد للمناط، وافترق الناس كثيرا في مثل هذه الأمور هل هذا تصوير أم لا، إذا كنا نحن من نسميه تصوير فهذه تسميتنا له ولا يترتب عليها أحكام، ولا يجب أن ننزل الشرع على ما أسميناه نحن إنما ننزله على ما قصده الشرع بالصور وإلا يكون الإنزال خطأ.
الأمر الخامس الطبيعة : واذكر هنا الحديث الذي جاء في البخاري ومسلم والخاص باختلاف المرأتين على ولد ؛كل منهما لديها ولد وجاء الذئب وأكل أحدهما فاختصمن في الثاني هذه تقول ابني وهذه تقول ابني، فكيف يحَقَقُ المناط؟ عندما قال سيدنا سليمان “أتوني بالسكين لأشقه بينهما” قالت إحداهما لا أتركه لها إنه ابنها، فحكم به لها، فكيف حقق المناط؟ فقد احتال ليخرج الحق واستند للطبيعة والفطرة.
وأيضا أؤكد على ما قاله د/كمال إمام في مستويات تحقيق المناط، هناك تحقيق مناط يحققه الإنسان لنفسه، وهناك تحقيق مناط تحققه اللغة مثل السفر، ما هو السفر؟ ولكن في منطقة أخرى لا يمكن ذلك ولا يُقبل منه؛ مثلا في امرأة تريد الإجهاض لا يترك لها تحقيق المناط هنا، ففي قضية الحمل أو الصحة تحقيق المناط يكون عن طريق الطبيب.
مسألة التمييز بين القطعي والظني مهمة جدا في قضية تحقيق المناط، وقد تحدث الإمام الجويني في قضية سياق الظني مساق القطعي والعكس، فدارس الشرع قد يسوق الظن مساق القطع فيمنعك من أن تجتهد في حقل أو أن تعمل عقلك فيه، فيحجر عليك لأنه ساق الظن في مساق القطع، أي تعامل معه على أنه قطعي وهو ليس كذلك.
وأخيرا أنا أوكد على الحاجة الشديدة إلى تحقيق المناط وأنه درجات وأن هناك تحقيق مناط على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأسرة [وهو بالتشاور لأن الشرع لا يريد أن يحقق المناط للرجل فقط أو المرأة فقط فقد يضارر الولد بسبب هذا أو تضار الأم] وهناك تحقيق مناط على مستوى الأمة.
أ/ هاني محمود:
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أشكر مركز خطوة على الاستضافة الكريمة، ومداخلتي عبارة عن مجموعة تساؤلات تتمثل في:
أولا : ما هو المقصود بتحقيق المناط؟ التعريف يحتاج عناية أكبر داخل الورقة، وخصوصا وإن القارئ غير المتخصص في أصول الفقه يستطيع بعد قراءة الورقة أن يستوضح الأمر بشكل أفضل. في حدود ما أعلم عن تحقيق المناط فانه يوجد القياس الشرعي عدة أركان منها العلة، فالفقيه يستخرج العلة حينما تكون العلة منصوص عليها أو تكون العلة مستنبطة هذا هو تخريج المناط؛ هو اسم من أسماء العلة التي هي ركن من أركان القياس الشرعي، وتحقيق المناط هو كيف نجد هذه العلة في الصور المختلفة في الواقع، فمثلا علة تحريم الخمر هي الإسكار فحين يستخرج الفقيه أن العلة في تحريم الخمر هي الإسكار فهذا تخريج المناط؛ أي استخراج العلة التي يبنى عليها الحكم، ولكن نجد في الواقع صوراً مختلفة يتحقق فيها الإسكار: مثل المخدرات بأنواعها المختلفة، هنا يبدأ المختص-وأنا أعتقد أنه الفقيه- في الانتقال الى الواقع وينزل الحكم على كل ما يسكر، وهذا هو تحقيق المناط في الواقع.
وهذه نقطة محل استيضاح من د/ كمال إمام فهو يرى أن المختص أساسا في تحقيق المناط هو الخبير وأنا اعتقد أن الأمر يجب أن يأخذ صورة شراكة بين الفقيه والخبير، فلا نسلب من الفقيه خاصية تحقيق المناط وننقلها إلى الخبير، لأن الخبير إن كان غير متخصص في الفقه وأصوله فقد يصعب عليه أن يفهم العلة، فهو في النهاية سوف يكون عليه الرجوع إلى الفقيه على الأقل لكي يفهم ما هي العلة الشرعية حتى يستطيع هذا الخبير بعد ذلك أن يبحث في مدى تحققها في الوقائع اللا متناهية كما ذكر استاذنا، هذا توضيح لفكرة تحقيق المناط.
التساؤل الثاني: بالنسبة لمسألة الرق فهي كانت محل نقاش بيني وبين بعض أصحاب الأهواء الذين لديهم دعوة لتجميد نصوص معينة من الشريعة ويقولون أنها لم تعد ملائمة للواقع، فمما يستشهدون به في هذا أنه تم تجميد نصوص الرق، فلماذا يُنكر عليهم رغبتهم في تجميد بعض النصوص التي يرون أنها أصبحت غير ملائمة للواقع؟ فمثلا نصوص الرق بناء على أن سيادتكم رأيت أن مسألة استعادة الرق لم تعد ممكنة، هذه النصوص التي تتكلم عن الرق في الكتاب أو السنة ما هو الوصف لها الآن، هل سنصف هذه النصوص بأنها تم تجميدها كما يقول هؤلاء أم تم تعليقها أم ماذا؟ أعتقد أن بيان الوصف الذي توصف به هذه النصوص الآن هو أمر مهم جدا، فهل سيكون نسخا؟ وأي نوع من أنواع النسخ؟.
التساؤل الاخير : مسألة أن التجديد يتعلق بالأنظمة لا بالأحكام؟ فكثير من التجديد كان تجديدًا في مناهج الاستنباط، حتى في عدهم للمجددين في كل قرن من القرون عُدَّ الإمام الشافعي مثلا مجدد المئة الثانية، على ما قال الكثيرون مثل السيوطي وغيره، على أساس أنه جدد في مناهج الاستنباط من خلال كتابته في علم أصول الفقه، فهذا كان تجديدا في مناهج الاستنباط وأعتقد أن لها صلة بقواعد الأحكام، فحين نقول أن التجديد يكون في النظم وليس في الأحكام أعتقد أننا سنحتاج الإجابة عن هذا الأمر.
د / أماني صالح:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شكرا جزيلا لمركز خُطوة على دعوتي لمثل هذا المجلس والذي يناقش قضايا علمية متخصصة ويطرحها على المستوى المطلوب وهو المستوى العلمي الضيق وليس المستوى غير الوظيفي أو مستوى الإعلام كما يحدث حالياً، الأمر الآخر هو الاستعانة بباحثين من ذوي خلفيات اجتماعية وإنسانية مختلفة للاستفادة بهم استفادة أساسية. من هنا سأقوم بطرح بعض الملاحظات بعضها يخص عدم قدرتي على الفهم وبعضها يخص عدم تخصصي في القضايا المطروحة.
ما فهمته أن د/ كمال إمام لا يستحدث في هذه الورقة مبدءا جديدا وإنما يقوم بإعادة الكشف عن مبدأ أو أداة من الأدوات ويعمل على توصيله وبيان فوائده نظرا إلى أهمية استخدامه في هذه الآونة.
من الجزئيات التي أود أن أستوضحها فكرة: هل يقترن اعتبار المآل –بالضرورة- بتحقق النتائج فعليا أم مجرد التوقع؟ مثلا وقف حد السرقة في عام المجاعة يقترن بتوقع مسبق بما ستسفر عنه المجاعة من اتساع السرقة فلم يكن هناك تحقق فعلي لهذا وإنما توقع، وفي هذه الحالة إن كانت المسائل تبنى على التوقع فما هي الضوابط لعدم افتعال المآل؟
الأمر الثاني: يوجد مساحة تأويل واسعة جدا في الورقة في مسألة تطبيق أو تحقيق المناط، وهذه المساحة موجودة مثلا في فكرة المآل في حد ذاتها، هل النتائج هذه عاجلة أم آجلة، أحيانا تكون النتائج العاجلة فيها إيلام أو ما يبدو أنه فساد ولكنه على الأمد البعيد يؤدي إلى إصلاح.
