أقطاب التكنولوجيا وتشكيل المجتمعات الحديثة

أقطاب التكنولوجيا وتشكيل المجتمعات الحديثة

أ. تقى محمد يوسف*

في العصر الرقمي الحالي، أصبح لأقطاب التكنولوجيا تأثير بالغ في تشكيل واقعنا المعاصر ومستقبلنا. هؤلاء الأفراد أصحاب الشركات العملاقة مثل فيسبوك، وتسلا، ومايكروسوفت لم يُحدِثوا تغييرات تقنية فحسب، بل أصبحوا يمتلكون قدرة هائلة على التأثير في الاقتصاد والسياسة والاجتماع. عبر منصاتهم وأدواتهم التكنولوجية، يسيطر هؤلاء الأقطاب على تدفق المعلومات، ويحددون كيفية تفاعل الأفراد مع العالم من حولهم؛ مما يمنحهم نفوذًا غير مسبوق في توجيه الرأي العام، بل وحتى في التأثير على السياسات العامة.

ومع تقدم تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، تتوسع إمكانيات هؤلاء الأقطاب لتشكيل المستقبل. ومع ذلك، يثير هذا النفوذ تساؤلات حول الأبعاد الأخلاقية لهذه التحولات السريعة. فبينما يعد البعض أن تفتح هذه الابتكارات آفاقًا جديدة للإنسانية، يرى آخرون أن هذه القوة المركزة في يد قلة قليلة قد تؤدي إلى استغلال واسع النطاق، مما يفاقم الفجوات بين الأفراد والمجتمعات.

يهدف هذا المقال إلى استكشاف كيف يشكل أقطاب التكنولوجيا واقعنا الحالي، وما هو الدور الذي يطمحون إليه في رسم ملامح المستقبل، وما هي الأيديولوجية الكامنة خلف كل هذا.

من الحاضر إلى المستقبل:

أصبحت شركات التكنولوجيا أقوى من أي وقت مضى، ولم يعد هناك حد للسرعة التي تتدفق بها الابتكارات والحلول التقنية التي يطرحونها على الساحة ويُغرقون بها المجتمعات؛ حتى أصبحنا — كمستهلكين — في انتظار الابتكار التالي، لننغمس فيه، ونشكل حياتنا على أساسه.

من مواقع التواصل الاجتماعي التي تربطنا بالعالم بشكل لحظي، إلى الأتمتة والذكاء الاصطناعي الذي يُعيد تشكيل ملامح سوق العمل، يُمكن القول إن شركات التكنولوجيا قد غيّرت بشكل جذري الطريقة التي نعيش بها. وتقوم العلاقة بين هذه الشركات على التنافس فيما بينها على جذب أكبر قدر ممكن من الانتباه، حيث أصبح الاقتصاد يعتمد على “اقتصاد الانتباه”، فتسعى شركات التكنولوجيا إلى جذب انتباه المستخدمين طوال الوقت، ومن ثم تحويل هذا الانتباه إلى قيمة اقتصادية من خلال استغلال معلومات المستخدمين والترويج لخدمات تتناسب مع اهتماماتهم. لكنها لا تتوقف عند حد استغلال المعلومات في تقديم ما يتوافق معها، بل تتعدى ذلك إلى توجيه سلوك المستخدمين عن طريق ما يُعرف بـ “التكنولوجيا الإقناعية”، فتستخدم هذه الشركات تقنيات وأدوات متطورة لتوجيه سلوك الأفراد أو تغيير معتقداتهم وقراراتهم من أجل تحقيق أهداف محددة قد تكون سياسية -مثل التصويت لشخص معين، أو تجارية -مثل الترويج لمنتج محدد، أو اجتماعية، أو غير ذلك.

وليس هناك حد لطموح أو سرعة هذه الشركات التي يطمح روادها إلى تسريع عجلة التطوير لدفع العالم باتجاه مستقبل “أفضل”. وعلى الرغم من أن كل “قطب تكنولوجي” لديه رؤيته الخاصة وتصوره الخاص للمستقبل، إلا أن هؤلاء الأفراد يقودون العالم نحو سيناريوهات مستقبلية قد تكون متصارعة في بعض الأحيان، ومتوازية في أحيان أخرى. هؤلاء الأقطاب يمثلون قلة قليلة تمتلك القوة والنفوذ والمال والتكنولوجيا، ما يمنحهم الثقة والقدرة على تحقيق رؤاهم الخاصة، وتحديد ملامح المستقبل وصياغة العوالم الرقمية التي تشكل حياتنا الآن وفي المستقبل.

