نظرية ليبرالية عن الدين

نظرية ليبرالية عن الدين

تعاني الدول الغربية الليبرالية من مشاكل جوهرية مع تزايد وزن التيار اليميني المسيحي وتزايد أعداد المسلمين بها، ويحاول كتاب Cécile Laborde المعنون بـ Liberalism’s Religion [1] علاج هذه المشكلة بأسلوب مختلف وجديد.

وهذا المقال هو تقرير عن كتاب سيسيل لابورد نشر باللغة الفرنسية على موقع La Vie des idées للباحث[2] Jean-Fabien Spitz بتاريخ 11 أكتوبر 2017 بعنوان Une Théorie Libérale de la Religion*.     

يجب أن تضمن الدولة الليبرالية حرية الاعتقاد لرعاياها، وتحتفظ هي بالحياد. فالبلاد التي تعلن عن هويتها الليبرالية، أي التي تدَّعي احترام الحريات الشخصية، لديها مشاكل في تقنين علاقتها بالديانات الموجودة على أراضيها بصورة مرضية. فإلى أي حد يجب أن تمتنع الدولة عن استخدام “مرجعية” دينية في أي خطاب أو فعل صادر عنها؟ وإلى أي مدى يكون من حقها منع أو تقنين أي ممارسات دينية؟ في الحالات القصوى يكون الأمر واضحا؛ يحظر على الدولة الليبرالية أن تُكْرِه مواطنيها على اعتناق أي معتقد ديني، أو احترام شعائر ديانة ما. ويحظر عليها كذلك منع ممارسة الشعائر الدينية أو التعبير عنها بأي صورة طالما أنها لا تتعدى على حقوق الآخرين، أو تتعارض مع المصلحة العامة، وهو ما يطلق عليه الأميريكيون مصطلح “حرية الاعتقاد”. إلا أن الأسباب الحقيقية التي يبنى عليها هذان التعريفان غير واضحة، ويزداد الارتباك وعدم وضوح الرؤية كلما اقتربنا من وسط الطيف. فمثلًا هل يعتبر يوم الراحة الإجباري في الأسبوع، يوم الأحد (على حساب السبت أو الجمعة) انتهاكا للالتزام بالحيادية؟ ومن جانب حرية الاعتقاد: هل يحق للدولة منع ارتداء الحجاب الكامل، أو ارتداء غطاء الرأس في الجامعات، أو المدارس؟ حول هذه الأسئلة لا يمكن أن نجد خطوط واضحة كفيلة بالإجابة عليها.

توضيح الحدود بين الدولة والدين: مهمة مستحيلة؟

 يعتقد بعض الناس أن هذه الأسئلة ليس لها إجابات، وأن الدولة الليبرالية للأسف يظهر عوارها إزاءها. فالدولة تفرض سلطتها بإملاء لوائحها الخاصة، ويبقى تبرير هذ اللوائح بالنسبة إليها “مهمة مستحيلة”. فالحدود التي تضعها مذبذبة، فهي تنم عن تمييز واضح لصالح الديانات الفردية ، على حساب الديانات القائمة على الممارسات الجماعية، وتمارس (الشعائر الدينية). وفي الواقع، فإن الليبرالية نفسها هي شكل من دين علماني متأثر بشدة بالديانة المسيحية، فهي تهتم كثيرا بحرية الإرادة، والاقتناع الداخلي، وتتصف بعرقية مفرطة بعدم اعترافها بخصوصية كل الديانات الأخرى. وهكذا، فإن الدولة الليبرالية تنتهك بنفسها قوانين الحيادية التي تعلن الالتزام بها: فهي تحدد ما هو ديني وما هو غير ديني، وهي بهذه الطريقة تتورط في الإشكالية اللاهوتية التي تدعي الابتعاد عنها. فالدولة تنظم الدين تبعا لمتطلباتها الخاصة، وهكذا فهي تنظم “الديني” بمفهومها.

