في تحيزات المصطلح الصهيوني

في تحيزات المصطلح الصهيوني*

أ. د. عبد الوهاب المسيري**

حاول الخطاب السياسي العربي أن يتعامل مع الظاهرة الصهيونية في تفردها وعموميتها، فقد كانت بالفعل ظاهرة جديدة كل الجدة على الشعب العربي سواء في فلسطين أم خارجها: أن تأتي كتلة بشرية تحت رايات الاستعمار البريطاني وتبدأ تدريجيًا في احتلال الأرض إما بالقوة العسكرية أو من خلال شراء الأراضي، إما مباشرة من بعض كبار الملاك أو بشكل غير مباشر من خلال وسطاء، ثم تتحول الكتلة البشـرية الغازية بين يوم وليلــة إلى دولـة تستولي على جزء كبير من فلسطين ثم تقوم بطرد السكان الأصليين يساندها في ذلك العالم الغربي بأسره.

ورغم أن التجربة الصهيونية الاستيطانية تجربة فريدة في كثير من جوانبها، إلا أن هناك جوانب كثيرة منها مشتركة مع ظواهر أخرى مماثلة، أي أنها تنتمي إلى نمط عام متكرر. فهي جزء من الغزوة الاستعمارية التي أخذت شكل استعمار عسكري مباشر في بعض البلدان العربية، فهناك التجربة المصرية والسودانية والعراقية واليمنية مع الاستعمار البريطاني التقليدي، والتجربة السورية واللبنانية والمغربية والتونسية مع الاستعمار الفرنسي، والتجربة الليبية والصومالية مع الاستعمار الإيطالي. وهذا النوع من الاستعمار يأخذ شكل جيش نظامي يغزو بلدًا ما ويحتل ويدير هذا البلد بطريقة تخدم مصالح الدولة الغازية. كما أخذت الغزوة الاستعمارية شكل الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، وهو نقل كتلة بشرية من الغرب وتوظيفها في الشرق، وتؤسس جيبًا استيطانيًّا يستوعب الفائض البشري الغربي ويكون بمثابة قاعدة عسكرية اقتصادية تخدم مصالح الوطن الأم الذي نقل المستوطنين وأمن وجودهم. وهناك أخيرًا الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. ففي جنوب السودان قام الاستعمار البريطاني بنقل (ترانسفير) السودانيين المسلمين منه حتى يجعل الجنوب خاليًا من العرب (بالألمانية: أراب راين Arabrein). والصهيونية تنتمي لهذا الشكل الأخير وإن كان الشكل مختلف، ففي استعمار استيطاني إحلالي، فقد قام ابتداءًا بنقل (ترانسفير) كتلة بشرية غربية بيضاء (يهودية) من أوروبا ووطّنها في فلسطين، لتحل محل السكان الأصليين، الذين تم نقلهم (ترانسفير) خارج وطنهم، أي فلسطين.

وقد أدرك الصهاينة تمامًا أهمية المصطلح وأهمية تسمية الظواهر ونجحوا في إشاعة مصطلحاتهم ومفاهيم بكل ما تحمل من تحيزات عنصرية من خلال الإعلام الغربي الذي يساند المشروع الصهيوني ويشارك في تحيزاته. ولذا نجد أن آلة المصطلحات الصهيونية لا تكف عن الدوران وعن إنتاج عدد كبير من المصطلحات لتغطية كل ما يستجد من متغيرات ومواقف. ولذا علينا أن ننظر للظواهر ونضعها في سياقاتها المختلفة (التاريخية والثقافية والاقتصادية)، ثم نسميها حسبما رأيناها ورصدناها ودرسناها، فنعيد نعريف المصطلح أو نستبدله. وفيما يلي بعض المصطلحات الصهيونية التي سادت والتي اخترقت الخطاب السياسي العربي، مع محاولة تفكيكها لإظهار التحيزات الكامنة فيها.

  • بعض المصطلحات العامة الشائعة:
  1. الصهيونية العالمية:

“الصهيونية العالمية” ترجمة للمصطلح الإنجليزي “ورلد زايونيزم World Zionism”. وقد شاع المصطلح في اللغة العربية، وهو يفترض أن الصهيونية حركة عالمية، أي تمارس نشاطها في أنحاء العالم بين جميع أعضاء الجماعات اليهودية في كل البلاد. ولنضع هذا المصطلح في سياقاته المختلفة لنكتشف أن ثمة خللاً أساسيًا فيه يعود إلى ما يلي:

  • نشأت الصهيونية في الغرب في البلاد الاستعمارية (البروتستانتية) في بداية الأمر ثم تبناها يهود العالم الغربي (في شرق أوربا وغربها) لأغراض مختلفة)، فالصهيونية ليست عالمية من ناحية النشأة، خصوصًا وأن 90% من يهود العالم كانوا يوجدون داخل التشكيل الحضاري الغربي مع نهاية القرن التاسع عشر، وهي المرحلة التي نشأت فيها الصهيونية.
  • كانت الصهيونية ولا تزال جزءًا من التاريخ الاقتصادي والسياسي والحضاري للغرب، والإمبريالية الغربية هي الآلية الأساسية لتحويل الصهيونية من مجرد فكرة إلى دولة استيطانية.

وعلى هذا، فإن الصهيونية لم تنشأ في العالم ككل أو داخل التاريخ العالمي بشكل مطلق أو حتى بين كل أعضاء الجماعات الدينية والإثنية اليهودية المتناثرة في العالم، وإنما هي إفراز تشكيل حضاري محدد في لحظة زمنية محددة ولا يمكن دراستها خارج هذا التشكيل ولا يمكن فهمها دون الرجوع إلى مراحل تطوره وأزماته وطريقة حله لهذه الأزمات، وإن كان هذا لا يعني بطبيعة الحال إسقاط السمات التي تشكل خصوصية الحركة الصهيونية الغربية.

ولعل الإنسان الغربي أطلق صفة العالمية على الصهيونية للأسباب التالية:

  • ينظر الخطاب الإنجيلي إلى اليهود باعتبارهم شعبًا مختارًا وجزءًا من الدراما الكونية التي يتحرك في إطارها تاريخ العالم والعالمين، والتاريخ اليهودي، حسب الرؤية الإنجيلية، تاريخ مستقل عن تاريخ الأغيار، ومع هذا يشكل هذا التاريخ الركيزة الأساسية لتاريخ العالم، وهذا اخطاب الإنجيلي متغلغل تمامًا في الوجدان الغربي.
  • بعد أن ظهرت الصهيونية بين يهود الغرب قامت بصهينة معظم يهود العالم خصوصًا بعد إنشاء الدولة الصهيونية، ومن ثم فهي حركة عالمية بهذا المعنى. ولابد أن نسارع بالقول بأن الغالبية الساحقة من يهود العالم توجد الآن إما داخل التشكيل الحضاري الغربي (فرنسا – إنجلترا – روسيا)، أو داخل التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (الولايات المتحدة – كندا – أستراليا ونيوزيلندا – أمريكا اللاتينية – جنوب أفريقيا – إسرائيل)، وعلى وجه التحديد داخل التشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ساكسوني.
  • الحركة الإمبريالية التي حولت الصهيونية إلى كيان استيطاني هي حركة عالمية رغم أصولها الغربية، فقد جعلت العالم كله مجالاً لحركتها والتهامها وافتراسها. والإمبريالية عالمية لا لأنها حركة نشأت بين كل البشر وإنما لأنها حركة حولت البشر كلهم إلى مستعمِر أو مستعمَر، وتكتسب الصهيونية صفة العالمية من ارتباطها بالإمبريالية الغربية العالمية.
  • يلاحظ أن الأدبيات السياسية الغربية الصهيونية وغير الصهيونية تستخدم كلمة “عالمي” بمعنى “غربي”. ولعل هذا يعود إلى أن الإنسان الأبيض في الغرب في القرن التاسع عشر كان يتصور أنه مركز العالم وقمة رقيه، وأن الحضارات الأخرى حضارات متخلفة ستتطور لتلحق به وتصل إلى النموذج الحضاري العالمي نفسه. ويلاحظ أن هرتزل يتحدث في كتاباته عن ضرورة إقامة المشروع الصهيوني بضمان القانون الدولي العام، ويعني بذلك “القانون الغربي”؛ ولذا والتزامًا بالدقة يجب أن نتحدث عن “الصهيونية الغربية، ويمكن أن نشير إلى “الصهيونية الغربية التي يقال لها عالمية”.
  1. التحدي الحضاري الإسرائيلي:

هذا مصطلح تغلغل تمامًا في الخطاب السياسي العربي، بل وفي الوجدان العربي، وهو يفترض أن التجمع الصهيوني يمثل كيانًا حضاريًّا مستقلاً متفوقًا على الكيان الحضاري العربي، وأن هزيمة العرب العسكرية هي نتيجة تخلفهم الحضاري، وأن العرب لو حذوا حذو الصهاينة لحققوا الانتصار عليهم.