تشترك السيناريوهات التي يطرحها هؤلاء الأقطاب التقانيين في أنها تخلط بين الإنسان والآلة، وبين الواقع الحقيقي والافتراضي؛ حتى لا يكاد يتبين لنا ما هو حقيقي فعلا وما هو مزيف. فعلى سبيل المثال؛ يتحدث مارك زوكربيرج بكثافة عن المستقبل الذي يحلم به والذي يتكون من “الواقع المعزز” و”الذكاء الاصطناعي”؛ هذا الواقع المعزز المدعوم بالذكاء الاصطناعي سيتيح الانغماس فيه من خلال نظارات توفر تجربة رقمية جديدة بديلة عن الهواتف المحمولة، حيث تصبح المعلومات والصور وغيرها أمام أعيننا مباشرة عبر عدسات النظارة. وهكذا، يصبح العالم الافتراضي معنا في كل مكان، مزاحما العالم الحقيقي الذي نتحرك فيه، بحيث يتداخل العالمان – الرقمي والمادي- إلى الحد الذي يستحيل فصل أحدهما عن الآخر. وفي نفس هذا السياق، يأتي مشروع Neuralink الذي يسعى من خلاله إيلون ماسك إلى ربط أدمغتنا بأنظمة الذكاء الاصطناعي، مما قد يسمح للبشر بالتواصل المباشر مع الآلات. فهدف الشركة “المعلن” هو توصيل الشرائح الإلكترونية بالدماغ لتعزيز قدرة أولئك الذين يعانون من احتياجات خاصة على التعامل مع العالم المحيط به،

وإذا كنا نرى ما أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي التي نتفاعل معها عبر شاشات الهاتف من تشويه للحدود الفاصلة بين العالم الرقمي والمادي و”تعفن” للدماغ[1]، فيمكن أن نتخيل كيف ستؤول الأمور مع اتساع رقعة الافتراضي على حساب الحقيقي. كما إنه لا يمكن التنبؤ بالحد الذي سيتوقف عنده المشروع القائم على ربط الدماغ بالذكاء الاصطناعي، أو بالأثر الذي سيُحدثه على عقل الإنسان ودماغه.

أيديولوجية التفاؤل التكنولوجي:

يتبنى كل من بيل جيتس وإيلون ماسك ومارك زوكربيرج رؤية أيديولوجية شاملة تتمثل في “التفاؤل التكنولوجي” أو “الحتمية التكنولوجية”، وهي رؤية يتبناها كل أفراد وادي السيليكون الذي يعتبر المركز العالمي للتكنولوجيا، وهو المكان الذي يشهد المنافسات والنزاعات الفكرية التي تحدد مسار التقدم التكنولوجي.

وقد عبر مارك أندريسن، أحد أبرز أقطاب وادي السيليكون، عن هذه الرؤية فيما أطلق عليه “مانيفستو المتفائل التكنولوجي”، وهو عبارة عن خطاب يستعرض فيه “الحقائق” و”الأكاذيب” حول التكنولوجيا، كما يتحدث فيه عن السوق الحرة والسياسة ومن هو “العدو” كما يتحدث عن المستقبل، ويمتلئ هذا الخطاب في كل أجزائه بإيمان كامل بعقيدة التقدم.

في هذا البيان، يصف أندريسن التكنولوجيا بأنها قمة الطموح الإنساني والإنجاز، ورأس حربة التقدم، ويؤكد أن كل التخوفات من التكنولوجيا هي مجرد “أكاذيب”، وأن التكنولوجيا هي السبيل الوحيد للتقدم، كما يُعبر عن اعتقاده الراسخ أن المخاوف المتعلقة بالبطالة، وتزايد الفوارق الاقتصادية، وتدمير البيئة، وإفساد الأطفال بسبب التكنولوجيا، ما هي إلا وجهات نظر خاطئة. ووفقًا لرؤيته، فإن التكنولوجيا تمثل أداة للوصول إلى حياة أفضل، يجب على العالم تبنيها بشغف. كما يعتقد أن السوق الحرة هي السبيل الأمثل لتوجيه الاقتصاد التكنولوجي، مؤكدًا أن الأسواق الحرة تعزز الابتكار والكفاءة، على عكس التدخلات الحكومية أو التخطيط المركزي.