مسألة الاجتهاد أيضا والاختلاف وتعدد الآراء يرتبط بفكرة تحقق المقاصد، والمسألة اجتهادية وتقديرية أيضاً، وعلى سبيل المثال تطبيق حضرتك في مسألة الرق، فقد رأيت أن الإسلام إجراءاته ومنطقه في التعامل مع الرق وفكرة تحرير العبيد ..الى آخره يقود إلى فهم أنه يسعى إلى إنهاء الرق في النهاية، في حين يرى البعض أن مقصود الإسلام على عكس ذلك من خلال بعض النصوص الخاصة بنصوص الحرب التي تُقر بأخذ أسرى وهذا يزيد الرق وليس العكس، إذن فمسألة المقصود مسألة يُختلف عليها !!.
وأيضا في مسألة العلة، في أحد النماذج التي يتم التطبيق عليها نموذج التخاصم مع مدعى ملكية عبد ومدعي الأبوة، فالعلة هنا قد نختلف عليها كما قلت سيادتكم أنه تقدير لفكرة الحرية، ولكن قد يرى البعض أنه أولوية لفكرة علاقة النسب وعلاقة الدم، وهكذا يمكن أيضا أن يختلف على العلة، إذن هناك مساحة تقديرية كبيرة جدا في كل مراحل عملية تحقيق المناط.
الأمر الثالث : فيما يخص مقترحات تعليق أو تأجيل بعض الأحكام كجزء من التدريج، وأن هذا يجب أن يلحق به إعداد للمجتمع بحيث يقبل أو يكون صالحا للتطبيق الكلي للشرع فيما بعد، هذا ينقل فكرة التدرج أو الإلغاء من باب العلم والفقه وأصوله إلى باب السياسة الشرعية، لأنه سيكون شيء ملحق وضروري وأساسي أن ترفق بهذا تعليم الناس وإعادة تنشئتهم، وهذا في باب السياسة الشرعية، فماذا لو عالم شرعي أفتى بالتدرج والإرجاء بينما صاحب الأمر ووليه أهمل وماطل في تلك السياسة اللازمة لإعداد المجتمع!!
الأمر الرابع: هل تطبيق هذه المسألة (الإرجاء) يؤدي إلى إعادة النظر في بعض المسائل الفقهية الجدلية مثل مسألة موقف الإمام ابن تيمية من تكفير التتار حديثي الإسلام والمتمسكين بقانونهم، وهو مسألة محورية في فقه التكفير، إذ كان يجب عليه أن يقبل هذه المسألة كجزء من التدرج، فربما تطلعا نحو أن يحسن إسلام هؤلاء فيما بعد؟
الأمر الخامس: أدرك أن قضية إنهاء الحكم فيها حرج شديد، لكني أرى ببساطة أن انتهاء الواقعة المرتبط بها حكم معين سيؤدي إلى وقف الحكم، بمعنى أن الأحكام الخاصة بالرسول (ص) وزوجاته على سبيل المثال انتهت بوفاة الرسول (ص) وزوجاته ولم تعد قابلة للتطبيق.
أيضا فكرة آلية الربطبين الفقيه والمختص، إذا كان جهد الفقيه يكمله جهد المتخصص، فيجب أن يكون من ضمن مجهود الأصولي وجود علاقة بين الطرفين والتأسيس لها حتى لا يعتمد الأول على خطوة الثاني أو العكس.
وأخيرا: مسألة نابعة من خلفيتي المنبثقة من العلوم الإنسانية وهي مسألة “التدقيق الشديد على القواعد”، وحضرتك تنتمي لعلم أصول الفقه وهو علم قائم اساسا على دراسة المنهج وتطبيقه، لماذا هذا الحرص والتدقيق الشديد على “القواعد” منذ بدء التراث الأصولي في مجال المنهج؟ فهذا يثير عندي أسئلة مهمة، هل المنهج والإجراءات لها نفس قداسة الموضوع، وخصوصا أن كثيرا من هذه الإجراءات المنطقية كانت اقتبست من الأساس من تراث علمي آخر، مثلا فكرة الاستقراء الكامل والناقص مأخوذة من علم المنطق اليوناني في الأساس، فما وجه القداسة في المسألة؛ تلك القداسة التي قد تصل إلى حد أنه يتم الحرص على التقاط بعض الشذرات قالها هذا الأصولي أو ذاك لإيجاد حل للمشكلة بنظرة شديدة الإلحاح، هل نحن كأبناء لهذا الوقت لا يمكن التعامل بحرية مع فكرة المنهج أو حتى إيجاد مناهج جديدة بعد ألف عام من الخبرة. ألا يسمح للأصولين بإضافة مناهج جديدة وادوات جديدة لعلم أساسا قائم على المنهج؟
تعقيب د. كمال إمام : هل يمكن التجديد في علم الأصول أم لا؟ هذه نقطة باتت في منتهى الأهمية، هناك بعض العلوم يقول لنا علماؤها أنها نضجت واحترقت مثل علم النحو، فهو علم نضج وانتهي ولا يمكن الإضافة إليه، فهناك مباحث إسلامية فيما يتعلق بعلم الأصول نضجت واحترقت مثل تعريفه ، لكن جدد ما شئت في المنهج، فتجديد المناهج مفتوح في داخل علم الأصول، والشاطبي كانت مهمته الأساسية التجديد في المنهج، والجويني كانت مهمته الأساسية التجديد في المنهج، ولكن التعريف الدقيق لعلم الأصول كما يعرفه العلماء بأنه الأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، فربطوا ربطا دقيقا بين الحكم ومقتضاه، وبالتالي أصبح يوجد تعريف محدد لعلم الأصول والذي هو في حقيقته ينطوي على علم المنطق،كما نص الأصوليون والقدامى أن علم المنطق وعلم اللغة وعلم النحو وعلم الفقه هذه علوم كلها مساعدة لعلم أصول الأحكام، فهم عرفوه بالأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، والأدلة من حيث إثباتها للأحكام، بمعنى أن هذه المنطقة التي يتحرك فيها ، في دائرة علم الأصول المقصود بالأحكام أي الحكم من حيث ثبوته بالأدلة، وهنا عمل العقل والأدلة من حيث دورها ووظيفتها في إثبات للأحكام، أي أن دور الدليل ليس للإيمان به فقط وإنما لإثباته للحكم.
د/ أماني صالح: من هنا ما هو الذي ثبت في القضية (ما الشيء/ الجزء الذي نضج حتى أحترق)؟
د/ كمال إمام: أقصد أنه في علم أصول الفقه الجزء المتعلق ب ثبوت الأحكام بالأدلة، هذا جزء لا سبيل إلى تغييره، وأيضا الأدلة من حيث وظيفتها وهي إثباتها للأحكام هذا جزء من علم الأصول لا يمكن تغييره أو الإضافة عليه، أما ماعدا ذلك يمكن أن نستحدث مناهج، وقد أدخل علماء الشيعة كثيرا من المباحث الجديدة، ولكن المشكلة أنها تحولت من مباحث أصولية إلى مباحث منطقية، مما نتج عنه أن نفس الأصوليين الشيعة أصبحوا يقولون نحن بحاجة إلى حسم كل هذه الجزئيات حتى نصل إلى علم أصول الفقه في بنيته الأساسية. لو سألنا أنفسنا لماذا تأخر ظهور علم أصول الفقه عند الشيعة ولم يظهر مبكرًا مثل عند السنة ؟ السبب بسيط جدا وهو أن فترة النص المباشر عند الشيعة امتدت إلى القرن الرابع، عصر الغيبة الكبرى، وهم يعرِّفون السنة أنها ما صدر عن المعصوم وليس ما صدر عن الرسول(ص)، ليشمل إلى جوار أقوال الرسول أقوال الأئمة المعصومين، فلم ينشأ علم أصول الفقه إلا على يد الشيخ المفيد في منتصف القرن الرابع الهجري، حتى بدأت تظهر كتابات أصولية من الشيعة لأنه غاب النص.