ويهتم كتاب سيسيل لابورد بمواجهة هذا التحدي، والقيام بهذه “المهمة المستحيلة” كما يعتبرها بعضهم: وهي وضع تعريف محدد، وفقا لمبادئ الليبرالية، لحقوق الدولة وحقوق الأفراد، فيما يتعلق بقضية الدين، وتأسيس هذه الحقوق على أسس متينة.    

النظريات التقليدية عن الحياد الليبرالي.

تعتقد سيسيل لابورد أن هناك ثلاث نظريات تدرس الحياد الليبرالي:

تؤكد أولى هذه النظريات أن الدولة الحيادية -وبالتالي الليبرالية- هي التي لا تستدعي في تبرير أفعالها مفهومًا شاملًا عن الحياة السوية، أو المقاصد النهائية للحياة الإنسانية، أو القيم التي ينبغي أن توجه مسار المواطنين.

وترى النظرية الثانية أن الدولة الحيادية –الليبرالية- ليست هي التي تساوي في تعاملها مع مختلف الأديان فقط، وينبغي ألا تتضمن تشريعاتها أي امتيازات خاصة أو ممارسات محددة لاعتقاد معين، ومن ناحية أخرى لا تتشدد في التعامل مع معتقد ديني دون الآخرين، أو تقلص من حقوقه أو حرياته بحجة طبيعته الدينية.

أما النظرية الثالثة، فترى أن الدولة محايدة وبالتالي ليبرالية، إذا كانت لا ترجع في تبرير أفعالها إلى أفكار لا يتشاركها جميع المواطنين  لطبيعتها العقدية.

لدينا إذن ثلاث محاولات على أساس ليبرالي لتحديد حقوق الدولة وحقوق المواطنين: الأولى أخلاقية (لا للتبريرات التي تستدعي مفهوم الحياة السوية)، والثانية قائمة على العدالة (لا تمييز بين معتقدات أو ممارسات دينية، أو معتقدات أو ممارسات غير دينية)، والثالثة فلسفية معرفية (لا لاستعمال أفكار لا يتشاركها كل المواطنين). وتقول سيسيل لابورد: إذا كانت هذه المفاهيم الثلاثة هي التي بحوزتنا، فإن المهمة تصبح مستحيلة؛ فكل منها رغم الإيجابيات التي تتضمنها وفتحها مجال لتحليل خصب، إلا أنها تفتقد لبعد هام في المسألة:

فالنظرية المؤسسة على الحياد الأخلاقي تقدم ميزة عدم استبعاد كل الأفكار الأخلاقية من الخطاب العام، ولكنها تستبعد فقط تلك التي تتعارض مع حرية المواطنين في رسم حياتهم وفقا للأفكار التي يؤمنون بها عن الحياة الناجحة. فأفكار الخير العام (مثل الحفاظ على البيئة) تعد مقبولة حيث إنها لا تتعرض للاستقلالية الشخصية للأفراد. ولكن في المقابل، يتجاهل هذا الأساس  أن التشريع العام الذي لا يتضمن أي مفهوم عن الحياة السوية يمكن بالرغم من ذلك أن يكون له تأثير قلق على بعض فئات المجتمع. ومن ذلك، التشريع الخاص بالحجاب، يمكن أن يكون له تبريرات تتعلق بالمصلحة العامة، ولكنها تعتبر غير مناسبة بل وتؤثر بصورة بالغة على من يولون أهمية كبيرة لهذه الممارسة الدينية، بل يعتبرونها واجب عقائدي. ويعترف المناصرون لنظرية الحياد الأخلاقي بهذا الواقع، وهم بهذا الاعتراف يهدمون أسس التمييز التي تنبني عليها نظريتهم؛ وهي التمييز بين التبرير المحايد (لازم لتحقق الشرعية الليبرالية)، وبين التأثير المحايد (وهو مستحيل التحقق). فالحدود بين العام والخاص، باعترافهم، لا يمكن ترسيمها بدون الرجوع إلى تعريف واضح للحياة السوية، وكل ما له أهمية من أجل حياة ناجحة.    