يتبنى أندريسن في بيانه مجموعة من “القيم” التي تُعتبر التكنولوجيا هي محركها الأساسي، مثل الفردية، والمجازفة، وتراكم الثروة، والفكر الحر، وحرية التعبير، والمنافسة، والإنسانية. في المقابل، فإن أعداء التفاؤل التكنولوجي — في نظره — ليسوا مجموعة من الأفراد، بل مجموعة من الأفكار التي تؤدي إلى “الركود” و”التأخر”، هذه الأفكار تشمل “المخاطر الوجودية”، و”الاستدامة”، و”البيئة والمجتمع والحوكمة”، و”أهداف التنمية المستدامة”، و”المسئولية الاجتماعية”، و”أخلاقيات التكنولوجيا”، التي يراها أندريسن أيديولوجيات أفكارا تعرقل تقدم التكنولوجيا، ومن ثم تقدم البشرية.[2]

في البيان الذي نشره أندريسن، تبرز ثلاث مفاهيم أساسية: “آلة رأس المال التكنولوجي”، و”الوفرة”، و”أفكار العدو”. هذه المفاهيم تشير إلى رؤية شاملة تدعم نمو التكنولوجيا بلا قيود. فـ”الآلة التكنولوجية” تعتبر قوة دافعة للثروة والابتكار، بينما تشير “الوفرة” إلى أن التقدم التكنولوجي يجب أن يسهم في توفير فرص غير محدودة للبشرية، وتعتبر الوفرة الهدف النهائي للتفاؤل التكنولوجي لأنها هي ما يمنح البشر حرية الاختيار، أما “أفكار العدو”، فهي تلك التي تعارض النمو التكنولوجي وتُركّز على القيم التقليدية مثل الاستدامة أو حدود النمو.[3]

أيديولوجية التفاؤل التكنولوجي- التي يدافع عنها أندريسن، وغيره من الشخصيات المؤثرة في وادي السيليكون، تبدو متأصلة في العديد من الشركات التكنولوجية الكبرى، حيث تؤثر بشكل عميق على كيفية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية في العالم، حتى وإن لم تكن لهذه الشركات علاقة مباشرةً بالسياسة. صحيح أنه في بعض الحالات، يشارك بعض رواد شركات التقانة في النشاط السياسي، لكن ما يهم هو التأثير غير المباشر الذي يمتلكونه على تشكيل السياسات العامة والأولويات الحكومية. فهذه الشركات تبني تخيلات لعالم أفضل بشكل خطابي كجزء أساسي من استراتيجية الاتصال الخاصة بها، ومن ثم تضع نفسها باعتبارها “فاعلًا اجتماعيًا يتجاوز، على الأقل من الناحية الخطابية، الخصائص المعتادة للشركة الموجهة نحو الربح”. ولذلك يجادل بعض الباحثين بأن رواية القصص الريادية الموجهة نحو المستقبل هي مورد استراتيجي يخفي “طموح الشركة للربح والقوة كضرورة على الطريق إلى عالم أفضل”.[4]

يعكس التفاؤل بالتكنولوجيا فكرة أو “عقيدة” التقدم التي يؤمن معتنقوها بأن البشر يسيرون دائمًا نحو الأفضل، وبالتالي فإن المستقبل سيكون دائمًا أفضل من الحاضر. في إطار هذه الرؤية، يُنظر إلى هذا المستقبل على أنه مرهون بتطوير واستخدام التقنيات بشكل مستمر. وتفترض هذه الرؤية أن كل خطوة تكنولوجية تمثل تحسنًا حتميًا في مختلف مجالات الحياة، من الصحة والتعليم إلى العمل والترفيه.

خطورة هذا الخطاب “التقدمي” تكمن في أنه يروج لتطوير التكنولوجيا بشكل دائم دون الاهتمام بالآثار السلبية التي قد تترتب على ذلك. وهكذا يُصبح أي نقاش حول الآثار الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية السلبية للتكنولوجيا بمثابة خطاب هدام يتجاهل “الآثار الرائعة” التي تحققها التقنيات، وهو ما يحجب التساؤلات النقدية حول تداعيات التقدم التقاني على المجتمعات والأفراد.

(أ) كيف يريدوننا أن نراهم:

يقدم المتفائلون بالتكنولوجيا أنفسهم كأشخاص يسعون إلى “تحسين” أو “تغيير” العالم، كل بطريقته الخاصة، ورغم أن طرقهم تتقاطع في كثير من الأحيان، إلا أن التنافس بينهم قد احتدم منذ ثورة الذكاء الاصطناعي “العام”.

على سبيل المثال، يقدم إيلون ماسك نفسه باعتباره منقذا للبشرية، وداعيا إلى السلام العالمي. من خلال مشاريعه مثل “سبيس إكس” و”تسلا”، يروج ماسك لفكرة أن الابتكار العلمي والتكنولوجي هو الطريق إلى مستقبل مستدام وآمن للبشرية. ولذلك، يشدد على ضرورة تحقيق “الإنسانية” في سياق الابتكارات التي يقدمها، سواء في مجال الفضاء أو الذكاء الاصطناعي.

