استعادة الصلابة الأخلاقية في عالم السيولة والنسبية

استعادة الصلابة الأخلاقية في عالم السيولة والنسبية

أ. يارا عبد الجواد*

المقدمة

  لازال الإنسان المعاصر يتلمس طريقًا نحو إنسانيته المفقودة تحت ركام التطور الحداثي وما بعد الحداثي ومادية النموذج المعرفي اللذين انبثقا عنه، هذه المادية التي أسست للحتميات والسرديات الكبري وبرز من خلالها مفهوم العقلانية والموضوعية، وأعلت من قيمة العلم التجريبي والحس كمصدر وحيد للمعرفة في الحقبة الحداثية، ثم التفكيك واللايقين والنسبية في حقبة ما بعد الحداثة حيث الضبابية والعدمية، وهي الأزمة التي يعيش في كنفها إنسان اليوم في ظل عولمة النموذج الغربي وتعدد مصادره الوافدة المخترقة للثقافات. في هذا الإطار يعيش الإنسان المعاصر أزمات متعددة تتشابك وتتقاطع في بعض أبعادها لكن جميعها لا ينفك عن سمة التفكك والنسبية وفقدان الأسس الصلبة والمرجعية الموجهة، فمن هذه الأزمات ما يتعلق بكينونة الإنسان ذاته وبحثه الدائم عن المعنى، ومنها ما يتعلق بمصادر معرفته، ومنها ما يتعلق بهويته الثقافية. ولعل أهم وأخطر هذه الأزمات ما يتعلق بسؤال الأخلاق الذي طبعته ما بعد الحداثة بطابع النسبية والسيولة، ما جعل الأخلاق تفقد وظيفتها المعيارية من حيث كونها متجاوزة المصدر مطلقة في طبيعتها يعرفها الإنسان بفطرته السوية، ويحاكم إليها خياراته في الحياة.

   من هذه الزاوية نتناول في هذا المقال سؤال كيفية استعادة الصلابة الأخلاقية وذلك بالتذكير ببدهية سمتها الإطلاقية وفطريتها وضروريتها وارتباطها بجوهر الإنسان باعتباره المخلوق الوحيد الذي وهبه الخالق إرادة حرة وجعله خليفة في هذه الأرض.

أولًا- النسبية الأخلاقية: بين الجذور والواقع

  إن الحديث عن النسبية الأخلاقية هو حديث عن إحدى أزمات الفكر ما بعد الحداثي. فالمشروع الحداثي الغربي تشكل عبر سيادة التفكير العقلاني والسعي المستمر نحو التقدم المادي، وقد ارتبط بالثورة الفرنسية والثورة الصناعية، ثم انتشر عبر العالم من خلال الاستعمار، ثم من خلال وسائل التواصل الحديثة، حتى زعم لنفسه العالمية. وقد تعرض مشروع الحداثة لنقد من داخله، فظهر ميل فكري نحو تجاوز الحداثة، ومن هنا ظهر مفهوم ما بعد الحداثة، وقد تحول إلى حركة فكرية منذ أن نشر الناقد الفرنسي جان فرنسوا ليوتار كتابه الأشهر عام 1979 بعنوان “الوضع ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة”.

  لقد بدأ ليوتار الكتاب وكأنه يؤرخ لعصر جديد في المعرفة، فهو يعلق منذ البداية على موت السرديات الكبرى التي ميزت الحقبة الحداثية، ويقصد بها النظريات والتعميمات واسعة النطاق (كالحتميات وأفكار عصر التنوير والماركسية وغيرها من السرديات الكبرى) باعتبار أن هذه السرديات لم تعد قادرة على تقديم تفسيرات في عالم جديد يتسم بالسرعة والتحول التكنولوجي[1].