أما التأسيس لليبرالية على أساس عدم التمييز فهو مأزق آخر، فليس هناك تحديد معياري لما هو  مهم أو خاص في المعتقدات أو الممارسات الدينية للمطالبة بمساواتها مع غيرها من المعتقدات. بيد أنه، وبدون الخوض في تحليل كامل للنظرية، نجد أن لها قيمة ليبرالية أساسية، وهي أنها لا تتضمن انتقاصا لقيمة الهوية الأخلاقية أو التعامل بازدراء للبعض من قبل الدولة، فيصبح لدينا الحق في عدم الاستبعاد، والحق في التمثيل، وفي اعتبار الجميع عناصر كاملة الحقوق في المجتمع. ولكن على الجانب الآخر، فإن هذا التبرير المساوي بين الجميع يحاول تجاهل أن الأديان والالتزامات الأخلاقية، لها أهمية خاصة لدى معتنقيها لأنها جزء لا يتجزأ من هويتهم، كما أن النظرية لا يمكنها تفهم، أنه في حال أي تمييز من قبل الدولة ضد بعض المواطنين بسبب معتقداتهم الدينية، فإنها تشكك في هويتهم، وإمكانية دمجهم باعتبارهم عناصر كاملة الحقوق في المجتمع المدني.

وأخيرا تأتي نظرية التأسيس على مبدأ معرفي يعمل على تحديد نوعية الأفكار التي يمكن أن تتواجد بطريقة مشروعة في الخطاب العام، ولكن هذه النظرية تسقط في خطأ أساسي وهو الالتزام فقط بالأفكار المشتركة بين الجميع أو المفترض كونها مشتركة. إلا أن، سيسيل لابورد، ترى أن ثمة أفكار غير مشتركة بين الجميع، ومثار حولها خلاف شديد لا يمكن تجاوزه، إلا إنها يجب أن تكون موجودة في الخطاب العام. هنا يرتكب مناصرو النظرية المعرفية خطأ باعتبارهم كل الأفكار الدينية غير مشتركة، وغير مستوعبة، بيد أن، وفقا لسيسل لابورد، فإن هناك أفكار يمكن اعتبارها من أصل ديني ولكنها بالرغم من ذلك قابلة للاستيعاب رغم كونها غير مشتركة. إن هذه الأفكار حتمية في المناقشات حول العدالة في الخطاب العام، دون المساس بالطابع الليبرالي للدولة، لأن هذا الطابع لا يعتمد على استبعاد أي فكرة قد لا تكون مشتركة، ولكن فقط على استبعاد أي فكرة لا يمكن لبعض المواطنين تفهمها. فالملحد لا يمكنه تفهم معنى التأكيد على أن حياة الإنسان مقدسة، لكنه يستطيع أن يفهم التأكيد على أن الجنين إنسان له حقوق.

هذه المحاولات الثلاثة لشرعنة الليبرالية تجمعها صفة مشتركة.  فجميعها ترفض التحليل الوصفي البحت للدين وتميل لتحليل تفسيري. فبدلا من محاولة القول ما هو ديني وما هو غير ذلك، فإنها تسعى إلى تحديد ما هي العناصر ذات الأهمية المعيارية في الدين – والتي توجد أيضا في أفكار أخرى أو مفاهيم أخلاقية – وهي من الأهمية بمكان بحيث لا تستطيع الدولة أن تثبت شرعيتها إلا بالامتناع عن التدخل فيها، فضلا عن اعترافها بأنها لا تشكل عائقا في إمكانية التعايش في وئام معها. إن تحديد هذه الصفة المشتركة يسمح لسيسيل لابورد بإدخال استراتيجيتها الحجاجية الخاصة، والتي تتكون من تفكيك مفهوم الدين، وفصل جزئياته من أجل اكتشاف مكوناته التي لها هذه القيمة المعيارية. وهي تسعى، من خلال هذه الاستراتيجية، أن تحقق هدفًا مزدوجًا، أولًا أن كل ماهو ديني ليس أرضا محظورة، بحيث أن مجرد ذكر الدلالات الدينية لا يدمر بالضرورة الطابع الليبرالي للدولة.  وأن تؤكد، من الجهة الثانية، أن الدين عند تناوله من زاوية أخرى، لا يمثل شيئا خاصا، حيث تشمل بعض النظريات عن الخير عناصر هامة معياريا، يجب ألا تمسها الدولة التي تدعي الليبرالية.