والتحدي الحضاري هو عملية تغطي كل جوانب الحياة، حيث يطرح الآخر رؤية للحياة وأسلوبًا لتنظيمها يحققان نجاحًا على جميع المستويات ويحققان كل إمكانيات الإنسان كإنسان. فالتحدي الحضاري ليس مجرد إنجاز تكنولوچي أو تفوق عسكري، وإلا اضطررنا للقول بتفوق التتار على العرب لأنهم عبروا نهر دجلة على كوبري من المخطوطات العربية، ولقلنا بتفوق البرابرة على الرومان لأنهم نجحوا في غزو روما وتحطيم منجزاتها الحضارية. ومن ثم، فمن الصعب قبول مثل هذا المعيار؛ لأنه معيار أحادي يتجاهل الوجود الإنساني المركب، ولأن التفوق العسكري في نهاية الأمر ليس هو التفوق الحضاري. وقد تحول هذا العنصر الوحيد إلى المعيار الأوحد بتأثير الحضارة الغربية ذات الرؤية الداروينية الصريحة التي منحته مركزية لا يستحقها.

وإذا نظرنا إلى التجمع الاستيطاني الصهيوني الذي يمثل التحدي الحضاري – حسب رؤية البعض – لوجدنا بالفعل مجتمعنا حقق تفوقًا عسكريًّا لا يمكن إنكاره (وإن كان هذا التفوق العسكري أصبح موضع تساؤل بعد إخفاقاته العسكرية المتكررة سواء في الانتفاضة الأولى أم الثانية، وبعد الحرب السادسة مع لبنان)، ولكنه تفوق لم يحرزه بإمكانياته الذاتية وإنما بسبب الدعم العسكري الغربي، بل إن التجمع الصهيوني ككل لا يعتمد على موارده الطبيعية أو الإنسانية وإنما يعتمد على الدعم المستمر من الولايات المتحدة والدول الغربية ويهود الغرب.

وهذا التجمُّع الصهيوني هو مجتمع ذو توجه عسكري واضح تهيمن عليه المؤسسة العسكرية التي ليس لها أي وجود ملحوظ لا بسبب غيابها وإنما بسبب حضورها الكامل العضوي في كل مؤسسات التجمع الصهيوني.

وهذا التجمُّع الاستيطاني الإحلالي، شأنه شأن كل الجيوب الاستيطانية الإحلالية، مبني على الحد الأقصى من العنف الموجه ضد الآخرين وضد الذات، فهو مبني على أكذوبة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وهي أكذوبة لم يعد يصدقها حتى الصهاينة أنفسهم، وهو يحاول أن يكتسب شرعية وجوده إما من خلال قصص ومفاهيم توراتية (لا يؤمن بها معظم المستوطنين الصهاينة ذوي التوجه العلماني الشامل)، أو مفاهيم جيتوية حلولية عضوية لا تختلف كثيرًا عن الأساطير النازية العرقية، ولكنه يكتسب شرعية وجوده في واقع الأمر بالطريقة الغربية المألوفة أي بقوة السلاح.

وهذا التجمُّع لا توجد فيه حضارة متجانسة، فكل مستوطن أحضر معه من وطنه الأصلي خطابًا حضاريًّا مختلفًا، وادعن الدولة الصهيونية أنها ستمزج الجميع في بوتقة يهودية عبرانية جديدة ليخرج منها مواطن جديد، وما حدث هو أن الخطاب الحضاري الجديد المزعوم لم يتشكل وظهر بدلاً منه واقع حضاري غير متجانس، وأصبح الخطاب الحضاري المهيمن هو خطاب الراعي الإمبريالي أي الخطاب الأمريكي.

باختصار شديد التجمُّع الصهيوني ليس مجتمعًا، وإنما هو “تجمُّع” غُرس في المنطقة ليقوم بدور عسكري لصالح الحضارة الغربية، ومن ثم فهو يشكل تحديًّا عسكريًّا وحسب لا تحديًّا حضاريًّا، بل إنه تحدٍّ عسكري جعلنا ننحرف عن الاستجابة للتحدي الحضاري الأصلي الذي طرحته علينا الحضارة الغربية الحديثة، وهو كيف نؤسِّس مجتمعًا حديثًا في إطار منظوماتنا القيمية والحضاريّة.

ولعلنا لا ندَّعي حين نقول إن التحدي الحضاري للأمة التي أنتجت ابن خلدون والمتنبي والغزالي وابن رشد ينبغي أن يأتي من شعب أو حضارة أنتجت أرسطو وماركس وألا يهبط إلى مستوى بناء حضاري متخلف تسيطر عليه الأفكار الجيتوية ويتزعمه أمثال شارون وأولمرت ومن قبله بن جوريون الذي يتصور أنه يحدد سياسة بلاده الخارجية وتحركات جيوشه حسب رؤى العهد القديم وأقوال التلمود وأساطير الأولين بشرط أن يكونوا من اليهود؛ ولذا يمكن أن نقول “التحدي الحضاري المزعوم”.

  1. المؤامرة اليهودية:

من المصطلحات والمفاهيم التي سادت في الخطاب السياسي العربي مصطلح “المؤامرة اليهودية”؛ ولتفكيك هذا المصطلح يجب أن نشير ابتداءًا إلى أن العقل الإنساني، إن لم يجد نموذجًا تفسيريًّا ملائمًا لواقعة ما، يميل إلى ردها إلى يد أو أياد خفية تنسب إليها التغييرات والأحداث كافة. فالأحداث – حسب هذا المنظور – ليست نتيجة تفاعل بين مركب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة والمجهولة من جهة وإرادة إنسانية من جهة أخرى، وإنما هي نتاج عقل واحد وضع مخططًا جبارًا وصاغ الواقع حسب هواه، وهو ما يعني أن بقية البشر إن هم إلا أدوات. ومن أهم تجليات هذا النموذج الاختزالي ما يقال له “المؤامرة اليهودية الكبرى” أو “المؤامرة اليهودية العالمية” والتي تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية يكونون كلاًّ واحدًا متكاملاً متجانسًا، وأن لهم طبيعة واحدة، وأن اليهودي شخص فريد لا يخضع للحركيات الاجتماعية التي يوجد فيها ولا ينتمي إلى الأمة التي يعيش بين ظهرانيها، وهو يقف دائمًا مقابل الأغيار (غير اليهود) إذ أن ثمة خاصية ما في اليهود وخصوصية كامنة فيهم تجعل من العسير على كل المجتمعات الإنسانية دمجهم أو استيعابهم.

ويتسم اليهود (حسب نموذج المؤامرة الكبرى) بالشر والمكر والرغبة في التدمير (فهذه أمور وجدت في عقولهم بالفطرة وهي بُعد أساسي وثابت في طبيعتهم)، وسلوكهم هو تعبير عن مخطط جبار وضعه العقل اليهودي الذي يخطط ويدبر منذ بداية التاريخ والذي وضع تفاصيل المؤامرة الكبرى العالمية لتخريب الأخلاق وإفساد النفوس حتى تزداد كل الشعوب ضعفًا ووهنًا بينما يزداد اليهود قوة، وذلك بهدف السيطرة على العالم (وربما لإنشاء حكومة عالمية يكون مركزها أورشليم القدس). والتاريخ اليهودي بأسره إن هو إلا تعبير عن هذا النموذج وعن هذه المؤامرة الأزلية المستمرة، واليهود من ثم هم المسئولون في كل الأزمنة والأمكنة عن كل الشرور والمنكرات، فهم على سبيل المثال أراقوا دم المسيح (حسب الرواية المسيحية)، وهم الذين وضعوا السم للرسول ، وهم وراء مؤامرة عبد الله بن سبأ ثم أتباعه من بعده للقضاء على الإسلام، وهم الذين قاموا بدس الإسرائيليات دسًّا على الدين الحنيف، بل وينسب إليهم ذبح الأطفال واستخدام دمهم في صنع خبز الفطير الذي يأكلونه في عيد الفصح.