  اتسمت تيارات الحداثة بتنوعها واعتمادها المطلق على مبادئ عامة شديدة الوثوقية كالعلم والتقدم والحرية والحتمية، وكان مفهوم العقلانية أساس انطلاقها نحو تحرير الإنسان من التفسير “الغيبي” للكون. وقد طرأت على مسيرة الحداثة لحظات فكرية أفرزت مفكرين ينعون على الحداثة الغربية قيمها ويشككون في جدواها، وكانت بمجملها مستندة إلى فلسفة الألماني فريدرك نيتشه (ت 1900م) التي شكلت نقطة مفصلية في تغيير مسار الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

لم يكن النقد “النيتشوي” للفلسفة الغربية بنَّاءً بل عدميًا يرفض وجود المعنى والحقيقة والإله، لذا كانت أُسُس فلسفة نيتشه هي “موت الإله” و ”الإنسان الخارق” و ”إرادة القوة” و ”العَود الأبدي” حيث لا يفنى الإنسان بل يتجدد جيلا بعد جيل.

فمن أجل التسليم بسلطة الإنسان المطلقة لابد من إنكار وجود الإله، ومن أجل بناء شخصية (السوبرمان) لابد من هدم عالم الغيبيات، ولأجل الوصول إلى مرحلة القوة اللامتناهية لابد من تخطي الخطوط الحمراء التي وضعتها جميع مدارس اللاهوت والمعرفة، ومن أجل تطبيق فرضية العَود الأبدي لابد من إزاحة مظاهر الضعف والقيم الأخلاقية[2].

إن هذا العالم الجديد يفتح الآفاق نحو عدم التحديد وعدم اليقين، فالرابطة الكلية التي وسمت المجتمع الحديث والتي فسرتها السرديات الكبرى لم تعد قائمة، فنحن في عالم ما بعد الحداثة، والذي تتحدد معالمه من خلال الآتي:

– كسر الثقة في القوانين العلمية والمنطق والحقائق المطلقة.

–  حلول النزعة النسبية على كل المستويات في القيم الدينية والأخلاقية بحيث يتاح لكل فرد حرية البحث عن المعاني والقيم الخاصة به.

– رفض المعرفة الموضوعية والبحث عن المعاني والمعارف الذاتية.

– تحلل الأنساق الكلية ونبذ كل ما هو مطلق وعام[3].

من هنا كانت النسبية الأخلاقية أحد أبرز تجليات الفكر ما بعد الحداثي، فهي القول بأن الأفعال الصائبة أخلاقيًا تختلف من ثقافة لأخرى، وليس هناك صواب مطلق في مجال الأخلاق، فما تدعو إليه الأخلاق في مكان ما أو عصر ما يكون مختلفًا عما تدعو إليه الأخلاق في موضع آخر أو عصر آخر، وعلى هذا فإن النسبيين الأخلاقيين لا يجيزون أن يُحمل الناس كافة على أخلاق معينة، لأنه لا معيار موضوعي يضبط الأخلاق، فما يراه البعض سيئًا يراه آخرون حسنًا، فهم يؤكدون على حرية الفرد في اعتناق ما يراه من مبادئ أخلاقية[4].

وفي هذا الواقع الذي تسوده الحقائق العدمية، والأمور النسبية، والقيمة المنفيّة، لا يوجد إمكانية لقيام أية معيارية، بل لا يمكن تأسيس أي نظم أخلاقية بشكل عام، وكل ما يمكن التوصل إليه هو الاتفاق على أخلاقيات براغماتية (عملية) تأخذ شكل فلسفة القوة والهيمنة “للأقوياء” وفلسفة الإذعان والتكيف “للضعفاء”. إذ لا توجَد معايير متجاوزة للإنسان ولا توجَد وسيلة لتعريف الظلم والعدل، ومن ثمَّ فلا إمكانية لنقد أخلاقي للتقويم والتصحيح. فإن كانت السلوكيات الجنسية الشاذة – كالمثلية الجنسية – أمرًا مرغوبًا لدى جماعة فإنه لا ينبغي تخطئتهم أو لومهم، بل يجب احترام رغبتهم، مع الحرص الشديد على رفض وسم “الشذوذ” ويعتبرونه نتاج صنع الثقافات “الجائرة” التي تريد أن تفرض “حقائقها” على الآخر لأنها حقائق مطلقة. ولذا فإن ما بعد الحداثيين يرون في المنظومة الأخلاقية –أيا كانت- نتاجًا لتحالف الدين والسلطة أو المعرفة والقوة فهي مؤدلجة بطبيعتها لتفرض رأي الأغلبية[5].

