في إعجاز القرآن*
محمد الطاهر بن عاشور
لم أر غرضًا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل. ولقد سبق أن أُلِف علمُ البلاغة مشتملًا على نماذج من وجوه إعجازه، والتفرقة بين حقيقته ومجازه، إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارًا للنقد أو آلةً للصنُّع. ثم لِيظْهَرَ من جراء ذلك كيف تفَوَّق القرآن على كل كلام بليغ بما تَوفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللَّاحقون منهم عن الإتيان بمثله. قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح «واعلمْ أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنَيْتَ عليها أعجب كلَّ شاهد بِناؤُها. واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها – إلى أن قال – ثم إذا كنتَ ممن ملَكَ الذَّوْقَ وتصفحتَ كلام رب العزة. أطلعْتك على ما يُوردك موارد العزة. وكشفت عن وجه إعجازه القناع».
فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أن أُلِمَّ بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف وإنما هي لَمْحَة ترى منها كيف كان القرآن معجزاً وتتبصر منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائلَ الإعجاز في آحاد الآيات والسور، فذلك له مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر. ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائفَ أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فَتْح بصائر، وفَتْح عقول، وفَتْح ممالك، وفَتْح أَدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدبُ أُمَّة من قَبْلُ. وكنتُ أرى الباحثين ممن تقدَّمني يخلطون هذين الغرضين خلطا، وربما أهملوا معظم الفن الثاني، وربما أَلَمُّوا به إلمامًا وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير. ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولًا ونكتًا أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني، والرُّمَّاني، وعبدالقاهر، والخطَّابي، وعياضٍ، والسكاكي، فكونوا منها بالمرصاد. وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغًا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملًا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيِهِ المفسَّرة بمقدار ما تَسْمو إليه الهمة من تطويل واختصار، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته وما فاقت به آي القرآن في ذلك لئلا يكون المُفَسِّر حينَ يُعْرِض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسِّر.
فمن أَعْجَب ما نراه خلوّ معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير، فمن مقل مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج، والمُحَرَّر الوجِيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مُكثر مثل الكشاف. ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العِلْق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حمَّاد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي.
ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مُخْتَزَن أصلٍ كبير من أصول الإسلام وهو كونه المعجزةَ الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكونُه المعجزة الباقية، وهو المعجزة التي تحدى بها الرسولُ معانديه تحدِّيًا صريحًا. قال تعالى (وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِين، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ولقد تصدى للاستدلال على هذا أبو بكر الباقلاني في كتابٍ له سماه أو سُمَّىَ «إعجاز القرآن» وأطال، وخلاصة القول فيه أن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بنيت على معجزةِ القرآن وإن كان قد أُيِّدَ بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات وأحوال ومع ناس خاصة ونُقِلَ بعضُها متواتراً وبعضها نُقِل نَقلًا خاصاً، فأما القرآن فهو معجزة عامة، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة، وإن كان يُعْلَم وَجْهُ إعجازهِ من عجز أهل العصر الأوّل عن الإتيان بمثله فيغني ذلك عن نظر مُجَدَّد، فكذلك عَجْز أهل كل عصر من العصور التالية عن النظر في حال عجز أهل العصر الأول، ودليل ذلك متواتر من نص القرآن في عدة آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله، وبَعشْر سُوَر مثله مما هو معلوم، ناهيك أن القرآن نادَى بأنه معجز لهم، نحو قوله تعالى (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) فإنه سهَّل وسَجَّل: سَهَّلَ عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سُوره، وسَجَّل عليهم أنهم لا يفعلون ذلك أبدا، فكان كما سَجَّل، فالتحدي متواتر وعجز المتحدَّيْن أيضًا متواتر بشهادة التاريخ، إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير عاجزين، وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة.
قال الله تعالى (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) (سورة البقرة)
وقال (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين) [سورة يونس] وقال (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ) [سورة هود].
فعجْز جميع المتحدَّين عن الإتيان بمثل القرآن أمر متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توفر دواعيهم عليها.
وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك، فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنّ الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي، لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب. ويعرف هذا القول بالصّرْفة كما في المواقف للعضد والمقاصد للتفتزاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء وهي مرة من الصرف وصيغ بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص فصارت كالعلم بالغلبة) ولم ينسبوا هذا القول إلَّا إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض في الشفاء وإلى النظّام والشريف المرتضى وأبي إسحاق الإسفرائيني فيما حكاه عنهم عضد الدين في المواقف، وهو قول ابن حزم، صرح به في كتاب الفيصل، وقد عزاه صاحب المقاصد في شرحه إلى كثير من المعتزلة.
وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر عليه أئمّة الأشعرية وإمام الحرمين وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في المواقف، فالتعليل لعجز المتحدَّين به بانه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغًا تعجز قدرهُ بلغاء العرب عن الإتيان بمثله، وهو الذي نعتمده ونسير عليه.
وقد بدا لي دليل قوي على هذا وهو بقاء الآيات التي نسخ حُكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة في المصاحف، فإنّها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها في المصاحف إلّا ما في مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدِّي بالإتيان بمثلها، مثال ذلك آية الوصية في سورة العقود.
وإنما وقع التحدي بسورةٍ وإن كانت قصيرةً دون أن يتحداهم بعدد من الآيات لأن من أفانين البلاغة ما مرجعه إلى مجموع نَظم الكلام وصوغه بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام وخواتمه، وانتقال الأغراض، والرجوع إلى الغرض، وفنون الفصل، والإيجاز والإطناب، والاستطراد والاعتراض، وقد جعل شَرَف الدين الطّيبي[1] هذا هو الوجه لإيقاع التَّحَدِّي بسورة دون أن يجعل بعدد من الآيات.
