قوة القداسة: تصدع الدنيوة واستعادة الديني لدوره

العنوان: قوة القداسة: تصدع الدُنيَوَة واستعادة الدينى لدوره.

المؤلف: عبد الرزاق بلعقروز.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: بيروت.

الناشر: منتدى المعارف.

تاريخ النشر: 2014.

الوصف المادي: 256 ص.، 21 سم.

الترقيم الدولي الموحد:  2-081-428-614-978.

عبد الرزاق بلعقروز: (1981) هو باحث جزائري وأستاذ جامعي في الفكر الفلسفي المعاصر وفلسفة القيم الأخلاقية وإشكالات الحداثة والدين. فاز عام 2019 بجائزة الشيخ زايد للكتاب لفئة أفضل مؤلف شاب عن كتابه “روح القيم وحرية المفاهيم، نحو السير لإعادة الترابط والتكامل بين منظومة القيم والعلوم الاجتماعية”. 

يتكون كتاب “قوة القداسة” من مدخل ثم ينقسم الى قسمين: القسم الأول: الإطار النظري ويتكون من ثلاثة فصول. والقسم الثاني الإطار التطبيقي ويتكون من فصلين. ثم تأتي خاتمة عامة للكتاب.  

مدخل

فاعلية القداسة ونحو افتتاح أفق الحكمة بدلًا من الفلسفة

يشير الكاتب في هذه المقدمة الى أن هذا الكتاب جاء نتاج مكابدة روحية، وأنه ليس من صنف الكتابة التي يتقنها من وصفهم على أنهم أصحاب “ميتافيزيقا الحقيقة الأكاديمية”، معترفًا بأن هذه المكابدة الروحية كانت “بدافع القلق حول مصير رسالة الإيمان على الأرض، من يحمل همها؟ ومن يتكبد روحها؟ ومن تسري في كيانه، من أجل أن يمسح بإسفنجة الإيمان عتمة العلمنة، وليل الضلال ويعيد للقيم فاعليتها”.

ويؤكد الكاتب في مقدمته على أن المقدس هو مصدر الفعالية، أي أنه الطاقة الوحيدة القادرة على الأخذ بالإنسان مجددًا الى نبع الحياة ونبع القيمة، ويعرف الكاتب القداسة بأنها القداسة الدينية القادرة على تخليص العالم من التآويل الإنسانية، ومن الدنيوة Secularisation التي أدت بالإنسان الى التعلق الشديد بالدنيا وجعلها الهدف النهائي للحياة مع الابتعاد عن القيمة. ويرى الكاتب أن هذه الدنيوة الكاسحة هي التي أخرجت القداسة أو الإيمان الديني مجددًا الى الحياة ودفعت به الى أن يستعيد دوره. هذا الخروج جاء نتيجة رد الفعل العكسي أو قانون انتقام القيم المخذولة والمستبعدة، وهو ما لم ينتبه اليه العقل الغربي الذي نسي في غمرة انتصاره أن ثمة إرادة ترقد خلف مشروع القداسة.

إن قوة القداسة نابعة من تجذرها في التراث الثقافي للإنسان، فتركيبة الثقافة شبيهة بالطبقات الجيولوجية المتراكمة فوق بعضها البعض، هذا التركيب تكون الطبقة الأقوى فيه هي الطبقة الأعمق، أي أن خلف قشرة الحداثة والعقلنة والعلمنة التي أُريد لها أن تثبت وترسخ ثمة الطبقة الأقوى، وهي طبقة تستعيد قوتها متى أصبح إنسانها مهددًا في جوهر وجوده أي في إيمانه ونظام قيمه.

ويؤكد الكاتب أن قوة القداسة واستعادة الديني لدوره هي “ذات توجه كوني لا خصوصي”، بمعنى أن قوة القداسة باتت تفرض نفسها في العالم ككل، العربي منه والغربي.

يستكشف الكاتب في هذه الدراسة حقيقة عودة الديني في فضاء الفكر والممارسات المعاصرة، ودلالات هذه العودة. كما يعمل على تعريف القارئ بمظاهر قوة القداسة، وعجز إرادة الدنيوة على الإمساك بخريطة العالم ونسج قيمته على منوالها.   

