يتشرف مركز خُطوة للتوثيق والدراسات بنشر سلسـلة من الدراسات عن الرائدات من النساء المسلمات العالمات في القرون الإسلامية الأولى، والتي تميزت بكونها عصورًا من التقدم العلمي والازدهار الحضاري. تعكس هذه الدراسات الدور القوي للمرأة المسلمة في مختلف المجالات العلمية والعملية، وهو ما شهد انتكاسًا للأسف في العصور التالية. السلسلة للأستاذة الدكتورة أميمة أبو بكر، ونستهلها بدراسة بعنوان : المُحَدِّثَات في التاريخ الإسلامي، وننشر الآن ثاني هذه المقالات بعنوان ” الفقيهات والمفتيات والشيخات في التاريخ الإسلامي”.
ثانيًا: الفقيهات والمفتيات والشيخات في التاريخ الإسلامي*
أ. د. أميمة أبو بكر**
أ. د. هدى السعدي***
الجزء الأول
التاريخ المنسي للفقيهات والمفتيات في الإسلام
أ. د. هدى السعدي
هل كان للمرأة مكان في العمل الديني العام في العصور الإسلامية الأولى والوسطى، هل شاركت في هذا الميدان وكان لها حضور وتواجد؟ فالعمل الديني في هذه العصور المعنية له فروع كثيرة متشعبة ومتشابكة، مظلة واسعة تظلل مجالات مختلفة: العمل بالحديث والقضاء والفقه والإفتاء والوعظ والتدريس والخطابة ومشيخة الربط والزوايا، كلها أعمال تستظل بمظلة العمل الديني العام. في أي من هذه المجالات تواجدت المرأة ومن أي المجالات اختفت؟ هل فعلاً مثلما يعتقد البعض أن المرأة مؤهلة فقط للعمل بالعلوم النقلية التي تعتمد على الحفظ والرواية مثل الحديث وغير مؤهلة للعمل بالعلوم العقلية التي تتطلب قدرات عقلية تحليلية ودراية واسعة؟ كل هذه الأسئلة سنحاول أن نجد لها إجابات من خلال بحثنا هذا وسنحاول توضيح دور المرأة في المجالات الدينية المختلفة وإن كان حقًا دورها مقصورًا على علم الحديث أم امتد ليشمل كل فروع العمل الديني العام النقلية والعقلية. ولكن قبل التعرف على دور المرأة نود أن نقدم تعريفات بسيطة لكل من زاول وعمل بهذه الأعمال الدينية المختلفة.
الفقيه:
هو لقب يطلق على من أتقن الأحكام الشرعية، أحكام العبادات والمعاملات التي طريقها الاجتهاد وليس لزامًا أن تكون هذا الشخص قد قام بتدريس الأحكام، يكفي فقط أن يكون على علم بها لكي يستحق لقب فقيه. أما مما زال في طور التعليم والدراسة فلا يطلق عليه فقيه ولكن متفقه[1].
المُحَّدِث:
هو كل من له علم بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل وقد وضع المسلمون شروطًا كثيرة لمن يقوم برواية الحديث أو الاشتغال بعلومه فنشأ علم محدد للحديث له مناهج خاصة به وطرق محدده للنقل يلتزم بها كل من يقوم بنقل الحديث أو الاشتغال بعلومه. هذا التشدد في نقل الحديث سببه أهمية الحديث في التشريع الإسلامي فهو المصدر الثاني للتشريع ولذلك فإن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المحدث تجاه المجتمع الإسلامي والشريعة الإسلامية (حسن حنفي 1998، ص 337).
المفتي:
هو الفقيه الذي أتم دراسة الأحكام الشرعية وأصبح مؤهلاً لإصدار حلول وآراء لمشاكل وخلافات شرعية تعرض عليه، هو من تكن له «ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من أدلتها الشرعية» (أحمد عيسوي 1967، ص 255)، وهناك صفات خاصة يجب أن يلتزم بها أي شخص يريد أن يكون مفتيًا ويصدر الفتاوى الشرعية، فالمفتي الذي تقبل فتواه يجب أن يكون «بالغًا عاقلاً عدلاً ثقة لأن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين» (الخطيب البغدادي، ص 300) والمفتي الثقة العدل له مكانة عالية في المجتمع الإسلامي.
المدرس:
هو فقيه يدرّس الشريعة في إحدى المؤسسات التعليمية وغالبًا ما يكون المدرس معاونًا بنائب ينيب عنه في بعض الأحيان أو بمعيد يعيد ما ذكره المدرس لطلبته فالمدرس في هذه العصور مثل الأستاذ الجامعي يقع على قمة الهرم التعليمي الأكاديمي (Makdisi 1981, v. viii, 12) والفقيه الذي ينتصب للتدريس يجب ان يكون عالمًا بمادته معتمدًا على أصول وروايات صحيحة يلجأ إليها أو يعود عليها (عيسى 1982، ص 360).
المعلم والمؤدب:
ألقاب أطلقت على من يقوم بمهمة التدريس والتعليم في المستوى التعليمي الأول التي كان يتم تلقيها في المنزل أو في الكتاب حيث يتعلم الصغار القرآن ومبادئ القراءة والكتابة (عيسى، ص 247- 255).
الواعظ:
الواعظ هو من يعتمد على القرآن والحديث ليوجه النصائح للناس ويذكرهم بمسئولياتهم الدينية وبواجباتهم تجاه الله تعالى ويذكرهم بالعقاب وبغضب الله، وهناك ثلاثة أنواع من الوعاظ: الواعظ الخطيب وهو من يعظ المسلمين من خلال خطبة الجمعة وهو شخص يجب أن يكون متميزًا بالبلاغة وتكون له القدرة على التحدث بصوت واضح وجلى. وهناك أيضًا الواعظ الذي يعظ المسلمين من خلال مجالس خاصة للوعظ أو من خلال حلقات العلم. ثم الواعظ القصاص «وقارئ الكرسي» وهذا النوع من الوعاظ هو الذي يعظ الناس من خلال سرده قصة لسير السلف الصالح مع ترديده لآيات من الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة لحث الناس وتبصيرهم بالطريق الصحيح ولكن دون أن يتعرض لأي مسائل أو مناقشات كلامية. غير أن الواعظ القصاص وقارئ الكرسي اختلفا في مكان سردهم للقصص والسر فقارئ القص يسرد السير في الشوارع والطرقات وليس هناك مكان محدد يتخذه للوعظ كما أنه يسرد القصص من الذاكرة ولا يقرأ من كتاب بينما «قارئ الكرسي» يعظ وهو جالس دائمًا في مكان محدد يتخذه للوعظ مثل المسجد أو المدرسة أو الخانقاه (ابن الحاج 1929، ص 144- 153).
شيوخ الربط/ شيوخ الصوفية:
الرباط أو الخانقاه أو الزاوية هي الأسماء التي تطلق على دار الصوفية وشيخ هذه الدار هو الإنسان الذي يقوم على رعاية المتصوفين وتدريب المريدين وتعليمهم التلاوة والذكر فضلاً عن قيامه بإدارة شئون الدار مثل تحضير الطعام ورعاية الواردين والمحتاجين[2].
ولأننا وجدنا في كتب الطبقات أن نسبة تواجد المرأة المحدَّثة أكبر بكثير من المرأة المشتغلة بالعلوم العقلية حيث إن كتب الطبقات مليئة بأمثلة لنساء عملن بالحديث وروايته ونقله وتدريسه لذا قررنا عدم تضمين عمل المرأة بالحديث في دراستنا هذه فهو أمر واضح وجلى ونال اهتمام كثير من الباحثين من قبل، وسنركز فقط على العلوم العقلية بما تحتاجه من دراية واجتهاد واستنباط أحكام مثل الفقه والإفتاء والوعظ إلى جانب مجال ديني آخر برزت فيه المرأة وكان لها دور هام فيه هو مشيخة الربط والزوايا[3]. وبالبحث في كتب الطبقات قمنا بحصر عدد من الأسماء لنساء عملن في المجالات الدينية المختلفة ثم صنفنهن تبعًا لمهنهن أو تخصصاتهن الدينية عسى أن نصل إلى صورة جلية عن عمل المرأة الديني وتواجدها في مجالاته المختلفة. وفيما يلي جدول لمهن النساء الدينية المختلفة مرتب ترتيبًا زمنيًا:
الفقيهات | المتفقهات | الملقيات | الواعظات | شيخات الربط | المدرسات/ المنظمات |
زينب بنت أبي سلمه المخزومية (ت 7هـ)،
الذهبي، سير إعلام، جـ3، ص 200 |
فاطمة بنت يحيى بن يوسف (ت 309هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ 4، ص 15 |
خديجة بنت سحنون بن سعيد التنوخي (ت 270هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ 5، ص 311 |
سمراء بنت نهيك (أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عبد البر، الاستيعاب، ق 4، ص 1863 | عائشة بنت المستنجد الفيروزجية (ت 640 هـ)
الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ 16، ص 608 |
مولاه لأبي أمامه الجوزي، صفحة الصفوة، جـ 2، ص 453 |
هجمية بنت حي الأوصابيه الدمشقية (ت 90هـ)
الذهبي، سهر إعلام، جـ 4، ص 277- 279 |
خديجة بنت محمد بن أحمد الخوزجاني (ت 372هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ 1، ص 341 |
أم عيسى بنت إبراهيم الحربي (ت 338هـ)
الجوزي، صفة الصفوة، جـ 1، ص 651 |
ميمونة بنت ساقوله (ت 393هـ)،
كحالة، إعلام النساء، جـ5، ص 140 |
زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر بن الحسين (ت 704هـ)
ابن حجر، الدرر الكامنة، جـ2، ص 117. |
شهده المعروفة بفخر النساء ابن خلكان، الوافي بالوفيات، جـ 2، ص 172. |
عمره بنت عبد الرحمن (ت 98هـ)
ابن سعد، الطبقات، جـ 8، ص 480- 481 |
عين الشمس بنت الفضل بن المطهر بن عبد الواحد (ت 610هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ 3، ص 383 |
آمة الواحد بنت القاضي أبي عبد الله (ت 437هـ)
الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جـ 14، ص 446 |
خديجة بنت موسى بن عبد الله (ت 437هـ)
الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جـ14، ص 446 |
فائدة الشيخة (ت 827هـ)
السخاوي، الضوء اللامع، جـ 12، ص 114 |
سيدة بنت عبد الغني العبدري (ت647هـ)
الصفدي: الوافي بالوفيات، جـ16، ص 65 |
حفصة بنت سرين (ت 100هـ)،
الجوزي، صفة الصفوة، ق2، ص 247- 248 |
خديجة بنت الحسن بن علي بن عبد العزيز القرشية (ت640هـ)
الصفدي، الوافي بالوفيات |
فاطمة بنت محمد أحمد السمرقندي (عاصرت الملك العادل نور الدين المتوفى سنة 569هـ)
كحالة، أعلام النساء، جـ4، ص 94 |
خديجة الشهجانية (ت؟)
الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جـ14، ص446 |
عائشة بنت علي بن عبد الله الرفاعي (ت 837هـ)
السخاوي، الضوء اللامع، جـ12، ص77 |
أم القاسم خالة السخاوي (ت 860هـ)
السخاوي، الضوء اللامع، جـ12، ص 148 |
أم عيسى بنت إبراهيم بن اسحق الحربي (ت 328هـ)،
الجوزي، صفة الصفوة، ق 1، ص 651 |
زينب بنت أبي البركات البغدادية (تعيش في القرن السادس هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ2 ص 57 |
فاطمة بنت محمد بن مكي العاملي (كانت موجودة سنة 786هـ)
العاملي، أعيان الشمعة، جـ4، ص 42 |
حمده بنت واثق بن علي بن عبد الله (ولدت سنة 466هـ)
الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ13، ص 165 |
بنت الخواص (ت؟) السخاوي، تحفة الأحباب، ص 155 | أسماء بنت موسى الضجاعي (ت902هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ1، ص 65 |
أمة الواحد بنت عبد الله الحسين المحاطي (ت 377هـ)
الجوزي، صفة الصحوة، ق1 ص651 |
عائشة بنت محمد بن أبي الفتح ست العيش القاهرية (ت 840هـ)،
السخاوي، الضوء اللامع، جـ12، ص 78- 79 |
الماورديه (ت466هـ) الجوزي، صفة الصفوة، ق2، ص 264 | زينب بنت عمر كندي بن سعيد بن علي (ت؟)، الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ14، ص 66 | عائشة الباعونية (ت922هـ)
الغزى، الكواكب السائرة، جـ1، ص 287 |
|
عائشة بنت الفضل الكيساني (ولدت قبل 460هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ3، ص 185) |
أم هاني بنت نور الدين أبو الحسن (ت871هـ)،
السخاوي، الضوء اللامع، جـ12، ص 157 |
ياسمينه السير أو ندبه (ت502هـ)،
كحالة، إعلام النساء، جـ5، ص 295 |
فاطمة بنت فزيمران (ت؟)
الغزى، الكواكب السائرة، جـ2، ص 238 |
عائشة بنت إبراهيم بن صديق (ت؟)
ابن حجر الصقلاني، الدرر الكامنة، جـ2، ص 345 |
|
فاطمة بنت محمد أحمد السمرقندي، (عاصرت الملك العادل نور الدين المتوفى سنة 569هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ4، ص 94 |
زبيدة بنت أسعد القسطنطينية (ت 1194هـ)، المرادي، كتاب سلك الدرر، جـ2، ص 117 | زينب بنت أبي البركات البغدادية (القرن السادس هجري)
كحالة، إعلام النساء، جـ2، ص 57 |
أسماء بنت الفخر- القصر المملوكي ابن حجر، الدرر الكامنة، جـ1، ص 360 | ||
فاطمة بنت أحمد الرفاعي الكبير (ت609هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ4، ص 27 |
زينب بنت أحمد المروزي- زين النساء (ت 543هـ) الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ15، ص 64 | جـ17، ص 169 | |||
أم البقاء خديجة بنت حسن (ت 641هـ)
الصعدي، الوافي بالوفيات، جـ13، ص 297 |
ضوء الصباح بنت مبارك- خاصة العلماء (ت 585هـ)، الصفدي الوافي بالوفيات، جـ16، ص 370 | ||||
أم البقاء خديجة بنت حسن (ت 641هـ)
الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ13، ص 297 |
ضوء الصباح بنت مبارك- خاصة العلماء (ت858هـ)
الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ16، ص 370 |
||||
فاطمة بنت عياش البغدادية (ت 714هـ)
ابن حجر، الدرر الكامنة، جـ3، ص 266 |
تاج النساء بنت رستم بني أبي الرجاء الأصبهاني (ت611هـ) الصفدي، الوافي بالوفيات، جـ1، ص 374 | ||||
فاطمة بنت محمد بن أحمد العكبري (ت776هـ)
العاملي، أعيان الشيعة، جـ4، ص 42 |
زينب بنت فاطمة بنت عياش البغدادية (ت 796هـ) ابن حجر، الدرر الكامنة، | ||||
فاطمة بنت محمد ابن مكي العاملي (كانت موجودة 786هـ) العاملي، أعيان الشيعة، جـ4، ص 42 | |||||
زينب بنت فاطمة بنت عياش (ت796هـ)
ابن حجر، الدرر الكامنة، جـ3، ص 266 |
|||||
دهماء بنت يحيى المرتضى (ت837هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ1، ص 420 |
|||||
عائشة الباعونية (ت922هـ)
الغزى، الكواكب السائرة، جـ1، ص 287 |
|||||
خديجة بنت محمد البيلوني (ت930هـ)
الغزى الكواكب السائرة، جـ1، ص 92 |
|||||
خديجة بنت محمد العامري (ت935هـ)
الغزى، الكواكب السائرة، جـ2، ص 141 |
|||||
باي خاتون (ت 942هـ) | |||||
الغزى، الكواكب السائرة، جـ1، ص 109 | |||||
بنت علي النشار (ت1031هـ)
العاملي، أعيان الشيعة، جـ13، مجلد 14، ص 169 |
|||||
قريش بنت عبد القادر الطبرية (ت 1107هـ)
كحالة، إعلام النساء، جـ4، ص 91 |
كما هو واضح من الجدول السابق أن النساء عملن في مجال الفقه كفقيهات أو كن دارسات للفقه (متفقهات)، كذلك عملن بالإفتاء والوعظ وبمشيخة الربط والزوايا وبالتدريس والتعليم إلا أن الجدول لا يتضمن العمل بالحديث للسبب المذكور سابقًا. كذلك لا يتضمن الجدول العمل بالقضاء حيث إننا لم نرد أن نخوض في هذا الموضوع لأنه شائك وشبه محسوم[4]. ولذا قصرنا الدراسة على المجالات الدينية الستة الموجودة في الجدول ونبدأ الآن بالفقه. وهو مجال برزت فيه المرأة فظهر اسمها كفقيهة ممارسة أو متفقهه دارسة لهذا العلم في عدد لا بأس به من المصادر. وبالنظر إلى الجدول وملاحظة سنوات وفاة هؤلاء الفقيهات نجد أنهن كن موجودات على الساحة من القرن الأول للهجرة/ السابع الميلادي وحتى القرن الثاني عشر للهجرة/ الثامن عشر ميلادي. فأقدم الفقيهات في هذا الجدول هي زينب بنت أبي سلمه المخزومية المتوفية سنة 73هـ وكانت من أفقه نساء زمانها بالمدينة (الذهبي 1996، جـ3، ص 200) كذلك هناك هجميه بنت حي الأوصابية الدمشقية المشهورة بأم الدرداء الفقيهة المتوفية سنة 81 هـ وهي فقيهة كبيرة زاهدة واسعة الاطلاع وافرة العقل والذكاء (الذهبي، جـ4، ص 207- 279). وهناك أيضًا عمرة بنت عبد الرحمن التي تنتمي للجيل الثاني من الصحابيات وحفصة بنت سيرين التي توفيت سنة 100 هـ (الجوزي 1141هـ، جـ2، ص 24- 247). ولأن عمرة بنت عبد الرحمن كانت قريبة من عائشة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدد من الصحابة لذا كانت على علم جيد بالقرآن والسنة ومصادر الفقه الإسلامي، مما جعل أهل المدينة يلجئون إليها لمعرفة الأحكام في كثير من العبادات والمعاملات وقد اعتبرت المصدر لعدد من الأحكام الشرعية مثل منع بيع الثمار غير الناضجة حيث إن المحاصيل قد تفسد قبل نضجها مما يؤثر على عملية بيع الإنتاج الزراعي (السيوطي 1951، جـ2 ص 51). كذلك ما يجوز في استثناء التمر وقد استشهد مالك بها حين ذكر في الموطأ «إن عمرة كانت تبيع ثمارها وتستثنى منها» (السيوطي، جـ2، ص 52). فضلاً عن أنها نهت ابن أختها من إقامة الحد على رجل سرق خواتم من حديد وقالت له «أن عمرة تقول لك لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا» (السيوطي، جـ2، ص 177). كانت عمرة مصدر ثقة واحترام المجتمع في المدينة وقد كان العلماء والمؤرخون يذكرونها دائمًا بألفاظ التبجيل والاحترام فنجد ابن سعد يصفها في كتابه الطبقات الكبرى «بالعالمة» (ابن سعد 1321هـ، جـ 8، ص 480- 481).
