العنوان: الإنسان الرقمي والحضارة القادمة.
المؤلِّف: دانيال كوهين.
المترجم: علي يوسف أسعد.
الطبعة: ط. 1.
مكان النشر: الجبيل “السعودية”.
الناشر: صفحة سبعة للنشر والتوزيع.
تاريخ النشر: 2022.
الوصف المادي: 268 ص.؛ 21 سم.
الترقيم الدولي: 3-28-8387-603-978.
أولًا: التعريف بالكاتب:
دانيال كوهين هو أحد الاقتصاديين الأكاديميين في المدرسة العليا للأساتذة في فرنسا، وأحد المؤسسين لمدرسة باريس للاقتصاد، وُلد في تونس العاصمة في عام 1953، وتوفي في باريس في عام 2023. كتب كوهين عِدة كُتب في مجال الاقتصاد والتحديث، منها: ثروة العالم وفقر الأمم، والرغبة اللامتناهية في النمو، وازدهار الرذيلة، والإنسان الاقتصادي، إلى جانب هذا الكتاب (الإنسان الرقمي والحضارة القادمة)، وغيرها من الكتب.
حصد الكاتب على مدار سيرته المهنية العديد من الجوائز، منها: جائزة الجمعية العلمية الفرنسية للعلوم الاقتصادية، وجائزة اقتصادي العام من مجلة الإيكونوميست، والجائزة الأوروبية، وجائزة الاستحقاق الخاصة من مجلة أمريكان إكسبريس من بين جوائز أخرى عديدة.
المقدمة:
على عكس المتوقع من عنوان الكتاب “الإنسان الرقمي والحضارة القادمة”، لا يُعنى هذا الكتاب فقط بالأثر المباشر للآلة الرقمية على الإنسان، بل يرسم من ثنايا الموضوعات التي يُغطيها صورة لمجتمع كامل يُشكل الإنسان، ويشكله الإنسان والآلة معًا. لقد انعكست آثار التقانة الرقمية على كل منحىً من مناحي الحياة تقريبًا: الاقتصاد، العلاقات الاجتماعية، البيولوجيا، ومن ثمَّ الإنسان ذاته، فمهدت لنشوء حضارة رقمية تنفصل قيمها عن القيم التي أقامت الحضارات والمجتمعات البشرية منذ نشأتها قبل مئات ألوف السنين من ميلاد المسيح عليه السلام.
أفرزت القيم الجديدة التي أوجدتها الحضارة الرقمية عوائق اجتماعية ونفسية كبلت طبيعتنا الإنسانية، وخلقت اقتصادا جديدا وأيديولوجية جديدة، فظهرت رأسمالية رقمية هدفت إلى تقليل تكلفة التفاعلات المادية من خلال إلغاء هذه التفاعلات، فصار كل شيء يجري عبر الإنترنت – تقريبًا – من علاج، وتعليم، وترفيه، وكان الفائز الأكبر الشركات الكبرى التي ارتفعت قيمتها السوقية لتصير دولًا في داخل الدول.
وحُيدت العلاقات المباشرة بين بني البشر إلى حد تدخلت فيه الآلة في عمليات التوظيف والقبول في مؤسسات التعليم، وتمت رقمنة العلاقات الحميمة، فصارت العاطفة والحب يجريان عبر الإنترنت، وسيطرت عليهما الخوارزميات. وفُكِّكَت تِبعًا لذلك مؤسسات المجتمع الصناعي – القديم – كالنقابات، والأحزاب، والمصانع، في محاولة لخلق مجتمع غير تراتبي، فأصبحت الطبقات الاجتماعية – على غير المراد – عبارة عن مجموعات معزولة عن بعضها البعض.
من رحم هذه التفاعلات خُلق الإنسان الرقمي – غير العقلاني – الذي يعيش في معازل رقمية لا يرى سوى ما يُقدَّم فيها من رؤى وأفكار، فغُذِّي التطرف وخطاب الكراهية، على عكس صورة المجتمع التداولي الحر الذي بشرت به تلك التقنيات، وصارت السلع المستهلكة في تلك المعازل أفكارًا ومعتقدات يشتري الفرد منها ما يؤيد عقليته، وينبذ ما خالفها.
كانت هذه هي الفكرة الرئيسة التي صدر بها الكاتب كتابه، واختصر فيها على نحوٍ وافٍ ما جاء في الفصول التالية. ويمكننا من قراءة المقدمة أن نخلُص إلى أن نظرية الكاتب التي أراد إيصالها هي: لقد جاءت الرقمية فحوَّلت الإنسان إلى تابعٍ مستعد للتخلي عن إنسانيته، وخلقت مجتمعا منعزل الطبقات، ما يهدِّد الإنسان وحضارته بسبب قيم الديستوبيا الرقمية التي تسود الآن لتشكل مجتمع ما بعد بعد الحداثة.