وإذ قد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعاً إلى ثلاث جهات:
الجهة الأولى: بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتاً من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، بحيث يكثر فيه ذلك كثرةً لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.
الجهة الثانية: ما أَبْدَعَه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام ما لم يكن معهودًا في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.
الجهة الثالثة: ما أودِع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، وهذه الجهة أغفلها المتكلمون في إعجاز القرآن من علمائنا مثل أبي بكر الباقلاني والقاضي عياض.
وقد عد كثير من العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة، هي ما انطوى عليه من الأخبار عن المُغَيَّبات مما دل على أنه منزل من علَّام الغيوب، وقد يدخل في هذه الجهة ما عده عياض في الشفاء وجهًا رابعًا من وجوه إعجاز القرآن، وهو ما أنبأَ به من أخبار القرون السالفة مما كان لا يعلمُ منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، فهذا معجز للعرب الأميين خاصة وليس معجزًا لأهل الكتاب؛ وليس معجزاً للمكابرين فقد قالوا إنما يعلِّمه بشر.
فإعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب، إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة، ومعجز لعامهم بواسطة إدراكهم أن عَجْز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزَّل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغًا لا يُستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ. فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي، وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي.
ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كلُّ من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور، وهذا معنى قول السكاكي في المفتاح مخاطبًا للناظر في كتابه «مُتوَسِّلًا بذلك (أي بمعرفة الخصائص البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها) إلى أن تَتأنَّق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقِلًاً مما أَجْمَلَهُ عجز المتحدَّين به عندك إلى التفصيل».
والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازًا مستمرًا على مر العصور، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين: إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يُدرِك إعجازه العقلاءُ من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك.
وهو من الجهة الرابعة – عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث – معجز لأهل عصر نزوله إعجازًا تفصيليًا، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن، وتَعيُّن صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.
هذا ملاك الإعجاز بحسب ما انتهى إليه استقراؤنا إجمالًا، ولنأخذ في شيء من تفصيل ذلك وتمثيله.
فأما الجهة الأولى فرجعها إلى ما يُسمَّى بالطَرَف الأعْلَى من البلاغة والفصاحة، وهو المصطلح على تسميته حدَّ الإعجاز، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة والفصاحة، وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دُوِّنَ له عِلْمَا المعاني والبيان، وتصدَّوْا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبْلَغِ ما حُفظ عن العرب من ذلك مما عُدَّ في أقصى درجاتها. وقد تصدى أمثالُ أبي بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبدالقاهر والسَّكاكي وابن الأثير، إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما ورد في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمِّل، ومثل للمتمَثِّل. وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفاً إجماليًا كصنعنا ههنا أن يصف هذه الجهة وصفًا مفصلًا لكثرة أفانينها، فحسبنا أن نُحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكُتب المجعولة لذلك مثل دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والقسم الثالث فما بعده من المفتاح، ونحو ذلك، وأن نُحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلِّفة في ذلك وعمدتُها كتاب الكشاف للعلامة الزمخشري، وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء الله، غير أني ذاكر هنا أصولًا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.
وحسبنا هنا الدليل الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته، اعترافًا بالحق ورَبْئًا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح، مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظمًا ونثرًا، وترغيبًا وزجرًا، قد خُصُّوا من بين الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابقٌ من المعاني، ولا يجمح بهم عسير من المقامات.
قال عياض في الشفاء «فلم يزل يُقَرِّعهم النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويُسَفِّه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء بالافتراء، وقولهم: إن هذا إلا سحر يُؤْثَر – وسحرٌ مستمرٌ – وإفكٌ افتراه – وأساطيرُ الأولين. وقد قال تعالى (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا) فما فعلوا ولا قدَروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمُسَيْلِمَة كُشِفَ عُوَاره لجميعهم. ولمَّا سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» قال «والله إنَّ له لَحَلاوةً وإنَّ عليه لَطَلاوَةً، وإنَّ أسفَلَه لَمٌغدِق وإنَّ أعلاه لَمُثْمِر وما هو بكلام بشر». وذكر أبو عبيدة أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة اصدع في إبانتها عن الدعوة والجهرِ بها والشجاعة فيها، وكلمةُ (بما تؤمر) في إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلاً يقرأ «فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا» فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام. وكونُ النبي صلى الله عليه وسلم تَحَدَّى به وأنَّ العرب عجزوا عن معارضته مما علم بالضرورة إجمالاً وتصدى أهل علم البلاغة لتفصيله، قال السكاكي في المفتاح «واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يُدْرَك ولا يمكن وصفُه، كاستقامة الوزن تُدْرَك ولا يمكن وصفها، أو كالملاحة. ومُدرِك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا. وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين (المعاني والبيان) نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللِّثام عنها لتُجْلَى عليك، أما نفس وجه الإعجاز فلا».