وبعد فقيهات القرون الإسلامية الثلاثة الأولى ينقلنا الجدول إلى القرن الرابع الهجري فنرى أم عيسى بنت إبراهيم بن اسحق الحربي (الجوزي، جـ 1، ص 651) (ت 328هـ)، وأمة الواحد بنت عبد الله الحسين المحاملي (ت 377هـ) التي قيل عنها أنها كانت «من أحفظ الناس للفقه على المذهب الشافعي» فقد برعت أمة الواحد في دراسة الفقه الشافعي والفرائض والحساب حتى أنها كانت تعد أيضًا مصدرًا من مصادر الأحكام الشرعية الخاصة بالمواريث في عصرها (الجوزي، جـ 1، ص 652).
أما عن فقيهات القرنين الخامس والسادس الهجري فالجدول يرصد لنا عائشة بنت الفضل ابن أحمد الكيساني وهي فقيهة عالمة ذات صلاح ودين ولدت قبل سنة 460هـ (كحالة 1991، جـ 3، ص 185) وفاطمة بنت محمد أحمد السمرقندي من فقيهات حلب درست الفقه على المذهب الحنفي ولها مؤلفات عديدة في الفقه وقد كانت مصدرًا للأحكام الشرعية في حلب وقال عنها أحد فقهاء حلب «هي التي سنت الفطر في رمضان للفقهاء بالجلاويه فكان في يدها سواران فأخرجتهما وباعتهما وعملت بالثمن الفطور كل ليلة» (كحالة، جـ 4، ص 94).
ثم ننتقل بعد ذلك إلى القرنين السابع والثامن الهجري حيث يعرض لنا الجدول أسماء عدد من النساء العاملات بالفقه مثل: فاطمة بنت أحمد الرفاعي الكبير الفقيهة الصالحة القانتة المتوفية سنة 609هـ (كحالة، جـ 4، ص 27)، وأم البقاء خديجة بنت حسن التي توفيت سنة 641هـ وكانت صالحة زاهدة تشتغل بالفقه، (الصفدي 1931، جـ 13، ص 297). وخديجة بنت القيم البغدادية المتوفية، جـ 13، ص 296)، كذلك هناك فقيهتان مشهورتان في القرن الثامن الهجري وهما فاطمة بنت عياش بن أبي الفتح البغدادية وابنتها زينب. ففاطمة الأم المتوفية سنة 714هـ كانت تدري الفقه جيدًا وقد أثني عليها ابن تيمية وتعجب من حرصها وذكائها وقد استفاد من علمها أهل دمشق ثم انتقلت إلى القاهرة فذاع صيتها هناك وارتفع قدرها (ابن حجر العسقلاني 1993، جـ 3، ص 266). وقد أخذت عنها ابنتها زينب، المتوفية سنة 796هـ، الفقه فأصبحت هي الأخرى فاضلة ذات صلاح ودين. ومن المثير للانتباه أن زينب هذه قد عرفت في كتب الطبقات على أنها زينب بنت فاطمة بنت عياش البغدادي حيث أخذت اسمها من والدتها الفقيهة ذائعة الصيت وليس من والدها الذي ربما لم يكن على نفس درجة علم والدتها وشهرتها. هناك أيضًا الفقيهة أم العز نصر بنت أحمد توفيت سنة 730هـ درست مع عدد كبير من مشائخ القاهرة حتى نبغت واشتهرت في مجال الفقه وقد كان والدها فخورًا بها وكان يتأسف كثيرًا لعدم وصول أخيها لنفس درجة علمها ومعرفتها (ابن حجر العسقلاني، جـ 4، ص 942). كذلك هناك الفقيهة فاطمة بنت محمد بن أحمد بن عبد الله العكبري وهي فقيهة شيعية توفيت سنة 776هـ. وفاطمة بنت محمد بن مكي العاملي وهي شيعية أيضًا وكانت موجودة سنة 786هـ وقد كان أبوها يثني عليها ويأمر النساء بالاقتداء بها (العاملي 1938، جـ 4، ص 42). هناك فقيهة أخرى جديرة بالاهتمام وهي دهماء بنت يحيى المرتضى عالمة وفقيهة فاضلة قامت بتأليف بعض الكتب في مجال الفقه فألفت «شرحًا للأزهار» في أربع مجلدات «وشرحًا لمنظومة الكوفي في الفقه والفرائض» (كحالة، جـ 1، ص 420) ودهماء هذه مهمة جدًا حيث إنها من الفقيهات القلائل اللاتي سجلت المصادر أسماء مؤلفاتهن وتراثهن[5].
من الفقيهات المشهورات اللاتي سجلت المصادر تراثهن الفقهي أيضًا فقيهة تنتمي إلى القرن العاشر الهجري هي عائشة الباعونية المتوفية سنة 922هـ وقد عرفتها المصادر بالشيخة الصوفية الدمشقية الأديبة العالمة العاملة وقد ذهبت إلى القاهرة ونالت من العلوم حظًا وافرًا وأجيزت بالإفتاء والتدريس وألفت عدة كتب سيرد ذكرها في الجزء الثاني. عاصرت عائشة السلطات الغوري المملوكي وذكرت المصادر أنها قابلت عددًا كبيرًا من المشائخ[6]. ومن فقيهات القرن العاشر الهجري أيضًا هناك خديجة بنت محمد العامري التي توفيت سنة 935هـ وقد عرفت في المصادر «بالفقيهة الصالحة» (الغزى، جـ 2، ص 141)، كذلك هناك خديجة بنت محمد البيلوني المتوفية سنة 930هـ الشيخة الحنفية التي تخصصت في الفقه الحنفي وحفظت في مذهب الحنفية كتابًا على الرغم من أن أباها وأخوتها شافعيون (الغزى، جـ 1، ص 192). وأيضًا باي خاتون وهي فقيهة شافعية توفيت سنة 942هـ قرأت (بمعنى عرفت ودرست) المنهاج النووي وإحياء علوم الدين للغزالي (الغزى، جـ1، ص 109) وهناك أيضًا في بداية القرن الحادي عشر الهجري الفقيهة الشيعية بنت علي النشار التي توفيت سنة 1031هـ وقد عرفتها المصادر «بالفقيهة الفاضلة» وورثت عن والدها أربعة آلاف مجلد من الكتب النفيسة (العاملي، جـ13، مجلد 14، ص 169).
ينقلنا الجدول بعد ذلك إلى القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي حيث وجدنا فقيهة مكية تدعى قريش بنت عبد القادر الطبرية التي توفيت سنة 1107هـ وأخذت الفقه عن والدها (كحالة، جـ4، ص 91). ومن الملاحظ أن هذه الفقيهة تنتمي إلى العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي وهي فترة لم نضمنها في موضوع دراستنا إلا أننا أردنا أن نذكرها لنوضح متى اختفت النساء من ساحة العمل الفقهي حيث إنه بعد هذه الفقيهة لم نجد في المصادر – باستثناء كتب الفقه الشيعي – أي ذكر لنساء عملن بالفقه الإسلامي.
نلاحظ بوجه عام من خلال هذا العرض الزمني للفقيهات في الجدول أنه كان هناك تناقص تدريجي في تواجدهن في الساحة العلمية والعملية حتى اختفين تمامًا في القرن الثاني عشر هـ/ القرن الثامن عشر م، حينما تحول الفقيه من سلطة مستقلة يستنبط ويصدر الأحكام الشرعية إلى موظف في الدولة يخضع لمؤسساتها ونظامها الحاكم (Roded 1994, 84). وهذه الأمثلة التي أوردناها علامة تدل على وجود تراث غني أو سياق ثقافي يشكل سلسلة متواصلة من التطور بما سمح لهؤلاء الفقيهات بالتواجد والممارسة المهنية خلال هذه القرون الطوال. ونلاحظ أن هؤلاء الفقيهات قد قمن باستنباط أحكام شرعية وكانت لهن قدرات عقلية وتحليلية وتركن تراثًا شفاهيًا ومكتوبًا ومؤلفات فقهية، وقد أثنى عليهن العلماء والمؤرخون واعتبروهن مرجعًا شرعيًا سليمًا في كثير من الأمور والفتاوى والأحكام دون تشكيك أو تعجب بل عن ثقة في كفاءتهن وكانوا يذكرونهن دائمًا بألفاظ الاحترام والتبجيل.
وإلى جانب النساء اللاتي عملن بالفقه واستنبطن الأحكام الشرعية كانت هناك نساء متفقهات أي في طور دراسة الفقه، وفي أغلب الظن أن المتفقهات بمجرد الانتهاء من طور الدراسة يصبحن مؤهلات للعمل بالفقه فضلاً عن أنه في بعض الأحيان كانت المرأة الواحدة توصف بالفقيهة والمتفقهة في آن واحد (Makdisi 1981, 172). لذلك فأغلب الظن أن المتفقهة والفقيهة شيء واحد ولكن لتحري الدقة نقول أنه كانت هناك مجموعة من النساء درسن الفقه ولكن لم يَّعرفن في المصادر بالفقيهات ولم يُذكر أنهن استنبطن أحكامًا أو تركن أي تراث فقهي ولذلك لم نضمنهن في جدولنا كفقيهات وإنما سجلناهن كمتفقهات دارسات للفقه: مثل فاطمة بنت يحيى بن يوسف المتوفية سنة 319هـ والتي وصفتها المصادر بالعالمة المتفقهة في الدين (كحالة، جـ4، ص 15) وخديجة بنت محمد بن أحمد الخورجاني المتفقهة الحنفية المتوفية سنة 372هـ (كحالة، جـ1، ص 341) وخديجة بنت الحسن بن علي بن عبد العزيز القرشية الدمشقية من الحافظات المتفقهات في الدين توفيت سنة 640هـ (الصفدي، جـ13، ص 297). وزينب بنت أبي البركات البغدادية التي درست الفقه إلى جانب الأدب وكانت تعيش في القرن السادس الهجري (كحالة، جـ2، ص 157). كذلك عين الشمس بنت الفضل بن المطهر بن عبد الواحد التي توفيت سنة 610هـ وكانت متفقهة في الدين (كحالة، جـ13، ص 382) وأيضًا هناك عائشة بنت علي بن محمد بن أبي الفتح التي تدعى ست العيش القاهرية المتوفية سنة 840هـ، نشأت في جو علمي قرأت القرآن وأخذت الإجازة من عدد كبير من مشايخ مصر وسوريا، وكانت تطالع كتب الفقه على المذهب الحنبلي وبرعت فيه وكان ذكاؤها وقدراتها العقلية التحليلية محل تقدير كل من عاصرها (السخاوي 1934، جـ 12، ص 78- 79). كذلك أم هاني مريم بنت نور الدين أبو الحسن على المتوفية سنة 871هـ التي نشأت في جو علمي فوالدها كان عالمًا مشهورًا، وجدها لأمها الذي تولى تربيتها كان قاضيًا ومن هنا جاء اهتمامها بدراسة الفقه. وقد اهتمت هي بدورها بتربية أبنائها الأربعة ودفعتهم لدراسة الفقه حيث نجد أن كل ابن من أبنائها قد تخصص في مذهب من مذاهب الفقه الأربعة (السخاوي، جـ12، ص 157). آخر من توصلنا إليها من النساء اللاتي كن على علم بالفقه وقارئات لكتبه هي زبيدة بنت أسعد القسطنطينية المتوفية سنة 1194هـ وهي مثل قريش الطبرية – الفقيهة السابقة الذكر – تنتمي لفترة متأخرة عن دراستنا إلا أننا ضمناها هي أيضًا في الجدول لنوضح متى ابتعدت النساء عن مجال الفقه والتفقه (المرادي 1874، جـ2، ص 117). كل هذه هي أسماء لفقيهات ومتفقهات كن أمثلة جيدة لنشاط المرأة في هذا الجانب العام في الحياة الدينية فقد عملت النساء جاهدات لإثبات وجودهن في العمل الديني وتركن بصماتهن الواضحة عليه.
