تنوير لا يخاصم الشريعة: ملك حفني ناصف والحجاب

تنوير لا يخاصم الشريعة: ملك حفني ناصف والحجاب*

ملك حفني ناصف

ملك حفني ناصف رائدة من رائدات الحركة النسائية، كان تصورها لتحرير المرأة مرتبطًا بالعلم والخلق والدين، لا بنزع الحجاب أو المطالبة بالمساواة الشكلية، ولذلك فهي تمثل تيارًا خاصًا في الفكر النسائي العربي المبكر، أقرب إلى الأصالة منه إلى التغريب. كما لم يكن تصورها عن “تحرير المرأة” مطابقًا لمفاهيم التحرر النسوي الحداثي كما تطورت في الغرب أو حتى كما تبنته رائدات عربيات لاحقات. كانت ملك حفني ناصف ملتزمة بالإسلام كمرجعية فكرية وأخلاقية، وتحدثت عن “الإصلاح” بدلًا من “التحرر، وكانت تدعو إلى التعليم للنساء، وإصلاح الأسرة، لا إلى القطيعة مع التقاليد.

  لم ترفض ملك حفني ناصف الحجاب بمعنى تغطية الوجه والكفين، لكنها دعت إلى الحجاب الذي يغطي الرأس مع احتشام الملابس، مع رفضها للحجاب الذي يعني انعزال المرأة تماما في منزلها وعدم خروجها نهائيا. وكانت تختلف مع من يدعون إلى السفور المطلق (التخلي عن غطاء الرأس واللباس المحتشم أو الاختلاط غير المنضبط). كما انتقدت التقليد الأعمى للغرب، وقد ركّزت على تحرير المرأة من الجهل والحرمان من الحقوق ضمن إطار اجتماعي وأخلاقي محافظ، ودعت إلى تحسين وضع المرأة في البيت والأسرة قبل أن تطالب بوجودها في الفضاء العام، واستخدمت في مقالاتها لغة إصلاحية محافظة أبعد ما يكون عن الاصطدام المباشر مع القيم الدينية والاجتماعية السائدة.

في مقال “الحجاب أم السفور”، ردت ملك حفني ناصف على خطبة ألقاها رئيس تحرير مجلة “السفور”، عبد الحميد حمدي، الذي طالب بسفور المرأة المصرية -والذي قصد به اختلاطها وخلعها لغطاء الوجه- وندد بالحجاب -وقصد به حجبها عن الناس وزيها-[1].

ومما قالت في مقالها:

بقيت مسألة الحجاب، وهي تلك المسألة العويصة التي قامت من أجلها منذ سنين حرب قلمية عنيفة وضعت أوزارها على غير جدوى فلم يفز فيها (المحافظون) على القديم ولا (الأحرار).

ولست أنتقد اقتراح السفور من الوجهة الدينية؛ لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا في هذه المسألة، كما بيَّن ذلك حضرة الخطيب، ولا من الوجهة الاقتصادية فإن باقتراحه أن نلبس لباسًا يضارع ما ترتديه الراهبات المسيحيات لتوفير كبير لما كنا عسانا نصرفه في تأنيق اللباس الخارجي كما يفعل نساء الفرنجة مثلًا. كذلك لست أنتقده من الوجهة الأدبية فإن ذلك اللباس وبساطته لأليق بتأزرنا به من تلك الحبر المهلهلة، كما سماها الخطيب، ولأدل على حشمة صاحبته — وإن كانت سافرة — مما تلبسه الآن مبرقعة، وشتان بين هذا البرقع الوهمي والبرقع الصحيح.

إذن، لم يبقَ للموضوع إلا وجهة واحدة وهي الوجهة الاجتماعية، وإذا انتقدته من تلك الجهة فإني لا أقلد فيه ولا أتبع عادة رأي غيري، بل أصرح بما أشاهده عيانًا، وبما أعرفه من أحوال شتى جربت فيها النساء المختلفات، والتجارب يجب أن تقدم أوامرها على أوامر البحث والتخيل.

وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب، وذاك نقب وخطب، إلا إذا تبينا الرشد من الغي، وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالاتباع. وأمامنا الطبقات المختلفة والأجناس العديدة يجب أن نبحث كلًّا منها على حدته، ونجمع منها كلها حكمًا واحدًا نحكم به على أنفسنا إما بالحجاب، أو بالسفور، أو غير ذلك مما سنوضحه بعد.