وفي العصر الحديث يرى التآمريون أن اليهود وراء أشكال الانحلال المعروفة والعلنية (وغير المعروفة والخفية) في العالم الغربي والعربي بل وفي كل أرجاء العالم، فهم وراء المحافل الماسونية التي أسسوها أداة لمؤامراتهم، وهم وراء البهائية التي تسعى لإفساد الإسلام وكل العقائد، وهم الذين أدوا إلى ظهور الرأسمالية بكل بشاعتها، والبلشفية بكل إرهابها، والإباحية بكل تدميرها، وهم يسيطرون على رأس المال العالمي، والحركة الشيوعية، ويتحكمون في الصحافة ووسائل الإعلام، وهم الذين ضغطوا على الإمبراطورية الإنجليزية وجعلوها تصدر وعد بلفور، وهم الذين أسقطوا الدولة العثمانية من خلال يهود الدونمة، وهم الذين يحركون الآن اللوبي اليهودي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، ويوجهون الإعلام الأمريكي، ويجندون الصوت اليهودي وذلك حتى يسخروا الولايات المتحدة ويرغموها بما لديهم من نفوذ وسطوة وهيمنة على تحقيق مآربهم وتنفيذ مصالحهم، وهم على اتصال بعالم الجريمة للمساعدة في إفساد العالم. والصهيونية، وفق هذا المنظور، ليست ظاهرة مرتبطة بحركيات التاريخ والفكر الغربي، وليست مرتبطة بظهور الإمبريالية الغربية وهيمنتها على العالم وإنما هي مجرد تعبير عن هذا الشر الأزلي الكامن في النفس اليهودية، الذي يتبدى في الغزو الصهيوني لفلسطين والسوق الشرق أوسطية… إلخ. ومن أهم إفرازات هذا التصور الاختزالي الوثيقة المسماة بروتوكولات حكماء صهيون.

وقد ساعد على نشر التصورات التآمرية عن اليهود شعائرهم الدينية المركبة التي لا يستطيع كثير من الناس فهمها، كما ساهمت النـزعة الحلولية الانعزالية في الدين اليهودي والتصورات اليهودية الخاصة بالشعب المختار والمركزية الكونية والتاريخية التي يضفيها اليهود على أنفسهم في تعميق شكوك غير اليهود فيهم، ومما لا شك فيه أن وجود اليهود بوصفهم جماعات وظيفية متفرقة داخل عديد من المجتمعات الغربية تنتظمها شبكة من العلاقات التجارية الوثيقة التي تحقق من خلالها قدرًا كبيرًا من النجاح التجاري والمالي قد عمق الرؤية التآمرية لليهود، وقد بلغت هذه الشبكة قمة تماسكها وقوتها في القرن السابع عشر حين كانت تنتظم يهود الأرندا في شرق أوربا ويهود البلاط في وسطها وغربها ويهود السفارد في البحر الأبيض والدولة العثمانية وشبه جزيرة أيبيريا والعالم الجديد، وخلق هذا الوجود الإحساس بالتنسيق فيما بينهم. ومع ضعف المجتمعات الغربية وبنائها القيمي بسبب انتشار قيم النفعية والعلمانية، ومع تركز اليهود في كثير من الحركات العلمانية والفوضوية، تعمق الإحساس بأن ثمة مؤامرة يهودية تهدف إلى السيطرة على العالم كما تهدف إلى إفساده.

وفي العصر الحديث، قام العالم الغربي، الذي يدَّعي العلمانية وفصل الدين عن الدولة، بالمساعدة في تأسيس الدولة المسماة اليهودية ودعمها. وتقوم الولايات المتحدة بالتغاضي عن سلوك إسرائيل الاستعماري الاستيطاني، وعن توسعها المستمر، وعن غزوها للبلاد المجاورة لها وعن قمعها المتوحش لثورة الشعب الفلسطيني، وتدخل معها في اتفاقات تعاون استراتيجي وتزودها بالسلاح، وتسمح لها باستخدام الأسلحة النووية وتستخدم حق الفيتو إن حاول مجلس الأمن أن يفرض على إسرائيل تنفيذ قرارات هيئة الأمم المتحدة في الوقت الذي تغزو فيه الدول العربية بحجة أنها تمتلك أسلحة دمار شامل وأنها ترفض تنفيذ قرارات هيئة الأمم. وازدواجية المعايير هذه تجعل البعض في العالم العربي يتصورون أن “اليهود” يهيمنون على القرار الأمريكي وأن هذا جزء من محاولة السيطرة على العالم، متناسين أن الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية لا علاقة لها بإسرائيل أو باليهود، وإنما هي نتيجة قرارات اتخذها صناع السلاح وأصحاب الاحتكارات في الولايات المتحدة.

إلا أن الباحث المدقق سيكتشف أن الرؤية الاختزالية التآمرية لا تختلف في أساسياتها مطلقًا عن الرؤية الاختزالية الصهيونية لليهود، فكلا الفريقين يرى اليهود من خلال رؤية واحدية اختزالية ساذجة تقوم بتبسيط دوافعهم ووجودهم في التاريخ، إذ أنها تسقط عنهم زمنيتهم وتركيبيتهم وإنسانيتهم. فبدلاً من رؤية أعضاء الجماعات اليهودية كجزء من تواريخ بلادهم وحضاراتهم، فإنها تنظر إليهم باعتبارهم كيانًا واحدًا متماسكًا فريدًا يتحرك داخل تاريخه اليهودي الخاص بمعزل عنم المجتمعات التي يعيشون فيها. وبسبب هذا الاتفاق بين الفريقين نجد أن كلاًّ من التآمريين والصهاينة يتحدثون عن ” الشعب اليهودي عبر التاريخ” وعن “الشخصية اليهودية في كل العصور” وعن “العبقرية أو الجريمة اليهودية” في كل زمان ومكان وهكذا.

والخلاف بين التآمريين والصهاينة لا يوجد في التشخيص أو في الوصف أو في المنطلقات أو المسلمات ولا حتى في الحل وإنما في آليات الحل وحسب، أي أن الاختلاف بينهم اختلاف إجرائي بسيط وليس كليًّا وشاملاً. فكلا الفريقين يطرح حلاًّ بسيطًا لمشكلة الكيان اليهودي المتماسك الفريد الذي برفض الاندماج ألا وهو ضرورة خروج اليهود من أوطانهم، ولكن بينما يرى التآمريون وأعداء اليهود أنه لا مناص من استخدام العنف، في هذه العملية (من طرد وإبادة)، فإن الصهاينة يرون أن الحركة الصهيونية يمكنها أن تشرف على عملية الخروج هذه بطريقة منهجية منظمة بحيث لا يوجد أي مبرر للعنف ومع هذا لا يستبعد الصهاينة استخدام العنف كآلية لإخراج اليهود من أوطانهم كما حدث عام 1951م، حينما ألقى عملاء إسرائيل القنابل على أماكن تجمع أعضاء الجماعة اليهودية في العراق لدفعهم للهجرة منها إلى الدولة الصهيونية الناشئة، وكما يحدث الآن حينما تضغط الحركة الصهيونية على الولايات المتحدة لتغلق أبوابها أمام اليهود السوفييت بحيث يضطرون إلى الهجرة إلى إسرائيل.

وفكرة المؤامرة أكذوبة تلائم معظم الأطراف المشتركة في الصراع الإسرائيلي، فإسرائيل تستفيد كثيرًا من هذا الفكر التآمري؛ لأنه يضفي عليها من القوة ما ليس لها ومن الرهبة ما لا تستحق، وهو في نهاية الأمر يجعلها تكسب معارك لم تدخلها قط. كما أن الحكومات الأمريكية المختلفة تفسر للزعماء العرب عجزها عن مساعدة الحق العربي بتعاظم النفوذ الصهيوني وهيمنة اليهود على القرار الأمريكي، أما الحكومات العربية فتفسر تخاذلها وهزيمتها أمام العدو الصهيوني على أساس الأسطورة المريحة نفسها وبالتالي يجد كل من أطراف الصراع تفسيرًا يبدو معقولاً ومقبولاً لوضعه أمام نفسه وأمام جماهيره.

ويجب الإشارة إلى أن إنكار وجود مؤامرة لا يعني إنكار وجود مخطط، فالمخطط هو خطة أو إستراتيجية تعبر عن مصالح دولة ما أو مجموعة من الدول (كما يتصورها أصحابها)، وهي تتبدى من خلال أنماط متكررة لها مسار يعبر عن منطق داخلي يمكن فهمه والتصدي له بمخطط مضاد، فأصحاب المخطط المعادي لنا بشر ونحن بشر والحرب بيننا سجال إلى أن ينصر الله من ينصره. أما المؤامرة فهي خطة سرية وضعها في الظلام بضعة أفراد دوافعهم خسيسة شريرة يحاولون قدر طاقتهم الحفاظ عليها طي الكتمان ويقومون على تنفيذها، ولأن المؤامرة ليست جزءًا من نمط فإنها لا تتبع مسارًا مفهومًا وليس لها قوانينها الداخلية الخاصة والخارجية العامة.