القسم الأول

الإطار النظرى

إرادة العلمنة الكاسحة وقوة القداسة: محكات الثورة والحداثة

الفصل الأول

القداسة الدينية والتغيير الثوري

يبدأ الكاتب هذا الفصل بالإشارة الى الصلة القوية بين التدين والتغيير، فيسوق مجموعة من المبررات وراء التعرض لهذه الإشكالية:

  • أن ثمة أفولًا لعناوين فكرية كالليبرالية أو الحداثة الغربية، وبروز لدور الديني ومركزيته في المشهد الثقافي المعاصر.
  • اعتماد مفهوم المقدس الديني كوحدة تحليل من أجل مقاربة التغيرات التي تشهدها المجتمعات العربية.
  • التفكير في آليات جديدة من أجل قراءة المقدس الديني وصلته بشبكة العلاقات الاجتماعية.

 ثم يقوم الكاتب بالتعريف بالقداسة الدينية فيعرفها بأنها القداسة لحقائق معنوية أصلها الدين التوحيدي وليست قداسة لشيء أو زمن وضعي. والقداسة الدينية تمتاز بشمولية مفرداتها لكل مجالات الحياة، فهي تقدم تفسيرًا نسقيًا للوجود برمته وتعمل على صياغة حياة الإنسان وتوجيه تفكيره ورسم نظام قيمه.

والدين بهذا المعنى يتكون من أربعة أركان أساسية: الاعتقادات الشاملة أي نسق إدراكي كلي للوجود- القيم الروحية التي تزود الإنسان بقوة نفسية وطاقة كبرى تعينه على إنجاز مهمته الاستخلافية- القواعد الموجهة وهي القواعد والأحكام الشرعية- النماذج الحية وهي الشواهد التي تجسد هذه الاعتقادات والقيم والقواعد.

والقداسة الدينية بهذا المعنى تعتبر التغيير إحدى الآليات القوية من أجل تنزيل مقتضيات القداسة الإسلامية على الحياة، أو استعادة طاقتها التوجيهية إذا ما جمدت ظروف أو وقائع هذا التنزيل.

ويؤكد الكاتب في هذا الفصل على هشاشة المشاريع الحداثية والعلمانية التي نظرت الى الوعي الديني على أنه مجرد عقيدة لا تتعدى الالتزام الفردي، فعملت على إزاحة المقدس من مركزيته الى الهامش، وإعادة تجربة الحداثة الغربية في تدميرها للمقدس، وجلب الوسائل الفكرية والعملية لترشيد العالم، بحيث ينهض الفرد بأعبائه من دون أن تكون هناك حاجة للخضوع لقوى متسامية. ويرى الكاتب أن عودة الديني الى الحياة هو مؤشر على أن مشاريع التحديث قد وصلت الى مصدر المعنى الذي يأخذ منه المسلم تفسيره للحياة، فجاء رفضه لها تمسكًا بذاته الحضارية وطاقته الروحية.

الفصل الثاني

وحدة العقلنة والعلمنة في مشروع الحداثة الغربية

يرى الكاتب أن العقل قد شكل مرجعية قوية في المشروع الحداثي الغربي، بتحويله  من مصدر من مصادر المعرفة يتسم بالمحدودية الى نسق فكري لا يعطي دلالة الا للموضوعات التي تستجيب لمبادئه ووحداته المنهجية، وتبعًا لذلك لم يعد من مفردات معجم الحداثة الكلام عن مشروع إلهي يحكم الإنسانية. وقد نتج عن الحداثة العقلانية مجموعة مآلات كان من أهمها:

1-اختزال المعرفة في تنمية دوافع القوة والهيمنة، ونزع القداسة عنها: وقد بلغت العلمنة ونزع القداسة عن المعرفة قمتها عند نيتشه الذي قام بشطب كل إحالات المعرفة نحو عالم آخر غير العالم الأرضي.

2-هيمنة العقل الأداتي واستعماره للحياة: وكانت مدرسة فرانكفورت في طليعة الاتجاهات الفلسفية التي أبانت لاعقلانية العقل الذي اصطلحت على تسميته ب”العقل الأداتي” أو “الإجرائي”، وهو عقل لا يهتم كثيرًا بالغايات والقيم.

3- متتالية العلمانية والرؤية العلمانية للوجود والتاريخ: حيث انتقلت العلمانية من مفهومها الأول المتضمن فصل الدين عن الدولة وعدم التعرض للشؤون الخاصة، الى العلمانية الشاملة التي حولت العالم الى مادة استعمالية وسوق رائج للتجارة بغرائز البشر وتهميش أو إلغاء الوحي كمصدر من مصادر المعرفة يرقى بالإنسان الى مراقي روحية ومعرفية وعمرانية تكوِن صورة تركيبية متكاملة للإنسان.