هناك مجال ديني آخر برزت فيه المرأة وكان لها تواجد كبير فيه أيضًا وهو الإفتاء أو الفتيا. فالإفتاء هو إصدار فتاوى في أحكام الدين والشريعة والشخص الذي يصدر هذه الفتاوى يطلق عليه مفتي أو مفتية وهناك أوصاف محددة أجمع عليها العلماء في المفتي إذ اتفقوا جميعًا على أن المفتي الذي تقبل فتواه يجب أن «يكون بالغًا عاقلاً عدلاً ثقة لأن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين.. سواء كان حرًا أو عبدًا لأن الحرية ليست شرطًا في صحة الفتوى، ثم يكون عالمًا بالأحكام الشرعية» (الخطيب البغدادي، جـ11، ص 156). كما أجمع العلماء على أن من يصدر الفتاوى يجب أن يكون واسع العلم والاطلاع على معرفة تامة بالفقه بفروعه وأصوله، مضطلعًا على أقاويل الصحابة والتابعين والأئمة في الفقه والتفسير، واقفًا على ما أخذوا وتركوا من السنن وما اختلفوا في تثبيته وتأويله من الكتاب والسنة هذا كله إلى جانب التمكن من اللغة العربية وأصول النحو والصرف (القرطبي 1968، جـ2، ص 207). ولأن القائم بالإفتاء لم يشترط فيه أن يكون رجلاً فقد فتح هذا المجال للمرأة فبرزت ونبغت وهناك أمثلة كثيرة لنساء مفتيات كان يلجأ إليهن الناس لمعرفة أحكام الدين فيما يقابلهم من مشاكل وخلافات شرعية في حياتهم اليومية.
لقد بدأ الإفتاء في الإسلام حينما كان يذهب المسلمون للرسول يستفتونه في أمور دينهم ودنياهم وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [سورة النساء: 176]. وبوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ الناس يتجهون إلى الصحابة والصحابيات الذين كانوا قريبين من الرسول ليعلموا منهم السلوك الإسلامي الصحيح ويسألونهم أو يستفتونهم فيما يختلط عليهم من أمور دينهم. وقد كانت الفتيا في هذه الفترة الإسلامية الأولى مرتبطة بالحفاظ على السنة النبوية الشريفة فلعبت السيدة عائشة بسبب قربها من الرسول صلى الله عليه وسلم دورًا هامًا في هذا المجال وكان المسلمون يلجئون إليها دائمًا لمعرفة ما كان يقوم به الرسول في حياته ومعيشته اليومية. ولكن بموت هذا الجيل من الصحابة والصحابيات فقد المسلمون مصدرًا هامًا كان يوجههم ويرشدهم لأدق تفاصيل حياة الرسول وسننه الشريفة ولهذا بدأ المسلمون مع القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي يطلبون المشورة والنصيحة من الأشخاص الذين تميزوا بالعقل والثقة والتقوى والعدل والعلم الواسع بالأحكام الشرعية أصولها وفروعها ومن هنا أصبحت هذه الصفات صفات أساسية في المفتي الذي تقبل فتواه وبدأ الإفتاء يتبلور في المجتمع الإسلامي ويصبح نشاطًا واضحًا له شروط وقواعد تحكمه، شروط اتفق عليها ووضعها رجال العلم والدين وليس رجال الدولة والسياسة، فالإفتاء لم يكن في البداية مرتبطًا بالسلطة بل كان عملاً حرًا مفتوحًا لأي شخص تتوافر فيه الصفات السابقة الذكر (Masud 1996, 409).
ولذا عملت المرأة في هذا المجال وبرزت فيه وقد استطعنا حصر عدد من المفتيات ورتبناهن ترتيبًا زمنيًا في الجدول السابق. هناك خديجة بنت سحنون بن سعيد التنوخي المتوفية سنة 270هـ، كانت تعد من أشهر مفتيات القرن الثالث الهجري في بلاد المغرب وتميزت «بالعقل والرأي والعلم والفضل»، أخذت العلم عن والدها حامل لواء المذهب المالكي في المغرب وكان يستشيرها في مهمات أموره ويستفتيها الناس في مسائل دينهم (كحالة، جـ5، ص 311) كذلك هناك أم عيسى بنت إبراهيم الحربي المتوفية سنة 338هـ وكانت معروفة بكونها عالمة فاضلة تفتي في الفقه (الجوزي، جـ1، ص 651) وأيضًا الفقيهة أمة الواحد بنت القاضي أبي عبد الله بن إسماعيل المحاملي المتوفية سنة 377هـ وكانت مفتية فاضلة وقد ذكرت المصادر أنها كانت «تفتي مع أبي علي بن هريرة» (الجوزي، جـ1، ص 652). كذلك فاطمة بنت محمد أحمد السمرقندي التي عاصرت الملك العادل نور الدين المتوفي سنة 596، كانت مفتية لها شهرة واسعة كما رأيناها من قبل فقيهة من فقيهات المذهب الحنفي (كحالة، جـ4، ص 94). والفقيهة الشيعية فاطمة بنت محمد بن مكي العاملي السابقة الذكر كانت مفتية مشهورة بين الناس بالعقل والتقوى فكان يلجأ إليها الناس طلبًا للمشهورة والفتوى وكانت النساء يرجعن إليها في أحكام الحيض والصلاة (العاملي، جـ4، ص 42).
نلاحظ من الأمثلة السابقة كيف أن الإفتاء كان مرتبطًا بالفقه حيث إن الفقيهات اللاتي اتصفن بالعلم والتقوى وصلاح الشخصية كان يلجأ إليهن الناس لطلب الفتوى والمشورة فواضح جدًا أن المجالين متداخلان ومرتبطان بعضهما البعض. وتعتبر عائشة الباعونية المتوفية سنة 922هـ مثلاً آخر واضحًا للفقيهة الفاضلة التي تصل إلى درجة من العلم والقوى تسمح لها بمزاولة الإفتاء فقد ذكرت المصادر أنها «أجيزت بالإفتاء والتدريس» وكلمة «أجيزت» هذه تجعلنا نتوقف هنا حيث إن الإجازة بالإفتاء تشعرنا أن الإفتاء هنا هو عمل رسمي والفتوى رسمية وليست مجرد فتوى غير رسمية أو مشورة يصدرها أي شخص يتصف بالتقوى والعلم. فعائشة الباعونية هي أول واحدة بين المفتيات تأخذ فتواها صيغة رسمية وفي نفس الوقت هي آخر مفتية توصلنا إليها في المصادر التاريخية، فبعد الباعونية في القرن العاشر الهجري لم نجد أي مفتيات في السجلات التاريخية.
ومن كل ما سبق ذكره نلاحظ أنه حينما كانت الفتاوى غير رسمية بعيدة عن السلطة والقيود الرسمية رأينا تواجدًا كبيرًا للنساء في مجال الإفتاء فكما ذكرنا سابقًا أن معظم الصحابيات والتابعيات في القرن الأول للإسلام كن مفتيات يلجأ إليهن المسلمون في مسائل دينهم ولكن بمرور الوقت وبالتدريج بدأ الإفتاء يرتبط بالسلطة ويأخذ صيغة أكثر رسمية حيث إن بعض العاملين بالإفتاء ارتبطوا بالإدارة القضائية في الدولة الإسلامية غير أن الفتاوى غير الرسمية استمرت متواجدة يقبل عليها الناس، والمفتي المستقل عن الدولة ظل مصدرًا هامًا يلجأ إليه العامة. واستمر تواجد المرأة في مجال الإفتاء إلا أنه لم يكن تواجدًا واضحًا وكبيرًا مثل تواجدها في القرن الأول للهجرة فلم يكن لها دور أو مكان في الإفتاء الرسمي المرتبط بالإدارة القضائية مثلاً وأخذ دورها هذا يتقلص وينكمش مع مر العصور حتى اختفى تمامًا – كما هو واضح من الجدول – بعد القرن العاشر الهجري. وقد كانت عائشة الباعونية كما ذكرنا سابقًا آخر مفتية توصلنا إليها في المصادر حيث إنه في عهدها كان الإفتاء قد بدأ يأخذ الصبغة الأكثر رسمية التي أخذت تزداد تدريجيًا حتى أصبح الإفتاء بمجيء القرن الثالث عشر كله رسميًا لا مجال فيه للاجتهاد الشخصي أو العمل الفردي. فلقد بدأت الدولة العثمانية في هذا القرن «بمأسسة الإفتاء» حيث قام السلطان العثماني بإنشاء هيئة رسمية لإصدار الفتاوى يعمل بها موظفون حكوميون يرأسهم مراقب أو مشرف عام يعرف «بأمين الفتاوى» (Fetwa emini) وجميعهم يخضعون لسلطة «شيخ الإسلام» الذي كان يرأس الهرم الديني في الدولة العثمانية كلها[7].
وإلى جانب الإفتاء هناك مجال ديني آخر عملت فيه المرأة وهو مجال الوعظ والإرشاد. فالوعظ والإرشاد إلى الطريق المستقيم من أهم تعاليم الإسلام والواعظ من مسئولياته كما ذكرنا في بداية البحث أن يذكر الناس بواجباتهم تجاه الله تعالى ويذكرهم بالعقاب وبغضب الله ويمنيهم بالثواب والجنة وقد أوضحنا أنه كانت هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الوعاظ: الواعظ الخطيب وهو من يعظ المسلمين من خلال خطبة الجمعة؛ الواعظ الذي يعظ المسلمين من خلال مجالس خاصة للوعظ أو من خلال حلقات العلم؛ ثم واعظ القص «وقارئ الكرسي». وقد كان للمرأة تواجد كبير في مجال الوعظ باستثناء الوعظ من خلال خطبة الجمعة. والجدول السابق يوضح لنا أسماء عديدة لواعظات استطعنا حصرهن من خلال المصادر، فسمراء بنت نهيك التي ذكرتها المصادر على أنها من «رباب الوعظ والإرشاد» كانت مثالاً للمرأة القوية التي أخذت على عاتقها وعظ المسلمين فكانت تمر بالأسواق في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم تعظ الناس، تأمرهم بالمعروف وتناهم عن المنكر وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها (ابن عبد البر 1972، جـ4، ص 1863). هذا المثال الهام يوضح لنا أن الوعظ في العصر الإسلامي الأول أيام الرسول صلى الله عليه وسلم يتم بالقول والفعل، فهي تعظ وتضرب من لا يتعظ ولكن بمرور الوقت أصبح ضرب من لا يأتمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر في الأسواق من اختصاص المحتسب «صاحب الحسبة».
فنجد أن كل النساء الواعظات اللاتي جئن بعد سمراء وحصرناهن في الجدول كن يعظن بالقول. فهناك ميمونة بنت ساقوله التي توفيت سنة 393هـ عرفت في المصادر على أنها من «ربات الوعظ والإرشاد» (كحالة، جـ5، ص 140) ثم ننتقل بعد ذلك للقرن الخامس الهجري الذي ظهرت فيه خديجة بنت موسى بن عبد الله المتوفية سنة 437هـ وقد عرفت في المصادر «بالواعظة» وكذلك خديجة الشهجانيه التي عرفت أيضًا في المصادر بالواعظة (الخطيب البغدادي 1931، المجلد 14، ص 446) والماورديه وهي عجوز صالحة توفية سنة 466هـ وكانت تعظ «النسوان» (الجوزي، صفة الصفوة، ص 264)، هنا نجد تحديدًا أن وعظها كان للنساء فقط، بينما نجد واعظه مثل حمد بنت واثق بن علي بن عبد الله والتي ولدت سنة 466هـ كانت لها شهرة واسعة فتعقد مجالس للوعظ يحرص الناس «رجالاً ونساءً» على حضورها (الصفدي، جـ13، ص 165). بعد ذلك ندخل القرن السادس الهجري فند فيه ياسمينة السيراونديه التي توفيت سنة 502هـ وكانت مشهورة بالوعظ وتفسير سور القرآن وأيضًا زينب بنت أبي البركات البغدادية التي قالت عنها المصادر إنها واعظه من واعظات القرن السادس الهجري تعظ النساء في رباط البغدادية (كحالة، جـ5، ص 295، جـ2، ص 57). كذلك هناك زينب بنت معبد بن أحمد المروزي المعروفة بزين النساء والمتوفية سنة 543هـ وقد ذكرت المصادر أنها كانت فاضلة فصيحة تعقد مجالس للوعظ ببغداد ومكة ولم تحدد المصادر إذا كانت مجالسها للنساء فقط مما يجعلنا نرجح أنها كانت لها مجالس مفتوحة يحضرها الرجال والنساء معها (الصفدي، جـ15، ص64). وأيضًا هناك ضوء الصباح بنت المبارك بن أحمد بن عبد العزيز المدعوة «خاصة العلماء» البغدادية توفيت سنة 585هـ، وكانت واعظة معروفة بالصدق والصلاح تعقد مجلس الوعظ في رباطها مثل زينب بنت أبي البركات السالفة الذكر (الصفدي، جـ16، ص 370).
وبعد ذلك تأتي شمس الضحى بنت محمد عبد الجليل البغدادية الواعظة المتعبدة المتوفية سنة 588هـ، غير أن المصادر لم تفدنا بأية معلومات عن أين كانت تعقد مجالس وعظها ومن كانت تعظ (الصفدي، جـ16، ص 184)، ثم يعرض بعد ذلك الجدول لنا الواعظات اللاتي حصرناهن في القرن السابع والثامن والتاسع والعاشر الهجري والمصادر هنا أيضًا لم تأت بأي تفاصيل خاصة عن أين كانت تعقد مجالس وعظهن أو من كان يحضر هذه المجالس. لكن هناك تاج النساء بنت رستم بن أبي الرجاء الأصبهاني أم أيمن المتوفية سنة 611هـ نسلط بعض الضوء عليها حيث إن هذه الواعظة كانت «شيخة الحرم» في مكة (الصفدي، جـ10، ص 374) وبالتأكيد أن منصب شيخة الحرم هذا كان يتطلب صفات خاصة ويفرض على صاحبته مسئوليات كبيرة. وهو منصب هام يجب أن يستوقفنا لأنه مرتبط بمكان مركزي في العالم الإسلامي احتلت المرأة فيه سلطة دينية بينما لا نرى أية امرأة في العصر الحديث على حد علمنا تتولى مثل هذه السلطة أي تنال هذه الدرجة الرفيعة في مثل هذا المكان المركزي الهام في قلوب المسلمين في أي مكان. كذلك هناك واعظة أخرى مثيرة للاهتمام وهي زينب بنت فاطمة بنت عياش البغدادية المتوفية سنة 796هـ والتي رأيناها فقيهة ومتفقهة ومفتية والآن نراها واعظة فاضلة وقد ذكرنا سابقًا أنها ورثت العلم والاسم من والدتها الفقيهة المشهورة فاطمة بنت عياش البغدادية. (ابن حجر العسقلاني، جـ3، ص 266).