يجب الإشارة إلى أن أصحاب المخطط يمكنهم استخدام المؤامرات لتنفيذ المخطط، ولكن تظل المؤامرات هي الآلية والمخطط هو النمط الأساسي الكامن.

  • مصطلحات ترمي إلى تشويه المقاومة الفلسطينية:

ويمكننا الآن أن نتناول بعض المصطلحات التي روجها الصهاينة لتشويه حقيقة المقاومة الشعبية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وإنكار أساسها التاريخي الموضوعي وتحويلها إلى حالة نفسية.

  1. لماذا يكرهنا العرب؟

يحاول الخطاب الغربي والصهيوني أن يصور الصراع العربي الصهيوني على أنه مسألة نفسية، وأن سببه الحقيقي هو كره العرب لليهود، أي أن مصدر الصراع مسألة ذاتية ليس لها أساس في الواقع، وأن ما تفعله قيادات المقاومة الفلسطينية هو غرس الكره في نفوس الجماهير، وكأن وطن الفلسطينيين لم يُسلب، وكأن إسرائيل لم تقم بالتوسع على حساب الدول العربية ولم تُغرس غرسًا في وسط المنطقة العربية من خلال السلاح الغربي ولم تقسم الوطن العربي إلى قسمين. فإن كان هناك “كره”، فإنه ليس حالة نفسية وإنما له أساس موضوعي. وما تفعله قيادات المقاومة هو إذكاء روح المقاومة في الجماهير وتوجيهها بشكل عقلاني، وتنظيمها حتى تحقق النتائج المرجوة وليس غرس الكره في النفوس! ومع هذا يتساءل الصهاينة والغربيون في دهشة ماكرة ويقولون: “لماذا يكرهنا المسلمون والعرب؟”.

  1. أعمال شغب وأعمال عنف:

بعد اندلاع انتفاضة 1987م، رفض المتحدثون الصهاينة في بداية الأمر استخدام كلمة “انتفاضة” وبدلاً من ذلك كانوا يتحدثون عن “أعمال شغب” و”أعمال عنف”. والهدف من كل هذه المصطلحات هو إنكار أن ما يقوم به الفلسطينيون هو تعبير عن مقاومة شعب احتُلت أرضه، وأن الإسرائيليين هم قوة احتلال.

  1. وقف العنف وضبط النفس:

من المصطلحات المتواترة في الخطاب الصهيوني والأمريكي مصطلحا “وقف العنف” و”ضبط النفس”، وهما عادةً ما يوجهان إلى كل من الفلسطينيين والمستوطين الصهاينة، وكأن ما يجري على أرض فلسطين حرب بين جيشين متكافئين أو شبه متكافئين يحاربان بخصوص قطعة أرض متنازع عليها ولكل فريق حقوق متساوية فيها، وكأنه لا توجد قرارات أصدرتها الأمم المتحدة منذ عام 1949م تعطي أحد الفريقين حقوقًا في أرضه. إن هذه المصطلحات تساوي بين من يحمل السلاح ويدافع عن أرضه وكرامته وإنسانيته من جهة، ومن جهة أخرى من يغتصب الأرض وينكل بأصحابها ويستخدم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية.

و”وقف العنف” و”ضبط النفس” هما مجرد حلقة في سلسلة طويلة من المصطلحات المتحيزة ضدنا، فنحن نرى أن وجود القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية هو احتلال للأراضي الفلسطينية وتؤيدنا في ذلك قرارات الأمم المتحدة، ولكن إسرائيل والولايات المتحدة يستخدمون بدلاً من ذلك عبارة “أرض متنازع عليها disputed territory”. وقد تحدثوا بعض الوقت عن “الأرض مقابل السلام”، وقد تطور هذا ليصبح “الأرض مقابل الأمن” و”الأمن مقابل الأمن” إلى أن تدهور الأمر تمامًا وأصبحت المسألة “الأرض مقابل الكلام”. وكل هذه الشعارات تهدف إلى فرض المفاهيم الصهيونية الأمريكية في السلام، والتي تعني في واقع الأمر نسيان المرجعيات القانونية والدولية والأخلاقية والإنسانية العامة، والاستسلام للأمر الواقع الظالم، وقبول تقسيم دولة فلسطين إلى كانتونات، وبقاء المستوطنات، والرضوخ للمطالب الإسرائيلية في القدس الشرقية، وأخيرًا التنازل عن الحق الفلسطيني التاريخي في عودة اللاجئين الفلسطينيين.

  1. دائرة العنف:

هذا المصطلح يحاول مرة أخرى أن يبين أن الصراع العربي الإسرائيلي صراع لا يمكن حسمه، فهي “دائرة” ما أن تنتهي حتى تبدأ مرة أخرى، وهي تدور لأسباب غير مفهومة، فليس هناك سبب أو نتيجة، ولأنها دائرة تدور بقوة الدفع الذاتي فلا يمكن أن تتوقف إلا بتدخل قوة خارجية. والصراع كما نراه نحن ليس دائرة عنف وإنما هو ظاهرة مفهومة لها سبب، وهو قيام الصهاينة باغتصاب الأرض الفلسطينية، والنتيجة هي أن أصحاب الأرض نظموا أنفسهم وقاوموا المحتل. وهي ليست دائرة تدور إلى ما لا نهاية، فمن معرفتنا بالتاريخ، عادةً ما تنتهي هذه المواجهة بانتصار المستضعفين، كما حدث في الجزائر وجنوب أفريقيا.

  1. الإرهاب:

استخدم الصهاينة وأصدقاؤهم في الولايات المتحدة مصطلح “الإرهاب” الذي يصور المقاومة باعتبارها مجرد إرهاب مجنون نتيجة شر متأصل في النفس العربية، وكره مفطور فيها ليس له أساس قانوني أو أخلاقي، وهذا الشر والكره موجهان ضد اليهود الذين يودون أن يعيشوا في أمان وسلام. بل يتمادى الصهاينة بالقول إن الإرهاب العربي ضد المستوطين الصهاينة إنما هو استمرار لظاهرة معاداة اليهود واليهودية (“معاداة السامية” في المصطلح الغربي)، وامتداد لكره الأغيار لليهود عبر التاريخ.

ومصطلح “الإرهاب” هو إفراز للتصور الصهيوني والأمريكي الذي يرى أن الوجود الصهيوني في فلسطين ليس احتلالاً وإنما هو وجود شرعي لابد للعرب من قبوله إن كانوا عقلانيين، أما إن قاوموه فهم يقومون بعمل إرهابي غير عقلاني غير مشروع. وبطبيعة الحال لا يقول الصهاينة أو الأمريكيون إن شرعية الوجود الإسرائيلي في فلسطين نابعة من القوة العسكرية وحسب.

وللرد على هذه الترّهات لابد من التأكيد على أن الفعل الفلسطيني هو فعل مقاومة، فالظاهرة الصهيونية ليست ظاهرة يهودية وإنما ظاهرة استعمارية إحلالية، ومقاومة العرب لها لا تختلف عن مقاومة الشعوب المقهورة للمستوطنين الغزاة. وتتسم الرؤية الصهيونية الاستيطانية والرؤى الاستيطانية على وجه العموم بأنها تحاول أن تنكر تاريخ الأرض التي احتلها المستوطنون، ففلسطين – حسب تصورهم – هي أرض بلا شعب.

  1. الانتحاريون:

“المنتحر” إنسان سقط في اليأس والقنوط، ووصل إلى مرحلة لا يمكنه معها أن يفعل شيئًا بخصوص الظروف المحيطة به ولا يجد مخرجًا إلا بأن يفجر نفسه، فالانتحار تعبير عن العدمية، وعن الكفر بكل القيم وكل الإمكانات. وهذا ينطبق تمامًا على الجنود الإسرائيليين الذين انتحروا في جنوب لبنان بعد أن تصاعدت عمليات حزب الله ضدهم، ولم تجد النخبة العسكرية وسيلة للرد المناسب على هذه العمليات، وانتهى الأمر بالانسحاب. فما بين فترة التصعيد والانسحاب أدرك الجنود الإسرائيليون أنه لا مخرج من وضعهم وأن موتهم لا معنى له، ففجروا أنفسهم بدلاً من أن يفجرهم استشهاديو حزب الله. وقد أصبح العالم الغربي، مع تصاعد معدلات العلمنة والتوجه نحو اللذة، غير قادر على إدراك نبل الاستشهاد، فيراه تعبيرًا عن رغبة في إنهاء الذات نتيجة لعُقد نفسية، بل ووصفته إحدى الصحف الأمريكية بأنه “عبادة الموتCult of death”.