أما بيل جيتس، فيتخذ دور “الرجل الأبيض المخلِّص” من خلال عمله “الخيري” في إفريقيا، وحديثه المتكرر عن “فرص النمو والتقدم” في المنطقة، حيث يروج لنفسه كأحد الشخصيات التي تعمل على “إطلاق العنان لمستقبل أفريقيا”. وهنا يقدم جيتس نفسه كمنقذ جاء لتقديم الحلول لمشاكل القارة، وهو ما يعكس تصورا معينا لديه عن القارة السمراء، كمكان يمكن من خلاله للرجل الأبيض، الذي حملته يد العناية الإلهية لهذا المكان المتردي، أن يمارس دوره الحضاري!

جيتس، رغم تصريحاته المتكررة عن محاربة عدم المساواة والفقر، يتجاهل في كثير من الأحيان الدور الذي يساهم به تراكم الثروات المفرطة في تفاقم تلك الفجوات. فعلى سبيل المثال، عندما يناقش جيتس مسألة الفقر في الجنوب العالمي، لا يتناول حقيقة أن الفقر إنما يتعمق بسبب تكدس الثروات لدى قلة من الأفراد، وهو ما يساهم في استمرارية الوضع الراهن حيث تبقى الثروات في يد القلة، في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون المساعدات الخيرية هي الحل للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية.

أما مارك زوكربيرج، وعلى العكس من ماسك وجيتس، فإنه لا يقدم نفسه كمنقذ للبشرية أو كمدافع عن “الإنسانية” بشكل عام، بل يقدم نفسه كرائد للتقدم التكنولوجي، شغله الشاغل “تعزيز التواصل بين البشر” من خلال التقنيات والأدوات التي يعمل على صنعها وتطويرها، فهو دائما ما يروج لفكرة التواصل وحرية التعبير من خلال مشاريعه. رؤية زوكربيرج تقوم على تعزيز الاتصال بين الأفراد وتوسيع دائرة التفاعل الاجتماعي، لذلك يبرز دائمًا شعار “التواصل” باعتباره العنصر المحوري لما يسعى إليه، وذلك من خلال بناء وتطوير منصات تواصل اجتماعي تتيح حرية التعبير وتربط الأفراد ببعضهم البعض في جميع أنحاء العالم، أو من خلال بناء تقنيات الواقع المعزز التي تقلل الفجوة بين الواقع المادي والافتراضي.

لكن بنظرة سريعة على واقع منصات التواصل، يمكن اكتشاف التناقض في خطاب زوكربيرج، وبخاصة في طريقة تعامله مع الأخبار المزيفة والمحتوى الضار. فعلى الرغم من أنه يدعي أن “فيسبوك” أو “إنستجرام” هي منصات مفتوحة لجميع الآراء، فإن هذه المنصات قد قمعت بعض الآراء أو تجنبت نشر بعض المحتويات التي وصفت بغير الملائمة لـ “سياسات المنصة”. وفي العديد من الحالات، تم منع نشر محتوى مرتبط بالأحداث السياسية الحساسة أو المناقشات العامة في بعض الدول، بحجة الحاجة إلى مزيد من التحقق أو الحفاظ على النظام العام، وفي أحيان أخرى، تم حذف المحتوى بشكل تعسفي، الأمر الذي يثير الجدل حول مدى احترام المنصة لحرية التعبير فعليا.

(ب) أيديولوجية التفاؤل التكنولوجي والسياسة:

من خلال المواقف التي عبر عنها بعض قادة وادي السيليكون، مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرج، يتأكد أن أيديولوجية التفاؤل التكنولوجي لها مشروع سياسي خاص بها، وهذا المشروع يقوم على الدعوة إلى تقليل تدخل الحكومات في مجال الابتكار التكنولوجي، وإعادة تشكيل النظام السياسي والاقتصادي بما يتناسب مع مصالح قلة من الشركات الكبرى.

فالتفاؤل التكنولوجي ليس مجرد دعوة للإيمان بإمكانات التكنولوجيا في تحسين العالم، بل أيديولوجية سياسية ضيقة، تلبس ثوبا محايدا، وتروج لحرية الشركات التكنولوجية في العمل دون تدخل حكومي. ويُنظر إلى هذه الفلسفة كجزء من مشروع سياسي أوسع يعكس الرأسمالية المتسارعة في وادي السيليكون، حيث يتم تعظيم المكاسب المالية، بينما يتم تقليل الرقابة على الشركات.