لكن علم أصول الفقه فيما يتعلق بالبنية اللغوية ودلالات المنطوق ودلالات المفهوم والقواعد اللغوية الأصولية ، هذه ما انتهى إليها علم النحو، فأنا أطبقها كما هي لأن الآية تقول: “إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا”، وبما أنه قرآنًا عربيًا فنحن ملتزمون التزامًا دقيقًا بالقواعد الحاكمة له. ولذلك الذين حاولوا التجديد في علم أصول الفقه خارج هذه الزاوية إنتهي بهم الأمر مثل أستاذنا الدكتور/ حسن حنفي عندما كتب كتابه “من النص إلى الواقع”، فقد ذكر أن ترتيب الأصوليين القدامى للأدلة غير مفيد، والترتيب الحقيقي الجديد هو المصلحة كأول دليل، وآخر دليل هو القرآن، فعندما نختبر هذا التغيير هل يمكن أن يكون تجديدا في علم الأصول! كلا. فنجد أن الكاتب قال فكرة دون أن يدرسها، ويقول أن هذه الفكرة نقلها فلان عن فلان، ونجد أن الناقل قد توفى قبل أن يولد ذلك المنقول عنه، وهكذا في عشرات الصفحات من الكتاب.
فيما يتعلق بالتجديد أنا أقبل ما يمكن أن نسميه أصول فقه سياسي، يكون التركيز فيه على مسائل مثل الإجماع، أي جمع الآيات المتعلقة بالفقه السياسي ويضاف إليها مسائل الإجماع فهذا أصول فقه سياسي، لأن الباقي سنشترك فيه جميعا مثل الصياغة اللغوية، لأن هذه هي اللغة التي كتب بها النص. توجد أماكن كثيرة جدا ينفتح فيها علم الأصول بدليل ما قام به الشاطبي، لم يتحدث القدامى عن البدع في داخل علم الأصول، ولكن هو جعل البدع من داخل علم الأصول حتى في كتاب الاعتصام، وعلم الأصول فقه للصوفية بالرغم أنه لم يكن متصوفا لأن به مستويات كما أشار الدكتور / محمود إلى الرخص والعزائم بالنسبة للإنسان العادي، ولكن عند الصوفية لا توجد رخص ولكن كله عزائم، لأنه يريد أن يصل إلى غايته وأهدافه مباشرة. وأشير إلى أنه لم يوجد حتى الأن في علم أصول الفقه منهجية معاصرة للتعامل مع هذا العلم، وذلك لتقصير فقهاء علماء الأصول والمتخصصين.
نقاش حول حكم الرق في الإسلام (نموذجا للإنهاء)
د/ هبة مشهور: أبدأ بالتساؤل عما دار في الورقة حول مسألة الرق، ما المقصود بالرق؟
د/ كمال إمام: المقصود بالرق في هذه الورقة تحويل الإنسان من كونه إنسان إلى شيء يباع ويشترى، أي أن النقطة الأساسية الفاصلة هي إنسان مكتمل الحقوق عليه نفس الواجبات، حتى لو اكتسب الرقيق مالا فهو لسيده وليس له لأنه مملوك وليس له حق التملك، بمعنى تحويل الإنسان الذي خلقه الله وكرمه إلى شيء.
د/ هبه: هذه ظاهرة لاتزال موجودة.
د / كمال إمام: وجود الظاهرة شيء والحكم عليها شيء آخر، على سبيل المثال الحرب هي إحدى الظواهر الطبيعية في المجتمع، لكننا نستطيع أن نحكم عليها، قد تكون حربًا عادلة وقد تكون حربًا غير عادلة، أو أنها حرب ممنوعة وحرب مشروعة، بمعنى الحكم على وجود الشيء فلابد من التمييز في مجال الفقه الشرعي تحديدا بين النظام والأحكام، أي عندما يأتي القرآن الكريم ويتحدث عن الصائم أو الشراء أو الزواج فهو يتحدث عن أحكام، فمثلا في قوله “إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب” فنقول أنه كفر، لماذا؟ لأنه دخل من منطقة الحكم الذي أقبله أو أرفضه إلى منطقة النظام الذي لا توجد حرية إرادة في مواجهته، فهذه التفرقة مهمة جدا لمعرفة أين ينتهي هذا الجزء من الحكم الشرعي وإلى أي جزء ينتمي، فيوجد نظام ليس فيه تغيير أو تبديل، لذلك لا يتصف بالنسبية لأنه نظام كوني وليس إسلامي أو غير إسلامي هو بطبيعته هكذا، في مواقف كثيرة جدا لا نفصل بين النظام والأحكام، فنعامل النظام على أنه حكم بأخطاء الحكم، فلم يعد هذا النظام هو القانون الكوني، وكأنه قانون أوجده البشر مثل النظام التجاري والنظام الاقتصادي والاجتماعي.
فيما يتعلق بالحكم الشرعي نتساءل: هل الشريعة الإسلامية تجيز الرق؟ فأنا أقول انتهت الفترة التي كان فيها الرقيق يحتاج إلى أنظمة تحرره وتنقذه، عمل الفقه الإسلامي نظام الكفارات وغيرها ليقلل من موضوع الرقيق حتى بأبسط الأشياء، فلو أحد نادى على عبد وقاله له تعالى يا بني، دخل هذا الإنسان في فئة البنوة وخرج من الرقيق وأصبح ملزما بأن ينادى بأبيه. فهذا مثال لانتهاء أحكام الرقيق لانه لم يكن مقصود به الديمومة بداية.
د/ هبة مشهور:
هل تطور هذه الظاهرة عما كان موجودا أيام الإسلام يجعل لها وضعا آخر، أو تكييفا آخر؟ فهناك نماذج من الرقيق في وقتنا الحالي لكن بأشكال مختلفة.
د/ كمال الدين إمام:
الرق الموجود الآن ليس قانونيا، فالموجود حاليا حالات استرقاق، مثلا في الفلبين توجد شركات لتوريد العمالة ولكن طريقة التعامل لا تختلف كثيرا عن الرق، ومهمتنا القول هل هذا مباح أم غير مباح من وجهة نظر القانون! مشروع أو غير مشروع ! إنما السؤال موجود أو غير موجود ليس هو السؤال، لأن وجود الأشياء قابل للتكرار سواء كانت في نظام جيد أم سيء، والتكرار ممكن أن يكون سببه اقتصادي أو بسبب الحروب أو الكوارث أو الاتجار بالبشر…إلخ.
د/ أماني صالح:
الدليل على كلام سيادتكم أن الإسلام لم يستحدث الرق ولم يأمر به لكنه ظاهرة إنسانية موجودة فتعامل معها، ذلك في مقابل نظام مثل نظام الزواج فإن الإسلام حث عليه كوسيلة بناءة لتفريغ نوازع الإنسان ، فهناك فرق بين شيء حث عليه وشيء تعامل معه كشيء موجود.