وقد توزعت الأفكار التي تناولها الكاتب على سبعة فصولٍ قُسِّمَت إلى جزئين: أولهما يشرح الأشكال الرقمية المتباينة وما تفعله بالإنسان وحضارته، أما الجزء الثاني فيتناول الإنسان من ثنايا ما خلقته الرقمية من قيم، وسلوكيات، وأخلاقيات جديدة، اختلفت عن قيم الحضارات المتعاقبة. ويمكننا تناول ذلك على النحو التالي:
الجزء الأول (الوهم الرقمي)
- العقل والجسد:
- كيف يُمكن خلق الإنسان الخارق؟ وهل يعيش الإنسان الآن في خيالٍ علمي ابتكره في الماضي؟ وما يُميِّز الإنسان عمَّا سواه من أشكال الحياة واللا حياة – الروبوتات الرقمية – الأخرى إن جاز لنا التعبير؟
لقد كشف الثورة الرقمية مجالات لرفع كفاءة الإنتاج البشري والبشر ذاتهم، كانت – إلى وقت قريبٍ – حِكرًا على الخيال العلمي. فبات من المُمكن إدماج التقنية الرقمية في داخل الأجساد البشرية من أجل رفع قدراتها على العمل والإنتاج، ومعالجة أوجه القصور البيولوجية بها، الثورة الرقمية – بهذا المعنى – تمثل الشكل الأحدث من الثورة الصناعية، غير أن الثورة الجديدة جعلت من الإنسان ذاته وسيلة الإنتاج وغايته في آنٍ واحد.
وجهَّت الإمكانيات الجديدة أعين الجيوش من أجل استخدامها في ميدان الحرب، فظهر “الجنديُّ المعزَّز” القادر على إرسال واستقبال المعلومات والأوامر من داخل ميدان الحرب بشكل مباشر، وإدارة نُظم أسلحة بأكملها من خلال زرع تقنيات للذكاء الاصطناعي تحت جلده.
يثير ذلك مسائل أخلاقية جديدة، إذ كيف نتجنَّب الآثار السلبية لدمج الإنسان والآلة؟ لقد وُضعِت توصيات أخلاقية تمنع استخدام أي من التقنيات التي تتعارض مع كرامة الإنسان، أو تؤثِّر على العمليات الفكرية للجندي المقاتل، أو تسلبه إرادته الحرَّة، أو تعوق من إمكانية إعادة دمجه في الحياة المدنية من جديد. وهنا يجب ألَّا نقع في شَرَك التهويل من آثار الذكاء الاصطناعي، وفي نفس الوقت ألا نهون من تأثيرها، فالثورة الرقمية تستوجب استكشاف إمكانياتها وأخطارها، ومعرفة ما يلزم للسيطرة عليها.
ما يميز الإنسان عن الآلة في المقام الأول هو عقله، إذ – على عكس الآلة – يستطيع الإنسان منذ مرحلة مبكرة من حياته أن يصوغ النظريات عن العالم حوله، لتعينه على سبر طريقه في الحياة، دون أن يكون قد خاض كافة تجاربها، فحياة الإنسان قصيرة ولا تكفي لعيش كافة الاحتمالات الممكنة التي من الممكن أن نعيشها.
تتسم عقلية الإنسان بسمتين رئيستين: الأولى: حوارية التفكير الإنساني، فالإنسان يُنتج أفكاره من خلال الحوار مع الآخرين أو مع ذاته. يشحذ الحوار قُدرة الفرد على صياغة الحجج، والدفاع عن أفكاره، وفي نفس الوقت تؤهله من أجل أن يتخلى عن أفكار ثبت خطأها. والسمة الثانية: هي القدرة على التخيُّل، أو بمعنى أصح القدرة على الاعتقاد والترجيح، وذلك على نحو يفوق الحيوان والآلة معًا، فالإنسان يدرك ما يدور بخَلَده، ويدرك أن الآخرين يدركون أيضًا، وهو قادر على التفاعل مع ذلك، وقادر على ابتكار عالمٍ خارج العالم الحقيقي. ساعدت هذه السمة العقلية الإنسان على ابتكار الفن والأدب، والدفع بخلق المجتمع، والثقافة، وغيرها من أشكال الفكر والحضارة.
يعمل العقل البشري في إطار قدرات الجسد، التي تحدُّه وتوجهه، فقد تُعيق الأمراض الجسدية – كالاختلالات الذهنية – قدرتنا على الالتزام بشكل معين من الأخلاق المجتمعية، أو التفكير المنظَّم، أو التنبؤ والتخطيط للمستقبل، فإصابة الدماغ في حادثة على سبيل المثال من شأنها أن تقلِّل من تلك القدرات العقلية للفرد.