وإذا عدنا إلى الجدول ونظرنا إلى الواعظات اللاتي تم حصرهن وترتيبهن ترتيبًا زمنيًا نلاحظ أن الواعظات على عكس المفتيات لم يكن لهن تواجد كبير في العصر الإسلامي الأول ولكن زاد تواجدهن في العصور الإسلامية الوسطى وقد يكون مرجع هذا إلى أنه في أيام الإسلام الأولى لم يكن المجتمع في حاجة إلى وعظ وقد رأينا كيف أن الصحابيات والتابعيات كن على درجة كبيرة من العلم والالتزام بالدين حتى أنهن كن يفتين في أمور الدين والدنيا ويصدرن أحكامًا محددة، ولكن بمرور الوقت عندما بدأت بعض أشكال الفساد السياسي والاجتماعي تتخلل المجتمع الإسلامي أدى ذلك إلى الحاجة لدور مكثف للوعظ الأخلاقي والديني المباشر لأفراد المجتمع رجالاً ونساءً. غير أننا نلاحظ أن جدولنا توقف عند القرن العاشر الهجري حيث لم نستطع التوصل إلى واعظات في القرون التالية ولم نجد في المصادر أي تفسير لهذا الاختفاء أو الغياب إلا أننا أرجعناه إلى نفس أسباب اختفاء المفتيات من الساحة الدينية. ففي أغلب الظن أن الوعظ مثل الإفتاء قد ارتبط بالسلطة وأصبح الواعظ موظفًا يخضع للحكومة أو الدولة مما أدى إلى انكماش دور الواعظ الحر الذي كانت تنتمي إليه الواعظات. هناك تفسير آخر لاختفاء الواعظات مرتبط بالسبب الأول. هو أن بعض الواعظات والوعاظ في العصر المملوكي انحرفوا عن طريق الوعظ السليم وبدأت البدع والخرافات والأساطير تتسلل إلى مجالس الوعظ مما جعل الدولة تضع قيودًا على من يزاول المهنة وجعلت الوعظ تحت سيطرتها وفي دائرة اختصاصها فظهر الواعظ الرسمي التابع للدولة المتحدث باسمها واختف الواعظ الحر المستقل[8].
وإلى جانب كل المجالات الدينية السابقة هناك مجال ديني آخر هام جدًا برزت فيه المرأة، هو مشيخة الربط والزوايا وقد قدمنا في بداية البحث تعريفًا بهذا العمل الديني الهام، الذي هو عبارة عن إدارة هذه المنشآت الدينية والإشراف عليها وقد كان يطلق على النساء اللاتي يقمن بهذا العمل «شيخات». وإذا نظرنا إلى الجدول نجد أنه في العصر الإسلامي الأول لم يكن هناك تواجد للمرأة شيخة الرباط فالنساء اللاتي تم حصرهن ينتمين كلهن إلى العصور الإسلامية الوسطى في الفترة من القرن السادس الهجري إلى القرن التاسع الهجري وهي الفترة التي انتشر فيها التصوف وانشأت الربط والزوايا في العالم الإسلامي. وعلى الرغم من أن عدد النساء اللاتي استطعنا حصرهن في هذا المجال قليل، إحدى عشرة امرأة فقط إلا إننا تمكنا من خلال هذا العدد أن نتعرف على صفات شيخة الرباط ونشاطها والمهمات أو المسئوليات التي كانت توكل إليها. فهؤلاء النساء كن كلهن تقيات ورعات عالمات صالحات خيرات يقمن جلسات لقراءة القرآن وتعليمه والتسبيح والذكر، يقضين وقتهن في تعليم نزيلات الرباط ووعظهن هذا إلى جانب المسئولية الإدارية التي كن يقمن بها أحسن قيام مثل توفير المأكل والملبس والمأوى لمن يلجأ إليهن من الأرامل والعجائز والفقراء. هذا كله ينبهنا إلى القدرات الإدارية للنساء في هذا العصر وقيامهن بشكل فعال وواسع الانتشار بالعمل الاجتماعي والتعليمي المتشابك. فالربط والزوايا والخانقات كانت ملجأ للنساء اللاتي بلا عائل أو مال، كما كانت شبه مؤسسات تعليمية وتدريبية، وكان في بعض الأحيان يتم تأجير قراء وحفاظ لحلقات تجويد وترتيل القرآن.
ومن خلال شيخات الربط اللاتي تعرفنا عليهن وجدنا أن بعضهن كن يقمن بإنشاء الرباط والإشراف عليه في نفس الوقت والبعض الآخر يتولى فقط مهمة الإشراف. فهناك عائشة بنت علي بن عبد الله بن عطية الرفاعي المتوفية سنة 837هـ أنشأت رباطًا أسفل مكة يعرف بها ووقفت عليه دارًا بباب الصفا مطلة على المسجد وفي نفس الوقت كانت قائمة بالمشيخة أحسن قيام (السخاوي، جـ12، ص 77). وهناك أيضًا بنت الخواص التي كان والدها قد بنى الرباط وسلمه إياها لتديره فأحسنت إدارته (السخاوي 1986، جـ2، ص 155)، كذلك عائشة بنت المستنجد الإمام المدعوى بالفيرورجية المتوفية سنة 640هـ قامت ببناء الرباط الذي عرف باسمها وإدارته (الصفدي، جـ16، ص 608). أما زينب بنت عمر كندي بن سعيد بن علي أم محمد بنت الحاج زكي الدين الدمشقي فقد ذكر في المصادر أنها بنت رباطًا وأوقفت عليه أوقافًا ولكن لم تذكر المصادر إذا كانت إدارته بنفسها أم تركت إدارته لشخص آخر (الصفدي، جـ14، ص 66). وإلى جانب النساء اللاتي قمن بإنشاء الربط وإدارتها هناك نساء قمن بإدارة الرباط بغير أن يكن صاحباته وهذا في حد ذاته هام جدًا ويدعو للتوقف، حيث إنه يبين لنا أن إدارة الرباط كانت وظيفة تتولاها أو تعين بها المرأة وليست مجرد عمل خيري تطوعي تقوم به. وقد ذكرت المصادر أن زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر بن الحسين المتوفية سنة 704هـ قد «تولت مشيخة رباط السقلاطوني» «وتقلدت مشيخة رباط الحرمين» بمكة (ابن حجر العسقلاني، جـ2، ص 117). وأيضًا فائدة الشيخة المتوفية سنة 827هـ «تولت مشيخة رباط الظاهرية أسفل مكة» وهو نفس الرباط الذي أنشأته عائشة بنت عبد الله بن عطية الرفاعي – المذكورة سابقًا – وتولت مشيخته (السخاوي، 1934، جـ12، ص 114). وكلمة «تقلدت» أو «وتولت» تؤكد أن مشيخة الرباط كانت وظيفة تتقلدها وتتولاها المرأة. ونجد أنه في بعض الأحيان كانت المرأة تتولى مسئولية إدارة خانقتين أو رباطين في آن واحد مثل فاطمة بنت قزيمران التي كانت شيخة الخانقتين العادلية والدجاجية معًا وكان تديرهما بنجاح (الغزى، جـ2، ص 238).
إن كل شيخات الربط والزوايا كن يقمن بدورهن على خير وجه فكان لهذا أثر كبير في الحياة الدينية والاجتماعية في إعالة الأرامل والمطلقات والعجائز ووعظهن وتعليمهن أصول الدين. هذا الدور يمكن أن يكون موضوعًا شيقًا للباحثين في المستقبل خاصة إذا تمت مقارنته بدور الراهبات في أديرة أوروبا في العصور الوسطى ومساهمتهن في الحياة الدينية والاجتماعية هناك.
آخر المجالات الموجودة في الجدول وإن كانت من أهم المجالات الدينية هو العمل بالتدريس والتعليم وهو مجال كبير متعدد المستويات، فكما ذكرنا سابقًا هناك مستويان للتعليم الإسلامي، تعليم أولى حيث يتعلم الصغار القرآن ومبادئ القراءة والكتابة ثم التعليم العالي ويكون منصبًا على دراسة الفقه وأصول الشريعة. سنركز هنا على المرأة الفقيهة التي كانت تدَّرس الفقه وليست المحدَّثة التي كانت تدّرس الحديث (Makdisi 1981, 129). لقد كان للمرأة دور كبير في التعليم على المستويين فمنذ الأيام الأولى للإسلام والمرأة نشيطة في مجال التعليم. رأينا كيف أن الجيل الأول من الصحابيات وزوجات الرسول كن على علم واسع بالدين يفتين ويعظن ويعلمن الناس. واستمر نشاط المرأة في هذا المجال حتى رأيناها في العصور الوسطى تمتهن مهنة التدريس بصورة أكثر رسمية. وإن كانت المرأة لم تعين في أي منصب تعليمي في المدارس إلا أن هذا لم يقلل من قيمتها بل أضاف إليها احترامًا ومصداقية أكثر حيث إن الناس في هذه العصور كانوا يرون أن المناصب التعليمية والاستفادة من الأوقاف الموقوفة عليها كانت تفسد العالم أحيانًا وتؤثر في مصداقيته ولذا كانوا دائمًا ينظرون إلى العالم الذي يتخلى عن منصبه في المدرسة نظرة إجلال وتقدير (Chamberlain 1957, 140- 143).
ولأن المرأة لم يكن لها منفذ إلى المدارس فقد كانت تعقد حلقات العلم والتدريس في البيوت والمساجد يحضرها الرجال والنساء، فنجد في كتب الطبقات والسير أن المؤرخين كانوا لا يجدون حرجًا في أن يقولوا إنهم كانوا يجلسون تحت أقدام النساء يتعلمون منهن ويستفيدون من خبراتهن (Tritton 1957, 140- 143). ومن خلال المجموعة التي تم حصرها في الجدول نجد أنها تنقسم إلى مدرسات يدرسن الفقه ومعلمات أو مؤدبات يعلمن القرآن ومبادئ القراءة والكتابة. وبالنسبة للمدرسات فمن الممكن أن تكون كل الفقيهات اللاتي تحدثنا عنهن من قبل قد عملن بالتدريس، فكل هؤلاء الفقيهات قد انتهين من دراستهن الفقهية ونلن حظًا وافرًا من الدراسة في هذا المجال يجعلهن مؤهلات لتدريس أحكامه غير إننا وجدنا عددًا قليلاً ذكرت المصادر ذكرًا صريحًا أنهن قمن بعملية التدريس، ولذا وعلى الرغم من الميل إلى الاعتقاد أن معظم الفقيهات كن يدرّسن الفقه إلا أنه التزامًا بما جاء في المصادر ولتحري الدقة والصدق لم نضمن في جدول المدرسات سوى من ذُكر فعلاً أنها كانت تدرس الفقه. ونلاحظ من الجدول أنهن ينتمين كلهن إلى العصور الوسطى، الفترة التي تبلور فيها الفقه الإسلامي وأصبح علمًا واضح المعالم([9]).
والمدرسات التي تم حصرهن هن مولاة لأبي أمامه وهي غير معروف اسمها ولكن قيل عنها إنها كانت تدرس النساء «القرآن والسنة والفرائض والفقه» في مسجد بحمص وهذا يدل على أن النساء إلى جانب عقدهن حلقات علم في البيوت كن يقمن بالتدريس في المساجد أيضًا (الجوزي، جـ2، ص 453). وأيضًا هناك الشيخة شهدة المعروفة بفخر النساء وقد توفيت سنة 574هـ، وذكرت المصادر أنها كانت «تقيم حلقات ألحقت فيها الأصاغر والأكابر» (ابن خلكان، 1948، جـ2، ص 172). وفاطمة بنت أحمد السمرقندي الفقيهة الفاضلة التي قابلناها من قبل وقد تصدت لتدريس الفقه في عصر الملك العادل نور الدين وعائشة الباعونية الفقيهة المفتية والواعظة التي ذكر سابقًا أنها «أجيزت بالتدريس». كذلك هناك بنت علي النشار الفقيهة الشيعية التي توفيت سنة 1031هـ وكانت تدرس الفقه وتقرأ عليها النسوة القرآن (العاملي، جـ17، مجلد 14، ص 169).
أما عن المعلمات فهن المسئولات عن التعليم الأولى بما فيه من حفظ القرآن ومبادئ القراءة والكتابة وإذا كانت المعلمة تعلم بنات الأسر الغنية في بيوتهن فقد كان يطلق عليها مؤدبة. ومن المثير للاهتمام أن التعليم على هذا المستوى كان مهنة أو حرفة تمتهنها المرأة وتتكسب منها فقد ذكر في المصادر أن سيدة بنت عبد الغني بن علي العبدري المتوفية سنة 647هـ كانت عالمة فاضلة في تونس وكان والدها «يهتم بتربيتها وتعليمها ليؤهلها لحرفة تعليم النساء فتؤمن بذلك مؤونة العيش» (الصفدي، جـ16، ص 65). هناك أيضًا عائشة بنت إبراهيم بن صديق وكانت تعلم النساء القرآن وقد انتفع بها عدد كبير من النساء (ابن حجر العسقلاني، جـ2، ص 435) وأم القاسم التي توفيت سنة 860هـ وهي ابنة خالة والد السخاوي وقد قال عنها في «الضوء اللامع» أنها كانت تعلم البنات (السخاوي، جـ12، ص 148). وأيضًا أسماء بنت الفخر خالة القاضي نور الدين الصائغ وهي تنتمي إلى العصر المملوكي حيث إن أسرة الصائغ كان لها باع كبير في العلم والقضاء. ولقد كانت أسماء زاهدة «تلقن النسوة القرآن وتعلمهن العلم والقرب» (ابن حجر العسقلاني، جـ1، ص 360). وكذلك أسماء بنت موسى الضجاعي التي توفيت سنة 902هـ وهي من فواضل النساء كانت تقرأ وتعلم النساء القرآن وتعظهن وتؤدبهن (كحالة، جـ1، ص 65).
وأخيرًا وبعد العرض السابق للنساء اللاتي تم حصرهن في مجالات العمل الديني المختلفة يمكن أن نقول إن المرأة كانت نشيطة ولها دور فعال في مجال العمل الديني العام بكل فروعه في العصور الإسلامية الأولى والوسطى. فقد رأيناها وعلى عكس ما قد يظن البعض فقيهة بارعة ذات قدرات عقلية وتحليلية واسعة. كما رأيناها مفتية ذات ملكة تقتدر بها على استنتاج الأحكام من أدلتها الشرعية فتصدر الحلول والآراء للمشاكل والخلافات الشرعية، وواعظة توجه النصائح والعظات للناس وتذكرهم بواجباتهم تجاه الله والمجتمع، وشيخة رباط أو زاوية ذات قدرات إدارية عالية، وكذلك أيضًا مدرسة ومعلمة نشيطة في مجال التعليم على مستوياته المختلفة تدرس القرآن والسنة والفرائض والفقه. هذا كله يجعلنا نقول إن المجتمع الإسلامي في العصور الإسلامية الأولى والوسطى بتقاليده وعرفه لم يمنع النساء من التواجد والمشاركة في مجال العمل الديني العام (وإن لم يشغلن مناصب القضاء والإدارات الرسمية) بل على العكس فإن هذا التواجد كان أمرًا طبيعيًا، وقد رأينا كيف أن المؤرخين والعلماء في هذه الفترة المعنية كانوا يذكرون هؤلاء النساء دائمًا بألفاظ الاحترام والتبجيل يثنون عليهن ويعتبروهن مرجعًا شرعيًا في كثير من الأمور دون تشكيك أو تعجب بل عن ثقة وتقدير.
