الحبْلُ النَّاظِمُ فِي كِتَابِ اللهِ*
هذه ليست ورقة بحثية، ولا مقالة منظمة، ولا حتى خاطرة أدبية، كلا، ليست شيئًا من ذلك كله، وإنما هي: «هم نفسي شخصي» قررت أن أبوح به لأحبائي وإخواني، فهذه التي بين يديك هي أشبه بورقة «اعتراف» تطوى في سجلات أحزاني.
هذا الإحباط النفسي الذي يجرفني ليس وليد هذه الأيام، وإنما استولى علي منذ سنوات، لكن نفوذه مازال يتعاظم في داخلي، صحيح أنني أحيانًا كثيرة أنسى في اكتظاظ مهام الحياة اليومية هذه القضية، لكن كلما خيّم الليل، وحانت ساعة الإخلاد إلى الفراش، ووضعت رأسي على الوسادة، وأخذت أسترجع شريط اليوم ينبعث لهيب الألم من جديد.. ويضطرم جمر الإحباط حيًا جذعًا.
ثمة قضية كبرى وأولوية قصوى يجب أن أقوم بها ومع ذلك مازالت ساعات يومي تنصرم دون تنفيذ هذه المهمة.. لماذا تذهب السنون تلو السنين وما زلت أفشل التنفيذ؟ لماذا تكون المهمة أمام عيني في غاية الوضوح ومع ذلك أُفلس في القيام بها؟
ويزداد الألم حين أتأمل في كثير من الناس من حولي فلا أرى فيهم إلا بعدًا عن هذه القضية، إلا من رحم الله، مجالس اجتماعية أحضرها تذهب كلها بعيدًا عن «الأولوية القصوى»!!
وأتصفح منتديات إنترنتية وصفحات تواصل اجتماعي (فيسبوك وتويتر) تمتلئ بآلاف التعليقات يوميًا، وكثيرٌ منهم منهمك في أمور بعيدة عن «الأولوية القصوى» إلا من رحم الله!!
وأطالع كتبًا فكرية تقذف بها دور النشر وتفرشها أمامك معارض الكتب وغالبها معصوب العينين عن «الأولوية القصوى»!!
فإذا أعدت كل مساء استحضار واقعي اليومي، وواقع كثير من الناس من حولي؛ تنفست الحسرات وأخذت أتجرع مرارتها، وأتساءل: لِم هذا كله؟ متى تنتهي هذه المأساة؟
دعني ألخص لك كل الحكاية، في كل مرةٍ أتأمل فيها القرآن أشعر أنني لازلت بعيدًا عن جوهر مراد الله، مركز القرآن الذي تدور حوله قضاياه، ما زلت أشعر بالمسافة الكبيرة بيني وبينه، يذكر الله في القرآن أمورًا كثيرة، يذكر تعالى ذاته المقدسة بأوصاف الجلال الإلهية، ويذكر الله في القرآن مشاهد القيامة من جنة ونار ومحشر ونحوها، ويذكر أخبار الأنبياء وأخبار الطغاة وأخبار الصالحين وأخبار الأمم ولا سيما بني إسرائيل وتصرفاتهم، ويذكر تشريعات عملية في العبادات والمعاملات… إلخ، وفي كل هذه القضايا ثمة حبل ناظم يربط كل هذه القضايا.. تتعدد الموضوعات في القرآن لكن هذا الحبل الناظم هو.. هذه القضية التي يدور حولها القرآن ويربط كل شيء بها هي «عمارة النفوس بالله».
كنت أتأمل – مثلاً – في أوائل المصحف، في سورة البقرة، كيف حكى الله تعجب الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا) [البقرة: ٣٠] ثم يربي الله فيهم تعظيم الله ورد العلم إليه (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون) [البقرة:30].
وكنت أتأمل بعد ذلك في سورة البقرة نفسها كيف يعدد الله نعمه على بني إسرائيل في ست آيات، فيها أنه فضَلهم على العالمين، وأنه نجاهم من آل فرعون، وأنه فرَق بهم البحر فأغرق آل فرعون، وأنه عفى عنهم بعد اتخاذهم العجل، ثم بعد هذا التعديد العجيب لقائمة النعم، يختم بوظيفة ذلك كله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) [البقرة: 52] كل هذا السياق يراد به عمارة النفوس بالله بأن تلهج الألسنة والقلوب بتذكره وشكره تعالى.