كما أن المشاعر والرغبات الجسدية لها دور في توجيه التفكير الإنساني، فمع ربط العاطفة بالتفكير تنتج الرغبة نحو الفعل. وثمَّة مشاعر أساسية نجدها عند كافة البشر على اختلاف مشاربهم وألوانهم: الحزن، الفرح، الخوف، الغضب، المفاجأة، والاشمئزاز، وتأتي بعد ذلك مشاعر أطلق عليها الكاتب “المشاعر الأخلاقية”، والتي يكتسبها الفرد من المجتمع كالشعور بالذنب، والخجل، والامتنان، والعار، وتنظم هذه المشاعر الأخلاقية الحياة داخل المجتمع وتفاعل الفرد معه.
ناقش الكاتب بعد ذلك أنماط التفكير البشرية، وقسمهما إلى نمطين – اعتمادًا على دراسة بول إيكمان – هما: التفكير السببي (المبسط والسريع) والتفكير الإحصائي (المعقد والبطيء). ورأى أن الإنسان ينزع إلى تبني التفكير السببي الذي يربط بين وقائع الحياة، وأسباب بسيطة لتساعدنا على الفهم والتفسير، وعادة ما تكون الأسباب التي يتوصَّل إليها عبر هذا النوع من التفكير غير محايدة، فترتبط بمعتقداتنا، أو بمعنى آخر بما نريد أن نصدقه. أما التفكير الإحصائي فيعمل على تحليل الوقائع كما هي من دون تبني فكرة مسبقة عنها، وهو ما لا يستسيغه البشر.
يظهر بالجمع بين هذين النمطين نمط ثالث من التفكير، وهو ما أطلق عليه الكاتب بالمعرفة الفطرية (أن نعلم أن 1+1 = 2) بشكل تلقائي. ويكمن الفارق الأساسي بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي في أن الذكاء الاصطناعي ينحصر في نمط واحد من التفكير (التفكير الإحصائي)، فتستطيع الآلة تخزين قدر هائل من المعلومات والاحتمالات للوصول إلى نتيجة معينة، ولكن بدون بناء نظرية أو ابتكار شكل معرفة جديد.
وهنا تظهر أهمية المشاعر والعواطف التي تفتقدها الآلة، أو ما أطلق عليه الكاتب “الفطرة السليمة” في التعامل مع المعلومات المتاحة، فلا تتمتع الآلة بالمرونة في التعامل مع ما تصل إليه من استنتاجات، فعلى سبيل المثال، إذ طلب فرد من آلة ذكية أن تصنع له قدح قهوة، فقد تقتل هذه الآلة صاحبها إذ وجدته عائقًا في تنفيذ الطلب. وهكذا فإن حصر نمط التفكير الإحصائي في الذكاء الاصطناعي من أجل تنفيذ المهام دون تدخل البشر أمر منافٍ للصواب.
- العقل وإفساد العقاب:
الحق أننا إذا قيمنا وقارنَّا الذكاء الاصطناعي والآلات الرقمية مع مخترعات ثورية سابقة لها على سُلَّم الحضارة الإنسانية، نجد تفاوتًا ملحوظًا، فعلى سبيل المثال، كان من نتاج ظهور الطابعة على يد جوتنبرج أن خُلق إنسان جديد أكثر ثقافةً وعلمًا، وخلقت مساحات للتداول وطدت من أواصر علاقات الإنسان بأخيه الإنسان على تباعد المسافات واختلاف المدائن، أما الذكاء الاصطناعي – فعلى النقيض – خلق إنسانًا غير واعٍ بوقائع الحياة، وسحبه من بيئته الاجتماعية، ليعزَّز فردانيته التي ولدت مع ظهور التلفاز وتأكدت بظهور شاشات الهواتف النقالة اليوم.
وجه انسحاب الإنسان من الحياة الواقعية ضربة قاصمة لقدرته على بناء علاقات سوية وعلى التفكير المنطقي، بل إن مجرد القيام ببعض العمليات الحسابية بات شيئًا مستصعبًا، وبات أسلوب التعلم البشري أشبه بتعلُّم الآلة من خلال نمط الاختبار والخطأ. وقد استغلت الشركات التكنولوجية هذه الهشاشة في سيكولوجية الإنسان، لتدعم المحتوى القائم على الإبهار، لجذب مزيد من الانتباه ولفترات زمنية أطول، لتظهر في النهاية أنماط سلوكية شاذَّه، تتغذى على جذب الانتباه العام إليها من خلال استفزاز الجمهور، ومن خلال الخروج عن القيم المجتمعية، وهو ما يولد بدوره ردود فعل مُضخَّمة في مواجهة تلك السلوكيات الشاذة.