وبعد نقده للعقلانية الحداثية الغربية انتقل الكاتب الى عرض لمفهوم العقلانية التوحيدية من أجل التأسيس لحداثة إسلامية بديلة، حداثة ترتكز على الرؤية الإيمانية في صوغ مرجعية العقل. هذه العقلانية الإسلامية تقوم على مرتكزات أساسية، من أهمها:

1-تضافر العقل والإيمان من أجل ترشيد مسيرة الإنسان.

2-وحدة التفسير والقيمة أو الآية والمعنى في قراءة الطبيعة: فالإسلام يوجه العقل الى العالم الخارجي، الى الطبيعة باعتبارها كتاب مفتوح ليس للقراءة العلمية فقط ولكن أيضًا لقراءة الدلائل على الحضور الإلهي، فيحدث التآخي بين عالمين يجدان أصلهما في توحيد الله تعالى.

3- من تضاد الملكات الإدراكية الإنسانية الى تكاملها: تكامل بين العقل والقلب، تكامل بين النظر والعمل، تكامل بين العقل والشرع.

الفصل الثالث

نقد إرادة الكونية في الحداثة الغربية

ينتقل الكاتب في هذا الفصل الى نقد فكرة كونية الحداثة الغربية التي يبشر بها الخطاب الغربي المعاصر، والسعي الى التأكيد على خصوصية الحداثة الغربية. ويرى الكاتب أن الكونية ليست فرض نموذج حداثي كلي وعالمي تنفعل به الخصوصيات الثقافية الأخرى، إنه لا يعني الواحدية الثقافية، بل إن الكوني جملة من الخصوصيات الثقافية تشبه الفسيفساء الفنية، فالملمح الجوهري للكونية هو المقدرة على الكون ضمن الأفق الكوني.

أما الحداثة الغربية فهي بالأساس تتسم بالخصوصية باعتبارها إرادة قوة تسعى الى إخضاع الأنماط الثقافية الأخرى لنموذجها، وباعتبارها قائمة على الانفصال عن القيمة وقيام ممارساتها السلوكية على الرؤية الطبيعية وتوابعها من اللذة والمنفعة والقوة.            

القسم الثاني

الإطار التطبيقي

استعادة الدين لدوره فى القيم والمعرفة

الفصل الرابع

تفعيل القيم باعتبارها القوة الجوهرية للنهضة الجديدة

ينتقل الكاتب فى هذ القسم إلى عرض نموذجين تطبيقيين لاستعادة الدين لدوره فى القيم والمعرفة، يتمثل النموذج الأول في مشروع مالك بن نبي، والثاني في مشروع عبد الوهاب المسيري.  

وقد أفرد الكاتب هذا الفصل لتسليط الضوء على النواة المركزية التى راهن عليها “مالك بن نبى” من أجل استيفاء الشروط لدخول دورة حضارية جديدة، وهو ما أسماه بـ (علم تجديد الصلة بالله)، فمالك بن نبي يسعى الى تجديد الطاقة الأخلاقية وتفعيل الاهتمام بمشروع “انتفاضة القلب” من أجل تأسيس النهضة المعنوية الجديدة في مقابل النهضة المادية. ويشير الكاتب هنا إلى أن موضوع هذا العلم هو القيم الأخلاقية الإيمانية ذات المصدر الدينى، وذلك من جهة البحث فى كيفية نقلها من دائرة الوجود إلى دائرة الحضور، ويأتي الكاتب هنا بعبارة علي عزت بيجوفيتش: “كل قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي، فكل ما يراد تحقيقه لابد أن نبدأ بتحقيقه أولًا في أنفس الناس”.

ويرى بن نبي أن دور هذه المنظومة القيمية الإيمانية يتمثل فى إعادة النسيج الاجتماعى إلى توازنه، وهذا النسيج يتكون من العوالم الثلاثة التى عليها مدار الإصلاح الحضارى وهما: الأشياء والأشخاص والأفكار، فلا يطغى عالَم على الآخر.

ويشخص بن نبي أزمة المسلم المعاصر في انطفاء جذوة الفعالية والحركة الإيمانية في حياته. وأورد الكاتب هنا تأكيدًا على هذا الرأي بعبارة علي عزت بيجوفيتش: “إن الإخلاص للكتاب لم يتوقف ولكنه فقد خصوصيته الفاعلة، فقد القرآن سلطانه كقانون ومنهج حياة واكتسب قداسته (كشيء)”.