وهذه الأيديولوجية هي امتداد لـ “أيديولوجية كاليفورنيا”[5] التي هيمنت على الثقافة التكنولوجية في التسعينيات، حيث يعتقد مروجو هذه النظرية أنه من الأفضل ترك المستقبل في أيدي رجال الأعمال والمستثمرين والمهندسين، مع بقاء الحكومات بعيدة عن طريقهم. ولذلك، يرى المشروع السياسي للتفاؤل التكنولوجي أن المكاسب المالية من رأس المال الاستثماري يجب أن تكون أقرب ما يمكن إلى الإعفاء من الضرائب.

المثال الأبرز هنا هو بن هورويتز، الشريك المؤسس لشركة “Andreessen Horowitz”، الذي أطلق في عام 2019 تصريحًا يقول فيه: “نحن ناخبون غير حزبيين، قضيتنا واحدة: إذا كان المرشح يدعم مستقبلًا تكنولوجيًا متفائلًا، فنحن نؤيده”. يشير هذا الموقف إلى رفض التنظيم الحكومي، ويُظهر أن هذه الشركات تفضل عدم خضوعها لأي قوانين قد تقيد حرية الابتكار التي تعتبرها الأساس لتحقيق التقدم التكنولوجي.[6]

من هنا، يمكن لنا أن نفهم موقف بعض أقطاب التقانة -مثل زوكربيرج وماسك وبيزوس- في دعمهم لترامب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. فقد شعر هؤلاء بالقلق بشأن مستقبل التكنولوجيا في ظل الديمقراطيين، خاصةً مع إصدار إدارة بايدن الأمر التنفيذي بشأن “الابتكار المسؤول” في 30 أكتوبر 2023، والذي هدف إلى وضع معايير جديدة لسلامة الذكاء الاصطناعي وأمنه وخصوصية البيانات.[7]

لقد أرسلت إدارة بايدن رسالة واضحة إلى وادي السيليكون: موجة تنظيمية وشيكة، واعتماد ممارسات مسئولة للحفاظ على الميزة التنافسية. وقد أكدت المرشحة الديموقراطية “كاميلا هاريس” أنها ستواصل الالتزامات المنصوص عليها في الأمر التنفيذي، في حين أكدت حملة ترامب نيتها إلغاء “الأمر التنفيذي الخطير” الذي أصدره بايدن والذي يعيق ابتكار الذكاء الاصطناعي، ويفرض “أفكارًا يسارية راديكالية” على تطوير هذه التكنولوجيا،[8] كل هذا أدى إلى توجيه أقطاب التقانة دعمهم لترامب، ما خلق صدعا سياسيا داخل وادي السيليكون، الذي كان ذات يوم معقلًا قويًا للديمقراطيين. فبالنسبة لهؤلاء الأقطاب، المعادلة محسومة، “التنظيم يخنق الابتكار”، ومن ثم لا يتناسب الابتكار المسؤول مع نماذج أعمالهم.

من ناحية أخرى، يعكس موقف المتفائلين التكنولوجيين المؤيد لترامب الآمال الواسعة التي عقدوها على الذكاء الاصطناعي “العام”، والذي مازال قيد التطوير والبحث والاستكشاف، فمنذ لحظة إطلاق Chat-GPT منذ عامين، تحولت الأنظار إلى الإمكانيات الهائلة التي يمكن استخراجها واستغلالها من وراء الذكاء الاصطناعي العام أو التوليدي، ولذلك فإن عمالقة وادي السيليكون لا يريدون أي نوع من القيود عليهم في هذه الفترة المتفائلة بشدة بما يمكن تحقيقه باستخدام الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات.

إن الاهتمام المبالغ فيه بالذكاء الاصطناعي، والسعي لاكتشاف إمكاناته قبل الجميع يعكس التطلع نحو القوة والرغبة في المزيد من النفوذ عند من يقودون أبحاث الذكاء الاصطناعي ويطمحون إلى توجيهها باتجاه مصالحهم. فوراء كل هذه الخطابات حول الصالح العام وخدمة الإنسانية من خلال الذكاء الاصطناعي، رغبات وتطلعات نحو المزيد من النفوذ والقوة والمال.

سؤال مفقود:

هل يحق لهذه الطبقة الصغيرة التي تملك التكنولوجيا والموارد أن تقرر ما الذي يجب أن يكون عليه المستقبل، وأن تقرر مصير الغالبية العظمى من البشر، وأن تحدد كيف سيعيش البشر في هذا العالم التكنولوجي المتقدم؟ وهل غالبية الناس فعلاً يرغبون في العيش في عالم يشكله الذكاء الاصطناعي أو الواقع الافتراضي؟

هذا السؤال مهم جدًا، لكن الخطابات السائدة حول التقانة والتحول الرقمي تتجاهله وتعرض للأمر وكأنه مصير حتمي. إن الخطابات المتفائلة التي تروج لهذا المستقبل تستخف أحيانًا بالشكوك حول رغبات الناس الفعلية، وتُقدم تصورًا غير قابل للنقاش بأن الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي هما مستقبلنا المشرق.