قال التفتزاني «يعني أن كل ما ندركه بعقولنا في غالب الأمر نتمكن من التعبير عنه، والإعجازُ ليس كذلك لأنا نعلم قطعاً من كلام الله أنه بحيث لا تمكن للبشر معارَضَتُه والإتيانُ بمثله ولا يماثله شيء من كلام فصحاء العرب مع أن كلماته كلماتُ كلامهم، وكذا هيئات تراكيبه، كما أنا نجد كلاماً نعلم قطعاً أنه مستقيم الوزن دون آخر، وكما أنا ندرك من أحد كون كل عضو منه كما ينبغي وآخر كذلك أو دون ذلك، لكن فيه شيء نسميه الملاحة ولا نعرف ما هو، وليس مدرك الإعجاز عند المصنف سوى الذوق وهو قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ووجوه محاسنه الخفية، فإن كان حاصلًا بالفطرة فذاك، وإن أريد اكتسابه فلا طريق إليه سوى الاعتناء بعلمي المعاني والبيان وطول ممارستهما والاشتغال بهما، وإن جمع بين الذوق الفطري وطول خدمة العِلمين فلا غاية وراءه، فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة والفصاحة، لا كما ذهب إليه النَّظام وجمعٌ من المعتزلة أن إعجازه بالصَّرْفة، بمعنى أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب قدرتهم عليها، ولا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه مخالفة أسلوبه لأساليب كلامهم من الأشعار والخطب والرسائل لاسيما في المقاطع مثل يؤمنون وينفقون ويعلمون (قال السيد لاسيما في مطالع السور ومقاطع الآي) أو بسلامته من التناقض (قال السيد مع طوله جدا) أو باشتماله على الإخبار بالمغيبات والكل فاسد.
وقال السيد الجرجاني: فهذه أقوال خمسة في وجه الإعجاز لا سادس لها.
واعلم أنّه لا شك في أنّ خصوصيات الكلام البليغ ودقائقه مرادة لله تعالى في كون القرآن معجزًا وملحوظة للمتحدَّيْن به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبيّن. وأن إشارات كثيرة في القرآن تلفت الأذهان لذلك ويحضرني الآن من ذلك أمور: أحدها ما رواه مسلم والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «قال الله تعالى: قسمت الصلاة (أي سورة الفاتحة) بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حَمِدني عبدي. وإذا قال: الرحمان الرحيم، قال الله تعالى أثني علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إلي عبدي) فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. وحُسن التقسيم من المحسنات البديعية. مع ما تضمّنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله «فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: «هذا بيني وبين عبدي» إذْ كان ذلك مزيجاً من القسمين الذي قبله والذي بعده.
وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية، والتجنيس من المحسنات، ومنه قوله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ).
وفيه التنبيه على محسّن المطابقة كقوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير).
والتنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون).
ولذا فنحن نحاول تفصيل شيء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز:
– نرى من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكَلُّم أو الخطاب أو الغَيْبة إلى طريق آخر منها. وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شَجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع، فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودًا عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.
– وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكانُ القصي والقدر العلي في باب البلاغة، وبه فاق امرؤ القيس، ونبهت سمعته، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) وقوله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) وقوله (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) وقوله تعالى (ابْلَعِي مَاءكِ) وقوله (صِبْغَةَ اللّهِ) إلى غير ذلك من وجوه البديع.
ورأيت من محاسن التشبيه عندهم كمال الشَّبَه، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس وأحسنه ما وقع في القرآن كقوله تعالى (فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) احتراس عن كراهة الطعام (وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) احتراس من أن تتخلله أقذاء من بقايا نحله.
وانظر التمثيلية في قوله تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)، ففيه إتمام جهات كمال تحسين التشبيه لإظهار أن الحسرة على تلفها أشد. وكذا قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) إلى قوله (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) فقد ذكر من الصفات، والأحوال ما فيه مزيد وضوح المقصود من شدة الضياء، وما فيه تحسين الشبَّه وتزيينُه بتحسين شِبْهِهِ، وأيْنَ من الآيتين قول كَعب.
شُجَّتْ بِذِي شَبِم من ماءِ مَحْنيَةٍ | صافٍ بأبطحَ أَضْحَى وهْوَ مَشْمُول | |
تَنْفِي الرِّياحُ القَذى عَنْه وأَفْرَطَه | مِن صوبِ سَارِيةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ |
– إن نظم القرآن مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة، فجُمَل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي كله، ولها دلالتها البَلَاغية التي يشاركها في مُجْمَلِها كلامُ البلغاء، ولا يصل شيءٌ من كلامهم إلى مَبْلَغ بَلَاغَتها.
ولها دلالتها المَطْويَّةُ وهي دلالةُ ما يُذكر على ما يُقَدَّر اعتمادًا على القرينة، وهذه الدلالة قليلة في كلام البلغاء وكثرت في القرآن، مثل تقدير القول وتقدير الموصوف وتقدير الصفة.
ولها دلالة مواقع جُمَلِه بِحَسَب ما قَبْلَها وما بَعْدَها، ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها، أو في موقع الاستدراك، أو في موقع جوابِ سُؤالٍ، أو في موقع تَعْريض أو نحوه. وهذه الدلالة لا تَتأَتَّى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم وخُطَبِهم بخلاف القرآن، فإنه لما كان من قبيل التذكير والتلاوة سَمَحَت أَغراضه بالإطالة، وبتلك الإطالة تَأتَّي تعدد مواقع الجمل والأغراض.
مثال ذلك قوله تعالى (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون) بعد قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُون) فإن قوله (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم والتذكير، وهو لوقوعه عقب قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) واقع موقع الدليل على أنه لا يَستوى من عَمل السيئات مَعَ من عمل الصالحات في نعيم الآخرة.