بناءً على هذا الفهم فإن هناك ارتباط عميق بين الإلحاد والنسبية الأخلاقية، فالأخلاق تقوم على معيارية موضوعية بحيث تقيم قاعدة صلبة للأخلاق متحققة في الواقع الخارجي خارج أذهاننا، ومن ثمّ فهي صحيحة في ذاتها ولو لم يؤمن بها أحد. والإلحاد يقيم قواعده الأخلاقية – متى أقامها – على المعيارية الذاتية لا الموضوعية، لكن مشكلة هذه المعيارية أنها نسبية لا مطلقة، بمعنى أن الأوصاف والأحكام القيمية تتباين بتباين وجهات النظر. كما أن المجتمعات تختلف قواعدها الأخلاقية باختلاف الثقافة والأيدولوجيا والسياق التاريخي، ومن ثمّ فإنّ المآل الوحيد للملحد الذي يقيم قواعده الأخلاقية على معيارية ذاتية نسبية هو افتقاره إلى مرجعية نهائية ثابتة ومطلقة يمكن الرجوع إليها حال الاختلاف في وجهات النظر القيمية والأخلاقية. ممّا يعني غياب أي قاعدة أصيلة تقوم عليها الأخلاق بالنسبة للملحد.

لذلك نجد الملحد الشهير ريتشارد دوكنز يتسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود ككلّ بأية صفة قيمية على الإطلاق، فيقول مقرّا بمشكلة النسبية الأخلاقية: “في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة”.

وفي هذا السياق قد يدعي الكثيرون أنهم نسبيون أخلاقيون، لكن أفعالهم تظهر أنهم ليسوا كذلك، حيث يظهر من خلال سلوكهم أن لديهم قدر من فكرة الصلابة الأخلاقية الملازمة لطبيعة النفس البشرية، على عكس ما يدعونه تمامًا، ونضرب هنا مثال ببعض مواقف الحركة النسوية المتبنية للنسبية الأخلاقية.

على سبيل المثال تقول “الحركة النسوية“ التي تتبني النسبية الأخلاقية: إن حكومة طالبان في أفغانستان كانت “مخطئة” في معاملتها للنساء، ولكن – كي تتسق مع مفهوم النسبية الأخلاقية – يجب أن تقول النسويات: إنه بعد كل شيء، هذا مجرد شيء “ثقافي” وليس لدينا الحق في الحكم على صواب ثقافة طالبان أو خطئها.

تصنف “الحركة النسوية” النشاط الجنسي بين الأطفال والبالغين على أنه “خاطئ”، ولكن – كي تتسق مع مفهوم النسبية الأخلاقية – يجب أن تقول النسويات: أن هذا مجرد رأي “شخصي”. ولا ينبغي معاقبة أي شخص ينخرط في مثل هذا السلوك[6].

من خلال ما سبق يتبين فساد فكرة النسبية الأخلاقية لتناقضها الداخلي الباعث على إلغاء فكرة المعيارية وبالتالي فكرة النظام الأخلاقي، وهذا نابع من عدم اتساقها مع حقيقة الطبيعة البشرية التي تفرض نفسها على الواقع مهما زعم معتنقي النسبية غير ذلك.

ثانيًا- نحو استعادة الصلابة الأخلاقية:

إن انتشال الأخلاق من حالة النسبية والسيولة المنتشرة اليوم يتطلب العودة لحقيقة الأخلاق من حيث كونها ملازمة للفطرة الإنسانية، ثم بيان ثبات مصدرها وتجاوزه بما يمنحها سمة الإطلاق وهو الدين.