ولذلك، فإن هذا السؤال نفسه يعكس إشكاليتين: الأولى معرفية؛ تتعلق بمدى إدراك الناس لتأثير التكنولوجيا على حياتهم ولمخاطرها، ولدوافع الشركات الرأسمالية من وراء تطويرها لهذه التقنيات.

والثانية تتعلق بمنطق القوة؛ إلى أي مدى يمكن لهذا الإدراك أن يُترجم إلى حركة تغيير أو تصحيح. في ضوء المعركة غير العادلة بين شركات التكنولوجيا وبين الأفراد والشعوب والمجتمعات؛ فميزان القوة يميل بشكل واضح لصالح هذه الشركات، ولا توجد مقارنة بين الطرفين من حيث حجم المعلومات أو الموارد أو الأموال التي يمتلكها كل طرف. خاصة وأن هذه الشركات تمتلك قدرات هائلة على التأثير في السلوكيات والتوجهات من خلال التحكم في تدفق المعلومات، بحيث يصبح من الصعب مقاومتها من قبل الأفراد.

في هذا السياق، ظهرت جماعة تُعرف باسم “أخلاقيو التكنولوجيا”، وهم مجموعة من الأشخاص الذين يعملون في مجال التكنولوجيا لكنهم يهدفون إلى توعية الناس والمجتمعات بمشكلاتها، وحشدهم إلى الحد الذي يمكن معه ممارسة التغيير بشكل جماعي. ويطرحون تساؤلات من قبل: ما هي العواقب الأخلاقية لتطوير مثل هذه التقنيات على الأفراد والمجتمعات؟ هل المعركة بالفعل عادلة بين شركات التكنولوجيا ذات الموارد الضخمة من جهة وبين الأفراد قليلي الحيلة؟ ما الأسباب الخفية التي تكمن خلف قيام هذه الشركات بالتطوير السريع لهذه التقانات؟ هل التقانات ستخدم بالفعل المجتمع وتحقق الخير العام، أم أنها ستزيد من التمييز أو التسلط من قبل قلة قليلة من الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على التحكم في التكنولوجيا؟

ويخلص هؤلاء الأخلاقيون إلى أن الغالبية العظمى من البشر قد لا تكون مستعدة أو راغبة في الانغماس الكامل في عالم افتراضي، خصوصًا إذا كان موجهًا من قبل قلة قليلة تتحكم فيه. ويؤكدون أن المستقبل الذي يعدنا به المتفائلون بالتكنولوجيا لا يراعي الاحتياجات الحقيقية للمجتمع أو الإنسانية، بل إنه يروج لواقعٍ يصمّم وفقًا لمصالح أقلية.

خطأ في التشغيل أم خطأ في النظام؟

يمكن النظر إلى التكنولوجيا التي يروج لها أقطاب وادي السيليكون باعتبارها أحد مستهدفات الحداثة والرأسمالية المعاصرة، فهي ليست مجرد أثر جانبي يمكن إصلاحه، وليست مجرد خطأ في التطوير يمكن تصحيحه. في الواقع، هذه التكنولوجيا تُعتبر تجسيدًا حيًا للمبادئ الأساسية التي قامت عليها الرأسمالية الحديثة، حيث تُركز على تعزيز الاستهلاك، وتعظيم الربح، وتوسيع النفوذ، والسيطرة.

وبالتالي فإن التقنيات المتداولة اليوم ليست مجرد أدوات لتحسين الحياة أو تطوير المجتمع، بل هي جزء لا يتجزأ من هيكل اقتصادي يعظم القيمة الناتجة عن جذب انتباه الأفراد واستثماره، خاصة في السياقات الرقمية مثل وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات، فيما يُعرف بـ “اقتصاد الانتباه” (Attention Economy). فقد أصبح انتباه أو اهتمام الفرد سلعة مهمة ونادرة يجب الحصول عليها لتحقيق وزيادة الربح، وهكذا تتنافس كبرى شركات التكنولوجيا من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من انتباه الفرد، عبر “تقنيات توجيه”، تؤثر في المستخدمين نفسيا وعاطفيا بطريقة أقرب للتلاعب وإحكام السيطرة منها للإقناع العقلي والمنطقي. فمنصات التواصل الاجتماعي اليوم ليست فقط وسيلة للاتصال، بل هي أيضًا بيئة يتم فيها تحويل الانتباه البشري إلى سلعة تجارية تُباع وتُشترى، معتمدة في ذلك على خوارزميات معقدة تهدف إلى التلاعب لتحفيز التفاعل والمشاركة المستمرة.