بل يذكر الله تعالى في البقرة – وأعاده في مواضع أخرى أيضًا – كيف اقتلع تعالى جبلاً من الجبال ورفعه صار فوق رؤوس بني إسرائيل، لماذا؟ ليربي فيهم شدة التدين والتعلق بالله، يقول الله تعالى في البقرة: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]. وقال في الأعراف: (وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) [الأعراف: 171]، كل هذا لتعمر النفوس بالتشبث بكلام الله تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ).
وكنت أتأمل كيف يصف القرآن حالة القلوب التي غارت ينابيع الإيمان فيها، حتى قارنها الله بأكثر الجمادات يبوسة في موازنة لا تخفي الأسى والرثاء.. يقول الله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة:74] ثم يكمل في تلك المقارنة المحرجة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) حتى الحجارة تلين وتخضع وتتفجر وتتشقق وتهبط.. وما المراد من هذا المثل؟ هو عمارة النفوس بالله (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ).
وكنت أتأمل كيف يذكر الله النسخ في القرآن، وهو مسألة مشتركة بين أصول الفقه وعلوم القرآن، ثم يختم ذلك ببيان دلالة هذه الظاهرة التشريعية، وهي عمارة النفوس بتعظيم القدرة الإلهية: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) [البقرة: 106]، يا سبحان الله.. مسألة أصولية بحتة وتربط فيها القلوب بتعظيم الله، وقدرة الله.
وكنت أتأمل كيف ذكر الله مسألة من مسائل شروط الصلاة وهي: استقبال القبلة ثم تغييرها من بيت المقدس إلى الكعبة، وبرغم كونها مسألة فقهية بحتة، إلا أن القرآن ينبهنا أن وظيفة هذه الحادثة التاريخية كلها هي «اختبار» النفوس في مدى تعظيمها واستسلامها الله؟ هذا جوهر القضية! (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة: 143]، وآيات القصاص تختم بـ «تقوى الله» كما يقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [البقرة: 179] وآيات الصيام تلحق أيضًا بالتقوى في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [البقرة: 183] وآيات الوصية تختم كذلك بالتقوى في قوله تعالى: (إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين) [البقرة: 180].
ولما ذكر الله مناسك الحج وأعمالها وشعائرها، ووصل للحظة اختتام هذه المناسك وانقضائها، أعاد الأمر مجددًا لربط النفوس بالله وإحياء حضور الله في القلوب (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ) [البقرة: 200] واعجباه.. تنقضي المناسك وما يعتري المرء فيها من النصب، لتربط النفوس مجددًا بالله.. برغم أن الحج أصلاً مبناه على ذكر الله بالتلبية والتكبير ونحوها، فالقلب في القرآن من الله.. وإلى الله.
أخذت أتأمل كيف ذكر الله حالة الخوف من الأعداء ونحوها، فلم يسقط الصلاة، بل أمر الله بها حتى في تلك الأحوال الصعبة (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين، فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا) [البقرة: 238، 239] حسنًا هذا في حال الخوف فماذا سيكون في حال الأمن؟ تكمل الآية (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون) [البقرة: 239]، رجعت مرةً أخرى إلى بداية الآية وأخذت أتأمل المحصلة، وإذا بها في حال الأمن والخوف يجب أن يكون القلب معلقًا بالله، بالله عليك أعد قراءة الآية متصلة (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون) [البقرة: 239].
القرآن يريد النفس البشرية مشدودة الارتباط بالله جلَّ وعلا في جميع الأحوال، يريد من المسلم أن يكون الله حاضرًا في كل سكنة وحركة.
وكنت أتأمل كيف يذكر الله النصر العسكري ليربط النفوس بالله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) [آل عمران: 123].
وحتى حين ذكر الله المعاصي والخطايا إذ يقارفها ابن آدم فإن القرآن يفتح باب ذكر الله أيضًا (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ) [آل عمران: 135].
وذَكَر الله تبدلات موازين القوى عبر التاريخ، وربط الأمر – أيضًا – بأن المراد اختبار عمق الإيمان والارتباط بالله (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) [آل عمران: 140].
وقص الله في القرآن قصة قوم قاتلوا مع نبيهم، وحكى القرآن ثباتهم، ومن ألطف ما في ذلك السياق أنه أخبرنا بمقالتهم التي قالوها في ثنايا معركتهم، فإذا بها كلها مناجاة وتعلق بالله (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) [آل عمران: 146، 147]، شيء مدهش والله حال أولئك القوم الذين عرضهم الله في سياق الثناء، في قلب المعركة، وتراهم يستغفرون الله من خطاياهم، ويبتهلون إليه، ويظهرون الافتقار والتقصير وأنهم مسرفون، يا لتلك القلوب الموصولة بالله.