ولكن الاستشهاد هو عكس ذلك تمامًا، فالشهيد إنسان ممتلئ بالإيمان بالله وبالأمل وبالمقدرة على التصدي للعدو وإنهاء الظلم وتغيير الواقع، وهو يموت ليتحول شاهدًا على أن الإنسان لا يمكن أن يقبل الظلم. فالاستشهاد هو تعبير عن امتلاء إنساني وعن أنبل الدوافع الإنسانية، أي استعداد الإنسان للتضحية بنفسه من أجل القيم التي يؤمن بها. وفي حالة الاستشهادي الفلسطيني فهو يضحي بنفسه من أجل تحرير الوطن وإقامة العدل في الأرض، خاصةً في مواجهة عدو شرس مزود بأحدث الأسلحة الأمريكية الفتاكة. وقال أحد الصحفيين الأمريكيين إن كل فريق يستخدم نظام التوصيل delivery system المتاح له، وإذا كانت إسرائيل تملك طائرات الأباتشي والـ F16، فإن الفلسطيني لا يملك إلا جسده. ولا شك في أن هؤلاء الاستشهاديين لن يفجروا أنفسهم إن حصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة، فالاستشهاد ليس هواية، وإنما فريضة، وهو ليس رغبة نفسية وإنما واجب يقوم به المجاهد إن اضطر إلى ذلك.

  • مصطلحات الحوار والسلام:

فقد حاول الصهاينة من البداية أن يصوروا مشروعهم الصهيوني بأنه مشروع إنساني لإنقاذ اليهود ولتطوير العالم العربي، ولذا كانوا يتحدثون في الماضي عن الأخوة مع العرب والنهوض بهم ويتحدثون الآن عن السلام وضرورة الحوار وأن ما يبغونه هو الأمن وحسب وتطبيع العلاقات مع العرب إلى آخر هذه الترهات. وكما أسلفت لا يمكن أن نترك هذه المصطلحات يتلاعب بها الصهاينة كما يشاءون ويخدعون بها العالم وأنفسهم، خاصةً وأن هذه المفردات من أهم مفردات الخطاب السياسي في معظم أنحاء العالم ولابد من تفكيكها وإعادة تركيبها لنفضح المضمون الصهيوني ولنبين وجهة النظر العربية باعتبارها وجهة نظر إنسانية تبغي العدل. وفيما يلي بعض هذه المصطلحات:

  1. التطبيع:

يمكن القول إننا من دعاة التطبيع، على أن يكون التطبيع مع كيان طبيعي لا يتسم بالشذوذ البنيوي الذي تتسم به الدولة الصهيونية، فرفضنا للتطبيع ليس نتيجة حب للحرب وإنما هو نتيجة الشذوذ البنيوي الذي تتسم به الدولة الصهيونية التي أسست على الأرض الفلسطينية في الوطن العربي، والتي ترى نفسها على أنها ليست دولة لمواطنيها وإنما لكل يهود العالم. ومن ثم فهي تدعو يهود العالم للهجرة إليها وترفض في الوقت ذاته السماح لأصحاب الأرض الأصليين بالعودة إليها. وهي دولة ترى نفسها على أنها امتداد للغرب في الشرق العربي ولا يمكنها الاندماج فيه؛ ولذا فمقومات حياتها ليست من داخلها وإنما من خارجها من خلال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الغربي، والأمريكي خاصةً. إن التطبيع لا يمكن أن يتم إلا مع دولة طبيعية.

  1. الاعتدال والتطرف:

“الاعتدال” من “عدل” أي “سوى بين الشيئين”. و”الاعتدال السياسي” هو أن يأخذ المرء موقفًا ينـزع نحو المهادنة وتقديم التنازلات في سبيل تحقيق قدر من العدل والسلام. و”التطرف” على خلاف “الاعتدال” هو “تجاوز حد الاعتدال”، و”التطرف” في المصطلح السياسي هو أن يتمسك المرء بموقفه وبالحد الأقصى لا يحيد عنه ولا يقبل تقديم أية تنازلات، ولا يتهاون بغض النظر عن الأوضاع والملابسات المحيطة بالوقف. ومصطلحا “الاعتدال والتطرف” شائعان في الخطاب السياسي، فيوصف إنسان بأنه “متطرف” وآخر بأنه “معتدل” حسب ما يتخذانه من مواقف. ولكن ما يغيب عن الكثيرين أن التطرف والاعتدال يقاسان بالنسبة إلى مرجعية كامنة ما، فما هو متطرف من وجهة نظر ما قد يكون اعتدالاً من وجهة نظر أخرى والأمر يتوقف على المرجعية. وما يفوت من يستخدمون مثل هذه المصطلحات أن أسباب الصراع (في المجال السياسي والاقتصادي) ليس لها علاقة كبيرة بما يسمى “العقد النفسية والتاريخية”، وإنما هي في العادة أسباب بنيوية لصيقة بالعلاقات التي توجد في الواقع، فالبنية الشاذة تؤدي إلى الصراع، أي أن القضية ليس لها علاقة كبيرة في كثير من الأحوال مع الحالة النفسية أو مع مدى استعداد أحد أطراف الصراع لإظهار الاعتدال والتسامح؛ ولذا فنحن نذهب إلى أن مصطلحي “الاعتدال” و”التطرف” ليس لهما مقدرة تفسيرية عالية في مجال السياسة والاقتصاد.

والأمر لا يختلف كثيرًا في الصراع العربي/الصهيوني، فسبب الصراع هو الشذوذ البنيوي للكيان الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الذي تأسس على الظلم وتم تحقيقه من خلال الإرهاب والقمع. وما دامت البنية الصهيونية الشاذة مستمرة فلابد أن يستمر الصراع العربي الصهيوني، ومع هذا تم استخدام المصطلحين بطريقة فيها قدر كبير من السيولة وعدم التحدد، وهذا يعود إلى أن المرجعية الصهيونية والحد الأقصى الصهيوني والمسلمات النهائية (تأسيس الدولة اليهودية الخالصة، الخالية من العرب) أخفيت تمامًا عن الأنظار، وأن شعارات مثل “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” و”إرتس يسرائيل التي تمتد من النيل إلى الفرات” أو “على ضفتي الأردن” و”تجميع المنفيين في إرتس يسرائيل” و”نفي (أي تصفية) الدياسبورا” قد أخفيت عن طريق استخدام الخطاب الصهيوني المراوغ، وهو الآلية الصهيونية لإخفاء المرجعية؛ ولهذا نجد أن ما يوصف بالتطرف يومًا يوصف بالاعتدال يومًا آخر وهكذا، إلى أن اقترب “الاعتدال الصهيوني” من المسلمات الصهيونية النهائية والحد الأقصى الصهيوني. فبعد إعلان وعد بلفور عام 1917م كان الصهاينة الذين يطالبون بإنشاء دولة صهيونية يعدون “متطرفين”؛ لأن الحد الأقصى المعلن آنذاك هو وطن قومي وحسب، ولكن هؤلاء المتطرفين أصبحوا معتدلين في الأربعينيات حينما أصبح الشعار الرسمي للحركة الصهيونية هو إنشاء دولة صهيونية وقبول قرار التقسيم والعيش مع العرب في سلام! ومن ثم كان الحديث عن كامل أرض إسرائيل وطرد العرب هو عين التطرف الصهيوني. ولكن بعد أن قضمت إسرائيل أرضًا تتجاوز حدود الأرض المعطاة لها بمقتضى قرار التقسيم، وبعد أن تم طرد العرب أصبح الاعتدال الصهيوني هو تجاوز قرار التقسيم والقبول بالأمر الواقع والتمسك بحدود 1948م وببقاء الفلسطينيين خارج ديارهم. وبعد حرب 1967م كان التطرف الصهيوني هو التمسك بكل أو بعض الأراضي المحتلة بعد عام 1967م وبإقامة المستوطنات فيها، وبالتدريج تغير مثل هذا الموقف الأخير وأصبح الاعتدال هو قبول الأمر الواقع وتجميد المستوطنات مع الاستمرار في تسمينها (أي توسيعها).