من هذا المنظور، يمكن القول إن التكنولوجيا التي يتم الترويج لها من قبل هؤلاء الأقطاب ليست مجرد ابتكارات محايدة، بل هي مكونات أساسية ضمن استراتيجيات التحكم بالأسواق والمجتمعات. ولذلك من الضروري التعامل معها باعتبارها جزءا من النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم الذي يهدف إلى تحقيق الربح والنفوذ من خلال استغلال الموارد البشرية والمعلوماتية، وتوجيه هذه الموارد بما يتماشى مع مصالح قوى السوق.

تبقى الإشارة إلى أن بعض المقاربات تركز على الآثار السلبية للتقنيات الحديثة على حياة الأفراد كالآثار المتعلقة بالإدمان، والصحة النفسية، وزيادة التوتر الاجتماعي. مؤكدة أن الحل يكمن في إصلاح العمليات التقنية أو تحسين سياسات الحماية مثل الحق في الخصوصية أو تطوير آليات مقاومة للمعلومات المضللة. كما تنتقد أصحاب الشركات لكونهم أساؤوا استخدام التقنيات لتحقيق الربح الشخصي على حساب مصلحة المستخدمين، ولذلك تأتي الاقتراحات بتعويض المتضررين نفسيا أو جسديا، أو الحث على اعتراف أصحاب هذه الشركات بوجود أوجه قصور في ابتكاراتهم.

هذه المقاربات تنطلق من افتراض أن التكنولوجيا خيّرة بطبيعتها، وأن المشكلة تكمن فقط في سوء تشغيلها أو في التحكم غير السليم بها نتيجة طمع أصحاب الشركات للمزيد من الثروة أو النفوذ. ولكن هذا التوصيف جزئي وغير كافي؛ فالخطأ يكمن في النظام ذاته، أو في البنية الأكبر. ذلك إن التكنولوجيا التي يتم تطويرها في وادي السيليكون هي مجرد مكون واحد ضمن سياق مجتمعي أوسع، وهو النظام الرأسمالي والحداثي؛ وهذا ما يجعلنا نتوقف عند مفهوم “الإنسان” الذي يتصوره هؤلاء الأقطاب. فعلى الرغم من حديثهم المستمر عن أن هذه الأدوات تخدم البشر والصالح العام، نجد أن أول من يتأثر سلبًا هم البشر أنفسهم، الذين يُفترض أن التكنولوجيا تهدف لخدمتهم. في الواقع، غالبًا ما تؤدي هذه الأدوات والتقنيات الحديثة إلى تدهور حياتهم، سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية، حيث يتحول البشر في النهاية إلى منتج يتم استغلاله واستغلال بياناته الخاصة لخدمة مصالح الشركات الكبرى أو الدول.

إن أقطاب التكنولوجيا يرون أنه لابد من وجود “أضرار جانبية” للوصول إلى المستقبل الرائع الذي لا يراه غيرهم. إذن نحن أمام قلة -أوليجاركية بالمصطلحات السياسية- ترى نفسها المخلّصة والمنقذة للبشرية التي لا تعرف مصلحتها جيدا وتحتاج إلى هؤلاء الآباء المخلصين ليأخذوا بأيدينا جميعا. وهذا يلفت انتباهنا إلى حقيقة التصور النفعي الذي يكمن خلف هذه التصورات. فبحسب هذا المذهب، يتم تقييم الأفعال بناءً على ما يترتب عليها من منفعة محققة لأكبر عدد من الأفراد، حتى لو ترتب على ذلك ضرر لعدد منهم. حيث لا يُنظر إلى الضرر الذي قد يلحق بالفئات الضعيفة أو المهمشة على أنه مشكلة في مثل هذا النظام، وإنما مجرد تضحية ضرورية في سبيل تحقيق المنافع الكبرى للجميع!

خاتمة:

في ضوء هذا التطور التكنولوجي المتسارع، يروج أقطاب التكنولوجيا لفكرة أن سعيهم الأساسي يتمحور حول تمكين الأفراد وتحقيق التقدم المجتمعي، لكن الواقع قد يكون مغايرًا تمامًا. فبينما يدّعي هؤلاء أنهم يسعون إلى تحسين حياة الناس، نجد أن الكثير من التقنيات التي يقدمونها لا تساهم في تعزيز حرية الإرادة أو فاعلية الإنسان، بل تسهم في تقليصها بشكل تدريجي، فهم يستخدمون التطورات التكنولوجية لتوجيه سلوكيات الأفراد وتحويل بياناتهم الشخصية إلى سلع قابلة للتسويق مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال.