أضعف كل ما سبق قدرة الفرد على بناء ذاته، بل وقدرته على إقامة علاقات سوية مع الغير. وقد ضرب الكاتب مثالًا لعجز كثير من مستخدمي الإنترنت في العالم الغربي عن إقامة علاقات سوية مع شركاء حياتهم، فمع انتشار المحتوى الإباحي على الإنترنت بات من غير الممكن لمن يتعاطونه الخروج من ربقته، فصارت علاقاتهم بمثابة تمثيليات يقلدون فيها ما يشاهدونه. ومن جهة أخرى حوَّل الإنترنت علاقات الحُبِّ إلى علاقات طارئة، يسعى كل طرف فيه إلى اللذة اللحظية، والتخلص من قيود الارتباط الواقعي، فلم يعد من الملزم أن يتحمل كل طرف المتاعب العاطفية أو النفسية لعلاقات الارتباط، فغدت مجرد علاقات عابرة.
من ناحية أخرى أنتج المحتوى الرقمي القائم على الإبهار رأسمالية جديدة أسماها الكاتب “رأسمالية المراقبة”، تحولت فيها بيانات المستخدمين إلى سلعة ثمينة لدى شركات التكنولوجيا الكبيرة، تحصل من خلالها على الأرباح الهائلة، فصارت تلك الشركات تتنافس للحصول على أكبر قدر من بيانات المستخدمين، وتسعى إلى الدخول إلى أدق تفاصيل حياتهم.
شجعت رأسمالية المراقبة الناسَ على كشف خصوصياتهم، وتفضيلاتهم، وحياتهم بشكل عام، لتتمكن الشركات من توجيه الإعلانات إليهم والحصول على المال، وذلك على عكس نظام المراقبة القديم الذي كان يحثُّ الناس على الالتزام بالقوانين الصارمة.
- بانتظار الروبوتات
صارت الروبوتات مكونا أساسيًا في المجتمع الرقمي الجديد، وساهمت في تقليل تكلفة تقديم الخدمات، فعلى سبيل المثال، وفَّرت الخوارزميات عناء الذهاب إلى البنوك، وحولت إدارة الشؤون المالية إلى خدمة ذاتية يقوم بها الأفراد بأنفسهم، كما تحوَّلت الطبابة إلى مهنة تُمارس عن بُعد في كثير من الحالات، واقتصرت اللقاءات بين الطبيب والمريض على اللقاءات المهمة، وظهرت روبوتات متخصِّصة في إدارة الشؤون الإدارية لتُغني عن المساعدين البشريين، وظهرت سيارات ذاتية القيادة تنخفض معدَّلات الحوادث معها إلى ما دون المعدِّل البشري، وهناك الروبوتات المستخدمة في اختبارات التوظيف والقبول بالجامعات.
ومع ظهور هذه الروبوتات وأمثلة أخرى كثيرة، برزت نقاشات حول إمكانية وجود روبوتات قادرة على التفكير، واتخاذ القرارات كما البشر، كما برزت نقاشات حول نموذج الأخلاقيات التي ستتبناها تلك الروبوتات إن أصبحت قادرة على الاختيار، هل هو النموذج الكانطي القائم على الاخلاق المطلقة، أم النموذج النفعي لبنتام، أم هو نموذج بينهما يقوم على المرونة العقلية التي يغير الفرد فيها أحكامه بناءً على المتغيرات الحادثة.
نحن ما زلنا على عتبة هذا المجتمع الرقمي الجديد، ولم تُكتَشف بعدُ آفاقه، ولم تُعرف الاستخدامات الكاملة للذكاء الاصطناعي، إذ ما زالت هذه التقنيات في مرحلة المهد، ولم تصل بعد إلى تعدد المهام، ولا يمكنها أن تستبدل الإنسان أو النموذج الصناعي بشكل كامل، على الأقل في الفترة الحالية، وإن كانت آثاره السياسية والاجتماعية في مرمى البصر.
- التخلخل السياسي:
من الآثار الاجتماعية التي نراها من جرَّاء التقدُّم التكنولوجي اختفاء الوظائف الوسيطة التي تربط بين المناصب العُليا والمناصب في المستويات الأدنى. إذ مكَّنت التقنيات الرقمية الشركات الكبيرة من الاستغناء عن بعض الوظائف – لا سيَّما – الإدارية، في سعيها إلى زيادة أرباحها، ورفع إنتاجيتها وكفاءتها. أدى ذلك إلى اتساع الهوة بين أجور من هم في المناصب العليا ومن ينتمون إلى مستويات العمالة الأدنى.