وطبقات النساء (كالرجال) في كل أمة ثلاث: العامة والخاصة والوسط، وأصحها آدابًا فيها كلها على الإطلاق الوسط، ولا بد لذلك من سبب. نعم؛ السبب راجع إلى التربية؛ فالخاصة أو طبقة الغنيات يرخين لأنفسهن العنان في الملاهي والملاذ، والجدة مفسدة في الغالب خصوصًا إذا اقترنت بالفراغ، وهؤلاء عندهن من الخدم من يقوم بشؤون بيوتهن وأمور أولادهن، وقد يعودن عيش الكسل والراحة.

والطبقة الدنيا تجد من حاجتها باعثًا لها على طرق الطرق المختلفة لتجلب ما تسد به الرمق، ويختلط نساؤها برجالها في المصانع والمزارع وغيرها، وهذه الطبقة شر على الآداب في كل أمة حتى في الإفرنج، وهم ليسوا مقيدين بحجاب ولا عادة يقال معها إنهم لما خالفوها وقعوا في شر منها كما يجوز تطبيق ذلك علينا.

وطبقة الوسط، وهذه دائمًا أحسن الطبقات آدابًا وأكثرهن حشمة ووقارًا، ولرب معترض يقول: ما لنا وللطبقات وآدابها وما نسبة ذلك للحجاب وقد أدخلت في حكمك هذا الأمم حتى التي لا حجاب عندها؟

فأقول: متى عرفنا ذلك التقسيم وقارنَّا بين درجة اختلاط النساء في كل طبقة برجالها علمنا تمامًا أن الأكثر اختلاطًا هن الأشد فسادًا.

وإذا رجعت لغنيات مصر وهن (الذوات)، ويقلدهن بعض نساء الوسط، فهؤلاء يتفنن في الملابس ويكثرن من الخروج تحككًا لأن يسمح لهن برفع الحجاب، ولكن على طريقة بعيدة من الأدب، فإنهن لو كن يطلبن ذلك رغبة في الحرية الشريفة مثلًا أو إنهن يشعرن أن الحجاب يمنعهن من الاستفادة من العلماء، أو غير ذلك من الأسباب الجائزة لوجب إعطاؤهن ما يطلبن بغير تكلف البحث والعناء.

أما ونساء مصر على هذا الجهل المطبق ورجالها، إلا القليل، على هذا الفساد المستحكم فلا يجوز مطلقًا إباحة الاختلاط، على أن الإفرنج — وهم المتعلمون نساء ورجالًا — يشكون من فساد مجتمعهم وقلة وفاء أزواجهم. وإذن، نعلم أن الطبيعة البهيمية في الإنسان تجتاز عقبات التربية وتخترق سياجها إلا الشاذة، والشاذة لا حكم لها.

بقيت مسألة واحدة أجملها إجمالًا، وهي المثل القائل: (في الطفرة محال)؛ فنساء مصر متعودات الحجاب، فلو أمرتهن مرة واحدة بخلعه وترك البرقع لرأيت ما يجلبنه على أنفسهن من الخزي وما يقعن فيه بحكم الطبيعة والتغير الفجائي من أسباب البلاء، وتكون النتيجة شرًّا على الوطن والدين، وإذا أردت هدم بناء أفلا تهدمه قليلًا قليلًا إلى أن يتم الهدم فتبنى على أنقاضه أحسن منه. فإذا فرضنا محاولة هدم البناء دفعة واحدة (مستعملين الطرق والآلات التي نستعملها الآن) تصورنا كيف يستحيل ذلك مع بقاء المارة والبنائين سالمين، فضلًا عن الأنقاض كزجاج الشبابيك والخشب وما أشبه ذلك، فهذه الباقيات الصالحات في المرأة هي العفة والحياء والمنزل البالي حجابها الآن، والسابلة الوطن والدين والفضائل.

فناشدتك الله أيها الأديب، كيف تأمرنا الآن بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها عبارات الوقاحة، ويرشقها هذا بنظرة فاجرة، وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء؟! فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال ما أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه، ومجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع؛ يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها…

والخلاصة، أن خروجنا بغير حجاب لا يضر في نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال. وأظن هذا مستحيلًا أو بعيد الحصول، فإذا حصل التمازج وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لي عليه.