وينطبق الموقف نفسه على العرب بطبيعة الحال، فالمعتدل من وجهة النظر الصهيونية هو الذي يقبل الموقف الصهيوني المعتدل ويتغير بتغيره، فالعربي الذي كان يقبل استيطان الصهاينة دون إنشاء دولة كان يعد (منذ عام 1917م وحتى الأربعينيات) معتدلاً ولكنه أصبح متطرفًا بعد ذلك التاريخ. ومن كان يقبل إنشاء الدولة اليهودية وقرار التقسيم عام 1948م كان يعد عربيًا معتدلاً ولكن بعد إنشاء الدولة أصبح مثل هذا الشخص متطرفًا. وظل الأمر كذلك حتى عام 1967م، حيث أصبح الاعتدال العربي هو الرضوخ لحدود إسرائيل بعد عام 1967م، وأصبح تطبيق قرار 242 أو حتى إنقاص المستوطنات في الضفة الغربية هو عين التطرف العربي. ومما يجدر ملاحظته أن الحفاظ على أمن إسرائيل هو دائمًا الحجة التي تساق لتحديد مفهومي الاعتدال والتطرف، وأن مواصفات هذا الأمن تحدده الدولة الصهيونية دائمًا. ويلاحظ في جميع الأحوال غياب مفهوم العدل والتآكل التدريجي لمفهوم المقاومة إلى أن أصبح أي شكل من أشكال “المقاومة” شكلاً من أشكال التطرف والإرهاب.

بعد تفكيك مفهوم “الاعتدال والتطرف”، يجب أن نصر على أننا معتدلون وأن مرجعيتنا هي قرارات هيئة الأمم المتحدة، بما في ذلك تأكيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وأن المتطرف هو من يرفض هذه القرارات ويصر على أن يتصرف على هواه وحسب مصلحته دون اكتراث بالشرعية الدولية الإنسانية. ولذا حينما يتحدث الصهاينة عن المتطرفين الفلسطينيين فإنهم يشوهون الواقع، فهؤلاء “المتطرفون” هم في واقع الأمر مقاومون يدافعون عن حقوقهم الشرعية ويتحركون في إطار الشرعية الدولية، على عكس الصهاينة الذين يتصرفون في إطار أهوائهم ومصالحهم دون أي اعتبار لأي معايير دولية أو إنسانية، فالصهاينة هم المتطرفون وهم الإرهابيون.

  1. الحوار، والحوار النقدي، والحوار المسلح:

الحوار مصطلح يعني حرفيًّا حديثًا يجري بين شخصين. وكلمة “حوار” تفترض شكلاً من أشكال الندية والمساواة. ويلجأ الصهاينة إلى الدعوة إلى الحوار والتفاوض وجهًا لوجه و”الابتعاد عن عقد التاريخ وحساسيات الهوية”، وكأن التاريخ ليس له امتداد في الحاضر، وكأن الهوية مجرد زخرفة، وليس تبديًا لانتماء عميق للوطن وللذات. ومثل هذه الدعوة للحوار دون تحديد المنطلقات والأطر والمرجعيات هي في واقع الأمر دعوة لمحو الذاكرة والتخلي عن القيم، وفي غياب الندية فإن ما يحسم الحوار هو السلاح، أي أنها دعوة للتطبيع من الجانب العربي دون أن يقوم الجانب الصهيوني بإزالة استيطانيته الإحلالية التي تسبب شذوذه البنيوي.

ولكي يكون الحوار مثمرًا لابد أن يبدأ من التاريخ والقيم ومن الواقع، فالبشر ليسوا مثل الفئران عقولهم صفحة بيضاء، فنحن كلنا نحمل عبء الذاكرة والتاريخ والأخلاق وهذا ما يجعلنا بشرًا، ونحن جميعًا نعيش في الواقع وندركه من خلال تجربتنا المتعينة؛ ولذا من الضروري في أي حوار مع الآخر الصهيوني أن نبدأ بتعريف المشكلة لا أن ننساها أو نتناساها، ولابد أن نتذكر أن هناك كيانًا استيطانيًّا إحلاليًّا وكتلة بشرية غازية، وأن هناك “مسألة فلسطينية” متمثلة في شعب فقد أرضه ولم يفقد ذاكرته التاريخية أو هويته المتعينة، ومن ثم هو متمسك بها يناضل من أجلها، ولذا فالمسألة الفلسطينية لا تزال قائمة، أي أن الحوار لابد أن يبدأ بالاعتراف بشذوذ إسرائيل البنيوي وشرعية المقاومة وبالوجود الفلسطيني.

ولابد أن يبدأ الحوار من تقرير الإطار القيمي وأن العدل هو الذي يجب أن يسود وأن العنصرية شيء بغيض، ومن ثم لابد أن يتوجه الحوار لقضية الظلم الذي حاق بالفلسطينيين والتمييز العنصري الذي يلاحقهم في فلسطين المحتلة قبل وبعد عام 1967م.

ويجب أن ندرك أن الحوار أنواع، فهناك الحوار بين طرفين يتفقان في المنطلقات والأطر المرجعية والمبادئ. والهدف من الحوار في هذه الحالة هو تحويل هذا التفاهم العام إلى إجراءات محددة، وهذا هو أسهل أنواع الحوار ويمكن أن يتم بشكل سلمي.

لكن إن كان الطرفان غير متفقين في المنطلقات ولا الأطر ولا المبادئ فيمكن في هذه الحالة إجراء ما يسمى “حوارًا نقديًّا”، وهو حوار يمكن أن يتم على مائدة المفاوضات وعبر وسائل الإعلام حيث يحاول كل طرف أن يبين للطرف الآخر وجهة نظره وعدالتها ويبين عنصرية الآخر ولاعقلانيته.

أما إن كان هناك طرفان غير متفقين في المنطلقات والآراء والأطر المرجعية وكان أحد الطرفين يرفض أي مطلقات أخلاقية ومرجعية ويجعل من نفسه مرجعية ذاته مكتفيًا بذاته، فإن قيام أي حوار يعد أمرًا مستحيلاً، وتسوء الأمور إن كان الطرف الذي نصب من نفسه المرجعية النهائية المطلقة مسلح برؤية نيتشوية داروينية تنطلق من المبدأ القائل بأن البقاء للأصلح بمعنى الأقوى، وأن ما يحسم الأمور هو القوة العسكرية وسياسات الأمر الواقع التي تستند إلى الغزو العسكري، وأن ما لا يؤخذ بالقوة يؤخذ بمزيد من القوة.

ومع هذا، يمكن أن ينشأ نوع من الحوار نسميه “الحوار المسلح”، وهو حين يقوم الطرف الذي وقع عليه الظلم بالمقاومة، فمن خلال مقاومته وإلحاق الأذى بالآخر الظالم وإرسال رسائل مسلحة له. قد يبدأ هذا الآخر في إدراك أن رؤيته للواقع ليست بالضرورة مطلقة ولا نهائية فتنفتح كوة من الرشد الإنساني في سحب الظلم الكثيف، ويبدأ الآخر الظالم في إدراك الظلم الذي وقع على ضحيته ومن ثم قد يعدل موقفه، وهذا يتطلب رصدًا ذكيًّا ومستمرًا من جانب الضحية المقاوم حتى يدرك أن اللحظة قد حانت للدخول في التفاوض مع الآخر الظالم. ولكن هذا لا يعني التوقف عن المقاومة لأنه لو جرى الحوار دون المقاومة المسلحة فإن هذا الآخر حبيس حواسه الخمسة ورؤيته الداروينية قد يرى الرغبة في التفاوض باعتبارها مؤشرًا على استعداد الضحية للاستسلام للذبح مرة أخرى. وقد أدرك الفيتناميون هذا الوضع فدخلوا في حوار مسلح مع الأمريكيين انتهى بالطرفين إلى مائدة المفاوضات، ولكن لم يتوقف الفيتناميون عن القتال إلا بعد انتهاء المفاوضات، وجلاء القوات الأمريكية عن ديارهم.

وقد كان هناك حوار مسلح حقيقي بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين أثناء الانتفاضة توقف مع اتفاقية أوسلو واستؤنف مرة أخرى مع انتفاضة الأقصى. ومن أهم ثمرات الحوار المسلح أن شارون نفسه استخدم كلمة “احتلال” لوصف الوجود العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية والقطاع. أما في جنوب لبنان فقد ظل الحوار المسلح قائمًا إلى أن شعر القادة العسكريون الإسرائيليون أنه لا جدوى من الاستمرار في هذا النوع من القتال فاقتنعوا بوجهة النظر العربية وانسحبوا على أعقابهم خاسرين.