الجزء الثاني
موضوعات للتحليل والمقارنة
أ. د. أميمة أبو بكر
1- إشكاليات نقدية في تحليل تواريخ النساء في العصور الوسطى:
حظيت مؤخرًا الجوانب المختلفة من حياة النساء وطبيعة ظروفهن المعيشية والمهن التي عملن بها في القرون الوسطى للغرب بصفة خاصة (تقريبًا من القرن التاسع حتى الخامس عشر) على كثير من اهتمام الباحثين والمنظرين وذلك في ضوء مدرستين أو تيارين بالتحديد: الأولى هي قضية إعادة قراءة وتحليل التواريخ القديمة كنصوص تصويرية أو «تمثيلية» تكشف عن آليات التشكيل الاجتماعي والثقافي لأفراد وفئات المجتمع – وفي هذه الحالة هن النساء – وهو ما يعرف بحقل دراسات «التاريخانية الجديدة» أو «التاريخ الثقافي الجديد» (Bynum 1992, Berkhofer 1995 و كوثراني 2001)[10]؛ والتيار الثاني: هو مدارس النظريات النسائية التي عكفت على التنقيب في مصادر معروفة وغير معروفة عن تفاصيل حياة النساء في الحقب الماضية لإلقاء الضوء عليها وإعطاءها مركزية جديدة تثبت حضورهن الفعال والإيجابي في مجالات مختلفة حتى في تلك العصور السحيقة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تطوير الأطر التحليلية والنظرية المستخدمة حتى الآن والتي كان يتم من خلالها دراسة هؤلاء النساء وهذه المصادر، وذلك من خلال منظور جديد لإعادة تحليل وتفسير هذه المادة. أي أن أهمية دراسة تاريخ النساء في العصور الوسطى بالنسبة للمدارس النسائية الحالية تكمن في ثلاث نقاط:
أ. هي تكشف الحضور التاريخي الإيجابي للنساء على نحو يتحدى الأطر التقليدية المعتادة التي عادة لا تدمج أنشطة النساء إلى جانب أفعال الرجال في التواريخ الرسمية العامة وافترضت أن التاريخ القديم خاصة صنعه وتحكم في مسيرته رجال الدولة والسلطة أو علماء الدين.
ب. يجد المؤرخون المحدثون لدهشتهم أن كلاً من الرجال والنساء في القرون الوسطى يظهرون «طبيعة» إنسانية مختلفة ومغايرة عما يفترضه وعينا «الحداثي» عن الطبيعة الأزلية الثابتة للذكورة والأنوثة أو للرجال والنساء، كما يكتشفون أن حدود المسموح به اجتماعيًا وثقافيًا في مجالات كثيرة من الحياة لم تكن مرسومة بالصرامة والجمود الذي نتخيله عن هذه العصور أو حتى مقارنة بنفس تلك الحدود في عصرنا الحديث. وهذا بدوره يعضد النظرية السائدة حاليًا أن منظومة العلاقات بين الجنسين وطبيعة كل منهما وأدوارهما يتم تشكيلها ثقافيًا واجتماعيًا وأنها تغيرت فعلاً على مر القرون والعصور – خاصة في الغرب الأوروبي. ومن هنا تتغير الثوابت والفرضيات التاريخية مما يدفع الباحثين إلى إعادة تقييم هذه الافتراضات حول الماضي وربما حول الحاضر أيضًا (Stuard 1978).
ت. والمجال الثالث الذي تفيد فيه دراسة هذه القرون الوسطى هو مجال دراسة الحيز العام والحيز الخاص بالمجتمع، فقد ظهرت دراسات عديدة في الغرب تعيد النظر في مسميات العصور التاريخية في أوروبا مثل «عصور الظلام» أو «عصر النهضة» أو «العصر الحديث» وكذلك مسار الحضارة الغربية نفسها، فربما لم تكن عصور «ظلام» كامل بالنسبة للنساء في أوروبا اللاتي فُتحت لهن فرص التدين الجماعي أو الفردي والتصوف وكتابة المذكرات والإلهامات الصوفية والكشفية، وربما لم تكن هناك «نهضة» لهن في القرون التي تلت بدءًا من القرن السادس عشر عند بدايات تغير وسائل الإنتاج والاستهلاك بلوغًا إلى الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر وما تبعها من تشكل السوق وآليات وحركته منفصلاً عن مجال الأسرة الخاص (Buchanan 1996; Stuard, 7)[11]. وقد رصد الدارسون والمحللون أن هذه هي بدايات تقسيم العام والخاص في التاريخ الأوروبي الذي تبعه تحجيم دور النساء في دائرة الخاص – أي المنزل والعائلة والأطفال والخدم – وقصرهن على هذا المجال فقط، في مقابل ارتباط الرجال بالعام وأعماله في المجتمع الخارجي: أي ما هو أصعب وأقيم وأكثر تميزًا وسيطرة[12]. واستمر هذا التطور حتى بلغ ذروته في العصر الفيكتوري ببريطانيا (ق 19) الذي روج لمفهوم «المرأة أو الأنثى الحقيقية» تكريسًا لأنماط معينة من السلوك الأنثوي أو الشخصية النسائية الحقة وعمادها المثالية الأخلاقية التي تصحبها سمات السلبية والخضوع والضعف والاستسلام والقدرات العقلية المحدودة[13].
ونلحظ تطورًا مماثلاً في مجال الدراسات التاريخية للشرق الأوسط حيث ظهرت مؤخرًا العديد من الأبحاث القيمة التي تركز على تاريخ النساء في المجتمعات الإسلامية والعربية قبيل العصر الحديث بصفة عامة، والتي أثبتت وجود مساحات واسعة من الحركة والفعالية في المجال العام وكذلك ممارسة الحقوق القانونية الشرعية، تقلصت مع بدايات «التحديث» الذي صاحب فكرة «الدولة القومية» بأطرها وأنساقها الإدارية والقانونية والاجتماعية والسياسية الصارمة محاكاة للنموذج الغربي لمؤسسات الدولة الحديثة. وتمثل أعمال هامة مثل دراسات أميرة سنبل وعفاف لطفي السيد مارسو ونيلي حنا وجوديث تاكر ونيكي كدي وبث بارون (انظري قائمة المراجع) هذا الاتجاه نحو إعادة النظر في افتراضات الركود والتخلف في فترات معينة من تاريخنا مثل العصر العثماني بداية من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر وبداية حكم محمد علي في مصر.
وتوضح أميرة سنبل (1996/ 1999)[14] السبب في مثل هذه الافتراضات والتعميمات: «لقد تسبب تصور الحقبة الحديثة على أنها طرف النقيض للحقبة «التقليدية» في حدوث سوء فهم للعديد من موضوعات تاريخ المرأة المسلمة، وقد تميزت الأبحاث التي تتناول تاريخ المرأة في الشرق الأوسط في عصوره الأقدم بندرتها، وذلك نظرًا لتركيز اهتمام تلك الدراسات على العصر الحديث، فالمؤرخون النسويون يفضلون التركيز على دراسة دخول التحديث إلى المجتمعات الشرق أوسطية» (ص 14). وتثبت دراسات أميرة سنبل في مجال قوانين الأسرة والطلاق خاصة أن رغم التغيرات الظاهرية لوضع المرأة المسلمة التي جلبها التحديث إلا أن «المرأة في المجتمع الإسلامي التقليدي كانت نشطة إلى حد بعيد واشتركت في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأحوال الشخصية والقانونية… والعلاقات الاجتماعية والعلاقات بين الجنسين»، وأن التحولات التاريخية الحداثية في القرنين الأخيرين «قد تسببت في تدهور القدرة على النشاط الاجتماعي خاصة بالنسبة للمرأة… ففي خلال عملية بناء الدولة القومية امتدت يد الدولة إلى الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية فوضعت لها المعايير وأصلحتها وحدثتها مما كان له أثرة العميق على أحوال النساء» (ص 19).
إن إعادة اكتشاف المجتمعات العربية والإسلامية مثل مصر أو غيرها بفئاتها المختلفة – خاصة النساء – يعد خطوة على طريق فهم الواقع الحالي ونشأة العصر الحديث فهمًا يستند إلى حركة ذلك التاريخ، فيفسر لنا مثلاً الدكتور رؤوف عباس معضلة إهمال التاريخ العثماني واتهامه بالاضمحلال والتقليدية الانعزالية على يد المدرسة الاستشراقية في مقدمة ترجمته لكتاب نيللي حنا تجار القاهرة في العصر العثماني (1997): “إن المجتمعات يمكن أن تتطور وفق سياق تاريخي مختلف عن النهج الغربي، كاشفة عن فساد الاستنتاجات التي توصل إليها المستشرقون في دراساتهم حول العصر العثماني عامة، وتطور مصر في ذلك العصر خاصة… (تأكيدًا) أن الثقافة الوطنية العربية الإسلامية توفرت لديها في هذا العصر مقومات التطور وأن قدوم الغرب لم يكن بعثًا للحياة في مجتمعاتها وإنما كان من معوقات تطورها” (ص 15). ففي هذا الكتاب تعيد المؤلفة تكوين سيرة شاهبندر التجار في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر من شتات ما جمعته من سجلات المحكمة الشرعية، فتنقل بذلك صورة حية للواقع الاقتصادي وكذلك الاجتماعي لهذه الطبقة في ذلك الوقت، وتثبت بالدليل أن التعميمات حول الانفصال الكامل بين المجالين العام والخاص لا يُعتمد عليها: “فلم تكن الحركة منقطعة بين المجال الخاص والمجال العام، ولم تكن الحواجز منيعة بين المجالين، فبين الأبيض والأسود كانت هناك دائمًا مساحة واسعة للظلال الرمادية واعتمدت الحركة بين المجالين على اختلاف المعايير والظروف” (ص 232)؛ ولم تعش النساء منعزلات بل تولين إدارة شئون أعمالهن وأمور أملاكهن ونظارة أوقاف العائلة أو إنجاز بعض الأعمال في المحكمة، ولم تكن هناك حواجز معينة تفصل بين مساكنهن وبعضها البعض أو بينها وبين ما يقع خارج البيت: “وهكذا نجد أن كلمة الاحتجاز (أو العزلة) التي يستخدمها الباحثون كثيرًا عندما يتحدثون عن الزوجات في مجتمعات الشرق الأوسط، التي تحمل مضونًا يشبه الاعتقال، كلمة مضللة، عندما ننظر إلى الوضع عن قرب. فرغم تمحور الحياة العائلية حول البيت، ارتبطت النساء بالمجتمع الخارجي بروابط عدة. والواقع أن وضع نساء القاهرة كان أفضل مقارنة بوضع النساء الفرنسيات أو الإنجليزيات المعاصرات لهن. وعلى سبيل المثال كانت المرأة الإنجليزية – في عصر ستيوارت – تفقد حقها في الملكية بمجرد زواجها ويقوم زوجها بكل ما يتعلق بها من أعمال فتصبح عالة عليه تمامًا، لأن الزواج يحولها – من الوجهة القانونية – إلى قاصر. ولم يكن وضع المرأة في فرنسا قبل الثورة أحسن حالاً حيث كان الزواج يعطى الزوج حق الولاية التامة على أملاك زوجته” (ص 235).
وحتى بعد هذه الفترة بنحو قرن ونصف من الزمان -أي أواخر القرن الثامن عشر قبيل مجيء محمد علي إلى حكم مصر- كان للنساء دور بارز في الأعمال المالية، وتوضح دراسات عفاف لطفي السيد مارسو (1995) لهذه الحقبة وأوضاعها الاقتصادية اللامركزية أن نشاط المرأة التجاري والاستثماري للأرض الزراعية (خاصة امرأة الطبقة المتوسطة البرجوازية) كان فعالاً ويمتاز بالحرية والاستقلالية التي حرمت منها بعد ذلك، وحتى دور النساء من الطبقة العاملة الشعبية كموردات للبضائع تم تحجيمه بسبب طغيان بضائع مستوردة بديلة وأنساق أوروبية للحياة والمتاجر وسوق العمل. فالقدر الكبير الذي كانت النساء يمتلكنه من حرية التصرف في أموالهن وثرواتهن وتجارتهن بلغ بهن حدًا من التمكن والسيطرة تم اختفاؤه تمامًا في العصر الحديث إبان سيطرة النسق الاقتصادي المركزي والقيمي للاستعمار البريطاني: «فبعد انتهاء القرن (التاسع عشر) وفرض الاستعمار الإنجليزي سيطرته على مصر، تفاقم الوضع الهامشي لامرأة الصفوة مع هيمنة الفكرة البريطانية عن الأنثى بأنها «سخيفة» و «عاطفية» و «لا منطقية». وقد قلد الرجل المصري سيده البريطاني في ذلك التصور الذي وجده مقنعًا «(عفاف لطفي السيد مارسو في كتاب النساء والأسرة وقوانين الطلاق، ص 57).
وفي اعتقادي أن هذه الصورة تنطبق كذلك بصفة عامة على ما يسمى بالعصور الإسلامية الأولى والوسطى بدءًا من الدولة الأموية والعباسية وحتى العصر المملوكي في مصر والشام في القرن الخامس عشر والسادس عشر والتي هي محور هذه الدراسة. وتنتمي أبحاث هدى لطفي لهذه الحقبة، ولكنها تعتبر من الدراسات التاريخية القليلة التي تسلط الضوء تفصيليًا على تاريخ النساء فيما قبل الحداثة بقرون عدة من خلال المصادر المهملة، منتبهة إلى المساحة الواسعة التي كانت تشغلها النساء في الحياة العامة واختلاف المعايير الاجتماعية التي تحكم حياة الرجال والنساء.
إلا أنه لا تزال هذه الحقب التاريخية – العصور الأولى والوسطى – تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتنظير. مثلاً إذا كانت هذه الأبحاث – ومنها البحث الحالي حول الفقيهات والمفتيات – تثبت مساهمة النساء في الحياة الفكرية والدينية للعصور الإسلامية الوسطى مما لم يحدث في القرون التالية حتى العصر الحديث، فهذا يتحدى الزعم أن النساء والرجال قد حظوا دومًا بفرص متكافئة متساوية في الحياة الثقافية العامة أو التعليم أو الكتابة في العلوم الدينية، أو أن السبب يرجع إلى تقصير النساء وطبيعتهن وصعوبة التفقه في الدين بالنسبة لهن أو مشروعية الدخول في نقاش ديني متخصص. فكيف يحققن مكانة عالية كمرجعيات دينية علمية في عصر ما ثم لا يظهرن منذ ذلك العصر حتى الآن؟ هذا يدعو لدراسة المتغيرات التاريخية وتأثيرها على النساء و «النوع» من العصور الإسلامية الأولى إلى المملوكية إلى العثمانية ثم إلى العصر الحديث أثناء فترة الاستعمار وما بعده. إلا أنه من المعروف أن صعوبة العثور على وثائق وكتابات في التراث الإسلامي من هذه الحقبة كتبتها النساء أنفسهن في مقابل المادة التاريخية التي تصلنا عن مشاهير وأعلام النساء المكتوبة من قبل مؤرخين رجال ينقلون إلينا على لسانهن ما قلنه وكذلك أشعارهن وآثارهن لا تشجع الكثير من الباحثين على إنتاج مادة معرفية جديدة في هذا المجال.