أ- الأخلاق المطلقة من لوازم الفطرة الإنسانية:

إن صدق الأخلاق من حيث كونها مطلقة مرتبط بالرؤية الوجودية العامة، فإن قيمة “العدل” كما أنها أساس علم الأخلاق والسياسة، فكذلك هي أساس الوجود كله، فمبنى الوجود كله على العدل، فتلاقي الأخلاق والوجود في قيمة واحدة دليل على عمق اليقين المعرفي والصدق المنطقي للقيم الخلقية، فيقينها وصدقها مثل يقين وصدق الوجود المحسوس، ومن مصادر يقينها فطرة العقل العلمية والعملية، فإنها تدرك ضرورة حسن المبادئ الخلقية وقبح نقائضها، وكما أن لتلك المبادئ الخلقية بعدًا عقليًا فطريًا فكذلك لها بعد وجداني نفسي يدعم الحكم العقلي، فإن الإنسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والإحسان ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل.

فلا شك أن في النفس البشرية قوة تقتضي الحق وإرادة النافع، وتضطر الإنسان إلى الإدراك اليقيني بحسن كمال الأخلاق والشعور الضروري بملائمتها والحث على تطلبها وإرادتها، كما تلجئه إلى الإدراك اليقيني بقبح نقائض الأخلاق والشعور الضروري بمنافرتها، والحض على الابتعاد عنها.

وقد أكد القرآن على حقيقة تلك القوة الفطرية كما في قوله تعالى: “وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا (7) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (8)” سورة الشمس.

فإنه سبحانه إذا ألهم الفجور والتقوى، فالملهَم إن لم يميز بين الفجور والتقوى، ويعلم أن هذا الفعل الذي يريد أن يفعله هذا فجور والذي يريد أن يفعله هذا تقوى، لم يصح منه إلهام الفجور والتقوى.

وتلك القوة الفطرية التي تعد إلهام رباني هو الذي يطلق عليه فلاسفة الأخلاق المعاصرون اسم “الحاسة الخلقية”، أو “الضمير”، وهو عبارة عن “استعداد نفسي لإدراك الحَسن والقبيح من الأفعال، مصحوب بالقدرة على إصدار أحكام أخلاقية مباشرة، ويطلق أيضًا على الملكة التي تحدد موقف المرء إزاء سلوكه، أو تتنبأ بما يترتب على هذا السلوك من نتائج أدبية واجتماعية[7].

ولقد وصف “روسو” دور الضمير الفطري في الجانب الخلقي بقوله: “الضمير هو صوت الروح، والشهوة صوت الجسد، أما الضمير فلا يخدع أبدًا، هو الدليل الأمين، مقامه من النفس مقام الغريزة من الجسد… لنلق نظرة على شعوب الأرض، ولنتصفح أخبارهم، كم مختلفة شعائرهم الدينية بعضها وحشي صادم، كم متباينة أعرافهم وعاداتهم رغم هذا نجد عند الجميع وفي كل مكان، المفاهيم نفسها عن العدل والمروءة، التعريف نفسه للخير والشر”[8].

وشهرة القضايا الخلقية بين الناس، واتفاق بني آدم على التصديق بها وتحسينها وتقبيح أضدادها، يدلنا -بالضرورة- على أن لها أصلًا فطريًا ضروريًا مشتركًا بين الناس وأنها من لوازم الإنسانية[9].