وهناك قوم يشددون في تقدير الحجاب، فيحبسون المرأة مؤبدًا ويمنعونها من زيارة جاراتها، ويضيقون عليها بحيث لا تستنشق إلا هواء بيتها الضيق الدائرة فتفسد صحتها وتكسل عن الحركة، ومنهم من يفتخر بأن امرأته لم تبرح بيتها طول عمرها. وهؤلاء أيضًا متطرفون؛ لأن المرأة لها رِجلان يجب أن تتحركا وعينان يجب أن تبصرا، فإذا صاحبها أبوها أو أخوها أو زوجها مثلًا في نزهة وأراها محاسن الطبيعة ودقائق الموجودات وجدد قواها بالحركة واستنشاق الهواء الجيد، وهي بمئزرها محتشمة، فلا يخرج ذلك عن معنى الحجاب.

على أن هذه المسألة واختلاف الآراء فيها قاضيها العادل الزمن والمستقبل، فكم من مسألة أبى قوم إلا اتباعها وآخرون نبذوها نبذ النواة؛ فاختلفوا وجاء الزمن مؤيدًا فيها لفريق دون فريق، فصارت له القوة ورجع له الحول فاتحدوا فيها. ورأيي أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب؛ فعلموا المرأة تعليمًا حقًّا وربوها تربية صحيحة وهذبوا النشء وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبًا، ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة. وإن هذا الموضوع وأمثاله لمما يدعونا إلى التفكر والتبصر فإننا بدأنا أن نجاري الإفرنج في كل شيء، والمجاراة ليست ضارة في حد ذاتها ماديًّا، ولكن ضررها اجتماعي محض، فضلًا عن كل ما بينت في مقالي هذا فإننا لو سلمنا بما يقترحه الكاتب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق، فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوى، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجري مجراه، فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه، وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدين الحديث[2].

ثم تقول حفني ناصف في خطبة لها نقلتها في كتاب “النسائيات”:

يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات؛ وحق لهم لأننا خرجنا فيه عن المألوف والجائز، نحن نزعم أننا نحتجب، ولكنا ما بلغنا حجابًا ولا بلغنا سفورًا، لا أريد أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدًا لا حجابًا، فقد كانت السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة على الأعناق، ولا أريد سفور الأوروبيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا.

إن نصف إزارنا السفلي اليوم مرط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب ولا مع معناها ولا مع الحكمة منه، أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر.

كان الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ عليه تكمش بسيط، ولكنه كان واسعًا يكفي لستر الجسم، ثم تفننا فيه فصرنا نضيق وسطه ونقصر رأسه، وأخيرًا فصل له كمان وصار يلتصق بالظهور ولا يُلبس إلا مع المشد، ويُربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف الرأس أو أكثره فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس.

أما البرقع فأشف من قلب الطفل، ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم والملابس والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا المئزر الحالي وقد أصبح (فستانًا) يظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلًا عن أن بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيًّا وأحمر؟ الأولى ألا نسميه مئزرًا بل (فستانًا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك، وعندي أن الخروج بدونه أدل على الحشمة؛ لأنه على الأقل لا يسترعي النظر.

على أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة فإذا كان تفنن بعضنا هذا يراد به الاحتيال على الخروج بلا إزار فليس عليهن فيه من حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم، وأرى أن أوفق لباس للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو)، المسمى cache poussiere عند الفرنجة على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل الكمين إلى المعصمين، وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما وردت لي إحدى السيدات للخروج إلى المحلات القريبة، ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه حتى نمسخه (فستانًا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح.

لو أننا متربيات من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له، لأقررت بالسفور لمن تهواه، ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن، وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضًا؛ لأننا سرعان ما نقلد وقل إن نبحث عن حقيقتنا فيه، ألا ترين أن تيجان الماس أصلها للملكات والأميرات فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات؟! ولعل الشعراء يعدلون عن كنايتهم الملكات بياربة التاج فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن!