وهنا على الباحثة أن تختار بين نظريتين:
أ. اعتبار هذه النصوص أمثلة لتصورات ثقافية واجتماعية عن النساء أنتجها الكتاب، بصرف النظر عن إذا كانت هذه النصوص انعكاسًا حقيقيًا لأحداث تاريخية دقيقة وصحيحة، فيهتم هذا المنهج بتطبيق منظور جديد في التعامل مع المصادر المعروفة واكتشاف معان ودلالات جديدة في النصوص القديمة. وتتبنى معظم الأبحاث الغربية هذه النظرة الآن، سواء التي تتناول تاريخ النساء الأوروبيات (مثل دراسات Caroline Bynum, Susan Stuard) أو التي تتناول النساء في الشرق الأوسط (مثل كتاب دنيز سبلبرج Deniz Spellberg المشهور عن عائشة بنت أبي بكر (1994) وكتاب فدوى مالتي دوجلاس Fedwa Malti-Douglas عن صورة المرأة عبر التاريخ الثقافي العربي الإسلامي 1991). فتنبهنا ستيوارد Stuard مثلاً في مقدمة كتابها عن إشكاليات التاريخ لنساء الغرب في القرون الوسطى إلى أن أفعال وأقوال هؤلاء النساء تصلنا في سجلات التاريخ عبر تصورات وكلام المؤرخين والكتاب الرجال، ولذا يجب التركيز على «فهم أولئك المؤرخين، ومتى يتقنون إحكام الصورة التاريخية، أو متى يتجاهلون الأدلة، أو متى يجسدون ويشكلون مفاهيمهم المعاصرة وتصوراتهم الشخصية – التي هي انعكاس لثقافاتهم – لموضوع ما» (ص 15).
ب. أما المنهج الثاني فهو لا ينفي إشكالية «التكلم البطني» وهي السمة الرئيسية لهذه النصوص القديمة وكما شرحتها هذه الباحثة: «إن أصوات أو أحاديث النساء في هذه الأحوال هي أحاديث غير قاطعة وملتبسة، فهذه الشخصيات صحيح أنها لا تتحدث كلية بالنيابة عن ذات الكاتب فقط حيث إنها أيضًا تجسد مفاهيم وتصورات ثقافية جماعية، ولكن في نفس الوقت لا نستطيع أن نضخم من حجم وقيمة هذه الأصوات باعتبارها الأصوات الحقيقية/ الفعلية المهمشة من الماضي» (Evans 1994, 2). أي بالرغم من الشكوك المحيطة بالسجلات التاريخية للنساء فإن استعادة أصوات وأحاديث وأدبيات النساء المتناثرة في الموسوعات وكتب المؤرخين خطوة هامة في إبراز ثم دمج مساهمات النساء التاريخية في الذاكرة الثقافية الجماعية.
وتعبر مهجة كييف عن هذا المأزق عندما تقول: «هل نحن في هذه العصور الإسلامية المبكرة بصدد قراءة الكلام الفعلي للنساء المسلمات الأوليات بدون تحريف أو تدخل، أو أنه كلام في معظمه ملفق من قبل الكتاب الرجال والمؤرخين؟» ثم تقول إن معظم الدراسات العربية تفترض الرأي الأول قطعيًا وتفترض معظم الدراسات الغربية الرأي الثاني قطعيًا، بينما تعتقد هي أن تفسير أي من الرأيين منفردًا غير كاف وترد بتساؤل هام: لماذا يصعب على الباحثين أن يصدقوا صحة إبداع النساء لكلام أو أحاديث وبلاغات معينة ويشككون في قدراتهن، بينما يقرون بمجهودات الرجال في التدوين والنقل والإبداع؟ وهكذا يرفض هذا الاتجاه المنهج الأول في البحث الذي يعتبر هذه النصوص برمتها مجرد تصويرات وتخييلات ذكورية عن هؤلاء النساء أو تلفيقات على لسانهن، بل يرى إمكانية غرابلتها واستخراج آثار لخطابات النساء أنفسهن في المجالات الأدبية والشعرية أو الدينية الصوفية أو السياسية. وتطلق مهجة كهف على هذه الأدبيات «الآثار الخطابية للنساء» (Webb 2000, 150- 152). لابد إذًا من اعتبار دراسة آثار الفقيهات والمفتيات والمحدثات والمتصوفات ممن برزن في الحياة الدينية العامة هي محاولة استعادة هذا الجزء الهام من تاريخ النساء في الثقافة أو الحضارة الإسلامية.
والمناقشة التي أسلفت تثبت فائدتها عند تأمل ما عرضناه من التاريخ المنسي لفئات كاملة متعددة ومتنوعة من النساء اللاتي اشتغلن بالعلوم الدينية والفقهية والفتاوى الشرعية، حيث من الممكن أن نحلل سيرهن من الوجهتين معًا: استعادة هذه الخطابات النسائية وفي نفس الوقت الأخذ في الحسبان تصورات المؤرخين الثقافية والاجتماعية في سياق عصورهم عند إنتاج هذه الأعمال والتواريخ عن النساء العالمات.
2- البعد المقارن والحياة الدينية للنساء في أوروبا:
ما فائدة المقارنة هنا بين تاريخ الحياة الدينية العامة للنساء في المجتمعات الإسلامية ونظيرها لدى النساء في أوروبا في العصور الوسطى المسيحية؟ يندرج هذا الاتجاه البحثي تحت الاهتمام الحديث الذي ذكرناه عن العلاقة بين النساء في مختلف المجتمعات والثقافات بتراثهن الديني، ويتحقق ذلك من خلال المقارنة بين التواريخ المختلفة لاستكشاف الخيارات المطروحة لدى النساء من داخل كل تراث: أي ما هي جوانب الحياة الدينية المتاحة لهن وهل هي متاحة بدرجة مساوية ونسب متكافئة؟ وما هي المجالات الأخرى الممنوعة عنهن؟ ثم يتم استخدام هذا المعيار كعنصر تحليلي وأداة أولية للمقارنة حيث تكون نقطة الالتقاء هي التركيز على المشاركة الفعالة للمرأة وتواجدها كعنصر عامل في التاريخ أو كصانعة تاريخ وليس فقط كرمز أو كائن سلبي، فهذا المنهج لا يقارن الأديان من حيث «الرموز الدينية للأنثى» أو «الصور الأنثوية» التي أفرزتها قريحة العلماء والكتاب. ومن الطريف أن بعض الدراسات الغربية المهتمة بهذا المنظور ترتب الأديان وتراثها على حسب تدرجها لتحديد أكثر النظم أو أقلها قبولاً ودمجًا لأنشطة النساء الدينية. وفي مقدمة كتاب النساء في ديانات العالم (Sharma 1987) تقترح كاثرين يونج ترتيبًا يضع الإسلام في المرتبة الرابعة بعد اليهودية والهندوسية والكونفوشية في خلو تراثه من الوجود الفعال للنساء، ثم تعدل ريتا جروس Rita Gross في النسوية والدين (1996) من هذا الترتيب لزحزحة الإسلام إلى المرتبة الثالثة بعد اليهودية ثم الكونفوشية، وتقول إنه يجب أن يحتل أدنى المراتب مع هاتين الديانتين في قبول استقلال المرأة وتحقيق وجود نسائي حقيقي. ثم تعود لتقرر في موضع آخر أن المسيحية والبوذية اكتسبا سمعة سيئة يستحقانها بسبب النظرة السلبية للمرأة باعتبارها «أقل روحانية وأكثر مادية من الرجال» (ص 93). وقد يختلف بعضنا مع هذا التقييم أو ذاك أو هذه الاستنتاجات التعميمية، المهم هو أن السبيل إلى دحض أي استنتاجات مثل هذه يكون بالدراسات عبر الثقافات وبتجاوز التراث الواحد لقياس الدرجات المتفاوتة أو المتقاربة والمتشابهة لدور النساء. وتعلق الباحثة أوروسلا كنج (King 1995) أن مثل هذه الدراسات المقارنة قد أثبتت أن وضع المرأة في أية ديانة أو عقيدة هو عادة انعكاس ولو غير مباشر لحالة النساء في ذلك المجتمع، فقد أشار علماء الاجتماع مرارًا إلى أن النظم الدينية والعقيدية «تعكس كما تعيد ترسيخ القيم الثقافية والأنماط السلوكية الاجتماعية» داخل أي مجتمع (ص 15).
وهذه قضية لم يحدد معظم الباحثين موقفهم منها حتى الآن. فهناك فريق مثل الرأي السابق الذكر يرى أن هناك تطابقًا شبه كامل بين المفاهيم الثقافية/ الدينية السائدة في مجتمع ما عن المرأة ووضع المرأة الفعلي في هذا الواقع الاجتماعي، فإذا كانت المفاهيم والصور والرموز السائدة في عصر ما سلبية ومنحازة هذا يعني أن حال النساء في ذلك العصر كان سيئًا للغاية. ولكن الفريق الأكبر من الدارسين – خاصة قطاع كبير من الباحثات النسويات حاليًا – بدأن في إعادة النظر في هذه الفرضية عندما وجدن أنه رغم تأثر حياة النساء بمثل هذه المفاهيم والصياغات إلا أن هذا لا يعطينا الصورة كاملة، فكيف نفسر وجود نساء في هذه العصور استطعن أن يتحكمن في شكل حياتهن ويقمن بأدوار إيجابية مما يتناقض مع صورة السلبية والخضوع التام التي افترضتها وشكلتها نظريًا الثقافة من حولهن. ومن الدراسات المهمة في هذا المضمار في التراث الغربي في النوع والدين: إشكالية الرمز (Bynum 1986) لمجموعة من الباحثات والباحثين الذين نبهوا إلى أنه في أحيان كثيرة لا تعكس أو لا تتطابق الرموز الثقافية الدينية حول الذكورة والأنوثة مع كل الأنماط الاجتماعية الفعلية على المستوى اليومي المعاش. بل تزعم كنج أن هناك عادة علاقة عكسية بين هذين القطبين: كثرة الرموز والصور المجازية «للمؤنث» في الخيال الديني لدى تراث ما يقابلها أوضاع اجتماعية متدنية للمرأة ومعاملة سيئة للغاية في الواقع الأسري والحياة الدينية العامة أي على المستوى العملي المعاش (ص 16)[15]. وهذا ما توصل إليه البحث الجديد في كل من التراث المسيحي والإسلامي بالعصور الوسطى وما قبل الحداثة، فالدراسات الغربية بدأت تؤكد على الأدوار القيادية المستقلة التي مارستها المرأة في بداية العهد المسيحي تجسيدًا للقيم التحررية الكامنة في الرسالة المسيحية الأصلية في مقابل القيود الكثيرة التي فرضها عليها النظام الأبوي الصارم للمؤسسة الكنسية. ويجد الباحثون بالفعل شخصيات نسائية في هذه العصور – خاصة الراهبات والزاهدات (الناسكات) والمتصوفات – اتسمت بالاستقلال الذاتي والسلطة المعنوية المبنية على التفرد والنبوغ الروحي.
سنحاول هنا تقديم عرض سريع لأدوار النساء في الحياة الدينية تركيزًا على الفترة التي تسمى بمنتصف العصور الوسطى (ق 12 – ق 15)، وهذا معناه الأدوار التي تبلورت تحت رعاية الكنيسة الرسمية أو خارجها وهذا مجال المنشقين عنها. بالنسبة لنشاط النساء في كنف الكنيسة فالمعروف من المصادر أنهن لم يشتغلن بمهن دينية داخل هذه المؤسسة، فلم يشغلن مناصب بها وكن ممنوعات من العمل كقساوسة ممارسين للطقوس والصلوات العامة، ولذا فالأنشطة الدينية بالنسبة لهن كانت في الأديرة كراهبات حيث توافر لهن قدر من التمكين الذاتي حتى لو من داخل المؤسسة الرسمية. ويرى بعض الباحثين أن البيئة المحيطة أو السياق الثقافي المعادي للمرأة والذي دأب على التحقير من شأن الجنس النسائي كله جعل الوصول إلى السماء – أي الخلاص الروحي – أصعب في حالة النساء عنها في الرجال، فكان على المرأة أن تتجاوز طبيعتها «الآثمة» المتأصلة كما تم تصويرها في الثقافة السائدة وأن تبذل ضعف الجهد في مجال إثبات النفس والجدارة في التواصل مع الله (سبحانه)، ولهذا راجت فرص اختيار الحياة الدينية الخالصة في الأديرة فوهبت النساء حياتهن لله وللتفرغ والتعبد الدؤوب؛ هذا من ناحية الدافع الديني، أما من الناحية الاجتماعية فإن حياة الدير ربما كانت وسيلة للهروب من وضعها الدوني في الزواج ومن الخدمة الأسرية الشاقة والمخاطر الصحية للإنجاب (Larrington 1995, 115).
ومن مميزات الحياة داخل الدير الحصول على تعليم مناسب ومعرفة جيدة للقراءة والكتابة – مما لم يتأت لغالبية نساء العصور الوسطى خارج الكنيسة – وفرصة لقراءة الكتب الدينية ووجود المواد اللازمة لتدوين بعض الكتابات أنفسهن. وباستثناء راهبتين معروفتين بالاسم هما هيلدجارد بنجن وهراد لاندزبرج في القرن الثاني عشر اللتين تعدت كتاباتهما المواضيع الدينية، فإن كل كتابات الراهبات بعد ذلك كانت ذات سمة صوفية روحانية تعرض رحلة ذاتية إلى داخل روح ونفس الكاتبة استلهامًا للكتاب المقدس والطقوس وكتابات علماء الكنيسة الأوائل. ومما يلفت النظر هنا أنه في بعض الأحيان عندما لا تستطيع أن تدون المؤلفة نفسها تجربتها الذاتية كانت تمليها على راهبة أخرى أكثر براعة في استخدام القلم أو حتى على قسيس أو راهب آخر. وهذا ما حدث بالنسبة لهيلدجارد (ق 12) الألمانية ومارجرى كمب الإنجليزية (ق 15)، ولكن على الأقل نستطيع القول أنه قد وصل إلينا في العصر الحديث وثائق ومخطوطات مطولة لكتابات هؤلاء الراهبات أنفسهن فيها تسجيل لرؤى صوفية وشروح وتعليقات وآراء روحية نسائية، وقد أتاح هذا فرصة كبيرة للدارسين في الغرب أن يعكفوا على هذه النصوص لتحليلها ودراستها من الناحية التاريخية والثقافية والاجتماعية والدينية، فيستشفون تيمات وصور وتعبيرات معينة تم استخدامها من قبل هؤلاء النساء ويضعونها في السياق الثقافي التاريخي لذلك العصر، مثل الكتابات الشهيرة التي بقيت لراهبات الدير المعروف بألمانيا هلفتا Helfta (ق 13) وهيلدجارد المذكورة سابقًا وجوليان نورويش الإنجليزية (ق 14). وكلها كتابات تميزت بوجود تيمة مشتركة انشغل بها الباحثون وهي تصوير «أمومة» السيد المسيح مجازيًا والتركيز على خصائص «الرعاية الأموية» للمسيح «المخلص» (Bynum, 1982). وهكذا بدون الدخول في تفاصيل ليس لها مجال الآن تمكن الباحثون من ربط هذه الكتابات والرموز بسياقها وناقشوا هل هي انعكاس للبيئة الثقافية المعاصرة أم رد فعل لها، هل هي تصورات لا علاقة لها بالواقع أم كان لها تأثير على هذا الواقع؟ هل كان لها أثر ملحوظ في تطور التراث المسيحي في نظرته إلى اللاهوت وطبيعته… إلى آخره.