ثم قام الكاتب بعرض وجهة نظر مالك بن نبي النقدية للحركات الإسلامية الإصلاحية مثل حركة جمال الدين الأفغاني وعبد الحميد بن باديس وجهود الشيخ محمد عبده وغيرهم، فيرى بن نبي أن هذه الحركات الإصلاحية افتقرت الى المنهج العلمي كما أنها أغفلت المرحلة الروحية التي تجعل من النفس المحرك الجوهري للتاريخ الإنساني.

إذن يؤكد بن نبي دائمًا على أهمية العامل الروحي، حيث ثمة وحدة بين الفعالية والقوة والدافعية. والحركة لا يمكن أن توجد دون مقدمات مرتبطة بالوعي والإرادة.

ويتعمق الكاتب هنا في ماهية علم “تجديد الصلة بالله” المقترح من بن نبي وعلاقته بالتصوف وعلم الكلام وفلسفة التربية. ثم يعرض المحاور المركزية الكبرى التي راهن عليها مالك بن نبي من أجل إنجاز هذا العلم الجديد، وهي:

  • من معرفة الله الى الاتصال به: حيث ينتقد بن نبي علم الكلام الذي يسعى الى البرهنة على وجود الله، في حين أن التحدي الأكبر هو إشعار الناس بوجوده تعالى. ويشير الكاتب هنا الى أن بن نبي في هذا المقام يتبنى موقف محمد إقبال، كما يلتقي مع رأي إسماعيل راجي الفاروقي.
  • مركزية العلوم الأخلاقية والنفسية في الكشف عن “علم تجديد الصلة بالله”: حيث نبه بن نبي على أهمية استخدام المعجم النفسي والاجتماعي والتربوي من أجل فهم كيف تؤثر القوة الدينية على النفس الإنسانية.
  • الفكر المستعمل كغاية لعلم تجديد الصلة بالله: فالقيمة الجوهرية للفكر –كما يراها بن نبي- لا تستمد من إطاراته النظرية، وإنما من قيمته العملية أيضًا. وهنا يذكر الكاتب مساهمة طه عبد الرحمن في هذا الأمر في كتابه سؤال العمل، حيث وضع طه ضوابط ترتب الصلة المنهجية بين العلم والعمل، وهي مبدأ تقديم اعتبار العمل (فكل مسألة لا يترتب عليها عمل لا فائدة منها)، ومبدأ العمل المستعمل(أي لا يتعلم المرء من العلم الا ما يعمل به)، ومبدأ العلم النافع.

الفصل الخامس

المعرفة والقداسة في فكر عبد الوهاب المسيري

يشير الكاتب هنا إلى أن مشكلة المعرفة والقداسة فى الثقافة تعد أم المشكلات جميعًا فيقول “فنحن إزاء جدل بين رؤيتين إلى العالم، واحدة تجرده من دلالاته الإيمانية والأخروية وتنزع عنه لباسه المتجاوز، والثانية لا تقطع مع هذه الإحالات إنما تتأسس عليها”.

لذلك يسعى الكاتب ضمن هذا الجزء إلى الكشف عن حقيقة الجدال بين المعرفة والقداسة، فالمعرفة الموجودة حاليًا هى معرفة مفعمة بروح التأويل الغربي للعالم، فهى ليست معرفة حقيقية وصحيحة، إنها تأويلات فحسب، جلبت الفوضى والتشويش.

 ويبرر الكاتب اختياره للمسيري في هذه المسألة، مسألة المعرفة والقداسة، كون المسيري قد نجح في تحليله لأصل المعرفة، واستخراج الآليات التى تم استخدامها فى شطر الصلة بين القداسة والمعرفة. فنزع القداسة عن العالم من وجهة نظر المسيري “يؤدي الى ظهور نزعة امبريالية تنظر للعالم باعتباره مادة نافعة للإنسان يمكنه توظيفها لحسابه ويصبح الهدف من المعرفة هو زيادة التحكم”.

إن المعرفة تقع بين جدليتين، وهو في الأصل وصل الجزئي بالكلي أو الفرع بالأصل، بمعنى أن علمنة المعرفة أو تقديسها تابعة للرؤية الكلية للوجود.