د/ شريف عبد الرحمن:
بسم الله الرحمن الرحيم أحب أن أؤكد على أننا نجلس مجلس المتعلمين، فاليوم يوجد إضافات شديدة القيمة استمعت اليها شخصيا، وبحكم وضعية المتعلم أطرح بعض التساؤلات:
اولا ما يتعلق بموضوع تناهي النصوص وتناهي الوقائع، الطريقة التي كان يطرح بها هذا الموضوع كانت توحي بأن النصوص متناهية، بما يوحي بأنها تصبح خارج العمل في وقت من الأوقات، ولكن بالفعل فهنا التناهي هو تناهي العدد وليس المعنى، هذا الضابط المنهجي المهم سأربطه بالنقطة التي أتساءل حولها وهي خاصة بموضوع الإنهاء في الشريعة، فإذا كانت النصوص لها هذه الخاصية أي أنها لا متناهية المعنى فلماذا لم تأتي صيغة الإنهاء فيها صريحة بشكل يجعلنا نحن في حِل من أن نمارس هذا النوع من التجويد لاحقاً؟ فأنا الآن أتعامل مع النص على أنه نص مفتوح ونص ثري الدلالة ونص يحتمل كل ما يمكن أن يجِّد من مستجدات لاحقة، ولكن ما أستشعره على الوجه الشخصي وليس كمتخصص أنني اضيف إلى النص ما ليس فيه، بمعنى أنني احتجت أن أخرج من النص معنى ربما لا يمكن استشفافه بشكل مباشر من النص اللا متناهي الكلي المجرد، ولكني أتيت بآلية إضافية لكي أمارس نوعًا من التجويد فأتوصل إلى حكم ما يسمى بحكم الإنهاء، وهي نفس المخاوف الذي استشعرها د/ هاني لأنه بحكم العمل نحن قريبون من أوساط الشباب قليلا، كما أننا نتابع زخم إعلامي يسير في نفس هذا الاتجاه وهي فكرة التجويد على النص بمعنى أن هناك مآل معين يجب أن يوضع في الاعتبار، وأنا هنا أتحدث بلغة المتلقين الذين أتعامل معهم.
مثلا أحد الموضوعات التي تثار الآن موضوع المساواة في الإرث، فأصحاب الخطاب الذي يتبنى مثل هذا الطرح يقولون ان هذا يتسق مع روح النص الذي جاء ليحسن من أوضاع كان فيها عسف وظلم للمرأة، فالمرأة كانت تمنع تماما من الميراث فعندما منحت النصف من الميراث كان ذلك بمثابة التحسين والترقية، فإذا أردنا أن نمد الخط على استقامته فينبغي أن تكون المرأة الآن مساوية للرجل في الميراث، ويشيرون إلى أمور من قبيل اعتبار المآل أو تحقيق المناط أو .. الى أخره، فأنا أخشى من فكرة أن يفتح الباب في هذا المجال فنجد كثير من النصوص أصبحت خارج الزمن وهذا يتنافى مع الطرح المبدئي المنهجي المهم الذي أشرتم إليه في ما يتعلق بعدم تناهي النصوص.
أمر آخر أود ان أتساءل عنه بلغة باحثي العلوم الاجتماعية وهو يتعلق بفكرة تصور حركة التاريخ، فنحن نتعلم أن هناك تصورات مختلفة نبعت من رؤى مختلفة للعالم وتقاليد فكرية معينة تتصور مآلات الحركة التاريخية، فمثلا نتعلم أن الماركسيين يؤمنون بالمسار التصاعدي الدائم، وبعض متشائمي الغرب يؤمنون بانحدار الغرب وأن الغرب في انحدار مستمر وإلى آخر هذه التصورات، فهل لدى الأصوليين تصور مشابه لحركة التاريخ؟ مبعث هذا التساؤل أنني أستشعر في موضوع حكم مثل الإنهاء أن هناك انتماء ضمني إلى مقولة التقدم الصاعد للتاريخ، وأننا بالضرورة نتقدم ناحية الأفضل، وان نظم الغد بالضرورة ستكون أفضل من نظم الأمس، ومن ثم إن كان الرق قد حُرِّم فإن هذا سيكون مرة واحدة وإلى الأبد، ولا نضع في اعتبارنا شكل العالم عندما تختفي فيه مصادر الطاقة الحالية ويعود الإنسان هو مصدر القوة أو الطاقة الوحيد مما قد يستدعي أن يعيد البشر استعباد بعضهم البعض مرة أخرى، ماذا يكون الحال في هذا السياق إذا تحول الإنسان إلى مصدر الطاقة بعد أن يختفي البترول ويتعذر توليد الكهرباء؟ وأجد أنا لدي تراث فكري وفقهي يقول بأن احكام الفقه الخاصة بالرق أصبحت منتهية لأننا كنا نتصور أن مسار التاريخ سيكون صاعدا بالضرورة، فإذا كان مناط التوقف هو اختفاء المحل فماذا لو عاد المحل؟
فيما يتعلق بفكرة التجريد والعموم وانفتاح النص وهو ما أشار إليه د/ محمود، فما هي الضوابط التي تفرق بين مشاريع القراءة الجديدة للنص وما بين محاولات الفقهاء أو الأصوليين للتعامل مع النص على أنه نص مفتوح ؟ لماذا نستمع مثلاً إلى مجدد شعبي مثل الشيخ / محمد متولي الشعراوي في خواطره حول القرآن الكريم فنتعامل معه بالإيجاب والقبول، ونستمع إلى مفكرين مثل محمد شحرور فيما يتعلق بالقراءة الجديدة فنتعامل معهم بالتحرز والرفض، فما الضابط الذي يجب أن يتعلمه الشاب أو الباحث حتى يفهم أن القراءة الجديدة ليست عنوانا فضفاضا يُدخل تحته كل ما يعِن لصاحبه، فكيف يظل النص حاكمًا لا محكومًا، وكيف يتحول النص إلى فاعل، ومعناه إلى معنى واقعي وموجود فيه بغض النظر عمن يقرأه! فأنا أظن أن هذه الضوابط في حاجة إلى إسهام من سيادتكم لكي نتعلمها نحن لأنها تثير بالفعل مخاطر عديدة.
أ/ مصطفى المهدي:
بسم الله الرحمن الرحيم أتقدم بالشكر إلى مركز خُطوة على هذا الدعوة الفاضلة وإلى أساتذتي الأفاضل وبعد.
أولا: بداية أؤكد أن الأمة تحتاج إلى إعادة تحقيق المناط في كثير من الأحكام وإعادة النظر والاجتهاد في كثير من المسائل وألا نجمد على ما هو مسطور في الكتب، من المصائب التي تحل بالأمة أن نجمد على بعض المسائل التي سطرت في الكتب والتي لو كان الفقهاء الذين قاموا بها موجودون في هذه الأيام لقالوا بغيرها، فهذا أمر يحتاج إلى تجديد الاجتهاد. فيما يخص جانب التشريع –وقد أشرت سيادتكم إلى اهتمامكم بهذا الجانب- ما هي إمكانية أن نجعل مسألة “التلفيق” في الأقوال بين المذاهب وعلومها نوعا من أنواع التدرج؟ وهي الحاجة التي يمس لها الواقع المعاصر بديلا للتمذهب الذي ساد في عصور كثيرة، فتقوم التشريعات على التلفيق من ناحية ومن ناحية ثانية تعد بمثابة إعادة تحقيق للمناط في هذه التشريعات والنظر فيها من جديد.
فيما يخص مسألة تأجيل الأحكام فأنا أشارك الزملاء في التخوف في ظل تصاعد القراءات الحداثية والتي تدعو إلى قراءة جديدة للنص أو فهم جديد للنص سواء كان ذلك من متخصص أو غير متخصص، وقد ذكر سابقا مسألة المساواة في الميراث، وهذا المثال الآن يتصاعد بقوة، وتوجد أمثلة اليوم كثيرة غير ذلك. فهنا نصطدم بإشكالية نحتاج أن ننظر من خلالها الى قضية تأجيل الأحكام وقضية التدرج، كما ذكرت سيادتكم في التدرج، التدرج بالإنهاء والاستثناء والإرجاء. فيما يتعلق بمثال الرق: هل قضية الرق من باب السياسة الشرعية بما أنها كانت حاكمة في هذا الوقت، وبالتالي إذا تغيرت أحكام السياسة وعاد الأمر من جديد فلِما لا يعود نظام الرق من جديد؟ لأنه كالحكم الذي يتبع علة معينة فيدور معها وجودا وعدما. وإن كان أمر الرق من باب السياسة فهل يمكن أن يقاس عليه أم لا، و الإسلام يهدف إلى إنهاء الرق يقينا، وهو حكم للإلغاء وليس للإبقاء ولكن هل هذا الأمر الذي دعا إليه الإسلام في إنهاء الرق كان ندبا أم حتما!