وبالمقارنة بين نموذج المجتمع الصناعي والمجتمع الرقمي الخدمي الجديد، نجد أن المصانع كانت قد ساهمت في زيادة قدرة العمَّال على إقامة علاقات على نطاق أوسع، ومكَّنتهم من الحصول على فرص للترقي إلى مستويات أعلى، كما كانت المصانع بمثابة مجتمعات يقيم فيه العمال علاقاتهم الأساسية. أما المجتمع الخدمي، فقد انقطعت فيه علاقات هؤلاء العمال ببعضهم البعض، وانتهت فرصهم للترقي، كما أن انحسار الصناعات إلى المناطق النائية أبعد المشتغلين بها عن الحياة المدنية أكثر فأكثر.
ساهمت هذه العوامل في قطع علاقات العمال بمجتمعهم، ومعاناتهم بشكل متزايد من التهميش والعزلة الاجتماعية، ومن ثمَّ أدت إلى تردي حالتهم النفسية والاجتماعية. وهكذا ظهر نوع من التأكل المجتمعي أدَّى إلى تنامي الشعبوية، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث انحاز العمال غير القادرين على مواكبة التقدَّم الحاصل في المجتمع الخدمي إلى الشعبويين من أمثال ترامب ومارين لوبان تعبيرًا عن عدم إيمانهم بالانتماء إلى المجتمع الجديد الذي يهمِّشهم.
كما نتج عن عدم الانتماء للمجتمع الجديد تآكلٌ الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية كالأحزاب السياسية، إذ نُظر إليها على أنها عاجزة عن تمثيل هؤلاء العمال، وأنها لا تسعى إلَّا إلى مصالحها، فبات النموذج الديمقراطي في النهاية في مهب الريح، ونما التوجه نحو المجتمع المنغلق وكراهية الأجانب، كتمثُّلٍ آخر لفكرة عدم الانتماء للمجتمع المنفتح الذي تتيحه التقنيات الرقمية.
وهكذا فإنه برغم الوعود الديمقراطية التي جاءت بها التقنيات الرقمية، لا يُمكن القول أنها خلقت مساحات حقيقة للتداول، بل عظَّمت من الانشقاقات والتصدُّعات المجتمعية وزادت من حدتها.
وعلى المستوى الفردي أظهرت تلك التقنيات انفصامًا داخل ذات الشخص، فنجد فيه: (الأنا العليا) التي تمثِّل الشكل المثالي للفرد الذي يسعى إلى تصديره للعالم الخارجي، محاولًا إخفاء العيوب فيه، و(الهو) والذي يمثِّل شخصية الفرد التي لا تتورع عن اتهام الآخرين وتهديدهم، وتتخفَّى في شكل اسم مستعار يهاجم من يخالفه في الرأي أو المعتقد.
وكذا برغم تنويع وسائل التواصل الاجتماعي لمصادر الأخبار والمعلومات، فقد تدنَّت على نحو ملحوظ نوعية تلك الأخبار، فمع سرعة تداول الأخبار على منصات التواصل الاجتماعي، اندفع الصحفيون إلى البحث عن الأخبار التي تسترعي الانتباه بسرعة، دون الاهتمام بجودتها. واندفعت كذلك وسائل التواصل الاجتماعي إلى تداول الاخبار الكاذبة، ومع تبني الأفراد لهذه الأخبار، تكونت حولهم فقاعات رقمية، تطرد خارجها أية معلومات من شأنها أن تتعارض مع ما يؤمنون به أو بالأحرى ما يتداولونه.
الجزء الثاني (عودة الواقع)
- المتخيَّل الاجتماعي:
- هل يُمكن بناء مجتمع حقيقي من مجرد قيام تفاعلات واتصالات بين مجموعة أفراد؟
كانت الفكرة الليبرالية القائلة بأن المجتمع يتكون من خلال تجميع أفراد معًا وإعطائهم وسيلة اتصال دون الحاجة إلى الأنظمة الاجتماعية والثقافية أو المؤسسات فكرة خاطئة. يُمكننا التوصُّل إلى هذا الاستنتاج من خلال تجربة حدَّدت الحد الأقصى لعدد المعارف المباشرين للفرد الواحد بمائة وخمسين شخصًا، في حين أن متوسط عدد الأصدقاء على فيسبوك للفرد الواحد يبلغ ضعف هذا العدد تقريبًا، إلى جانب قدرته على إيصال الأخبار والمعلومات، فلم يقم مجتمع فعالٌ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أي من دون النظم الاجتماعية والمؤسسات التي يفتقر إليها المجتمع الرقمي.