وفي هذا السياق يقول على عزت بيجوفيتش “لا يمكن للإنسان أن يكون محايدًا بالنسبة للأخلاق، ولذلك فهو إما أن يكون صادقًا في أخلاقه أو كاذبًا، أو مازجًا بين الصدق والكذب، وهي حالة أكثر شيوعًا بين البشر. فالناس يتصرفون بشكل مختلف بعضهم عن بعض، ولكنهم يتحدثون دائمًا بطريقة واحدة عن العدل والحق والصدق والحرية والمساواة: يفعل الحكماء والأبطال هذا بحكم إخلاصهم ومساندتهم للحق، ويفعل السياسيون والقادة الغوغاء الشيء نفسه نفاقًا وبدافع من المصلحة…. فالتظاهر بالأخلاق والحرص على التخفي تحت قناع أخلاقي مما يتمثل في الحملات الإعلامية تحت اسم العدالة والمساواة والإنسانية.. كل هذا يؤكد حقيقة الأخلاق، مثلما تؤكدها المعاناة النبيلة للأبطال والشهداء”[10].

فالأخلاق – باعتبارها مطلقة – ضرورية للحياة العملية، فإن الإنسان لا يستطيع العيش في الحياة إلا بقانون خلقي يوجهه في كل حركة وسكون ويضبط له سلوكه، يكون معيارًا لحكمه، وهذا لا يتنافى مع الخصوصية الثقافية والدينية لكل أمة[11].

وفي هذا الإطار يبين الفيلسوف طه عبدالرحمن في كتابه “سؤال الأخلاق” أن الأخلاق هي الخصيصة التي تميز الإنسان حقيقة عن سائر المخلوقات، وأن العقل – كما يزعم الحداثيون الغربيون- ليس هو الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان، فيقول: “الأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلًا عن أفق البهيمة، فلا مراء في أن البهيمة لا تسعى إلى الصلاح في سلوكها كما تسعى إلى رزقها مستعملة عقلها، فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي، فالأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنسانًا”[12].

ب- أصل الأخلاق ومصدرها المتجاوز:

إن مما يؤكد على قصور فكرة نسبية الأخلاق وضعف قدرة الفرد الذاتية على صنع منظومة أخلاقية وأن يحدد ما هو المستحسن وما هو القبيح هو عجز العقل البشري عن ذلك، وفي هذا السياق يبين على عزت بيجوفيتش أن العقل لا يستطيع أن يولد منظومات أخلاقية، فيقول “إن العقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكمًا قيميًا عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي…. إن محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلي لا تستطيع أن تتحرك أبعد مما يسمى بالأخلاق الاجتماعية، أو قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من التنظيم الاجتماعي، نوع من الإجراءات والقوانين الخارجية. كما أن التحليل العقلي للأخلاق يختزلها إلى أنانية وتضخيم للذات”. ويبرهن بيجوفيتش على ذلك بذكر بعض الأمثلة ومنها مشهد إنسانًا يغامر بحياته فيقتحم منزلًا يحترق لينقذ طفل جاره، ثم يعود حاملًا جثته بين ذراعيه، فهل نقول إن عمله بلا فائدة لأنه لم يكن ناجحًا؟ وإنما هي الأخلاق التي تدور في إطار غير مادي هي التي تضفي القيمة على هذه التضحية عديمة الفائدة من وجهة النظر العقلانية المادية البحتة. ولذلك يرفض بيجوفيتش قيام الأخلاق على أساس عقلي خالص يقيس بمعيار المنفعة والمصلحة، وإنما لابد إلى جوار الأساس العقلي الأساس الفطري والقيمي والديني الذي يولد الإنسان مزودًا به، فهذا الذي يجعلنا نحب الفضيلة ونكره الرذيلة ونؤثر الخير على الشر.

وفي هذا الإطار أيضًا يقول “فرانسيس هتشسون” في كتابه (نظام الفلسفة الأخلاقية) مؤكدًا على أن الأخلاق ذات مصدر متجاوز للإنسان ولا يمكنه إنشائها بأي حال: “كما أن القيم العليا في المتعة الفنية والعلمية واضحة كل الوضوح بمقارنتها بمتعة الطعام، فكذلك الأمر بالنسبة للاختلاف بين الخير وغيره من المفاهيم الأخرى “فالقدرة على التعرف على القيم الخلقية لا يعتمد على الذكاء أو التعليم، فالأحكام الخلقية لا تأتي عن طريق العقل وإنما هي أحكام داخلية مباشرة”[13].