أيضا القول أنه حتى لو عادت النظم الغربية تسترق المسلمين فهم – أي المسلمون- لن يعامِلوا بالمثل، فانا أجد فيه حرجًا ، لأن هذا الأمر ليس نسخا للشريعة ، و الإسلام لو أراد أن ينهي مسألة الرق حتما لكان أنهاها في وقته، ولو كان الإنهاء إنهاء حتميا ما انقضى الوحي حتي انتهى الرق تماما، وإلا فأنا أعتقد أنه نادب إلى الإنهاء، أو إذا انتهى المجتمع كما هي مجتمعاتنا الآن فيكون الرق فيه حرام، لذا الاسترقاق يحرم الآن أما إذا عاد الآخرون فاسترقوا المسلمين فسيكون المسلمين في وضع أقل إن لم يعامِلوا بالمثل.
فيما يتعلق بالاستثناء كنا نتعلم أن الاستثناء لا يقاس عليه في الأصول وأيضا لا يُتوسع فيه، وسيادتكم اعتبر الاستثناء نوع من أنواع التدرج، كما في المثال عن النبي (ص) في الرجل الذي جُلد مرة واحدة لعدم القدرة، فلِما لا يؤخذ هذا الأمر من باب تعارض المصالح أو تعارض المقاصد بمعنى أن مصلحة النفس مصلحة لا يمكن تداركها، فإذا أقمنا عليه الحد فاتت مصلحة النفس وهي في المقام الأول، أمام مصلحة إقامة الحد فهي في مرحلة أقل من مرحلة النفس. فلما نأخذها من باب الاستثناء؟
فيما يخص أمر طواف المرأة الحائض، فقد ذكرته كمثال للاستثناء، لماذا لا نعتبره مثالا للحكم الذي ارتبط بعلة زمنية معينة أو مصلحة زمنية معينة، فإذا تغيرت هذه المصلحة أو العرف الذي ارتبط به فيتغير الحكم تبعا لذلك؟
في مسألة تطبيق الحدود في الغزو كما قال بها جمهور الفقهاء. فأنا أجد فارقا أن نقيس الخوف من تطبيق الحد في الغزو خشية أن يلتحق المسلم بالعدو -وكان الواقع أقرب بأن يؤيد ذلك- على الحال الآن، نحن في مجتمعات إسلامية تدين بالإسلام، والمسلمون بطبيعتهم يحبون الشريعة ويريدون تطبيقها حتى وإن كانوا يجهلون مفهوم الشريعة. فأنا أجد أن المسألة فيها بعض القياس لا أتفق معه .
في مسألة التدرج بالإرجاء أتساءل من الذي سيقوم بهذا التدرج؟ وما هي آلياته؟ وكيف سيتم هذا التدرج؟ وما هي الحدود التي على أساسها نقول إن هذا سيطبق الآن وذاك يمكن إرجاؤه؟ وإلى متى ؟ وهل هناك خوف من أن يأتي في زمان ما يقال فيه على هذا الإرجاء أنه حكم دارج؟
أخيرا بالنسبة لموقف سيدنا عمر بن عبد العزيز في تأجيل بعض الأحكام هل كان هذا من باب السياسة أم من باب الأحكام الشرعية؟ هل تصرفه هذا يعتبر مستندا إليه في باب الأحكام الشرعية أم باب تصرف ولي الأمر الذي هو سياسة وليس في جانب التشريع؟
أ/ منال الشيمي:
في مسألة تهيئة المجتمع لقضية التدرج وأن الشريعة لا تطبق بجرة قلم كما أشرت سيادتكم فأعتقد أن لابد من وجود ضابط، فما الذي يمنع أن تمتد مرحلة الإعداد والتهيئة عشرات السنوات. فما الذي يضبطها من حيث الوقت ومن حيث الالتزام بالمسار الصحيح؟
أ/ مهجة مشهور:
كيف نبعد مسألة تقدير المآل عن الهوى؟
أ/ مدحت ماهر:
لدي عدة مداخلات: المداخلة الأولى تتعلق بالعنوان فهو صادم بالنسبة لي ، ففي الوقت الذي نبحث فيه عن تطبيق نتكلم عن تأجيل وتعليق وقد تساءلت في أول وهلة في العنوان ؛ هل هذا ما نحتاجه الآن ؟ بناء على أن تطبيق الشريعة الإسلامية مطلب عام لجماهير الأمة ،حيث أنه من الواجبات الفردية والجماعية والواجبات لا تسقط إلا بالأداء. التدرج الذي تتحدث الورقة بشأنه موجود في كل وقت لكن هل التدرج درجات صعود للتطبيق أم هو درجات هبوط للتخلي بإنهاء واستثناء وإرجاء؟ فما الذي يحتاجه الواقع؟ وما الذي نحتاجه نحن المسلمين الجماعة والأمة قبل الدولة؟
المداخلة الثانية تتعلق بما أشار إليه د إمام من أن هذه الورقة هي فكرة لمشروع كتاب أكبر في الموضوع، فالأربع صفحات التأصيلية الأولى شديدة الدمج والتداخل لدرجة أنني قرأت الحكم التكليفي والحكم الوضعي الذي يرتبط به تحقيق المناط و في الفقرة الثانية انتقلنا إلى المقاصد والحديث عن فقه المآل ، وما بعد ذلك تناوبنا بينهما فلم يتضح لي الرابط وشعرت بتداخل كبير . هناك أيضا عبارات ثقيلة بعض الشيء على سبيل المثال عبارة : “ولعل هذا التحليل يكشف عن جغرافيا تنزيل للحكم الشرعي بين الخصوصية الواقعية التي يعتمد فيها أساسها منهج تحقيق المناط باعتباره تنزيلاً على واقعة محددة وشخص معين بما له من ظرفية زمنية ومكانية وشخصية وبين العموم الذي يتحرك فيه اعتبار المآل ليشمل ظرف عام يغير من أوصاف الواقع الاجتماعي باعتباره محل الذي تتنزل عليه الأحكام الشريعة”. وعبارات غريبة مثلا : ” وهنا تكمن أهمية المآل لأنه يفتح العقل الاجتهادي على دروب غير مألوفة قل سالكها لا تفضي فقط إلى استثناء من الحكم بل تفضي في الأغلب الأعم إلى الإلغاء والإرجاء وكلها مفردات لمبدأ التدرج في التطبيق” فقد أحدثت لي هذه العبارة نوع من الارتباك فهل أنا اطبق بالإلغاء والإرجاء والاستثناء ! وهل أسلوب تحقيق المناط باعتبار المآل سيؤدي إلى هذا النوع من التطبيق! أعتقد أن جهد سيادتكم الأكبر هو في التطبيق وبالتالي في شق طرق تتعلق مثلا بالإسناد الشرعي للقوانين أو تتعلق بالإجابة على مشكلات الواقع من منظور الإسلام وهذا هو المطلوب من كل فقه وكل علم أن يجيب على مشكلات الواقع ، ومشكلات الواقع ليس ما يثيره الإعلام من قضية الميراث واخره..، ولكن على سبيل المثال نذكر حالة القضاء في مصر وحالة التقنين والمجالس النيابية، فقد تم صناعة نظام قانوني وتشريعي من 150 سنة منذ قدوم الاستعمار، يفصل بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، واتسعت الفجوة بينهما تدريجيا حتى صار لهذا رجاله وهذا رجاله، فالرجال العاملون على الأرض محامون ووكلاء نيابة وقضاه يعملون بما يسمى قانون وضعي، بينما هناك شريعة توازيه، ففي كلية الحقوق يدرس القانون المقارن بينما في كليات الشريعة هناك فقه مقارن ،وهناك أيضا مادة تسمى قضايا الفقهية المعاصرة، نقدم إجابات علمية بحثية مدققة ما بين استيعاب القديم والتجديد والاجتهاد في قضايا شديدة الحداثة مثل المعاملات البنكية في مجال الاقتصاد وقضايا اخرى في الاجتماع و غيرها.