– وإنّ للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها، وسننبّه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلاً من ذلك يكون لك عوناً على استجلاء أمثاله، قال تعالى (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا) إلى قوله (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) إلى قوله (وَكَأْسًا دِهَاقًا، لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا) فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) أنّه الجنة لأنّ الجنة مكان فوز. ثم كان قوله (لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا) ما يحتمل لضمير (فِيهَا) من قوله (لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا) أن يعود إلى (وَكَأْسًا دِهَاقًا)، وتكون (في) للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى (مَفَازًا) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون (في) للظرفية الحقيقية، أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لا فائدة فيه ولا كلاماً مؤذياً. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة (مَفَازًا). ولم يؤخر (وَكَأْسًا دِهَاقًا) ولم يعقب بجملة (لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)، الخ.
– ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن يُنَظَّم الكلامُ على خصوصيات بَلاغيةٍ هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام وخاصَّةً في إعجاز القرآن، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المُفَسِّر عن دواعيها وما يقتضيها، فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلَّفة أو مغصوبة، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أنَّ مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية، مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة (أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون) ثم قوله (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون) فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تَطَلُّب مقتضِه ويأتي بمقتضياتٍ عامة مثل أن يقول: التنبيهُ للاهتمام بالخبر، ولكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعاً، عَلِمْنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعاً، فالأوَّلُون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأنَّ الله يقول قد عرفنا دخائلكم، وثاني الفريقين وهم المؤمنون نُبِّهُوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين، فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءَكم هم أيضًا عدُوٌ لكم لأنهم حزب الشيطان، والشيطان عدوُّ الله وعدُوُّ الله عدوٌّ لكم! واجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق، وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقاً ليسوا من حزب الله فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم.
ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمَّى في عرف علماء البلاغة بالنُّكت البلاغيَّة، فإنَّ بلغاءهم كان تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كلِّ من سمعه من بلغائهم من النكت التي تَفَطَّن لها ما لم يجد من قدرته قبلًا بمثله. وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان، فعلم ألا مَبْلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله، هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه.
ووراء ذلك نُكتٌ لا يتفطن إليها كل واحد، وأحسِبُ أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في نواديهم أمر تحدي الرسول إيَّاهم بمعارضة القرآن وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص، وأوقف بعضهم بعضاً على ما لاح له من تلك الخصائص، وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن انفردوا أو اجتمعوا، ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين فقال تارة (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) وقال لهم مَرَّة (لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولًا عنها بينهم ضرورة أنهم مُتَحَدَّوْنَ بها.
وهذه الناحية من هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أَقصَرِ سُورةٍ منه.
– وفي هـذه الجهة ناحية أخرى وهي ناحية فصاحة اللفظ وانسجام النظْم وذلك بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه مما يَجُر الثقل إلى لسان الناطق به، ولغة العرب لغـة فصيحة وأهلها مشهورون بفصاحة الألسن. قال فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب «إن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي، والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى، وكما أن الإنسان الذي نُوِّرَ روحُه بالمعرفة ينبغي أن يُنَوَّر جسمه بالنظافة، كذلك الكلام، ورب كلمة حكيمة لا تؤثِّر في النفوس لركاكة لفظها».
وكان مما يعرض لشعرائهم وخطبائهم ألفاظ ولهجات لها بعض الثقل على اللسان، فأما ما يعرض للألفاظ فهو ما يسمى في علم الفصاحة بتنافر حروف الكلمة أو تنافر حروف الكلمات عند اجتماعها مثل: مُسْتشْزِرات والكَنَهبَل في معلقة امرئ القيس، وسفَنَجَّة والخفيدد في معلقة طرفة، وقول القائل «وليس قُرْبَ قَبْرِ حَربٍ قبرُ».
وقد سلم القرآن من هذا كله مع تفننه في مختلف الأغراض وما تقتضيه من تكاثر الألفاظ، وبعض العلماء أورد قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) وقوله (وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ) وتصدى للجواب، والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل، ولأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها غيره مقدَّم على مراعاة خفة لفظه.
فقد اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوا معلقةَ امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد «وقد يُضْطَرُّ الشاعر المُفْلِق والخطيب المِصْقَع والكاتبُ البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جَنْبَتَا الكلامِ غطَّتا على عُواره وستَرَتا من شَيْنه».
وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلي فيها لسانَ قريش ومَن حولها من القبائل، وهو مما فُسر به حديث: أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرف، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأَخفِّها وتجَنَّبَ المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر).
– ومما أَعُدُّه في هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة، وأشمَلِها لمعانٍ عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها مثل إيثار كلمة حَرْد في قوله تعالى (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِين) إذ كان جميع معاني “الحرد” صالحًا للإرادة في ذلك الغرض، أو مَجَازاتٍ أو استعاراتٍ أو نحوها مما تُنصَب عليه القرائن في الكلام، فإن اقتضى الحال تصرفاً في معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين، وهو كثير في القرآن مثل قوله تعالى (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) فجاء فعل أتوا مضمناً معني مَرُّوا فعُدي بحرف على؛ لأن الإتيان تعدّى إلى اسم القرية والمقصود منه الاعتبارُ بمآل أهلها، فإنه يقال أتى أرض بني فلان ومَرَّ على حي كذا. وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ، بل هي معدودة من دقائقه ونفائسه التي تقل نظائرها في كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها.