على أن تفنننا في هذا المئزر الحالي هو في ذاته تقليد للأوروبيات، ولكنا فقناهن في التبرج؛ فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس ما شاءت في البيت أو في السهرات، ولكنهن بخلاف ذلك يظللن أمام أزواجهن بجلباب بسيط جدًّا، ثم إذا خرجت إحداهن عمدت إلى أحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها بالمصوغات وأفرغت عليها زجاجات العطر والطيب، ويا ليتها تقتصر على ذلك بل تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسر في مشيتها كأنها الخيزران فتفتن المارة، أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها تفتنهم، إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء القصد، ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن ومظهرهن لا يدل عليه؟!

حجابنا يجب ألا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا، ويجب ألا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون مساعدًا على فساد صحتنا أو سببًا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو رحبة طلقة الهواء وكنت فرغت من العمل وأحسست من نفسي بملل أو كسل فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل ولم يحبسه في صناديق مكتوب عليها «خصوصي للرجال»؟!

وإنما يجب أن نختار الاعتدال وألا نخرج للنزهة وحدنا اجتنابًا للقيل والقال وألا نمشي الهوينى، وألا نلتفت يمنة ويسرة، وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس، غير الموجود لها عينة ولا يمكنه جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني أو يدعني أشتري ما أريد؟! وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلًا فهل أختار الجهل أم السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات؟! على أنه ليس هناك ما يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه وهل نحن في إسلامنا أعرق أصلًا من السيدة نفيسة والسيدة سكينة — رضي الله عنهما — وقد كانتا تجتمعان بالعلماء والشعراء؟! وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب، لا يمكن لإحدى النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض وقد يكون خفيفًا فيعضل بالإهمال، أم أستشفيه فيشفيني؟

إن حبس المصرية السالفة تفريط وحرية الغربيين الآن إفراط، ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.

بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفًا ممقوتًا واستماتة في تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب ألا تُغيَّر إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية لا يقيمها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها، فأي صلاح لنا من مخاصرة الرجال والنساء ورقصهم معًا؟! أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين) بصدور عارية يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح)، إن ذلك مناف للدين الإسلامي هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير منه.

وعلى ذكر العادات والحجاب أذكركن بمسألة تئن منها السعادة وتكاد تندثر في بيوتنا، تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي ﷺ والصحابة يفعلون غيره، وهو متبع عند جميع الأمم بأسرها والأمة المصرية أيضًا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن، إذا ائتلف العروسان عندنا فهو من محاسن الاتفاق (الصدف)، وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير أحدهما الآخر ولم يختبره على أن يقضيا العمر معًا؟ إن إحدانا إذا اتفق أن رأت عرضًا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها فإنها لا تصبر على مجالستها فضلًا عن النظر إليها، وتسرع بالتملص منها، فكيف تصبر على مضض الحياة إذا استثقلت أيضًا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغريبة لحظة واحدة في غير بيتها؟! يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة الخطيبين زمنًا ليتمكن كلاهما من استطلاع طبع صاحبه، ولكني أصرح باستهجان هذه العادة وأعتقد أنها مبنية على وهم لا على أساس متين؛ إذ من نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب، وإذا أحب الإنسان شخصًا لم ير عيوبه، ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتذهب ريحهما، إنما الطريقة التي أود عرضها على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة وقبل العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها وتكون في أبسط لباسها، قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعًا واحدًا أو اثنين أو أكثر لا يكفي لأن يقف الواحد على أخلاق الآخر، ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر الواحد باجتذاب دم الآخر له أو لا، على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق من العينين، ومن الحركات والسكنات، فيبين إن كان صاحبه متصنعًا أو طائشًا وغير ذلك، أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما فيجب أن يسأل عنها المعارف والجيران والخدم وغيرهم، وخوفًا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج يجب على الولي أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته أو موكلته، ربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها، ولكن كل شيء يخيل لنا صعبًا عند الابتداء فيه وإذا مارسناه سهل وهان، على أننا إذا كنا نعتقد فساد طريقتنا القديمة، ونتألم منها ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدًا لنا مقللًا لحوادث الشقاء في زواجنا.

وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة لا هي من الدين، ولا من الحكمة؟! وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة تكاد تقتلعها صرصر تلك العادة العائلية، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق أو أشرف على التلف فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى لئلا يكون بها مسمار فيجرح إصبعه فابتلعته اللجة، وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما؟! ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة أننا ربما لا نعجبه؟! أوليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية، والإنسان لا يفعله في شراء دابة فكيف يفعله في اختيار قرين؟!

إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثير منهم إلى الأوروبيات، فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها على أن يقترن ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت). بعض رجالنا يفضلون عنا الأوروبيات لتدبيرهن، حقيقة إن الفقيرة منهن ترتدي بلباس نظيف مرتب، ويرى بيتها على قلة أثاثه نظيفًا مرتبًا، وطعامها لذيذًا متنوعًا، وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة.

يرقينا أن نطرح الكسل أرضًا، فإن عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على (الشلتة) كل النهار، أو الخروج للزيارات كأن رد فعل القعود أدار لولب أرجلنا ونفخ في شراع حبرنا فلم نقوَ على ضبط جماحنا، والتي تعرف القراءة منا ففيم تقضي أوقات فراغها؟! في قراءة الروايات فقط، فهلا قرأت قانون الصحة أو بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟! إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا، فيجب أن نبحث لنا عن عمل نزاوله في منازلنا، والمتأمل يرى لأول نظرة أن الطبقات العاملة هي الأسلم صحة والأكثر نشاطًا والأنجب نسلًا، ألا تنظرن إلى أولاد الطبقة الوسطى والسفلى فإنهم كلهم تقريبًا أصحاء الجسم أقوياء البنية؟ أما أولاد (الذوات) فأكثرهم مرضى أو نحفاء، يتأثرون بأقل العوارض، مع ما يبذله آباؤهم من الاعتناء بهم بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلًا فإنهم في إهمال شديد من والديهم، العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدم ويقوي العضل ويبعث على النشاط، والطبقة أو الأمة العاملة يزداد نسلها فتعتز بأبنائها.

بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه ولو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:

المادة الأولى: تعليم البنات الدين الصحيح، أي: تعاليم القرآن والسنة الصحيحة.

المادة الثانية: تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم الأولي إجباريًّا في كل الطبقات.

المادة الثالثة: تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملًا، وقانون الصحة، وتربية الأطفال، والإسعافات الوقتية في الطب.

المادة الرابعة: تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله وفن التعليم؛ حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.

المادة الخامسة: إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.

المادة السادسة: تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.

المادة السابعة: اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.

المادة الثامنة: اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.

المادة التاسعة: المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.

المادة العاشرة: على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا[3].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:
ملك حفني ناصف (2014). النسائيات. ط. 1. وندسور: مؤسسة هنداوي.

[1] أحمد صالح المُلا (2019). جريدة “السفور” وقضية حجاب المرأة واختلاطها بالرجال 1915: 1923. حوليات آداب عين شمس: المجلد 47. عدد أكتوبر – ديسمبر. ص ص. 202.

[2] ملك حفني ناصف (2014). النسائيات. ط. 1. وندسور: مؤسسة هنداوي. ص ص. 16 – 20 بتصرف.

[3] المصدر السابق. ص ص. 84 – 92 بتصرف.

عن ملك حفني ناصف

شاهد أيضاً

الأمومة في الإسلام

د.شوقي الأزهر

أ. خديجة تمعزوستي

إن الأمومة ولوازمها من أهم ما يكيف حقيقة الأنوثة ويميز بين الذكر والأنثى على المستوى البيولوجي والنفسي والاجتماعي. وقد اعتبرت نصوص الوحي الأمومة جانبًا محوريًا من أدوار المرأة الاجتماعية المتنوعة.

الأسرة المسلمة بين الاتفاقات الدولية والمقاصد العليا للشريعة

د. رشا عمر الدسوقي

إن المحرك الرئيسى والقوى الدافعة للمؤتمرات النسوية للأمم المتحدة والتي تصيغ وثائقها وتبلور قراراتها الخاصة بالمرأة هي الحركة النسوية "النوعية،" Gender Feminism، الناشط الأساسي في منظمة النساء للبيئة والتنمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.