من هنا أعتقد أن هذا هو التطبيق المطلوب . فالتطبيق المطلوب للشريعة هو ان نفعل هذه المساحة، ان نقدم _ نحن المختصون بالشريعة والفقه- لهؤلاء العاملين في الواقع ما يستطيعون أن يستخدموه في تقديم اجابات وحل لمشكلات الواقع ، وبالتالي يصير- الشرع- مطبقا بغير حاجة إلى حاكم ، فنحن نقدم لهم مادة – فقهية بقواعد أصولية- في مهنتهم وفي مجالهم ، ونقدم له أدوات من تحقيق المناط . وبهذا نكون قد دخلنا الى تطبيق الشريعة من مدخل تحقيق المناط ومدخل اعتبار المآل أو من مدخل التجديد والاجتهاد الشرعي . أما ان يكون التطبيق بالإلغاء والإرجاء الاستثناء فانا أرى في ذلك اشكالية ، فكلها مفردات لمبدأ التدرج في تطبيق الاحكام الشرعية من منظور أصولي صحيح ، لكني أشعر أننا بهذه الثلاثية لا نطبق بقدر ما نعطل.
رد د/ كمال الدين إمام:
أولا تأكد لدينا أن إرجاء اصدار الكتاب ضرورة نتيجة هذه الحوارات المفتوحة والتي تحتاج كماً من الاساتذة و من الباحثين في هذا المجال فما بالك بالمتلقي العادي أو القارئ العادي فإذا نحن بحاجة إلى أن تهيئ الأرض أكثر لمثل هذه الرؤى.
عن سؤال د/ أماني فيما يتعلق بالمآل وهل هو المقصود به الواقع أم المتوقع؟ في حقيقة الأمر فهو يشمل الواقع والمتوقع، و كلاهما له دور وله منهجية للتعامل معه سواء كان الأمر متعلقا بالواقع أو المتوقع.
حول كيف نبعد مسالة تقدير المآل عن الهوى ؟ هناك أمران، الأول: الواقعة نفسها فالمآل اما واقع أو متوقع، سواء كان أحداهما أو الأخر فنحن بدى لنا في المخيلة الواقعية أن هذه هي نتائج الواقع. الأمر الثاني: أهل الاختصاص؛ ففي المآلات العامة مثلا حين نقول إننا سنطبق الحكم هذا في المجال الاقتصادي وسيترتب عليه في معاملات البنوك كذا وكذا فيأتي رجال الاقتصاد يقولون رأيا آخر فيؤخذ برأي أهل الاقتصاد. لذلك فنحن نقول إنه مثل هذه الأمور يجب ألا يستقل الفقيه بوضعها، وإنما على الفقيه ان يتقبل رأي أهل الاختصاص فيها وهو مسؤول مع افتراض أن الجميع مؤتمن أمام الله، بغض النظر عن كون أهل الاختصاص غير مسلمين المهم أنهم اهل اختصاص وأهل ثقة.
عن سؤال د/ شريف نحتاج إلى تحرير محل النزاع لنا جميعا، فانا لا اتحدث عن غياب الحكم ، فغياب الحكم مبحث أخر بعيد الصلة بالموضوع الذي نتحدث عنه، ولكن اتحدث عن عدم انطباق الحكم على المحل، فأي نص تشريعي فيه خطاب آمر، هذا الخطاب يتضمن شق الحكم وشق الجزاء وكلاهما يتعلق بواقعة متصورة او مفترضة -بمعنى بديهية – في النص وهي التي عندما ينزل الحكم لابد أن ينزل على واقعة متطابقة تماما معها وإلا أصبح هذا الحكم بعيدا عن هذه الواقعة، فلابد من ان يحدث تطابق بين الواقعة المفترضة في النص -سواء كانت واقعة ضرب أو قتل أو كذا – وبين الواقعة محل التنزيل.. والا فلا يصح تطبيق هذا الحكم على هذه الواقعة ويصبح علينا البحث عن حكم اخر . ولا يوجد نص آمر لا توجد فيه هذه الواقعة المفترضة سواء كان إلهيا أو بشريا طالما أنه خطاب تشريعي. وهنا يحدث الخلط. عندما أبحث عن حكم آخر ولا أطبق الحكم الذي هو موجود أمامي وظننته أنه هو الذي ينطبق هذا من باب غياب المحل بحيث لا أستطيع إنزال هذا الحكم على هذا المحل وبالتالي ابحث عن حكم أخر ولا أترك المحل بغير حكم.
بخصوص سؤال أ/ مصطفى في الخلط بين سلطة ولي الأمر وبين الأحكام الشرعية؛ السياسة الشرعية لا تتعلق إلا بسلطة ولي الأمر في ملئ المساحات الشاغرة التي لا توجد فيها نصوص، من هنا تبدأ فكرة السياسة الشرعية ولكن ليست هذه هي السلطة الوحيدة لولي الأمر، أن يملئ المساحات الشاغرة، ولكن مهمته الاساسية والاسبق هي أن يطبق النص الموجود وهذا هو المرجو منه، فالسياسة الشرعية جزء من الفقه الشرعي الأساسي ولكن أشكالها، وأشكال الوصول إليها سواءكانت بانتخابات او كذا هذا من المتغيرات التي تدور حولها مصالح العباد.
عندما نتحدث عن عن تأجيل الأحكام وتعلقيها فالأمرين مختلفين لأن التعليق يتعلق بالحالة الفردية والتأجيل يتعلق بالحالة العامة، أي عندما يوجد قانون يصرح بأنه لن ينطبق على النقطة كذا، هذا هو التأجيل. أما التعليق فيتعلق بحكم فردي، ففي حالة فردية نضطر أن نقول أن ذلك الشخص لا بد أن نبحث له عن قاعدة أخرى خارج دائرة هذا الأمر، فيمكن أن نضيفها إلى فكر الاستحسان فنحن نعرف أن القاعدة العامة هي كذا سواء استخدمنا القياس أو غيره ولكن استحسانا سنطبق شيء مختلف، والاستحسان هو أدراك قياس خفي إذا أخذنا بفكرة القياس الخفي، أو استدراك معنى خفي رءاه ولي الأمر.
ردا على مداخلة اخرى، أحب أن أوضح أنه لا يمكن أن نسوي بين الفكرة التشريعية والثقافة التشريعية، الثقافة التشريعية عبارة عن فضاء مفتوح يستطيع الناس من خلاله أن يكتسبوا المعلومات الشرعية المطلوبة في كافة الاتجاهات. أما الفكرة التشريعية فهي ما يمكن أن يتحول إلى قانون وانا اتحدث عن أهم عناصر القانون وهو عنصر الإلزام، فكل ما ليس فيه عنصر إلزام لا يدخل فيما نتحدث عنه.
أما عملية التلفيق التي أشار اليها أ .مصطفى (وهو الأخذ من كافة المذاهب) فهي إحدى آليات صناعة النص التشريعي في كافة محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي؛ إذ لا يوجد اي مشروع قانون شرع في العالم الإسلامي سواء طبق أو لم يطبق لم يستخدم التلفيق؛ قد يكون في مصر على سبيل المثال المذهب الأغلب في التشريع هو المذهب الحنفي ولكن هناك تطبيقات مأخوذة من المالكية والإباضية والإمامية، ليس هناك مشكلة في ذلك. وبالتالي فالتلفيق إحدى آليات صناعة النص التشريعي كما هو إحدى أليات صناعة الفتوى وهي ليست نصا تشريعيا لأنها تفتقر إلى عنصر الإلزام كما ذكرنا.