وإذا كانت الفجوة كبيرة بين القوة التي يمتلكها أقطاب التكنولوجيا وبين قوتنا -كأفراد أو كمجتمعات-، فإن هذا يخلق تحديًا هائلًا في إمكانية استخدام التكنولوجيا بطريقة عادلة وآمنة. فبفضل سلطتهم الاقتصادية والسياسية، أصبح هؤلاء الأقطاب يمتلكون أدوات رقابة وتأثير لا حصر لها على حياتنا اليومية. ربما يكمن المفتاح هنا في تمكين الأفراد، ليس فقط بالمعرفة، ولكن بالأدوات التي تسمح لهم بالتحكم في بياناتهم واستخدام التكنولوجيا بطريقة تعزز من فاعليتهم بعيدًا عن أنماط التحكم والاستغلال التي قد تفرضها هذه الشركات. كما أن تغيير الثقافة المجتمعية ليصبح الناس أكثر وعيًا بتأثيرات التكنولوجيا على حياتهم اليومية هو خطوة أساسية في تقليص هذه الفجوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية.

[1] وفقا لجامعة أوكسفورد، فإن “تعفن الدماغ” يُعرَّف بأنه “الانحطاط المفترض للحالة العقلية أو الفكرية لشخص ما، والذي يُنظر إليه بشكل خاص كنتيجة للاستهلاك المفرط للمحتوى (وخاصة المحتوى عبر الإنترنت) الذي يُعتبر تافهًا.

[2] Marc Andreessen, The Techno-Optimist Manifesto,

https://a16z.com/the-techno-optimist-manifesto/

[3]Justin Diamond, “AI, Intellectual Property, and the Techno-optimist Revolution,” Washington College of Law, https://www.researchgate.net/profile/Justin-Diamond-5/publication/377030301_AI_Intellectual_Property_and_the_Techno-Optimist_Revolution/links/6592eb1d3c472d2e8ea66726/AI-Intellectual-Property-and-the-Techno-Optimist-Revolution.pdf

[4] Samantha Ostwald, The Future According to Mark Zuckerberg, (Master’s Degree, The Columbian College of Arts and Sciences, 2023) https://www.proquest.com/openview/eef93bb88c1c3fe1040b0cb21bd3b1da/1?pq-origsite=gscholar&cbl=18750&diss=y

[5] أيديولوجية كاليفورنيا (California Ideology) هي مصطلح استخدمه الكاتبان البريطانيان ريتشارد باربروك وآندي كاميرون في مقال لهما نُشر عام 1995، لوصف مزيج من القيم الثقافية والاقتصادية التي ظهرت في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا. تعكس هذه الأيديولوجية خليطًا من الأفكار المتناقضة بين الليبرالية التكنولوجية والرأسمالية الحرة، مع إشارات إلى الفكر الهيبي والحرية الفردية.

[6] Dave Karpf, “Parsing the Political Project of Techno-Optimism,”

https://www.techpolicy.press/parsing-the-political-project-of-techno-optimism/

[7] “Silicon Valley’s Trump love affair shows it can’t and won’t regulate itself,” ANU Reporter,

https://reporter.anu.edu.au/all-stories/silicon-valleys-trump-love-affair-shows-it-cant-and-wont-regulate-itself

[8] Lara Williams, “US Election 2024: Silicon Valley turns towards Trump,“ Verdict, https://www.verdict.co.uk/us-election-2024-silicon-valley-turns-towards-trump/?cf-view

عن تقى محمد يوسف

شاهد أيضاً

البيئة الثقافية للصناعة والتقنية

أ. د. ممدوح عبد الحميد فهمي

لا أستطيع أن أبدأ هذا البحث قبل أن أُعرِّف القارئ بنفسي وبعلاقتي بموضوع البحث. ولدت في الجيزة وتلقيت تعليمي الجامعي في هندسة الطيران وفي الرياضيات في جامعة القاهرة في الستينيات.

الأمة السيبرانية: هل يمكن أن تمثل التقانة مدخلًا لتقارب المسلمين؟

أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر

صاحب ظهور مفهوم الفضاء السيبراني، وتحوله إلى جزء لا يتجزأ من تفاصيل الواقع المعاش، انتقال العديد من جوانب وتفاعلات الحياة اليومية إلى هذا الفضاء الجديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.