وينتقل الكاتب لتحليل منابع العلمنة في المعرفة، من النظرة الهيلينية الطبيعية المادية والمذهب الديكارتي ثم فلسفة نيتشه والنظرية الداروينية.

 ويشير الكاتب الى أن المسيري قد أدرك في تحليله كيف هيمن النموذج المادي، وكيف فصل مشاريع الحداثة عن أية قيم أو مقاصد متجاوزة، وكيف اختزل الظاهرة الإنسانية المركبة الى عنصر واحد هو العنصر العضوي المادي. فقد هيمن النموذج المادي وصار أداة تحليلية قوية، يجيب عن الأسئلة الكلية ويختزل رحابة الوجود الى مبدأ مادي واحد. فالمرجعية الكبرى للنموذج المادي هي الفلسفة المادية كرؤية للعالم وتفسير له.

والمعرفة في ظل النموذج المعرفي هي مجرد ” انعكاس للواقع الخارجي في عقولنا عبر إحساستنا وتراكم المعطيات الحسية على صفحة العقل البيضاء”. أما منهج تحصيل المعرفة تبعًا لهذه القاعدة الفلسفية المادية، فهو الرصد التجريبي للظواهر، ومراكمة المعلومات. إذن فالعقل المنفصل عن القداسة والمختزل الى الوظيفة الإجرائية والرصد التجريبي يعد عرضًا على تحقق مشروع العلمنة ونزع القداسة عن المعرفة.

يفرق المسيري هنا بين موضوعين للعقل: الأول باعتباره أداة من أدوات إدراك الحقيقة، من خلال المنهجية التجريبية التي ترصد الواقع باعتباره كمًا وأرقامًا ومادة، وهذا هو العقل الأداتي الإجرائي. والثاني يدرك الموضوعات الإنسانية المركبة بأدوات من جنس الحدس والخيال والإلهام.

وبالتالي فإن حذف القداسة عن النموذج الإدراكي وعن أداة الإدراك وهي العقل يستتيع إلزاميًا حذف القداسة عن وظيفة المعرفة ومقاصدها. وقد رصد المسيري هذه المسألة بقوله “أن الهدف من المعرفة في الإطار المادي ليس الوصول الى الحكمة والتوازن مع الذات والطبيعة، وإنما الهدف هو التحكم في الواقع وغزو الآخرين وهزيمتهم وتسخيرهم لصالح الأقوى”.

إن إفراغ المعرفة من المقاصد المتعالية يرى فيه المسيري إفرازًا للنسبية مما سيؤدي الى تحرر الإنسان من الرؤى الكلية، واختفاء المعيارية وحلول العدمية التي تنفر من الأسس والمقاصد.

ينتقل الكاتب بعد ذلك الى تجربة المسيري الخاصة، فقد نما المسيري في مجتمع عربي مسلم وتلقى مبادئ الإيمان والقيم الدينية منذ طفولته “فالرؤية الإيمانية –كما قال المسيري- كانت كامنة في وجداني وأخذت شكل الإيمان بالإنسان على أنه كائن متجاوز”، هذه الرؤية لم تقدر أعتى الانعطافات المادية والماركسية اقتلاعها، وكأن المسيري –كما يرى الكاتب- عاد الى الإيمان من حيث أراد الخروج منه. فقد تكون وعيه الإيماني بمرجعيتين: الأولى نتاج الرؤية الإيمانية الكامنة. والثانية نتاج وعي بعجز النموذج المادي عن إحاطته بظاهر الأشياء وباطنها.

وأخيرًا أشار الكاتب الى أن المسيري لم يتوقف عند مرحلة التشخيص المعرفي للنموذج المادي، ولكنه سعى الى صوغ نموذج معرفي بديل لا يقطع مع القداسة. وهذه التجربة شكلت روحًا متحدة مع مشاريع فكرية وحضارية تقف على أرضية مشتركة هي أرضية إنجاز مشروع المعرفية الإسلامية الذي تبناه المعهد العالمي للفكر الإسلامي. إلا أن الكاتب لم يستطرد كثيرًا في هذا الموضوع.   

عرض

أ. نسرين حسن*

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  باحثة في العلوم السياسية

عن نسرين حسن

شاهد أيضاً

الفلسفة – المنهج – الفكر “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التباسات الحداثة

المعرفة المستدامة

مغامرة المنهج

في نقد التفكير

سؤال السيرة الفلسفية

التاريخ الإسلامي “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها

إعادة ترسيم الشرق الأوسط العثماني

لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.