في عملية الإنهاء فنحن ننظر في أحكام الشريعة الواردة في الكتاب والسنة على أساس أن هذه الأحكام تطبيق لكلي عام ام تطبيق لجزئي مفرد، عندما تكون تطبيقا لجزء مفرد فلدينا مساحة من التحرك معها ، ومثال ذلك ما حدث أيام النبي (ص) عندما منع المسلمين أن يدخروا لحوم الأضاحي في عام من الاعوام ، فكان ذلك لخصوصية في ذلك الموسم حيث دخل مكة أناس كثر وأهل مكة في ذلك الوقت فقراء فإذا أُدخرت لحوم الأضاحي فلن يجد الوافدون شيئا يأكلوه، ولكن في السنة التالية عندما سئل صلى الله عليه وسلم سمح بادخار لحوم الأضاحي وقال إنما كان ذلك لأجل الدافة. وهذا يذكرني بأمر في مسألة العلة، فنحن عندما نتحدث عن المقاصد فالعلة ليست أساسا ولكنها عنصر، والعلة ليست من القطعيات لأنه عندما تكون العلة قطعية اذن لابد ان تكون علة نصية والعلة النصية قد ينكرها بعض الأصوليين لأنها جزء من خطاب النص. إذا “القطعي” هو الذي نستطيع عن طريقه التمييز بين الاتجاه الذي يريد أن يتفلت من النصوص والاتجاه الذي يريد أن يلتزم بالنصوص، فعلى سبيل المثال عندما يقول النص “فلها نصف ما ترك” فالأمر هنا ليس مشكلة ميراث فميراث المرأة ليس دائما هو النصف قد يكون أقل أو أكثر من النصف وفي بعض الاحيان ترث المرأة أكثر من الرجل وفي بعض الأحيان ترث أقل منه وأحيانا مثله فهو أمر متحرك في داخل النصوص الإسلامية ، فالمسألة المقصودة ليست الارث وانما المقصود أن يغيب النص وذلك لتوقع لدى هؤلاء أن تغييب النص يؤدي إلى تغيب النظام ككل .
هذه القطعية قد يسأل البعض كيف تكون هذه القطعية ومن أين جاءت؟ قطعي النص وقطعي العقل شيئان مترادفان : ما هو قطعي نصا قطعي عقلاً وما هو قطعي عقلاً قطعي نصا ، وعلى ذلك فالأساس في القطعية في الإسلام ليس النصوص الإسلامية ولكن هو البداهة العقلية، في الرياضيات لو جعلت النصف ليس نصفا وليس واحدا صحيحا ينتهي بناء الرياضيات! فالأساس فيه بداهة العقل وليس الأساس فيه النص، ولذلك عندما يحدث خلاف حول القطعية نسأل هل هو فعلاً قطعي عقلي أم قطعي نصا ؟ ولكن إذا تأكدنا ووصلنا إلى درجة اليقين أنه قطعي النص فهو قطعي العقل لانك في النهاية تصل الى القطعية عن طريق العقل . في الإجماع تستخدم التواتر الذي هو دليل نقلي، والتواتر يتأسس على فكرة بداهة العقل حيث تعريفه : “ما ينقله جمعا عن جمعا عن جمعا لا يتصور تواطؤهم على الكذب” ، فإذا قلت الصين غير موجوده وآخر يقول موجوده ولا أنا أو أنت ذهبنا إلى الصين ولكننا نراها على التليفزيون و ونشاهد منتجاتها وبالتالي عندما أقول انا ان الصين غير موجوده اصبح مختل العقل للذي أتكلم معه ليس لان التواتر هو الذي أكد هذا ولكن البداهة إذا التواتر في نهاية الأمر ما يصل بي إلى تصور ما هو ليس معارضا للعقل بل يؤيده العقل.
عندما نتحدث في مسألة تطبيق الشريعة لابد أن ننطلق من جزئية أن العقل العربي الإسلامي خلال قرنين أو ثلاثة قد صيغ على نحو غير إسلامي وهذه حقيقة ، حينما تريد أن تطبق عليه نظاما إسلاميا امامك خياران: التطبيق المستبد أو التطبيق العادل، وبالتأكيد الشريعة ترجح التطبيق العادل. اذا كنا سنأخذ بالتطبيق العادل، فمن العدالة التي تفتضيها الشريعة ألا انزل حكما على محلا غير منظور، ولا أنزل حكما يودي إلى التعسير لا التيسير ، او يؤدي إلى أن ينقلب الأمر على نفسه ويرتد بحيث لا يؤدي إلى غايته وأهدافه، فالأحكام في الشريعة الإسلامية مربوطة بغايتها ارتباط وثيق ، وكل تطبيق حكم لا يؤدي إلى مقصوده أو كما قال الأصوليين يودي إلى عكس مقصوده يحتاج أن نقف ونفكر أمامه -على المستوى الجماعي أو الفردي- حتى نرى ما الخطا الذي حدث فأدى على عكس مقصوده. فيما يتعلق بمثال سيدنا عمربن الخطاب ومنعه سهم المؤلفة قلوبهم ، فانه لفهم ذلك علينا ان نفرق بين أحكام تتعلق باوصاف واحكام تتعلق بأعيان ، الصلاة مثلا متعلقة بأعيان، الزكاة متعلقة بأوصاف ، كل أحكام تتعلق بأوصاف لابد من تغيرها مع تغير الوصف، فلو أن الشخص المسكين أو الفقير الذي استحق الزكاة أصبح غنيا لم يعد مستحقا الزكاة وهكذا ، في المؤلفة قلوبهم التأليف هنا صفة وليس شخصا، فعندما جاءت الناس لتطالب بما يعتبرونه حقهم في أيام أبي بكر أو أيام رسول الله (ص) قال سيدنا عمر -وهو من كبار مجتهدي الإسلام- إنكم لا تأخذوا ذلك المال لأنكم ورثة بل تأخذون لكونكم مؤلفة ووصف التأليف قد انتهى، فقد رأى- رضي الله عنه- أن الإسلام قوي ولا يؤلف ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فأوقف العطاء لهم ، وهذا نتيجة أن الأوصاف لم تعد متوفرة لكن الأسماء موجودة. لذا وجب أن نفرق بين حكم يتعلق بأوصاف وحكم يتعلق بأعيان.
فيما يتعلق بالرق وما دار حوله من نقاش : الرق هو وضع إنساني شاذ نزلت الشريعة الإسلامية فوجدته موجود كما عادات كثيرة مثل الخمر فتحركت معه إلى أن أصبح منتهيا . ولأنه ليس نظاما فرديا ولكنه نظام اجتماعي فقد طالت مدة التعامل معه، في النظام الفردي تم تدريب الناس على عدم شرب الخمر تدريجيا ولكن عندما نزل الأمر بالامتناع حتى من كان يشرب انتهى ، لكن بشأن الرق فهذا أمر اجتماعي متعلق به كيان اقتصادي وحتى يتم الاحلال بين النظام القديم و النظام الجديد فاحتاج الامر إلى تهيئة و الى فترة زمنية. في الحروب الأسرى لا يصبحون عبيدا، الأسرى في الإسلام لهم خمس أحكام تخييرية من ضمنها الرق لو كان موجودا، وإن غاب غاب حكمه لغياب المحل فمحله لم يعد جزء من المصادر الإسلامية . فالأصل في النظرية الإسلامية “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” ، الخطاب القرآني كله من أول لآخره يخاطب الإنسان باعتباره حر و مخلوق مكلف. الإمام الرازي في مصابيح الغيب وهو يتكلم عن قول الله تعالى: ” إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” [الأحزاب :72]،فسر الأمانة بانها العقل والتكليف بكل نواحيه، والعقل والتكليف من لوازمهما الحرية، دلالة اقتضاء فإذا ألغي الرق فمن الصحيح أن أطبق عليه قاعدة الساقط لا يعود .