النواة الأولية لليبرالية

والنتيجة التي توصلت إليها سيسيل لابورد هي ما أطلقت عليه النواة الأولية لليبرالية والتي تكمن في ثلاثة مبادئ: أن تكون الدولة الليبرالية قادرة على الدفاع عن مواقفها، وأن تكون دولة لكل مواطنيها بدون تمييز، وأخيرًا أن وتحترم الحرية الفردية . وسنرى فيما بعد، بما أن هذه المبادئ الثلاث ليست ذاتية التعريف، فإنها يجب أن تستكمل بمبدأ رابع – مبدأ الديمقراطية- والذي يؤكد أن الأمر بيد الشعب الحاكم لترسيم حدود هذه المبادئ الثلاثة.

فكرة أن الدولة الليبرالية يجب أن تكون قادرة على الدفاع عن مواقفها Justifiable تعود إلى الأساس المعرفي؛ حيث القول بأن ممثلي الدولة لا ينبغي أن يستدعوا أسبابا “غير متفق عليها من قبل الجميع “، أو أنه لا ينبغي أبدا إكراه المواطنين على أمر ما بحجة أسباب لا يستطيعون فهمها ولا تقييمها، كما هو الحال على سبيل المثال في قيام الدولة بتبرير رفضها لإضفاء الشرعية على “الانتحار بمساعدة الغير”، بحجة أن الأفراد الذين يطلبون الموت يعانون من خلل نفسي، وأنه من المستحيل التأكد من إرادتهم الحقيقية، فإن هذا التبرير مفهوم ومقبول من الجميع رغم أنه له أساس ديني ولكن لا يتم اللجوء إليه. بعض الأسباب ذات “دلالات دينية” واضحة ترفض الزواج المثلي، إلا أنه يمكن تبريرهذا الرفض على أساس أن الزواج بين الجنسين هو شرط أساسي لتربية متوازنة للأطفال. إن فائدة هذا المبدأ أنه يغني عن تقديم تعريف ديني، ولكنه يعتمد فقط على تعريف معرفي: فبعض الأسباب مرفوضة، أيا كان مصدرها، لأنها بعيدة عن الإدراك، ولكن وعلى العكس من ذلك، فإن جميع الأسباب، أيا كان مصدرها، مشروعة إذا كانت متاحة الفهم للجميع. مما يتيح للدولة أن تمارس ما يمكننا أن نطلق عليه مثالية معتدلة وتشجيع بعض الأفكار التي تحض على الخير دون أن تنتفي عنها صفة الليبرالية (على سبيل المثال: فكرة أن الانسياق للإدمان يفتقد للأخلاقيات).

أما مبدأ أن الدولة الليبرالية يجب أن تكون “دولة لكل مواطنيها” يستند إلى مبدأ المساواة، إذ يجب على الدولة الامتناع عن اتخاذ هوية من شأنها أن تبعث شعورا بالضعف أو الدونية أو امتهان قيمة أولئك الذين لا ينتمون لهذه الهوية. واعتماد دين رسمي للدولة حري أن ينتهك الشرعية الليبرالية ليس لأنه يتعارض مع الحرية الدينية بالمعنى المجرد (رغم أن تعريف هذه الحرية يعد “مهمة مستحيلة”)، ولكن لأن مثل هذا التبني من شأنه أن يبعث رسالة استبعاد وإهانة لأتباع الديانات غير الديانة الرسمية ولغير المؤمنين بها. وبهذا المعنى، فإن إعلان الدولة عن هوية دينية معينة من شأنه أن ينتهك مبدأ عدم الإقصاء المدني، وكذلك أي إعلان من قبل الدولة عن هوية عرقية ،أو ثقافية، أو جنسية، تبعث نفس الرسالة.