ونحن إذن من دعاة الحوار، ولكنه حوار يستمد مرجعيته مرة أخرى من قرارات هيئة الأمم والأعراف الدولية والإنسانية. والجدير بالذكر أن الإنسان الذي تسقط خريطته الإدراكية يتحول في البداية إلى وحش كاسر يحاول أن يحتفظ بخريطته ويفرضها فرضًا على الواقع، وهذه هي المرحلة الشارونية، ولكن حينما يدرك المستوطنون أن البطش لم يحقق لهم الأمن أو الطمأنينة فإنهم سيبدأون في البحث عن حلول.

  1. السلام الشامل الدائم:

يدَّعي الصهاينة أنهم من دعاة السلام، ولكن كلمة “السلام” كلمة مطاطة للغاية يختلف مضمونها باختلاف السياق الذي ترد فيه، فقد تحدث الرومان عن “الباكس رومانا Pax Romana”، الذي كان يعني فرض الهيمنة الرومانية على العالم. وفي القرن التاسع عشر، وبعد أن حطمت قوى الاستعمار الغربي تجربة محمد علي التحديثية، وقعت معاهدة معه كانت تسمى “معاهدة تهدئة (فرض السلام) على الشام Treaty for the Pacification of the Levant”. وقد استخدم الأمريكيون نفس مصطلح ” Pacification ” هذا للإشارة إلى محاولة غزو فيتنام، وهم الآن يتحدثون عن “الباكس أمريكانا Pax Americana”، أي فرض مفهوم السلام الأمريكي على العالم.

ويمكن الحديث أيضًا عن “السلام الإسرائيلي”، وهو محاولة تهدئة المنطقة وفرض المفهوم الإسرائيلي للسلام عليها. وتبدأ معزوفة السلام الإسرائيلية بالمناداة بالبعد عن عقد التاريخ وأن تتناسى كل دول المنطقة خلافاتها لمواجهة الخطر الأكبر (الاتحاد السوفيتي – الإسلام السياسي)، وأن نقطة البداية لابد أن تكون الأمر الواقع، أي أن إسرائيل تطبق إحدى آليات الخطاب الصهيوني المراوغ وهو فصل النتائج عن الأسباب وعن سياقاتها التاريخي. والمفهوم الإسرائيلي للسلام يفترض أن إسرائيل ليست التهديد الأكبر، مع أن الأمر الواقع الذي يطلب منا أن نبدأ منه يقول عكس ذلك، فهو أمر واقع مؤسس على العنف ويؤدي إلى الظلم والقمع، وهو ليس ابن اللحظة وإنما هو نتيجة ظلم تاريخي ممتد من الماضي إلى الحاضر، وهذا الظلم والقمع هو مصدر الصراع والحروب والاشتباك، فالمسألة ليست عقدًا نفسية أو تاريخية وإنما بنية الظلم التي تشكلت في الواقع، ولا يمكن تأسيس سلام حقيقي إلا إذا تم فكها.

وبعد تناسي عقد التاريخ يطالب الصهاينة بوقف المقاومة واستسلام الفدائيين مقابل تسليم بعض المدن والقرى لا تنسحب منها القوات الغازية وإنما يعاد نشرها، وهذا ما يسمونه الأرض في مقابل السلام. والقوات الإسرائيلية لا تنسحب لأن أرض فلسطين هي أرض الشعب اليهودي والقوات الوطنية لا تنسحب من أرض الوطن وإنما يعاد نشرها وحسب، فالعدو يصر على المرجعية النهائية لمصطلحاته. ولذا رغم اتخاذ هذه الخطوة الرمزية الإعلامية فإن الاستيطان سيستمر على قدم وساق والقدس ستظل عاصمة إسرائيل الأبدية.

إن كل هذه التصورات للسلام تنبع من إدراك أن أرض فلسطين هي إرتس يسرائيل، وأن الإسرائيليين لهم حقوق مطلقة فيها أما الحقوق الفلسطينية فهي مسألة ثانوية، فالأرض في الأصل أرض بلا شعب. وتتبدى هذه الخاصية بشكل واضح ومتبلور في المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي.

وتصور إسرائيل لمستقبل المنطقة لا يختلف كثيرًا عن ذلك، فالمركز هو إسرائيل وهي التي تمسك بكل الخيوط أما بقية المنطقة فهي مساحات وأسواق، وإسقاط عقد التاريخ هنا يعني إسقاط الهوية التاريخية والثقافية بحيث يتحول العرب إلى كائنات اقتصادية تحركها الدوافع الاقتصادية التي ليس لها هوية أو خصوصية، وهنا تظهر سنغافورة كصورة أساسية للمنطقة وكمثل أعلى: بلد ليس له هوية واضحة ولا تاريخ واضح، نشاطه الأساسي هو نشاط اقتصادي محض، وحينما يتحول العالم العربي إلى سنغافورات مفتتة متصارعة تكون الإستراتيجية الاستعمارية والصهيونية للسلام قد تحققت دون مواجهة ومن خلال “التفاوض” المستمر.

إن السلام الذي تنادي به إسرائيل ليس سلامًا شاملاً دائمًا وإنما هو سلام مؤقت لأنه مبني على الظلم، فهو لا يحاول تحقيق العدل من خلال إعادة صياغة بنية العلاقات وإنما هو مجرد ترجمة لموازين القوى القائمة في أرض المعركة، ولذا فإن أحد الطرفين يقبله إذعانًا وليس اقتناعًا ويظل يتحين الفرص لإعادة تعديل موازين القوى لصالحه، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى بتوقيع معاهدة فرساي. وهذا السلام الأخير هو سلام مبني على الحرب، ولذا فهو في واقع الأمر حالة من اللاحرب واللاسلم قد يختلف عن وقف إطلاق النار الذي عادة ما يستند إلى اتفاقية مؤقتة تتيح للأطراف المتحاربة فرصة لالتقاط الأنفاس ولإنجاز أمور إنسانية أساسية، مثل قضاء عيد أو السماح بمرور معدات طبية أو مرور بعض الأطفال، ولكنها لا تختلف كثيرًا عن الهدنة التي تستند إلى اتفاقية لا ترقى إلى مستوى حالة السلام، فهي فترة يرى فيها الطرفان (أو أحدهما) أن بالإمكان الإبقاء على حالة الحرب إلى أن تسنح فرصة لتحقيق انتصار عسكري، والسلام الشامل الدائم في الشرق الأوسط لابد أن يتوجه لكل من المسألة الإسرائيلية والمسألة الفلسطينية ويجد حلولاً لهما.

ونحن نذهب إلى أن الحل العادل الشامل للمسألتين الإسرائيلية والفلسطينية غير ممكن داخل الإطار الصهيوني العنصري، الاستيطاني الإحلالي، فهو إطار يولد الصراع بطبيعته لأنه ينكر حقوق الفلسطينيين الذين طردوا من بلادهم ويؤكد حق يهود العالم في الأرض الفلسطينية، والحل الوحيد الممكن يقع خارج هذا الإطار حين يقوم أعضاء التجمع الاستيطاني الصهيوني بنزع الصبغة الصهيونية الاستيطانية/الإحلالية عن الدولة الصهيونية.

وحل المسألة الإسرائيلية يمكن أن يأخذ شكلين متناقضين، ففي حالة ممالك الفرنجة (الممالك الصليبية في المصطلح الغربي) في فلسطين وحولها تم تصفية هذه الممالك بالقوة العسكرية ورحل أهلها إلى بلادهم بعد أن مكثوا حوالي قرنين من الزمان. ولكن هناك أيضًا الحل السلمي، ففي الجزائر بعد ثورة المليون شهيد ظهرت حكومة قومية من سكان البلد الأصليين وأعطت المستوطنين الفرنسيين حق البقاء والمواطنة والإسهام في بناء الوطن الجديد، ولكنهم آثروا العودة إلى بلدهم الأصلي أي فرنسا، وهناك كذلك الحل الذي تطرحه جنوب أفريقيا إذ تم تصفية الجيب الاستيطاني العنصري دون تصفية جسدية للعناصر البيضاء ذات الأصول الغربية التي كانت تهيمن على النظام القديم وتحافظ على بنية الاستغلال العنصرية وتستفيد منها، ثم عرض على أعضاء هذه الكتلة البشرية البيضاء أن يندمجوا في النظام العادل الجديد المبني على المساواة بين الأجناس، وأن يتعاونوا معه حتى يمكن الاستفادة منهم ومن خبراتهم، وهذا ما فعله معظمهم. وليس هناك ما يمنع من تطبيق نموذج جنوب أفريقيا في الانتقال السلمي من حالة الحرب والظلم إلى حالة السلم والعدل في فلسطين المحتلة، فهو حل لا يستبعد أحدًا ويعطي كل ذي حق حقه، وقرارات هيئة الأمم المتحدة المختلفة (الخاصة بحق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، ورفض ضم الأراضي بالقوة) تصلح كإطار دولي قانوني أخلاقي لحل المشكلة، وهو إطار تقبل به الجماعة الدولية والمعايير الأخلاقية والإنسانية.