وأما الجهة الثانية وهي ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام البليغ وهذه جهة منقولة من علم البلاغة، فاعلم أن أدب العرب نوعان شعر ونثر، والنثرُ خطابة وأسجاعُ كُهَّانٍ، وأصحاب هذه الأنواع وإن تنافسوا في ابتكار المعاني وتفاوتوا في تراكيب أدائها في الشعر فهم – بالنسبة إلى الأسلوب – قد التزموا في أسلوبي الشعر والخطابة طريقة واحدة تشابهت فنونها، فكادوا لا يَعْدُون ما ألفوه من ذلك حتى إنك لتجد الشاعر يحذو حذو الشاعر في فواتح القصائد وفي كثير من تراكيبها، فكم من قصائد افتتحت بقولهم «بَانَتْ سُعَاد» للنابغة وكَعْب بن زهير، وكم من، وكم من شهر افتتح بـ:* يا خلِيِلَيَّ أربعا واستخيرا *
وكم من شعر افتتح بـ: * يا أيها الراكب المزجي مطيتَه *
وقال امرؤ القيس في معلقته:
وقوفا بها صحبى علىَّ مطيَّهم | يقولون لا تهلك أسى وتحمل |
فقال طرفة في معلقته بيتاً مماثلاً له سوى أن كلمة القافية منه «وَتَجَلَّدِ».
وكذلك القول في خطبهم تكاد تكون لهجة واحدة وأسلوباً واحداً فيما بلغنا من خطب سحبان وقس بن ساعدة. وكذلك أسجاع الكهان وهي قد اختصت بقِصَر الفقَرات وغرابة الكلمات. إنما كان الشعرُ الغالبُ على كلامهم، وكانت الخطابة بحالة ندور لندرة مقاماتها، قال عُمر «كان الشعر عِلْم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه» فانحصر تسابق جياد البلاغة في ميدان الكلام المنظوم، فلما جاء القرآن ولم يكن شعراً ولا سجع كهان، وكان من أسلوب النثر أقرب إلى الخطابة، ابتكَر للقول أساليب كثيرة بعضها تتنوع بتنوع المقاصد، ومقاصدُها بتنوع أسلوب الإنشاء فيها أفانين كثيرة، فيجد فيه المطلع على لسان العرب بغيته ورغبته، ولهذا قال الوليد بن المغيرة لما استمع إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم «والله ما هو بكَاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشِعْر كله رَجَزَه وهَزَجَه، وقريضه ومبسوطه، ومقبوضه ما هو بشاعر».
وكذلك وصَفَه أُنَيْسُ بن جُنَادَة الغِفاري الشـاعر أخُو أبي ذَرِّ حين انطلق إلى مكة ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بخبره إلى أخيه فقال «لقد سَمِعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أَقراء الشِّعر[2] فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر» ثم أَسْلَم. وورد مثل هذه الصفة عن عُتْبَةَ بن ربيعة والنَّضْر بن الحرث، والظاهرُ أن المشركين لما لم يجدوا بُدًّا من إلحاق القرآن بصِنفٍ من أصناف كلامهم أَلْحَقُوه بأشبه الكلام به، فقالوا إنه شعر تقريبًا للدَّهْمَاء بما عهده القوم من الكلام الجدير بالاعتبار من حيث ما فيه من دقائق المعاني وأحكام الانتظام والنفوذ إلى العقول، فإنه مع بلوغه أقصى حد في فصاحة العربية ومع طول أغراضه وتفنن معانيه وكونه نثراً لا شعراً ترى أسلوبه يجرى على الألسنة سلساً سهلاً لا تفاوت في فصاحة تراكيبه، وترى حفظه أسرع من حفظ الشعر. وقد اختار العرب الشعر لتخليد أغراضهم وآدابهم، لأن ما يقتضيه من الوزن يلجئ إلى التدريب على ألفاظ متوازنة فيكسبها ذلك التوازن تلاؤماً، فتكون سلسة على الألسن، فلذلك انحصر تسابق جياد البلاغة في الكلام المنظوم، وفحول الشعراء مع ذلك متفاوتون في سلاسة الكلام مع تسامحهم في أمور كثيرة اغتفرها الناس لهم وهي المسماة بالضرورات، بحيث لو كان لواحد من البشر أن يتكلف فصاحة لما يقوله من كلام ويعاود تنقيحه وتغيير نظمه بإبدال الكلمات أو بالتقديم لِمَا حقَّه التأخير، أو التأخير لِمَا حقُّه التقديم، أو حذف أو زيادة، لقضي زمنًا مديدًا في تأليف ما يُقَدَّر بسورة من متوسط سور القرآن، ولما سلم مع ذلك من جمل يتعثر فيها اللسان. ولم يَدْعُ مع تلك الفصاحة داع إلى ارتكاب ضرورة أو تقصير في بعض ما تقتضيه البلاغة، فبُنيِ نظمه على فواصل وقرائن متقاربة فلم تفته سلاسة الشعر ولم ترزح تحت قيود الميزان، فجاء القرآن كلامًا منثورًا ولكنه فاق في فصاحته وسلاسته على الألسنة وتوافق كلماته وتراكيبه في السلامة من أقلِّ تنافر وتعثر على الألسنة. فكان كونه من النثر داخلًا في إعجازه، وقد اشتمل القرآن على أنواع أساليب الكلام العربي وابتكر أساليب لم يكونوا يعرفونها، وإن لذلك التنويع حكمتين داخلتين في الإعجاز: أولاهما ظهور أنه من عند الله؛ إذ قد تعارف الأدباء في كل عصر أن يظهر نبوغ نوابغهم على أساليب مختلفة كلٌّ يجيد أسلوبًا أو أسلوبين. الثانية أن يكون في ذلك زيادة التحدي للمَتحَدَّيْنَ به بحيث لا يستطيع أحد أن يقول إن هذا الأسلوب لم تسَبِق لي معالجته ولو جاءنا بأسلوب آخر لعارضته.
نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة ومقصد التشريع، فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه وهو في هذا النوع يشبه خُطبهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكامًا كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى العلل والمقاصد وغيرها.
ومن أساليبه ما أُسَمِّيه بالتفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبًا لثقل تكرير الكَلِم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية، فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه، ومن أبدع أمثلة ذلك قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُون، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُون، أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِين، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير).
بحيث كان أكثر أساليب القرآن من الأساليب البديعة العزيز مِثْلُها في شعر العرب وفي نثر بلغائهم من الخطباء وأصحاب بدائه الأجوبة. وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقل منه والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعهُ وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله. وذلك التفننُ مما يُعين على استماع السامعين ويدفع سآمة الإطالة عنهم، فإن من أغراض القرآن استكثار أزمان قراءته كما قال تعالى (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فقوله ما تيسر يقتضي الاستكثار بقدر التَّيَسُّر، وفي تناسب أقواله وتفنن أغراضه مجلبة لذلك التيسير وعون على التكثير، نقل عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه سراج المريدين «ارتباط آي القرآن بعضها مع بعض حتى تكون كالكلمة الواحدة مُتَّسِعَة المعاني منتظمة المباني، علمٌ عظيم» ونقل الزركشي عن عز الدين بن عبد السلام «المناسبةُ عِلْم حَسَن ويشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أولُه بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، والقرآنُ نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعتْ لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض».
وقال شمس الدين محمود الأصفهاني في تفسيره نقلًا عن الفخر الرازي أنه قال «إن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه هو أيضًا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك».
إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدى بها تلك التراكيب. فإنّ سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتًا خفيفًا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، وان لم يكنه عينه، مثاله قوله تعالى (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) فإن الوقف على قوله (موسى) يحدث في نفس السامع ترقبًا لما يبيّن حديث موسى، فإذا جاء بعده (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ)، الخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة موسى من قرينة من قرائن الكلام لأنّه على سجعة الألف مثل قوله «طوى، طغَى، تزَّكى»، الخ.
وقد بينت عند تفسير قوله تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين) أنّك إن وقفت على كلمة «ريب» كان من قبيل إيجاز الحذف أي لاريب في أنّه الكتاب فكانت جملة (فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين) ابتداء كلام وكان مفاد حرف (في) استنزال طائر المعاندين أي إن لم يكن كلّه هدى فإنّ فيه هدى. وإن وصلتَ «فيه» كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدًا أن هذا الكتاب كلّه هدى.
ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه، ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلبا كما تجنبا لتعدد صيغة المثني.
ومن ذلك قوله تعالى (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) فروعي معنى ما الموصولة مرَّة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو خالصة، وروعي لفظ ما الموصولة فأتى بمحرم مُذكرًّا مفردًا.
إن المقام قد يقتضى شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيراً في أحدهما وله ذكرهما تفنناً، وقد وقع في القرآن كثير من هذا، من ذلك قوله (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا) بواو العطف في سورة البقرة، وقوله في الأعراف «فكلا» بفاء التفريع، وكلاهما مطابق للمقام، فإنه أمر ثان وهو أمر مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكى بكل من الاعتبارين، ومنه قوله في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا) وفي سورة الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا) فعبر مرة بـ(ادْخُلُوا) ومرة (اسْكُنُوا) وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع.
وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير.
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ) في سورة الأنبياء «ليس بواجب أن يجاء بالآكد في كل موضع، ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتنانا».
ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن.. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ، وكان الشعر خاصًا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي المُلَح والمديحُ. ولهم من غير الشعر الخُطَب، والأمثال، والمحاورات: فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المنقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء، وإنما يبقي في السامعين التأثُّر بمقاصدها زمانًا قليلاً للعمل به، فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها، وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الأهمية بحيث تنقل وتسير، ومنها محاورات نَوادٍ وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتدَيات. وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض؛ إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة، مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد.
فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة: فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال (أي الكلم الجوامع) والقصص والتوصيف والرواية.
وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل، مع كون مادته ولُحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة، فكان بذلك له صَوْلة الحق ورَوعة لسامعيه، وذلك تأثير روحاني وليس بلفظي ولا معنوي.
وقد رأيتُ المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
والطباق كقوله (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير) وقد ألف ابن أبي الإصبع كتاباً في بديع القرآن.
وصار – لمجيئه نثرا – أَدَبًا جديداً غضاً ومتناولًا لكل الطبقات.
وكان لبلاغته وتناسقه نافذَ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسِّحْر وبالشِّعْر (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون).
مُبْتكرات القرآن
هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة وقد نبه عليه العلماء المتقدمون. وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتابٍ يُقصد حفظُه وتلاوتُه، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام.
وأَعُدُّ من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية، فلم يأت بعموميات شأنها التخصيص غير مخصوصة، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة. مثالهُ قوله تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ) وقوله (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) فبيَن أن الهوى قد يكون محموداً إذا كان هوى المرء عن هدًى، وقوله (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا).
ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في الكشاف إيماءً.
ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة، وفي تمثيـل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب، إذ كان فن القصص مفقودًا من أدب العربية إلا نادرًا، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحَيَّة التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها، فلما جاء القرآن بالأوصاف بُهت به العربُ كما في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) إلخ وفي سورة الحديد (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ).
ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها، فهو إذا حكى أقوالًا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية، وإذا حكى أقوالًا عربية تصرف فيها تصرفًا يناسب أسلوب المعبر، مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم، بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مدارهُ على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية.
ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزرَ.
وكذلك التمثيل فقد كان في أدب العرب الأمثال وهي حكاية أحوال مرموز لها بتلك الجمل البليغة التي قيلت فيها أو قيلت لها المسماة بالأمثال، فكانت تلك الجمل مشيرة إلى تلك الأحوال، إلا أنها لمَّا تداولتها الألسن في الاستعمال وطال عليها الأمد نُسيت الأحوالُ التي وردت فيها ولم يبق للأذهان عند النطق بها إلا الشعور بمغازيها التي تقال لأجلها.
أما القرآن فقد أوضح الأمثال وأبدع تركيبها كقوله تعالى (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) وقوله (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق) وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) إلى قوله (فَمَا لَهُ مِن نُّور) وقوله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ).
لم يلتزم القرآن أسلوباً واحداً، واختلفت سوره وتفننت، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة، فإن بعضها بُني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال كالحمد، ويا أيها الذين آمنوا، وآلم ذلك الكتاب، وهي قريب مما نعبر عنه في صناعة الإنشاء بالمقدِّمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على الغرض من أول الأمر نحو (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُم) و (بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ).
ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز، وهو مُتنافَسُهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ كان – مع ما فيه من الإيجاز المُبيَّن في علم المعاني – فيه إيجاز عظيم آخر وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه، وبعضها وإن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر، فتحريك الأذهان إليه وإخطارُه بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال أو الانتهاء.
ولولا إيجاز القرآن لكان أداء ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدًا يدق عن تفطن العالم ويزيد عن تبصره.
إنك تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفاً، ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو سياق، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل. قال في الكشاف في سورة المدثر «الحذف والاختصار هو نهج التنزيل»، قال بعض بطارقة الروم لعمر بن الخطاب لما سمع قوله تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون) قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة. ومن ذلك قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) الآية، جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين، ومن ذلك قوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) مقابلًا أوجز كلام عرف عندهم وهو «القتل أنفي للقتل»، ومن ذلك قوله تعالى (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي) ولقد بسط السكاكي في المفتاح آخر قسم البيان نموذجًا مما اشتملت عليه هذه الآية من البلاغة والفصاحة، وتصدى أبو بكر الباقلاني في كتابه المسمى إعجاز القرآن إلى بيان ما في سورة النمل من الخصائص فارجع إليهما.
وأعد من أنواع إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس، وكثر ذلك في حذف القول، ومن أبدع الحذف قوله تعالى (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُون، عَنِ الْمُجْرِمِين، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر) أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم فقلنا ما سلككم في سقر. قال في الكشاف قوله (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر) ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين، أي أن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين. ومنه حذف المضاف كثيراً كقوله تعالى (وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ). وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها نحو قوله تعالى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ) إذ التقدير: فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد: فائدة الحكم العام، وفائدة الحكم الخاص، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم الخاص هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام.
وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب، مثال ذلك قوله تعالى (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) فإبدال (رسولا) من (ذكرا) يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم، وأن وصفه بقوله يتلو عليكم آيات الله يفيد أن الآيات ذِكرٌ. ونظير هذا قوله (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة، رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَة) وليس المقام بسامح لإيراد عديد الأمثلة من هذا. ولعله يأتي في أثناء التفسير.
ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف، والتضمين أن يضمَّن الفعلُ أو الوصفُ معنى فعلٍ أو وصفٍ آخر، ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان.
ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب، وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في المعلقات فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) وقوله (طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ) وقوله (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
وسلك القرآن مسلك الإطناب لأغراض من البلاغة، ومن أهم مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب السامع، وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن زيَّابَة:
نُبِّئت عَمرًا غارزًا رأسه | في سِنةٍ يُوعِدُ وأَخْوَالهُ |
فمن آيات القرآن في مثله قوله تعالى (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي، وَقِيلَ مَنْ رَاق، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق) وقوله (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم، وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون) وقوله (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ).
ومن أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإرادة ما يصلح منها، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما، وبذلك تكثر معاني الكلام مع الإيجاز، وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على أنه منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه. ومن أساليبه الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات حروفها، وهو من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثا) قرئ (عند) بالنون دون ألف وقرىء (عبـاد) بالموحدة وألف بعدها، ومثل (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّون) بضم الصاد وكسرها.
واعلم أن مما يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة، وما سَمَّوه بالرِّقَّة، وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام، ولا تخلو سورة من القرآن من تكرار هذين الأسلوبين، وكل منهمـا بالغ غايته في موقعه، فبينما تسمعه يقول (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم) ويقول (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) إذ تسمعه يقول (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود) قال عياض في الشفا: إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية أمسك بيده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ناشدتك الله والرَّحِمَ إلا ما كَفَفَتَ.
عادات القرآن
يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكَلِمِه. وقد تعرض بعض السلف لشيء منها، فعن ابن عباس: كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر. وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضاً.
وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة: ما سمى الله مطراً في القرآن إلا عذابًا، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا). وعن ابن عباس أن كل ما جاء من “يا أيها الناس” فالمقصود به أهل مكة المشركون.
وقال الجاحظ في البيان «وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس» قلت: والنفع والضر، والسماء والأرض.
وذكر صاحب الكشاف وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة. ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد والاعتراض لمناسبة التضاد.
وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُون، قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين) الآية «جيءَ به ماضياً على عادة الله في أخباره». وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ) «عادة هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعًا كثيرة من الشرائع والتكاليف أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وأحوال القيامة ليصبر ذلك مؤكدًا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع».
وقد استقريْت بجُهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم يَرِدْ بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يُراد بها المشركون من أهل مكة كقوله تعالى (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَآبَاءهُمْ) وقوله (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين) وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات، وفي الإتقان للسيوطي شيء من ذلك.
وقد استقْرَيْتُ أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ قال دون حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا) إلى قوله (أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ).
وأما الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أُودِعَه من المعاني الحكمية والإشارات العلمية فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من الأخبار: قال عمر بن الخطاب «كان الشعر عِلْمَ القوم ولم يكن لهم علم أصح منه».
إن العلم نوعان علم اصطلاحي وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.
وأما العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلاً وآجلاً. وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه. وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلقة، ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقًا كما أشار إليه فخر الدين الرازي.
وقد اشتمل القرآن على النوعين، فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرًا، فان مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم، وقد أشار إلى هذا القرآنُ بقوله (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون، أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِين، أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) وقال (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا) ونحو هذا من محاجّة أهل الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في الشفاء «ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدْقه كخبر موسي مع الخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان»، وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا، بل جاء به دليلاً على الإعجاز من حيث علمه به صلى الله عليه وسلم مع ثبوت الأمِّمَّية، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملاً على التاريخ إلا بإشارات نادرة.
ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلاً كقوله (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ) وكقوله (فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود) ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم، وإنما ذُكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع.
وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم، فينبلج للناس شيئًا فشيئًا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أُمِّيٌّ في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم، والجائي به ثاوٍ بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ) ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما دَرسوه وألَّفُوه.
قال ابن عرفة عند قوله تعالى (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ) في سورة آل عمران «كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان، ومنه هذه الآية، فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام» أقول: وكذلك قوله تعالى (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا).
فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال، قال في الشفاء «ومنها جمعه العلوم ومعارف لم تعهد للعرب، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجة العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) وقوله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم).
ولقد فتح الأَعيُن إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله (لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا)، وقوله (يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) وقال (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون) وقال (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ).
وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هـذا والشاطبي قال في الموافقات «إن القرآن لا تُحْمَل معانيه ولا يُتَأَوَّلُ إلا على ما هو متعارف عند العرب» ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصاداً في البحث وإبقاءً على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفى إعجاز القرآن لأهل كل العصور، وكيف يَقْصُر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد، ولا يفيد أهل كل عصر إدراكُ طائفة منهم لإعجاز القرآن. وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُوتِيَ – أو أعطى – من الآيات ما مثله آمن عليه البشرُ وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليَّ وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه: الأولى أن قوله ما مثله آمن عليه البشر اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومُه أَعْجَبَ به وأعجز عنه، فيؤمنون على مثل تلك المعجزة، ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا. الثانية أن قوله وإنما كان الذي أوتيت وَحْيًا اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأوَّلين أفعالاً لا أقوالاً، كقلب العَصَا وانفجارِ المـاء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر من الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله: فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا إذ قد عُطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أُوتي وحياً وبين كونه يَرْجُو أن يكون أكثرهم تابعًا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان، حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمماً كثيرين على اختلاف قرائحهم، فيكون هو أكثر الأنبياء تابعًا لا محالة، وقد تحقق ذلك لأن المعنىَّ بالتابع التابعُ له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول. ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعًا أي أكثر أَتْباعًا من أَتباع جميع الأنبياء كلهم، وقد أُغفل بيانُ وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ.
وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه، أي مجموع هذا الكتاب، إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا).
وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر: إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا)، وإعجازه لعامة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجل نشأ أمياً في قوم أميين، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان يُنبئهم بعلوم دينهم مع كونه أمياً، ولا قِبَل لهم بأن يدَّعوا أنهم علَّموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدًا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين، ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسَجَّلوا عليه أنه عقهم حق التعليم.
وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتداداً منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلاً من عند الله، وإن كان ذلك ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا، ولا هو كثير في القرآن، وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله. وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله (الم، غُلِبَتِ الرُّوم) الآية، روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب، فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى (الم، غُلِبَتِ الرُّوم، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون، فِي بِضْعِ سِنِينَ) فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى. وذلك قبل تحريم الرهان، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك كثير من قريش. وقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وقوله (لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون) فما حدث بعد ذلك من المراكب مُنَبَّأٌ به في هذه الآية. وقوله (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) نزلت قبل فتح مكة بعامين. وقوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ). وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدِّي به في قوله تعالى في شأن القرآن (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) إلى قوله (وَلَن تَفْعَلُوا) فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبداً وكذلك كان.
وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديراً على الحكم فيما اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب، هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تَقْفُ بها عدة، ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها، بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلام الغيوب وهو مذهب المحققين، أو كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله، وأنه لولا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور البشر، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري.
والأول هو الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به، وعلى اعتباره دوّن أئمة العربية على البلاغة، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الإجمال، فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد الطاهر بن عاشور (1984). تفسير التحرير والتنوير. ج. 1. تونس: الدار التونسية للنضر. ص ص. 101 – 130.
[1] اسمه على الأصح الحسين، وقيل: الحسن بن محمد الطيب بكسر الطاء وسكون الياء، الشافعي المتوفي سنة 73.
[2] الأقراء جمع قرء وهو الطريق.