المقصود هنا هو أن هؤلاء الباحثين أكثر حظًا، فتحت أيديهم كتابات بعينها حتى لو أخذ في الاعتبار أن بعضها مملاة أو تم الاعتماد على قساوسة ورهبان ورجال دين لحفظها ونشرها، بينما كما أشرنا علينا أن نعتمد في التراث الإسلامي على أقوال متناثرة للفقيهات والصوفيات مكتوبة على لسانهن.
الفئة الثانية من النساء اللاتي عشن الحياة الدينية كانت فئة الناسكات الزاهدات، وهؤلاء في الأصل لم يعشن داخل مؤسسات أو مساكن الأديرة، ولكن بدأن في القرون المبكرة للمسيحية (قبل ق 11) كنساء عابدات يعتكفن في كهوف بعيدة أو في الصحراء بعيدًا تمامًا عن أي اتصال بالجماعة، وبعد فترة أصبح من الأسلم أن يعشن في صومعة اعتكاف منفصلة وإن كانت ملحقة بكنيسة معينة أو دير من الأديرة، وتعزل الناسكة تمامًا للتعبد والتأمل والصلاة المنفردة وتخضع لقانون العزلة والانغلاق التام فيكون ممنوعًا لها الاتصال بالعالم الخارجي أو ترك هذا «المرفأ»/ «المرسى» (anchorhold) إلا من خلال نافذة تفتح على داخل الكنيسة أو وجود أفراد من الخدم لتلبية احتياجاتها الضرورية. وبمرور الوقت تحولت هذه الحياة التي اختارتها الكثيرات إلى شبه مهنة حين أصبح بعضهن اللاتي نلن سمعة كبيرة لتقواهن وتصوفهن بمثابة مراكز جذب للمسافرين والحجاج والزوار يقصدونهن للاستشارة الروحية والتبرك والسؤال في مجال العبادة والتدين. ومن أشهر الناسكات الإنجليزيات هي جوليان نورويش (1342 – 1429) التي تركت لنا أثرًا مكتوبًا شهيرًا عبارة عن أربعة عشر رؤية صوفية كشفية: كشوفات الحب الإلهي. وهكذا برزت من هذه الفئة مجموعات من القديسات والمتصوفات المشهورات في التراث المسيحي.
أما الفئة الثالثة وهي فئة مارست الحياة الدينية الوعظية ولكن خارج مؤسسة الكنيسة تمامًا وكوادرها، ومن أشهر هؤلاء من عُرفوا باسم «البيجين» (Beguines) اللاتي انتشرن آخر القرن الحادي عشر وأول القرن الثاني عشر في شمال أوروبا وخاصة بلجيكا، وهن مجموعات من النساء يعشن في تجمعات سكنية خاصة بهن، أردن أن يحققن المعادلة الصعبة في العصور الوسطى أن يحيين حياة دينية بالمدن أساسها التقوى والصلاة والوعظ العام وأعمال الخير، فأردن ممارسة التدين والإرشاد الديني وهن جزء بارز من حياة الجماعة في نفس الوقت، ويترجمن تدينهن هذا إلى أعمال خيرية وخدمات فعلية بين الناس، فيصبحن قدوة للحياة المسيحية الخيرة الحقة ولكن دون أن يخضعن لسلطة الكنيسة ومراقبتها ولوائحها. وقد أطلق بعض الباحثين على هذه الفئة أنهن يشكلن أول حركة نسائية انفصالية في التاريخ الغربي (Bynum, 1982)، ورغم نجاح التجربة لسنوات عديدة إلا أنهن تعرضن لهجوم ونقد مكثف من القساوسة والكنيسة حتى تم تجريمهن وتكفيرهن رسميًا وتم حل هذه التجمعات. وقد رأى الدارسون أن المشكلة كانت تكمن في أنهن خلقن لأنفسهن مساحة «بينية» لا هي تحت سيطرة الكنيسة كراهبات وناسكات في الأديرة ولا هي تحت سيطرة الزوج بالمنزل يمارسن الدور التقليدي للزوج والأم. وكان هذان الدوران – راهبة أو زوجة/ أرملة- هما الدورين المرسومين بعناية للنساء أو المساحتين المسموح لامرأة العصور الوسطى أن تتحرك داخلهما. أما نساء «البيجين» فلم يخضعن للوائح الانعزال في حياة الأديرة بينما لم يتخلين عن ممارسة الحياة الدينية وهن يتحركن بحرية داخل المجتمع في المدن ووسط الناس (Stoner). ولم يتقبل السياق التاريخي في ذلك الوقت هذا الوضع الملتبس، خاصة فكرة أنهن مارسن الوعظ النشط في الحياة العامة استقلالاً عن الكنيسة وأصبح هذا أمرًا مستهجنًا للغاية حتى تم تحريم هذه المنشآت وأنشطتها في مؤتمر فيننا 1312م.
وهنا نتوقع عند نقطة مقارنة: بالنسبة لشيخات الربط والزوايا التي ورد وصفها في الجزء الأول والتي هي أيضًا منشآت أو تجمعات نسائية لشيخات ونساء عابدات ولكن ناشطات في العمل الاجتماعي الخيري، لم تبرز هذه المشكلة أبدًا في أنهن شيخات عالمات وجزء من الحيز العام في نفس الوقت، بل نقرأ في المصادر الكثير من المديح والاحترام والثناء على حسن إدارتهن لهذه الربط، وبينما لم يتم بالطبع تحريم أو حل هذه المؤسسات رسميًا لاختلاف الظروف إلا أنه من الملاحظ اختفاء شيخات الربط التدريجي حتى العصر الحديث عندما نشأت أطر ومؤسسات الدولة الحديثة بقيودها وقوالبها. هل من الممكن أيضًا اعتبار هذه الربط بشيخاتها ومديراتها مثالاً أو نموذجًا مبكرًا لمبادرات نسائية إسلامية جماعية نجحت في خلق مساحة أو حيز خاص بالنساء من داخل المجتمع المسلم العريض بهدف حل مشاكلهن الخاصة مثل اليتم أو الترمل أو الطلاق أو الهجر وتوفير المساندة المعنوية والاجتماعية والتعليمية والمالية؟
أما عن المجموعة الرابعة وهي الفئات «المهرطقة» أو المنشقة تمامًا عن العقيدة المسيحية كما عرفتها وحددتها كنيسة العصور الوسطى، وهي فئات انتمت لملل أو مذاهب بعينها خرجت على الكنيسة وسلطة البابا. وقد لوحظ عددًا كبيرًا من اتباع هذه المذاهب والبدع كان من النساء، فبعض هذه المذاهب أتاحت للنساء فرصًا للمشاركة الفعالة لم يجدنها داخل الكنيسة بسبب حرمانهن من مناصبها. ولن نتطرق إلى أكثر من هذا الذكر الموجز لهذه الفئة فهو موضوع متشعب وخارج نطاق هذه الدراسة الآن.
ومن العرض السابق يتضح أن هؤلاء النساء المسيحيات في العصور الوسطى المعنية وإن كن يشتركن مع نساء المجتمعات الإسلامية المتزامنة في أنهن وجدن في التدين والحياة الدينية فرصًا لتحقيق الذات والاستقلال المعنوي والعاطفي والثقة بالنفس والتمكين، ورغم أن بعضهن حققن مكانة عالية في التراث كقديسات، إلا أنهن لم يكن «عالمات» بمعنى اشتغالهن بفروع تخصصية للعلوم الدينية الرسمية أو التقليدية من إصدار أحكام وآراء فقهية وفتاوى يتم نقلها وتعليمها والعمل بها في دائرة أوسع من الناس – رجالاً ونساءً – أي الوصول إلى مستوى متقدم من الدراسة والاجتهاد الديني المشروع.
3- عائشة الباعونية:
هي عالمة دين وفقيهة ومفتية، وأيضًا كاتبة شاعرة ومؤلفة، صاحبة هذه السلسلة من الكتب الدينية والصوفية: كتاب الممالك الشريفة والآثار المنيفة وكتاب الفتح الحنفي وديوان «مولد جليل للنبي صلى الله عليه وسلم» بعضه شعر وبعضه نثر ونشر في القاهرة عام 1883م، وكتابات وأشعار أخرى كثيرة. وأود أن أتوقف عندها بالذات لأنها نموذج جيد لعالمة دين مسلمة وفقيهة ناشطة – أو «عاملة» كما جاء وصفها – في الحياة العامة وفي السفر بين الأقطار والاتصال بعلماء عصرها والتفاعل معهم فكريًا حول موضوعات في الدين والإفتاء والأدب، ولكنها في نفس الوقت مثال على كثير من الإشكاليات التي أثرناها سابقًا خاصة قضية المؤلفات الضائعة أو الأقوال والقصائد المروية عنها في كتب التاريخ والقواميس ومدى ثقتنا في صحة نسبها. ومع ذلك ما وصلنا من آثارها يستحق التحليل والدراسة باعتباره صوتًا وحضورًا تاريخيًا للمرأة المسلمة الفقيهة والعالمة.
تبادلت عائشة الباعونية قصائد مدح وألغاز لغوية وأدبية مع أبي الثناء محمود بن آجا صاحب دواوين الإنشاء بالديار المصرية آنذاك عندما زارت القاهرة، وكذلك مع شيخ الأدباء السيد الشريف عبد الرحيم القاهري الذي خاطبها بـ «يا روضة العلم» وأثنى على «منثور» ما تكتب و «منظومه» – أي النثر والشعر. ومن أعمالها قصائد صوفية غزلية رائعة تستخدم فيها معاني ورموز التراث الصوفي الممتد زمنًا طويلاً قبلها، خاصة صور حبيب القلق وتجلى الجمال الإلهي والوصول والمنادمة الرمزية مع الحبيب الإلهي الذي يُذهِب كل خوف وسقم وحزن، وهي صور تذكرنا خاصة بالأشعار الشهيرة لرابعة العدوية والتي سار على دربها الكثير من الصوفيات بعدها وكذلك الشعراء الصوفية في إظهار الوجد والعشق والتغزل ومخاطبة الله (سبحانه) مباشرهُ بعبارات تقوى من الرابطة الشخصية الروحية بين الشاعر أو الشاعرة والرفيق الأعلى. من أبيات عائشة:
يا محبوبي يا مطلوبي | *** | يا مقصودي يا موجودي |
كن لي كن لي وأجبر كسرى | *** | واغني فقري بالتداني والوصال |
أما بالنسبة لقضية التمثيل أو التصوير التاريخي التي أثرناها في البداية، فسنجد مثلاً أن هذه الشخصية الهامة ظهرت في ثلاثة مصادر رئيسية، ركز المصدران الكواكب السائرة للغزى وشذرات الذهب لابن العماد على الجانب العلمي الفقهي والصوفي لكتاباتها ولشخصيتها، بينما تسلط الضوء زينب فوار في موسوعتها الدر المنثور في طبقات ربات الخدور (1896) على عائشة «الشاعرة المطبوعة … الأدبية اللبيبة العاقلة» (ص 293) التي وصفها العلماء والمشايخ ومنهم العالم السوري المشهور عبد الغني النابلسي – بأنها «ربة الفضل والأدب». نلاحظ أن الصورة التاريخية عند زينب فوار تظهر عائشة الباعونية كشخصية أدبية فذة تشتهر بالبلاغة والشعر المبين، أما عن السمات الشخصية الأخرى فهناك تأكيد على عقلها وذكائها وفهمها من ناحية وعلى امتلاكها الفضل في كثير من المجالات من ناحية أخرى. وهذه صفات وألفاظ تحمل الكثير من الدلالات لتعارضها مع إصرار بعض العلماء والمفسرين في أعمال الفقه والتفسير على دونية النساء من الناحية العقلية والفكرية أو على فكرة تفضيل الله (سبحانه) جنس الرجال على جنس النساء.
كما نقرأ في ترجمة عائشة في الدر المنثور أنه «كان على وجهها من الجمال لمحة جملها الأدب وحلتها بلاغة العرب»، مما يعني أن زينب فواز اهتمت بأن تلتقط هذه التفصيلة من أحد المصادر التي استخدمتها لتوردها، وهذا يدل على أن سفور عالمة مثل عائشة الباعونية في تعاملها مع علماء ومؤرخي عصرها ومشاهدتهم إياها كان واردًا وأمرًا طبيعيًا. بل أن هناك في الدر المنثور أيضًا ما يفيد أن السائلين من الرجال كانوا يستفتونها نظمًا وترد عليهم بالمثل، فبدأ أحدهم سؤاله: «ما قولك يا ستنا العالمة…» إلى آخر الأبيات، وردت هي: «قالت لكم ستكم العالمة …» كذا وكذا. ومن الواضح أنها عاشت في هذا المحيط الاجتماعي والثقافي محظية بالقبول والترحيب وليس الاستنكار أو التعجب أو حتى محاولة المؤرخين تبرير كلامها وحياتها ونشاطها الادبي والعلمي والديني.
يتضح لنا أن لعائشة إنتاجًا أدبيًا ضخمًا يتمثل في قصائد عديدة ثم شروح وتعليقات وتلخيصات لأعمالها هي أو لقصائد وأعمال شعراء آخرين – أي ما يمكن أن نعتبره نقدًا أدبيًا. ويرد في دائرة المعارف الإسلامية أنها نظمت شعرًا كتاب المعجزات والخصائص النبوية للسيوطي، كما اختصرت رسالة الهروي الصوفي منازل السائرين في أرجوزة عنوانها «الإشارات الخفية في المنازل العلية»، ثم اختصرت أيضًا في أرجوزة أخرى القول البديع في الصلاة على الحبيب للسخاوي العالم المؤرخ والمحدّث المشهور (جـ 6، ص 99). أما أشهر قصائدها على الإطلاق قصيدة «الفتح المبين في مدح الأمين» وكتبت عليها شرحًا، وقد تأثر بهذا العمل عبد الغني النابلسي في كتابة بديعيته «بسمات الأزهار» (1881م) وكان يقارن بين عمل عائشة هذا وأعمال أدبية أخرى. وهناك ذكر أن القصيدة والشرح نشرًا في القاهرة عام 1915م على هامش خزينة الأدب لابن حجة. وقد تزوجت عائشة الباعونية وكان لها ابن واحد.