إن تحقيق السلام في فلسطين ليس مسألة مستحيلة، ولكنه لا يمكن أن يتم داخل الإطار العنصري الصهيوني. وإذا كانت الجماعة الدولية تريد حقًّا السلام فعليها أن تطلب من الدولة الصهيونية اتخاذ خطوات محددة مثل قبول قرارات هيئة الأمم النحدة بما في ذلك حق العودة للفلسطينيين ومثل إلغاء قانون العودة الصهيوني وكل المؤسسات الصهيونية الأخرى مثل الصندوق القومي اليهودي، والانسحاب من الضفة الغربية وغزة، وبعد ذلك يمكن لأطراف الصراع أن تجتمع لمناقشة المشاكل الإجرائية الناجمة عن الوضع الجديد. ولكن المفاوضات هنا لن تكون بخصوص المنطلقات والحقوق غير القابلة للتنازل، وإنما ستكون بخصوص الإجراءات وحسب.

  1. نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية:

هذا المصطلح ليس جزءًا من الخطاب الصهيوني، فالصهاينة يتهمون العرب دائمًا بأنهم يخططون لارتكاب هولوكست (محرقة) ضد الإسرائيليين وتحطيم دولة إسرائيل، مع أن ما يطلبه العرب هو إقامة العدل وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وهو أمر لا يمكن إنجازه إلا من خلال “نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية” (بالإنجليزية: دي زايونياز dezionize). وينطلق هذا المصطلح من إدراك أن الصراع القائم في الشرق الأوسط الآن ليس نتاج كره عميق وأزلي بين العرب واليهود أو بين اليهود والأغيار، وأنه ليس نتيجة العقد التاريخية والنفسية (كما يدَّعي الصهاينة)، وإنما هو وضع بنيوي يولد الصراع ونشأ عن تطور تاريخي وسياسي وبشري محدد، ومادام هذا الوضع قائمًا فسيظل الصراع قائمًا، وأنه لا سبيل لإنهاء الصراع إلا من خلال فك بنية الصراع ذاتها.

ولا يمكن توقع أي سلام في إطار بنية القمع والظلم والعدوان هذه، أي في إطار الدولة الوظيفية الصهيونية الاستيطانية، بينما يمكن أن نتحرك نحو قدر معقول من السلام من خلال نزع الصبغة الصهيونية الاستيطانية عنها، ونزع الصبغة سيؤدي بلا شك إلى فك الجيب الاستيطاني الصهيوني. ومثل هذا الأمر ليس مخيفًا أو فريدًا، فجميع الجيوب الاستيطانية الأخرى بلا استثناء قد تم فكها وانتهت الظاهرة الاستيطانية البغيضة إما برحيل المستوطنين الغزاة الوافدين أو استيعابهم (هم وأبنائهم) في السكان من أصحاب الأرض الأصليين. ونزع الصبغة الصهيونية الذي نقترحه لا يعني إبادة الإسرائيليين أو هدم دولتهم أو القضاء على هويتهم الإسرائيلية أو اليهودية (كما يحلو للبعض أن يصور الأمر)، وإنما يعني خلق الإطار القانوني والسياسي والأخلاقي الذي يزيل أسباب التوتر والصدام.

وعودة الفلسطينيين هي جزء لا يتجزأ من عملية نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية الاستيطانية، وحق العودة هو حق أساسي من حقوق الإنسان. وفي الميثاق العالمي لتلك الحقوق مادة تنص على حق كل مواطن في العيش في بلاده أو تركها أو العودة إليها، وهو مرتبط بحق الملكية والانتفاع بها والعيش في الأرض المملوكة، وحق الملكية لا يزول بالاحتلال، وهو مرتبط أيضًا بحق تقرير المصير الذي اعترفت به الأمم المتحدة كمبدأ منذ عام 1946م.

لقد اعتبر السماح بعودة اللاجئين أحد الشروط التي وضعت لقبول إسرائيل عضوًا بالأمم المتحدة عام 1948م، وثمة قرار صريح وشهير أصدرته الجمعية العامة تحت رقم 194 لسنة 1948م، قررت فيه أن اللاجئين الراغبين في العودة إلى أوطانهم والعيش بسلام مع جيرانهم يجب أن يسمح لهم بذلك في أول فرصة عملية ممكنة، وأنه يجب التعويض عن ممتلكات الذين لا يرغبون في العودة ودفع تعويض عن الخسائر والأضرار التي أصابت الممتلكات لإصلاحها وإرجاعها من قبل الحكومات والسلطات المسئولة بناءً على القانون الدولي والعدالة.

إن مقولة نسيان الماضي والتطلع إلى المستقبل تزدري العقل الإنساني وتهينه لأننا لا نعرف إنسانًا يمكن أن ينسى وطنه لمجرد أن هناك من يدعوه إلى شطبه من ذاكرته، ويبلغ ذلك الازدراء ذروته خصوصًا إذا صدرت الدعوة من الطرف الإسرائيلي الذي يستمد كل شرعيته من الماضي ويعتبر قادته أن التوراة كتاب لتسجيل المدن ورسم الخرائط على حد تعبير إسحق رابين.

وعادةً ما يقول الصهاينة إن عودة الفلسطينيين تعني أن الدولة الصهيونية ستفقد طابعها اليهودي، وهم محقون في ذلك تمامًا. ولكن الرد على ذلك أن الدولة التي تُبنى هويتها على التمييز العنصري لا تستحق البقاء، فالدولة اليهودية هي دولة حصرية استبعادية تسقط الحق المتعين للإنسان الفلسطيني للعودة إلى أرضه ومنزله اللذين تركهما منذ عدة سنوات تحت الضغط والتهديد وبالقوة. وهي تسقـط هذا الحق ولكنـها تتحدث في الوقت ذاته عن الحق المجرد لليهودي للعودة بعد أن ترك فلسطين منذ آلاف السنين. وهي تسقط حق العودة بالنسبة للفلسطينيين الذين يقرعون بوابات وطنهم يودون العودة إليه، وتؤكده بالنسبة ليهود العالم الذين يرفضون العودة، حتى أنه تم السماح لمئات الأسر من اليهود السوفييت المشكوك في يهوديتهم ويهود الفلاشاه الذين لا تربطهم رابطة دينية باليهودية الحاخامية بالاستيطان في فلسطين المحتلة. بل إن بعض الحاخامات اليهود الأرثوذكس، سعوا إلى زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية، قاموا بتهويد بعض الهنود الحمر في بيرو، وبالتالي أصبح لهم حق العودة إلى أرض أجدادهم ثم قاموا بتوطينهم هناك.

والله أعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  المقال منشور في: مجلة المسلم المعاصر. ع. 122. 2006. ص ص. 169- 196.

 ** أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية البنات جامعة عين شمس.

عن عبد الوهاب المسيري

شاهد أيضاً

غزة وبداية جديدة للتاريخ

أ. مهجة مشهور

نتابع منذ شهور ما يجري على أرض غزة الطاهرة من قتل وتدمير وتجويع واستباحة لكل المعاني الإنسانية، ويتساءل البعض كيف يمكن لهذه الجرائم أن تتم على مرأى ومسمع من العالم دون محاولات حاسمة من قِبل الدول الكبرى لإيقاف هذه الكارثة الإنسانية. بل على العكس إننا نرى هذه الدول تدعم بالسلاح والمال مَن يقوم بهذه المجازر.

ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية

تأليف: أ. د. طه عبد الرحمن

عرض: د. شيرين حامد فهمي

كتاب "ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية"، للمؤلف "طه عبد الرحمن" يشد انتباه القاريء العربي المسلم من أول وهلة. فهو لا يمس فقط قضايا مركزية وجوهرية في صميم الوعي العربي الإسلامي، إنما يمس أيضاً شغاف القلب والفؤاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.