على العكس من ذلك، يمكن للدولة، وفقا لسياق الأحداث، أن تضفي الصبغة الدينية على كلماتها وأفعالها دون المساس بهويتها الليبرالية؛ وهذا في حال إذا كانت هذه التأكيدات ليس لها أي تأثير يؤدي لشق الصف، أو يعبر عن أي ازدراء ولا أي رغبة في إقصاء أي شخص، بل ينظر إليها في إطار التذكير ببعد تاريخي، مثل عادة شجرة عيد الميلاد، فأصبح السؤال ينصب حول معرفة ما إذا كان إنشاؤها يحمل مغزى يثير الشقاق أم لا. في حين أن ثمة رموز أخرى، لا تستدعي الفكرة الدينية قد تحمل قيمة شقاقية ويتوجب استبعادها لهذا السبب.

أخيرا، الفكرة القائلة بأن الدولة الليبرالية يجب أن تحترم الحرية الفردية، تعول على المبدأ الأخلاقي. فلا تعد الدولة ليبرالية إذا لم تحترم حرية الأفراد في تقرير المصير، أي عليها عدم التدخل في حياة الفرد إلا عندما يضر بالمصالح المدنية للآخرين.

إن تفكيك مفهوم الدين إلى عناصر هامة من الناحية المعيارية له فوائد واضحة جدا. وأهمها تفهم ضرورة التخلي عن أي محاولة لتوصيف الحدود بين الدين والدولة، فهي عملية غير مجدية، يفضل إحلالها بهذا النوع من التفسير الذي من شأنه إجلاء الأفكار الأبرز باتباع معايير محددة، سواء في الدين أو غيره من مجالات التمثيل والممارسة، مما يستتبع أن تمتنع الدولة عن الخوض فيها. وأخيرا، يمكننا بفضل هذا التحليل الخروج من إشكالية وجود الدلالات الدينية في الخطاب العام بما لا ينفي صفة الليبرالية عن الدولة طالما توافر فيها قابليتها للإدراك الجمعي، وأنها لا ترتبط بأخلاقيات شخصية، ولا ترسل رسالة إقصاء مدني لأي طرف. ومن جهة أخرى، فإن تضمين الخطاب العام ما  يتعارض مع واحدة من هذه الخصائص – كما هو الحال في الحظر على ارتداء الحجاب والذي يرسل رسالة إقصاء واضحة – فإنه يتعارض بشكل واضح مع الطابع الليبرالي للدولة.

المبدأ الديمقراطي

والمشكلة هنا أن هذه المبادئ الثلاثة ليست ذاتية التعريف وبالتالي فإنها تحتاج إلى مبدأ رابع هو الديمقراطية فالدولة ذات السيادة يمكن أن تفصل ديمقراطيا في الحالات مثار النزاع، فتقرر إذا كانت الحجج قابلة للفهم العام أم لا، أو إذا كانت هوية الدولة تبعث رسائل إقصاء أم لا، وإذا كانت الدولة تجبر الأفراد على الالتزام بأخلاقيات لم يختاروها، أم تكفل حريتهم. وبطبيعة الحال، فالأمر يتعلق بالديمقراطية، وليس باتخاذ القرارات بالأغلبية، بمعنى أن القرار يجب أن يفسح المجال أمام تمثيل الأقليات، في إطار الدستور، ويخضع لمراجعة دستورية من قبل هيئة قضائية مستقلة.