وعلى ذلك يذهب الكاتب إلى أننا بحاجة إلى مؤسسات تتجاوز الأفراد لتعهد إليها باحتكار العُنف المشروع، ففكرة إمكانية بناء مجتمع قائم على تفاعلات الأفراد فقط غير ممكنة كما نقيضتها القائلة بأنه يُمكن بناء مجتمع من خلال الإكراه فقط، فكلتاهما فكرتان وهميتان. تعتبر المؤسسة المجال الذي يُشكل وعي الأفراد، ونمط تفكيرهم، وهويتهم، كما أن ممارسات المؤسسة لها بالغ الأثر في تغيير الشخص الذي ينتمي إليها ليصطبغ بصبغتها.
والمجتمع – كذلك – لا يُبنَى بين عشيَّة وضحاها. ظهرت على طول الحياة البشرية على الأرض منذ مئات الألوف من السنين أنماط من المجتمعات البشرية اختلفت مع اختلاف حيوات البشر في مجتمعات الصيد، والمجتمعات الزراعية، والمجتمع الصناعي، إلى المجتمع الرقمي الناشئ في السنوات الأخيرة. وقد ادعى الكاتب أن هذه المجتمعات يمكن تصنيفها ضمن أربعة نماذج رئيسة:
- نموذج مجتمع المساواة الديني: ساد هذا النموذج في مجتمعات الصيادين وملتقطي الثمار، فلم يكن هناك تراتبية في داخل المجتمع – في أغلب الأحيان – وكان المجتمع عبارة عن مجموعات متشابكة من المجموعات الأصغر، تربطها علاقات اتصالية، وظهرت بعض المظاهر الدينية غير الطقسية تقوم على التماهي مع الطبيعة، والمساواة بين البشر والأشكال الحية الأخرى.
- نموذج المجتمع التراتبي الديني: برز هذا النموذج مع اكتشاف الزراعة وقيام الحضارات الكبرى في الشرق الأوسط والشرق الأدنى، فتحوَّل نظام المساواة إلى نظام هرمي تعود الأفضلية فيه إلى الأقدمية في المجتمع، ومع انصهار الدين مع الدولة وظهور طبقة الكهنة، ارتبط الخلود بطبقة محدودة من الملوك وأعوانهم والكهنة القائمين على المعابد. ومع “ظهور” أنبياء بني إسرائيل أصبح معيار الخلود يتمثل في الأخلاق، فانفتح الطريق إلى الخلود إلى العامَّة.
- نموذج المجتمع التراتبي العلماني: بدأ هذا النموذج مع الاكتشافات العلمية الحديثة في أوروبا، وتفكك النظام الأرستقراطي بها، وصعود الطبقة البرجوازية، فتحوَّل معيار تقدُّم المجتمع إلى معيار الربح أو المصلحة. وظهر بذلك المجتمع الصناعي الذي أسَّس لتراتبية صارمة تنتقل فيها السُلطة من المناصب الأعلى إلى ما سواها، فاستبدلت الأشخاص وظلت تراتبية المجتمع الزراعي قائمة.
- نموذج مجتمع المساواة العلماني: كانت بشارات هذا النموذج مع الحركات الهيبية في فترة الستينيات والسبعينيات، حينما ظهرت الدعوات إلى التركيز على الفردانية وقطع العلاقات مع الماضي. ومع ذلك فبعد هذه الفترة عادت قيم المجتمع الصناعي من جديد إلى الواجهة، حتى مجيء الثورة الرقمية الحالية، لتمنح أدوات جديدة تعزِّز الثورة الليبرالية من خلالها نفسها، وتؤسِّس لمجتمع علماني (مُتخيَّل) قائم على المساواة، بدون وجود أي سُلطة عليا مدنية أو دينية.
تحقَّقت المساواة الرقمية، ولكن بشكل سلبي، فمع الثورة الرقمية نشأت في التسعينيات اقتصاديات الشركات الكبرى، التي عملت على تجميع الأقران في مجموعات بعيدًا عن المجموعات الأخرى، فأصبح – على سبيل المثال – مكاتب المهندسين مفصولة عن خدمات التنظيف، فانقطعت بذلك الروابط التي كانت تربط العمال وبعضهم البعض داخل المصانع القديمة، ولم تعد كل فئة تحظى بذات الفرص التي تحظى بها الفئات الأخرى. هكذا أصبح المجتمع أفقيًا، ولكن بين الأفراد المتشابهين فقط، أطلق الكاتب على هذه الظاهرة “التقوقع حول الذات”.