إن عجز العقل البشري عن إنشاء منظومة أخلاقية بالإضافة للوجود الفطري للقيم الأخلاقية الكبري العدل والصدق والأمانة واشتراك البشر في إدراك معنى الحسن والقبح يمثلان مقدمتين يستلزمان أن يكون المصدر المتجاوز للأخلاق هو الدين ولا يمكن أن يكون شيئًا غيره.

 يُوضح علي عزت بيجوفيتش هذا الأصل ببيان أن الخير والشر يكمنان في أعماق الإنسان، ولا توجد تدريبات أو قوانين أو تأثيرات خارجية يمكنها إصلاح الإنسان بشكل جذري. ما يمكن أن تحققه هذه العوامل هو تغيير السلوك فقط. ويبرز ذلك من خلال قصص الهداية والتغيير الأخلاقي، حيث يتحول أسوأ الطغاة والمذنبين بين ليلة وضحاها إلى أشخاص متواضعين ومناضلين من أجل العدالة. هذه التحولات هي دائمًا لحظات عفوية، وليست نتيجة لإصلاح أو إقناع، بل هي حركة تحدث في أعماق الروح، تحَول ينبع من الذات نفسها. وبالتالي، لا توجد عملية أو صدفة أو علاقة سببية يمكن تفسيرها بشكل عقلاني لهذه التغييرات، ولذلك فإن التدريب لا يؤثر في الموقف الأخلاقي للإنسان. يمكن تدريب الجندي ليكون قويًا، ماهرًا، وخشنًا، ولكن لا يمكن تدريبه ليكون مخلصًا، شريفًا، أو شجاعًا، فهذه صفات روحية لا يمكن فرضها. لا يمكن فرض عقيدة من خلال القرارات، أو الإرهاب، أو الضغط، أو العنف، أو القوة.

لهذا السبب، فإن التنشئة الصحيحة تختلف عن التدريب، لأنها لا تهدف إلى تغيير الإنسان بشكل مباشر، بل إلى تحفيز القوى الموجودة بالفعل داخل الإنسان من خلال الخبرات. وعندئذ يحدث قرار داخلي لصالح الخير من خلال المثال الصالح والنصيحة والملاحظة، فلا بد أن يكون التغيير نابعًا من إرادة الإنسان الداخلية، وإلا فسيكون تغييرًا ظاهريًا ومؤقتًا.

من هنا يؤكد بيجوفيتش على أن القيم التي تسمو بالحياة الحيوانية إلى مستوى الحياة الإنسانية تبقى مجهولة وغير مفهومة بدون الدين، فالدين مدخل إلى عالم آخر متفوق على هذا العالم والأخلاق هي معناه[14].

لكن من المهم أن نلاحظ أنه لا توجد علاقة حتمية بين عقيدتنا وسلوكنا. فالسلوك لا يكون دائمًا نتاجًا لاختيارنا الواعي، بل هو غالبًا نتيجة للتنشئة والمواقف التي نشأنا عليها في مرحلة الطفولة، أكثر من كونه ناتجًا عن المعتقدات الفلسفية أو السياسية التي تتشكل لاحقًا في حياتنا. على سبيل المثال، إذا نشأ شخص على احترام كبار السن، والحفاظ على كلمته، وحب الآخرين ومساعدتهم، واتباع الصدق، وكره النفاق، فإن هذه القيم ستصبح صفاته الشخصية، بغض النظر عن آرائه السياسية أو الفلسفية التي قد يتبناها لاحقًا. عند تحليل هذه القيم، نجد أنها غالبًا ما تكون مستمدة من الدين، حيث إن التعليم قد نقل أخلاقيات دينية مرتبطة بالعلاقة بين الناس، لكنه لم ينقل الدين نفسه الذي أتى بهذه الأخلاقيات. ونتيجة لذلك، قد نجد البعض منقسمين بين التمسك بأخلاقيات دين لا يؤمنون به، مما يؤدي إلى ظهور ظاهرتين معقدتين: الملحدون الذين يتمسكون بالأخلاقيات الدينية، والمؤمنون الذين لا يلتزمون بتلك الأخلاقيات.