والخلاصة أن مثل هذه الأنماط التاريخية لعالمات الدين والفقيهات في التراث الإسلامي تبدو وكأنها في تضاد مع الصورة المغايرة في الأدبيات الإرشادية والتعليمية التي تقدمها بعض المصادر الأخرى من كتب التفسير أو الأحكام الفقهية أو آراء من الناحية النظرية وفيها بعض التحامل على قدرات النساء العقلية والفكرية أو حتى الدينية، بينما تُمتدح مثل هؤلاء العالمات والفقيهات لعقلهن وتميزهن على رجال ونساء عصرهن في العلوم الدينية والعقلية الصعبة. وتفسر لنا أميرة سنبل أن هذا التفاوت بين الخطاب الرسمي للعلماء حول النساء والواقع التاريخي أو الاجتماعي ربما يشير إلى «وضع مضاد تمامًا لذلك الذي يقدمه لنا الخطاب الرسمي. وهذا يعني أن الحياة التي عاشتها النساء بالفعل قد دفعت الفقهاء إلى تفسير الشريعة بشكل أكثر محافظة، كلما جنحت النساء إلى التحرر كلما تشددت التفسيرات» (ص 16). أي أننا نجد في المصادر والتواريخ القديمة نوعًا من الصراع أو الشد والجذب في اتجاهين متعاكسين بين ما يسمى بالمستوى المعياري النظري لخطابات العلماء من ناحية، والواقع الاجتماعي والسياسي الفعلي من ناحية أخرى. ويستشف محمد فاضل في دراسة مستفيضة له حول تحليل الخطاب في الأعمال الفقهية وعيًا لدى الفقهاء والعلماء أنفسهم بهذه المسألة أو هذا التناقض: التسليم بالمشاركة الفكرية المساوية للمرأة والإقرار بإنتاجها لمادة معرفية دينية موثوق بها من ناحية ثم تهميشها في السياقات السياسية للسلطة ومناصب المؤسسات الرسمية مثل القضاء وغيره من ناحية أخرى (1997، ص 191).
هذا كله إذا سلمنا أن الصورة التاريخية المقدمة لنا عن هؤلاء الفقيهات والمفتيات حقيقية، وكما رأينا ليس هناك ما يدعو إلى عدم تصديق هذا الحضور الفعال والسلوك الذي يعضده استنتاجات الدارسين الأخرى عن حياة النساء في الحيز العام وممارستهن لحقوقهن القانونية في فترات ما قبل الحداثة. وحتى إذا طرحت مرة أخرى إشكالية مدى مصداقية كتابات وكلام هؤلاء النساء بالذات فإن مهجة كهف ترى أنه حتى إذا افترضنا أن هذه البلاغات من نسج خيال الرجال حول النساء، فإن المؤرخين والكتاب عند تقديم «تصوراتهم» و «تمثيلاتهم» للمرأة العالمة والفقيهة قدموها في شكل المتحدثة الإيجابية صاحبة صوت وحضور وذات جرأة وتفاعل مع المحيطين بها، وهذه الآلية لها دلالة ومغزى في حد ذاتها (ص 159).
4- استنتاجات أخيرة:
عند المقارنة بين عالمات الدين في التاريخ الإسلامي وراهبات وقديسات التاريخ المسيحي في أوروبا نجد أوجه شبه دالة مثل:
أ. أن الحياة الدينية العريضة في العصور الوسيطة أتاحت أفضل الفرص للنساء داخل كل تراث لتحقيق الذات والاعتداد بالنفس بعيدًا عن أو قبيل عمليات الماسسة وسيادة سلطة الدولة المركزية في حالة المجتمعات الإسلامية، ورغمًا من سلطة الكنيسة وهيمنة رجال الدين على مناصبها وطقوسها ونظمها في حالة المجتمعات المسيحية الأوروبية.
ب. وهذا ينبهنا إلى التشابه في إشكالية التهميشة من قبل المؤسسات الرسمية في كلا التراثين.
ت. الحدود بين الحيز العام والخاص كانت أكثر مرونة ومجالاتهما متداخلة بشكل يسمح أن تزيد مساحة العام بشكل كبير بالنسبة للنساء داخل مجتمعاتهن، بل أن الاستقطاب أو الفصل الصارم بين المجالين ظاهرة حديثة في القرنين الأخيرين تولدت في الغرب على أثر الثورة الصناعية.
ث. في كلا التراثين آثار وكتابات نسائية قيمة يجدر دراستها ومقارنتها من الناحية النصية: أي التناول الأدبي للصور والرموز الدينية، ثم علاقتها بسياقاتها التاريخية والثقافية ودور هؤلاء النساء في تشكيل تواريخ التراث الفكري والديني. أما أوجه الاختلاف كما توصلنا إليها:
أ. لم تكن النساء في هذه القرون الوسيطة بأوروبا عالمات دين بمعنى «اشتغالهن» بفروع تخصصية للعلوم الدينية الرسمية وإصدار أحكام وفتاوى إلى آخره، وذلك رغم المكانة العالية التي وصلن إليها كقديسات وراهبات متصوفات.
ب. وفي المجتمعات الإسلامية الوسيطة قد يكون الطابع العام لاشتغالهن في الساحة الدينية الفكرية بالتدريس والوعظ والإفتاء صرفهن عن الاهتمام بتدوين الكتابة الذاتية التفصيلية بكثرة، في حين أن النساء الأوروبيات اتجهن أكثر إلى داخل النفس وتأملها، وبسبب القيود المجتمعية الخارجية المفروضة ركزن على التعبير عن تجارب دينية ذاتية عميقة وأطلقن العنان للتفكر في طبيعة الخالق وتحليل علاقتهن به، وهذه الكتابات المطولة التي وصلتنا ولا نزال ندرسها حتى الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
* المقال منشور في: هدى السعدي، أميمة أبو بكر (2001). المرأة والحياة الدينية في العصور الوسطى بين الإسلام والغرب. القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة. (سلسلة أوراق الذاكرة؛ 2). 54 ص.
** أستاذة بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. جامعة القاهرة، وعضو مؤسس في مؤسسة المرأة والذاكرة.
*** أستاذ التاريخ الإسلامي بالجامعة الأمريكية.
[1] ظهرت دراسات كثيرة تناولت أدب الفقيه وعلاقة الفقيه بالمتفقه. انظر: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، كتاب الفقيه المتفقه وأصول الفقه، (القاهرة: مطبعة الامتياز، 1977).
[2] ولمرفعة المزيد عن هذه المنشآت الدينية أنظر:
Encyclopedia of Islam, Ribat, (Lieden, Brill: 1995), vol. VIII, pp. 493- 509.
[3] ظهرت دراسات كثيرة تناولت المرأة المحدثة بالدراسة والتحليل. انظر باللغة العربية: أميمه أبو بكر، «المحدثات في التاريخ الإسلامي (القرن 14 و الـ 15م)»، هاجر 5/6 (القاهرة: دار نصوص للنشر 1998) ص 125- 140. وانظر باللغة الإنجليزية:
Huda Lutfi, «Al-Sakhawi Kitab al-Nisa as a Source for the Socialand Economic History of Muslim Women during the fifteenth Century A.D, «The Muslim World, LXXI (1981). Jonathan Berkey, «Women and Islamic Education in the Mamluk Period». In Nikki Keddie (ed.), Women in Middle Eastern History, (New Haven: Yale University Press, 1991).
[4] فعلى الرغم من أن عالمًا ومؤرخًا مثل الطبري قد أجاز للمرأة القضاء في كل الأمور التي يجوز للرجل أن يقضي فيها وأبو حنيفة أجاز لها العمل بالقضاء في القضايا التي يؤخذ فيها بشهادتها هذا فضلاً عن أن عمر بن الخطاب قد ولى الشفاء بنت عبد الله المخزومية قضاء الحسبة وهو مثل واضح للقضاء في الأمور إلا إننا لم نجد امرأة واحدة مارست القضاء فعليًا في المجتمع الإسلامي وقد يكون مرجع هذا إلى أن القضاء منذ بداية المجتمع الإسلامي منصب مرتبط بالسلطة السياسية العسكرية –انظر: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامه، المغني، تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، (القاهرة: هجر للطباعة والنشر، 1986)، جـ 14، ص 12.
[5] بالنسبة لموضوع تراث أو مؤلفات الفقيهات فهو موضوع هام يحتاج إلى مزيد من البحث والتحليل فالمعلومات عنه قليلة جدًا تكاد تكون نادرة في المصادر فضلاً عن أننا إذا توصلنا لأسماء بعض كتب الفقيهات نجد أنها قد ضاعت أو اختفت عبر العصور ولا نتمكن من الوصول إليها. ولذا فإن هناك فقيهتان من فقيهات الشيعة تحدث عنهما العاملي في كتابه «أعيان الشيعة» إلا أنني لم أستطع أن أضمنهما في الجدول لعدم توضيح الفترة الزمنية التي تواجدتا فيها خاصة وأن كتاب العاملي يغطي فترة زمنية طويلة جدًا من بداية الإسلام وحتى بداية القرن العشرين ولكن لأن هاتين الفقيهتين تركتا تراثًا فقهيًا كبيرًا كان من اللازم التنويه بأهميتهما عسى أن يؤدي هذا إلى مزيد من البحث في تراث الفقيهات الذي بوجه عام أغفلته أو أسقطته المصادر. فالفقيهة الأولى هي بنت عزيز الله الحلبي وكان لها «تعاليق على كتاب من يحضره الفقيه» «ورسائل في مسائل فقهية» والثانية هي ابنة شاه طهماسب الصفدي التي «ألف» لها جملة من العلماء رسائل في أصول الفقه العاملي، (أعيان الشيعة جـ 14 مجلد 15 ص 168، جـ 6 ص 112). وتستوقفنا كلمة «ألف» لها فتدل على أنه من المرجح أن العلماء كانوا يجمعون الآراء الفقهية أو الفتاوى المتناثرة في حلقات العلم ويتم تجميعها في شكل رسائل فقهية وهذا كله دليل على أن النساء كان لهن مساهمة مكتوبة في تشكيل تاريخ الفقه ولم يكن دورهن هامشيًا أو شفاهيًا فقط يختص بأحكام النساء بل كن يناقشن مسائل فقهية نظرية وعملية. ولا ينتبه كثير من الباحثين إلى هذه الإشارات المدفونة في قواميس الأعلام وكتب الطبقات مثل (ألف لها أو أخرج لها).
[6] نجم الدين الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، حققه وضبط نصه د. جبرائيل سليمان صبور، (جونيه: مطبعة المرسلين اللبنانيين، 1949) جـ 1، ص 287 – لم تذكر المصادر بالنص أن عائشة كانت فقيهة ولكن بما أنها كانت تفتي في أمور فقهية فهذا معناه أنها عالمة فقه.
[7] أن ارتباط الإفتاء بالحكومة والدولة قد يكون هو السبب في إننا لم نجد نساء مفتيات في الدولة العثمانية، فمنذ هذا العصر وحتى عصرنا الحديث والإفتاء أصبح عملاً حكوميًا قاصرًا على الرجال فقط.
Masud, Islamic Legal Interpretation, pp. 11- 12.
[8] تناول ابن الحاج بالنقد البدع والخرافات التي تسللت إلى مجالس الوعظ في العصر المملوكي ونهى عن تحديث العوام بالأحاديث المبهمة وإدخال البدع والخرافات في الوعظ الديني. ابن الحاج – المدخل، جـ2، ص 144- 153.
[9] Makdisi, The Rise of Colleges, p. 239.
يقول مقديسي في كتابه: أن القرن السادس الهجري/ الخامس عشر الميلادي هو القرن الذي شهد تحول المذاهب الفقهية إلى مهنة محددة ومجالات احتراف تندرج تحت الطوائف/ النقابات المهنية.
[10] انظر خاصة كتاب: روبرت بركهوفر Beyond the Great Story، وفيه دراسة تفصيلية متأنية حول المفهوم الجديد للنقد التاريخي في ظل مدارس ما بعد الحداثة.
[11] عند الاطلاع على معظم الدراسات الغربية الحالية لثقافة وتاريخ ما قبل الثورة الصناعية والتحديث في القرن الـ 19، نجد إجماعًا على أن النساء في الغرب فقدن الكثير من حقوق المشاركة في العمل العام وأعمال التجارة والزراعة والحريات في مجال الدين وخلافه منذ تبلور العصر الفيكتوري بإنجلترا مثلاً، والقيود التي تم فرضها في ذلك الحين بسبب الانفصام الذي حدث وقتها بين الحيز العام والحيز الخاص والذي لم تعرفه العصور الوسطى بهذه الصرامة، فلا نجد هناك من يعتبر «خروج» أو تجاوز» النساء لمجالهن الطبيعي عندما كن يشتغلن بالتجارة والربح، على عكس التحجيم الذي تلى هذه العصور وترويج أفكار الخضوع النفسي والمعنوي للنساء واعتمادهن على الغير.
[12] انظر كتاب Becoming Visible: Women in European History (1977) حيث تعطي المقدمة مسحًا للتطورات التاريخية التي مرت بالمرأة في أوروبا، وتخلص المؤلفة إلى أن هذا الانفصام الذي أحدثته الثورة الصناعية أدى إلى تقلص الدور الإنتاجي للنساء خاصة في الطبقة المتوسطة وحصرهن في المجال الأسري الخاص حيث المسئولية الرعائية والعاطفية البعيدة عن أعمال ومهن الحياة العامة خارج المنزل التي تخص الرجال في الأساس.
[13] هناك تكهنات عن الصلات بين هذه المفاهيم في التراث الغربي الحداثي وخارجه، وكيفية انتقالها إلى المجتمعات العربية الإسلامية في هذا الوقت عندما كانت مستمرة ثم استيعابها أو استبطانها لدى النخب الثقافية ودعاة التنوير «الحداثي» الغربية برمتها وتحدثوا عن طبيعة النساء الثابتة وهي طبيعة وعقلية دونية تملي على المرأة سلوكًا عاطفيًا بحتًا.
[14] الاستشهادات المستخدمة هنا من الترجمة العربية لكتاب النساء والأسرة وقوانين الطلاق (1999)، مراجعة وتقديم رؤوف عباس، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
[15]مثال على ذلك أن الصور والرموز «الأنثوية» و «الأموية» للسيد المسيح (التي سنشير إليها لاحقًا) والتي استخدمها رهبان رجال أيضًا وراهبات، وكذلك مذاهب التمحور حول شخصية السيدة مريم العذراء رمز الطهر والسمو؛ كل هذه التصورات الأدبية الإيجابية لم تنجح في إزالة المعوقات الفعلية العملية لاشتراك النساء رسميًا في الحياة الدينية العامة والكنيسة. وفي نفس الوقت مذهب «المرأة الحقة» الذي ظهر في القرن الـ 19 بأوروبا وأمريكا وفيه أفاض العلماء في خلق تصور للمرأة العفيفة المثالية في أخلاقها ووداعتها جاعلين منها رمز الرعاية والعطف لم يمنع من اعتبارها تافهة وسطحية واعتبار رقتها لا تجعلها تتحمل أية علاقة جدية بالعالم الخارجي من أعمال وتعليم عال.