ماثلت هذه الأفقية المتشظِّيَة حالة القبلية التي سادت في عصر الصيادين الأوائل قبل اكتشاف الزراعة، فحصل نوعٌ من الارتداد إلى النموذج القبلي، واختفت الهويات الثابتة التي ينتمي إليها الفرد، فأخذ يتطلع إلى ذات أعلى كالقبيلة، أو التدين، أو الطبيعة ذاتها. وهكذا لم تعُد الحقيقة ممثَّلة في شكل واحد، بل تعدَّدت الخطابات السياسية، والثقافية، والعلمية، ومع تشبُّع المجتمع بالمنتجات الاستهلاكية، اتجه الإنتاج نحو زخرفة هذه المنتجات، لتظهر رأسمالية مهووسة بالإعلان أكثر من هوسها بالإنتاج نفسه.
- الشتاء قادم:
- كيف يتعامل الإنسان الرقمي مع كوارث العالم الطبيعي؟
تتالت الأزمات والكوارث الطبيعية في القرن الحادي والعشرين. كان أبرز تلك الأزمات وباء كورونا، والذي غير من أنماط العلاقات الاجتماعية، إذ مع انتشار العمل عن بُعد، اتضح أن كثيرًا من الأشخاص غير راضين عن عملهم، وهو ما انعكس في رفض العديد منهم العودة إلى العمل بعد انتهاء الحجر الصحي. تمثَّل الخطر الأبرز الآخر في التغير المناخي الناجم عن الاحتباس الحراري، إذ تراكمت كميات من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي منذ عام 1990 حتى الآن فاقت ما تراكم خلال الفترة من 1850 إلى 1989، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات درجات الحرارة العالمية بشكل كبيرة عن معدَّلاتها قبل الثورة الصناعية.
في المجتمع الرقمي يظهر إنكار واسع للتغير المناخي، ويُرجع الكاتب سبب هذا الإنكار إلى أسبابٍ خمسةٍ: أولها، هيمنة التفكير السببي على تفكيرنا، إذ أننا عادةً ما نُبعد الأفكار المزعجة من أدمغتنا إذا لم تكن المشكلة تحدث بشكل سريع يدفعنا نحو العمل، والسبب الثاني، تأثير التعوُّد، إذ أننا ننحو نحو التكيُّف مع المشكلات التي تحدث بشكل تدريجي إلى أن تصل إلى ذروتها في النهاية، والسبب الثالث، إيماننا القوي بالتقدُّم التكنولوجي وفي أنه لا بد أن يجد حلًّا لهذه الكارثة، ويتمثَّلُ السبب الرابع في أن الإنكار يُمثِّل عاطفة تنظيمية تدفعنا إلى إهمال التفكير في الخطر المحدق بنا حفاظًا على حالتنا النفسية، وأخيرًا، أنه لا يكفي العلم بوجود الخطر، بل ينبغي وضع حل بديل للتخلُص من هذا الخطر من أجل توجيه أعين الناس إليه.
وهكذا فإن أحد الحلول المقترحة من أجل الدفع نحو الشعور بثقل أزمة التغيُّر المناخي – من وجهة نظر الكاتب – هو الإيمان بحتمية وقوع تلك الكارثة، فمع هذا الاعتقاد يندفع الإنسان لاتخاذ تدابير لمقاومة هذا الانهيار البطيء للحضارة، وتتحول تلك الكارثة إلى ما أسماه الكاتب “الأزمة المستنيرة”. تشبه عملية التعامل مع الكارثة في هذه الحالة عملية مسايرة للكارثة ذاتها من أجل البقاء وليس من أجل إنهائها، أي تتحول إلى عملية تكيُّف.
وفي ظل المجتمع الرقمي لا يكفي مبدأ المسؤولية الذي ابتدعه “هانز يوناس” لحل مشكلة التغير المناخي. فلا يكفي أن تدفع الشركات أو الدول المتسببة في التغير المناخي ضرائب مادية بدعوى الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، لأن ذلك يجعل من المشكلة المطلوب حلها، مشكلة محلولة بالفعل على عكس الواقع. كما أنه من غير المجدي أن نتحدث عن حلٍ للتغير المناخي دون أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية للفرد ومكانة المستقبل والمناخ عنده، فليس من الممكن أن نقنع فردًا أجبرته طبقته الاجتماعية أن يعيش خارج الحياة المدنية بأن يتخلَّى عن مقدرات حياته من أجل الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، وبالمثل، فلا يمكننا إجبار الدول النامية التي تسعى إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة أن تتخلَّى عن السيارات والوقود الأحفوري من أجل التغير المناخي.
- بعد مائة عام:
في المجتمع الرقمي أحدثت صور الإبهار الغربية المتسربة من الشاشات تغيُّرًا ديمُغرافيًا على مستوى العالم، فمع النزوع إلى التخلي عن قيم المجتمع الزراعي التي استمرت لعشرة آلاف عام، تغير وضع المرأة مع تبنيها للأنموذج الغربي كمثال للتحرُّر، ولم يعد وضعها كمربية للأطفال مستساغًا، وهو ما أدى إلى تآكل في أعداد السكان في المجتمعات الغربية ومن ثمَّ في الدول النامية في النهاية.