لذلك يمكن القول إن هناك ملحدين يتبعون أخلاقيات، لكن لا يوجد ما يسمى بـ “الإلحاد الأخلاقي”. والسبب في ذلك أن أخلاقيات اللادينيين في الأصل تنبع من الدين، دين كان موجودًا في الماضي ثم اختفى تدريجيًا في غياهب النسيان، لكنه ترك آثارًا قوية على الأشياء والمفاهيم المحيطة بنا[15].

فالأخلاق لا يمكن وجودها بغير دين ولا يمكن تجاوز النسبية الأخلاقية بدون فهم هذا الأصل، لأن الدين هو الذي يفسر وجود الفطرة الخلقية في الإنسان، وهو الذي يفسر الطبيعة المطلقة للأخلاق ويمنحها سمة الثبات كونه مصدرًا خارجًا عن الإنسان متجاوزًا له.

ولذلك فإن الإنسان بحاجة إلى مرجعية متجاوزة له لا تتحكم فيها أهواؤه، فيبدل فيها كما يشاء، ويحول منكرها إلى معروف وقبيحها إلى حسن، بحسب منفعته المادية ورؤيته الذاتية، مرجعية تسع الكون كله لا مجموعة بشرية دون أخرى، لا معيار فيها للتفاضل إلا الإيمان الراسخ والعمل الصالح[16].

ج- المطلق والنسبي في المبادئ الخلقية

اتفاق بني آدم على مبادئ الأخلاق دليل على صدقها المطلق، وإنما تقع النسبية والاختلاف فيها من جهة تطبيقها وتحقيق مناطها،  فقيمة العدل – مثلًا-  مطلقة الصدق من حيث جنسها، إذ الناس متفقون على فضيلة إيجاب التسوية بين المتماثلين، لكن يختلفون في الاستواء والموافقة والتماثل، والفاصل لهذا النزاع والرافع لتلك النسبية هو الوحي الإلهي[17]. وهذا الفهم يختلف كثيرًا عن معتنقي النسبية الأخلاقية الذين لا يرون أساسًا هذا الاتفاق البشري على مبادئ الأخلاق، فهناك فارق بين الإيمان بصدق قيمة العدل باعتبارها قيمة مطلقة نسعى نحو تحقيقها، وإن لم نحققها بنسبة مئة بالمئة، لكنها واضحة لدينا كهدف وقيمة عليا، وبين أن نشكك في كونها قيمة عليا مطلقة من حيث الأصل ونبدأ في إعطائها مسميات أخرى.

خاتمة

لقد ساقنا عالم اليوم – الذي تسوده الضبابية والعدمية واللايقين والذي يعيش فيه الإنسان أزمة حقيقية نحو ذاته – إلى إعادة النظر في البديهيات والمسلمات، ومن ذلك نزع صفة الإطلاق عن الأخلاق كمبادئ وقيم عليا يعرفها الإنسان بفطرته السوية دون أدنى مجهود، فهو يفرق بين الخير والشر والصدق والكذب والعدل والظلم، حتى جاء إنسان الحضارة الغربية المعاصرة “إنسان ما بعد الحداثة” متمردًا على هذه المعارف الضرورية بسفسطة جديدة نازعًا القداسة عن كل شيء حتى عن نفسه، صابغًا العالم بحالة من السيولة وغياب المرجعية. ونظرًا لأن أمتنا اليوم يصيبها ما يصيب العالم من هذه الأفكار الدخيلة فإننا نقف عندها لتفنيدها وبيان فسادها، فقد قدمنا ما يبين عدم اتساق الفكرة القائلة بنسبية الأخلاق والتناقض الذي يقع فيه معتنقيها لأنه يتعذر عليهم الانخلاع التام من طبيعتهم التي فطرهم الله عليها، وتلونا ذلك ببيان الأصل الذي من خلاله نستعيد الطبيعة الصلبة للأخلاق، وذلك ببيان وجودها الفطري في الإنسان ابتداءً والمصدر المتجاوز لهذا الوجود وهو الدين، في محاولة لإعادة الأمور لنصابها في هذه المعركة الفكرية التي تخوض غمارها أمتنا ومجتمعاتنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية.