ولا نطبق عليها قاعدة الساقط لا يعود مجردة لانه في بعض الاحيان الساقط يعود، مثال الأم التي تزوجت فانتقلت حضانتها إلى أمها لأنها تزوجت بشخص آخر غير قريب لابنها فإذا طلقت تعود لها حضانتها مرة أخرى إذا هذه القاعدة تدخل فيما نسميه استثناء وأنا هنا أسميه دخول في قاعدة أخرى. ولذا أنا اذكر لفظ “الاستثناء” للتقسيم وليست للاعتراف به وتعميمه؛ لأن كل حالة من الحالات المذكورة مضبوطة لا يحكمها قاعدة الاستثناء وإنما تحكمها قاعدتها التي تنطبق عليها مفرداتها، لذلك أوصي بعدم استخدام كلمة الاستثناء الذي طرحه الفقهاء. كذلك لا داعي لاستخدام كلمة الأغلبية في القاعدة الفقهية، فالقاعدة تنطبق على كل مفرداتها وليس أغلب مفردتها، فالبعض قسمها أن بها ضوابط وقواعد وهذا التقسيم ربما يؤذي إمكانية فهم القاعدة الفقهية في جوهرها الأصولي الدقيق. اذن عندما نتحدث عن تعطيل الأحكام يحُمل المطلق على المقيد عند علماء الأصول، فالتعريف مقيد تقييد دقيق وهو “أن التدرج هو التطبيق الجزئي بهدف الوصول إلى التطبيق الكلي” إذا فكل تطبيق جزئي يستهدف إرضاء مجموعة أو كذا ولا يستهدف الوصول إلى التطبيق الكلي هو ليس جزءا من التدرج الذي نتحدث عنه، في النهاية الهدف الوصول إلى التطبيق الكلي، لأن الشريعة بطبيعتها نظام كلي لا يقبل التبعيض ولا يصح أن نأخذ منه جزءا ونترك جزءا، ولكنه يقبل التدريج بدليل أنه حتى في عصر الرسالة جاء التدريج ، والتدرج ظل موجودا، في فتاوى أبو السعود في منطقة البلقان على سبيل المثال ستجد داخل هذه الفتاوى مجموعة كثيرة من الفتاوى المتدرجة لأن الحالات التي كانت أمامه تستلزم استخدام التدرج، فهذه مسائل تقتديها الطبيعة.
نحن نخلط بين النظم والأحكام، ونخلط بين النص المتعالي وفهم المفسرين للنص. لم يكن لدينا أربع مذاهب فقط فالإمام الطبري يروي أنه في عصره كان هناك 500 مذهب حتى هو نفسه كان مذهبا، أي لدينا تنوع كبير. فلماذا لا نأخذ بغير المذاهب الأربعة؟ هل هو رفض لبقية المذاهب ؟ لا ولكن لأن عندنا قاعدة في المنهج الإسلامي تقول لا يُنقل عن مخالف في المذهب؛ أي لا يمكن لمالكي ان ينقل عن آراء الأحناف مثلا، أو أن يتكلم عن الحنابلة غير الحنابلة. وهذه قاعدة من قواعد ثلاثة موجودة في داخل المنهجية الإسلامية. فليس لدينا كتب للإمام الطبري أو ابن حزم في الفقه فنضطر إلى أن نأتي باسهاماتهم من الكتب الفقهية الأخرى عند الأحناف مثلا، فكل كتب تلك المذاهب في الفقه مأخوذة من كتابات لا تنتمي للمذهب الأصلي وهذا يسقط قيمتها كعلم تشريعي وان لم يُسقط قيمتها كثقافة إسلامية. وقد قيل إن الإمام الليث كان أفقه من مالك ولكن تلامذته لم يقوموا به فلم يأخذوا فقهه و يوثقوه أو يدونه، اذن هناك قواعد إسلامية استخدمت لغربلة كل هذا التراث وحفظه. من هنا لا أريد أن يكون بين الفقهيه وبين الواقع مشكلة نفسية مثل الطبيب الذي يلقى المريض وهو بينه وبين المريض هذا مشكلة نفسية، فطالما أنك قبلت القيام بهذا الدور فتقبله بنفس صافية فكل الناس عندك سواء أو كل المذاهب عندك سواء . المشكلة التي أمامك تحتاج علاج ومنطق الثورات لا يعرفه الفقه الاسلامي، فكرة الانتفاضات الذهنية والخروج بعيدا عن دائرة القواعد الفقهية والأصولية غير موجودة عند الفقيه فهو يعمل وهو يضبط نفسه بقواعد لا يخرج عنها حتى لو أدت لنتيجة تؤثر على بيته أو أبنائه أو مجتمعه فهو متمسك بها.
خلاصة القول ان البحث الذي بين أيديكم أصبح أكثر ثراء و أصبحت أكثر قدرة على إعادة النظر فيه سواء من ناحية المتن أو العناوين أو زيادة الشروح، ولكنه يستهدف شيء مهم هو: عدم إثقال كتف الفقيه بما ليس من اختصاصه، فالفقيه يختص بتحقيق المناط في مجال العلةفقط وهذا جزء من تحقيق المناط وليس هو تحقيق المناط ذاته، والعلة بعضها ظني فهي ليست قطعية إلا التي جاءت نصا وجاءت في كلمات تدل على قطعيتها أما عدا ذلك فكلها ظنية، فجميع العلل التي جاءت في الفقه الإسلامي أحاديث أحاد فكيف توضع في إطار القطعي، ولكن هناك علل قطعية يتم الوصول إليها عن طريق الاستقراء التام فتصبح عللا قطعية.
هل من الممكن أن توجد موانع في البناء الإسلامي الأصولي من تأجيل بعض الأحكام أو تعليق بعضها، هذا سؤال في إطار التدرج؟ والسؤال الثاني هل المسؤولية تقع على عاتق الفقيه أم من معه من أهل الاختصاص؟ أنا في تقديري أن هذه المهمة ليست مهمة الفقيه لأننا نتكلم عن منهج تحقيق المناط فيما يتعلق بالواقع، فدراية الفقيه بالواقع مستنبطة من دراية أهل العلم لهذا الواقع وليست هي دراسة للفقيه، قد يوجد فقيه موسوعي مثل الفقهاء القدامى أمثل ابن رشد والغزالي حيث كانوا يجموا بين عدة ثقافات، ولكن الفقيه المعاصر الذي هو مرتبط بمتن مذهب بعينه وقد لا يعرف المذاهب الأخرى أو لا يعترف بالمذهب الآخر، في هذه الحالة لابد من الاستعانة بأهل الاختصاص، وهم جزء من العلماء الذي تكلم عنهم القرآن الكريم، كل عالم في فنه، والعلم في الإسلام مفصول تماما عن العلم الذي يؤذي فهو أصلا ممنوع تعلمه أو الوصول إليه. فبالتالي نحن في دائرة محكمة اسمها علم الأصول والذي يجعل هناك إمكانية لفهم الواقع والتعامل معه، إن العلم الإسلامي مثل الدين لا يحب التجزئة فهو يحب أن يكون ملتصقا بكل الأجزاء وإلا تفلتت من بين يدي العالِم عناصر منهجية ضرورية لفهم النص و لتطبيق النص.
وختاما أكد المشاركون على ضروة الاهتمام بتأسيس العلاقة ما بين الفقيه وبين علماء الاختصاص وأهل السياسة. وتحديد قواعد وطبيعة العلاقة بين هؤلاء الأطراف الثلاثة واقترحوا أن يتم اضافة جزء في هذا البحث خاص بتأسيس هذه العلاقة.