مشكلة الإعفاءات

وتبقى مسألة أساسية لابد من ذكر مبادئ التفكير فيها. ما هي الحالات التي يمكن للدولة فيها أن تعطي بعض المجموعات الدينية أو الأفراد الحق في عدم الخضوع للقانون العام؟ وما هي التبريرات لمثل تلك الإعفاءات؟ وهنا أيضا، تقترح سيسيل لابورد اللجوء إلى الاستراتيجية التفسيرية التفكيكية فمثلًا ما الذي يبرر أن تأخذ الدولة بعين الاعتبار، حق أي جمعية دينية أوغيرها، في عدم احترام بعض القوانين العامة؟ الجواب هو أن هذه الجمعيات قد تكون لها مصالح واضحة وفقا لمعاييرها، تتطلب منها ممارسة تخالف القانون. ومن ذلك أن الكنيسة الكاثوليكية، وفقا لمعاييرها، لديها خصوصية واضحة في عدم احترام القانون الذي يحظر التمييز في التوظيف حسب الجنس، لأن أحد معتقداتها الأساسية هو أن الاعتراف أمام امرأة لا قيمة له. هنا يتعين على الدولة الديمقراطية اتخاذ قرار بشأن الأهمية المعنوية الخاصة للمصالح المزعومة، علاوة على الحكم على النتائج المترتبة على هذا الإعفاء إذا كانت مقبولة ديمقراطيا، فضلا عن شرعية هذا المبدأ.

وينطبق نفس الشيء على الإعفاءات الممنوحة للأفراد، والمعيار في الموافقة عليها، ليس من منطلق ديني، أيا كانت هذه المعتقدات الدينية، ولكن مدى أهميتها أخلاقيا، بمعنى معرفة ما إذا كان هذا الحظر القانوني أو ذاك يمنع الأفراد من العيش بنزاهة وفقا لما ترتضيه ضمائرهم. عندما يقدم طلب إعفاء باسم هذه النزاهة – سواء دينية أم لا – يجب النظر فيه، وهذا بالطبع لا يعني وجوب الموافقة على منحه. أما الاستثناءات التي تنتهك صراحة حقوق الآخرين فيتم رفضها في الحال، ولكن الاعفاءات التي تخالف مبدأ من مبادئ العدالة والذي يثير نزاعات جوهرية، فيمكن منحها إذا قدرت الإرادة الديمقراطية صلاحيتها. وفي مثل هذه الحالات، يجب الموازنة بين الأهمية الأخلاقية للاقتناع الفردي، والعائق الذي قد يمثله الرفض القانوني للعيش وفقا للنزاهة الأخلاقية المبتغاه، وبين الأهمية المدنية للمصلحة التي يفترض القانون حمايتها، وإمكانية حمايتها بوسائل أخرى خلاف المنع القانوني الموحد.

تمت المهمة ؟

يتضمن التحليل الذي اقترحته سيسيل لابورد إضافات إيجابية لا يمكن إنكارها لأنه يكسر مشكلة الفصل بين ما هو ديني وما هو غير ديني، هذا الفصل القائم على التوصيف بشكل عام،  والذي يقف عائقا أمام أي حل مرض. ويتيح هذا التحليل، بطريقة ما، فهم أن الدين ليس لديه خصوصية تميزه عن المعتقدات الأخلاقية الأخرى. كما يساعد التحليل على فهم أن الدولة لا تسقط عنها صفة  الليبرالية إذا أشارت في خطابها العام إلى بعض الأفكار أو الدلالات الدينية، لأن بعض المفاهيم المتعلقة بالعدل بين البشر قد تحمل مرجعية دينية بصورة أو بأخرى دون أن تخل بالمبادئ الثلاثة لنواة الليبرالية، ومن ثم تكون مطبقة ومفعلة بين الأغلبية، مع الأخذ في الاعتبار بطبيعة الممارسة الديمقراطية.

ترجمة

أ. أميرة مختار

باحثة ومترجمة مصرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. Cécil Laborde, Liberalism’s Religion. Cambridge: Harvard University Press, 2017. 338P. 31, 48.

[2] المقالة متاحة على الرابط التالي http://www.laviedesidees.fr/Une-theorie-liberale-de-la-religion.html

*. قامت الأستاذة أميرة مختار بترجمة هذه الدراسة بتصرف.

عن أميرة مختار

شاهد أيضاً

الاقتصاد الرقمي “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العملات الرقمية المشفرة

تفكيك الرأسمالية

وهم النقود

تأملات في الوضع البشري

العنوان: تأملات في الوضع البشري: الأسئلة الكبرى للوباء الكوني

المؤلف: صلاح سالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.