[1] أحمد زايد، الأزمة الأخلاقية في مجتمع ما بعد الحداثة، مجلة التفاهم، المجلد 13، العدد 48، 2015.

[2] عرابي عبد الحي، ما بعد الحداثة، السبيل، 5 يناير 2018، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/k2tPq

[3] أحمد زايد، الأزمة الأخلاقية في مجتمع ما بعد الحداثة، مجلة التفاهم، المجلد 13، العدد 48، 2015.

[4] إبراهيم بن عبدالله الرماح، الإنسانوية المستحيلة وإشكالات تأليه الإنسان وتفنيدها في الفكر المعاصر، (الرياض: مركز دلائل)، 2019

[5] عرابي عبد الحي، ما بعد الحداثة، السبيل، 5 يناير 2018، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/k2tPq

[6] جوناثان دولنتي، أسطورة النسبية الأخلاقية، أثارة، 26 يناير 2021، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/7dAgb

[7] عبدالله بن نافع الدعجاني، منهج ابن تيمية المعرفي قراءة تحليلية للنسق المعرفي التيمي، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2014.

[8] جان جاك روسو، دين الفطرة أو “عقيدة القس من جبل السافوا”، تعريب: عبدالله العروي، (المغرب ولبنان: المركز الثقافي العربي)، 2012.

[9] عبدالله بن نافع الدعجاني، منهج ابن تيمية المعرفي قراءة تحليلية للنسق المعرفي التيمي، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2014

[10] علي عزت بيجوفيتش ، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس. ط. 2. (ميونخ: مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات). 1997

[11] عبدالله بن نافع الدعجاني، منهج ابن تيمية المعرفي قراءة تحليلية للنسق المعرفي التيمي، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2014

[12] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي)، 2000

[13] علي عزت بيجوفيتش ، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس. ط. 2. (ميونخ: مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات). 1997

[14] علي عزت بيجوفيتش ، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس. ط. 2. (ميونخ: مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات). 1997

[15] علي عزت بيجوفيتش ، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس. ط. 2. (ميونخ: مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات). 1997

[16] ثناء عبدالرشيد، أزمة الأخلاق المعاصرة بين على عزت بيجوفيتش وطه عبدالرحمن دراسة مقارنة في الفكر الإسلامي، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد 88، العدد 1، 30 يونيو 2019.

[17] عبدالله بن نافع الدعجاني، منهج ابن تيمية المعرفي قراءة تحليلية للنسق المعرفي التيمي، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2014

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

الإنسانوية المستحيلة: إشكالات تأليه الإنسان وتفنيدها في الفكر المعاصر

تأليف: د. إبراهيم بن عبد الله الرمَّاح

عرض: أ. يارا عبد الجواد

إن الناظر في واقع حال الأمة الإسلامية اليوم يجد حروبًا على جبهات عدة بعضها بالقوة الخشنة والبعض الآخر – وهو الأكثر خطورة- بالقوة الناعمة والغزو الثقافي الذي بات يأكل في جسد الأمة في الخفاء مستهدفًا وعي أبنائها وعقيدتهم.

مركزية الفعل الأخلاقي في الرؤية الإسلامية

د. عبد الرزاق بلعقروز

إن إعادة بناء منهج النظر إلى القيم الأخلاقية يجب أن يتم بنقل القيم من دائرة الوجود الكمالي أو التجزيئي أو التهميشي الى دائرة النموذج الحاكم والإطار المرجعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.