كما تغيرت عقلية الاستهلاك والإنتاج في المجتمع الرقمي، إذ مع نموذج الإبهار في ذلك المجتمع، تركز الإنتاج على الكم وإنتاج السلع الكمالية دون أخذ الجودة بعين الحسبان، وأصبح الاستهلاك منحصرًا في الحصول على أحدث طراز من أي منتج، واستبداله إذا تعطل أو تقادم. يكمن الهدف النهائي للنموذج الإنتاجي والاستهلاكي هذا إلى زيادة ربح الشركات الكبيرة، بما لا يدع مجالًا للعلاقات الإنسانية، فالشركات قد تفعل أي شيء من أجل الربح. على سبيل المثال، عند تطبيق مبدأ الربحية على دور رعاية المسنين في فرنسا، تدهور الوضع في تلك الدور، وانخفضت النفقات المُخصَّصة لرعاية المسنين إلى الحد الأدنى، فمجال التركيز تحوَّل إلى الربح وليس إلى رعاية الإنسان.
وبرغم ذلك، فإن الربح المادي لا يرتبط برفاهية الإنسان، فيوم مشمس له أثر إيجابي على رفاهية وسعادة الإنسان أكثر من تأثير زيادة الدخل، كما أن إنفاق جزء من الدخل في أعمال الخير له تأثير مضاعف على رفاهية الفرد مقارنة بمراكمة هذه الأموال. وهكذا فإن الصحة العقلية والنفسية للفرد هي العامل الأهم في رفاهية الأفراد من وجهة نظر الكاتب.
يُمثِّل إدراك البشر للمشاعر تلك أحد أبرز أوجه الاختلاف بين التفاعل البشري والتفاعل الآلي، فعلى سبيل المثال، يتسم التعليم عن بُعد بانخفاض مردوده المرجو مقارنة بالتعلم المباشر بين المعلم والمتعلم، إذ مع انعدام التفاعل العاطفي بين الأفراد البشريين، تصبح الرقمنة المنهجية للعلاقات الإنسانية بما فيها التعليم الرقمي بلا قيمة.
وختامًا: فإن كتاب الإنسان الرقمي والحضارة القادمة لا يربط فقط بين التقانة والمجتمع، بل يتوسع ليشمل ربط الواقع بالخيال العلمي، فكل منجزات التقانة التي نراها اليوم كانت نتاج الخيال الذي ابتكره العقل البشري على امتداد حضارته. ومن هذا المنطلق يطرح الكاتب فكرته الرئيسة، هل يُمكن أن يكون الخيال العلمي علمًا فقط؟ وهل يظهر من أفكارنا واقعٌ نحيا فيه بسبب التقنيات الرقمية؟ وما سمات هذا الواقع؟
يغوص بنا الكاتب في تفاصيل تلك التساؤلات على مدار كتابه هذا، ويرى بأننا على أعتاب مجتمع جديد منفصلٍ تمامًا عن قيم المجتمعات السابقة له، حيث الإبهار هو نمط الحياة الرئيس، والاستهلاك الخدمي هو الاقتصاد القائم، والعزلة الاجتماعية هي الواقع الاجتماعي الذي يحيا فيه الفرد، أي باختصار فإن الحضارة القادمة هي حضارة الوهم الرقمي.
خُصِّص الجزء الأول من هذا الكتاب لتأثر التقنيات الرقمية على حياتنا، وأظهر أن المجتمع يندمج بشكل مطردٍ مع التقنيات الرقمية، وأن حياتنا بدأت تترقمن دون هوادة. وجاء الجزء الثاني ليطرح أمام أعيننا بعض المشكلات التي يُعانيها الكوكب بأكمله، لعل هذه المشكلات تعمل على إفاقة الإنسان الذي غيبته التكنولوجيا عن الواقع، وتدفعه إلى التصرف والعمل على حلها.
وإجمالًا، فإن الحلَّ الذي يتبادر للذهن مباشرةً عند قراءة هذا الكتاب من أجل تلافي مشكلات المجتمع الرقمي هي استعادة إنسانية الإنسان، بمعنى أن يكون الإنسان هو غاية التقدم وليس وسيلته، وأن تُراعى كرامته، ويُنمَّى تفكيره، وأن نقتنع أن المجتمع هو نتاج خبراتنا التي امتدت لألوف السنين من قبل الميلاد وحتى اليوم، وأن التقنيات الحديثة لا يمكنها بناء أي مجتمع بمفردها.
عرض:
أحمد خميس أحمد السمبختي*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الإسكندرية.