ولما ذكر الله الجهاد شرح وظيفته وأنها اختبار ما في النفوس من تعلق بالله وإيمان به (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) [آل عمران: 154]، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين) [آل عمران: 166].
ولما ذكر الله حب النفس البشرية للنصر على الأعداء لفت الانتباه إلى المصدر الرئيسي للنصر، تأمل بالله عليك كيف يضخ القرآن في النفوس التعلق المستمر بالله (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ) [آل عمران: 160]، ويقول الله تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم) [محمد: 7].
وكنت أنظر كيف يصوّر القرآن أوضاع الجلوس والقيام والاسترخاء، وكيف تكون النفس في كل هذه الأحوال لاهجة بذكر الله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191] يذكر الله وهو واقف، يذكر الله وهو جالس، يذكر الله وهو مضطجع؛ أيُّ تعلق بالله، وأيُّ نفوس معمورة بربها أكثر من هذه الصورة المشرقة، سألتك بالله وأنت تقرأ هذه الآية ألا تتذكر بعض العبّاد المخبتين من كبار السن الذين لا تكف ألسنتهم عن تسبيح وتحميد وتكبير، هل ترى الله حكى لنا هذه الصورة عبثًا؟ أم أن الله تعالى يريد منا أن نكون هكذا.
نفوسًا مملوءة بربها ومولاها لا تغفل عن استحضار عظمته وتألهه لحظة واحدة.
وحتى في المشاعر بين الزوجين إذا سارت الأمور غير مجاريها فإن القرآن يحرك في النفوس استحضار الغيبيات والأبعاد الإيمانية حيث يقول الله تعالى: (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]، فإن بلغت أمور الزوجين إلى الشقاق الزوجي شرع التحكيم بينهما، وحتى في هذا التحكيم الزوجي فإن القرآن يلفت انتباه المنخرطين في هذه العملية إلى أن مسارات التحكيم مرتبطة بما قام في القلوب من العلاقة بالله (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].
ولما ذكر الله البلد الذي لا يستطيع المؤمن فيها إظهار شعائره وأمر بالهجرة إلى بلد آخر؛ لم يجعل الأمر مجرد هجرة من مكان جغرافي إلى آخر، بل جعل القضية «هجرة إلى الله» ذاته كما يقول الله تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ) [النساء: 100]، فالأمر في صيغته الحسية مجرد هجرة من بلد إلى بلد لكنه في ميزان القرآن «هجرة إلى الله ورسوله».
ومن أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها، ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر: صلاة الخوف حال الحرب، هذه الشعيرة تُسْكَب عندها عبرات المتدبرين وقد تكفل القرآن ذاته بشرح صفتها، وجاءت في السنة على سبعة أوجه معروفة تفاصيلها في كتب الفقه، بالله عليك تخيل المسلم وقد لبس لأمة الحرب، وصار على خط المواجهة، والعدو يتربص، والنفوس مضطربة قلقة والأزيز يمخر الأجواء، والدم تحت الأرجل، ومع ذلك لم يقل الله دعوا الصلاة حتى تنتهوا، بل لم يقل: دعوا صلاة الجماعة وإنما شرح لهم كيف يصلوا جماعة في هذه اللحظات العصيبة (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء: 102] هل تعرف في الدنيا كلها شاهد على حب وتعظيم الله جلَّ وعلا للارتباط بالله واستمرار مناجاته أكثر من ذلك؟!
بل هل يوجد رجل فيه شيء من الورع وخوف الله يهمل صلاة الجماعة وهو في حال الأمن والرفاهية وعصر وسائل الراحة؛ وهو يرى ربه تعالى يطلب من المقاتلين صلاة الجماعة ويشرح لهم تفاصيل صفتها بدقة، وهم تحت احتمالات القصف والإغارة؟!
هل تستيقظ نفوس افترشت سجاداتها في غرفها ومكاتبها تصلي «آحادًا» لتتأمل كيف يطلب الله صلاة «الجماعة» بين السيوف والسهام والدروع والخنادق..؟!
أترى الله يأمر المقاتل الخائف المخاطر بصلاة الجماعة، ويشرح له صفتها في كتابه، ويعذر المضطجعين تحت الفضائيات والمتربعين فوق مكاتب الشركات؟! هل تأتي شريعة الله الموافقة للعقول بمثل ذلك؟!
ومن اللطيف أن الآية التي أعقبت الآية السابقة تكلمت عن حال إتمام الصلاة، حسنًا… نحن عرفنا الآن من الآية السابقة صفة الصلاة لحظة احتدام الصفين، فما هو التوجيه الذي سيقدمه القرآن بعد الانقضاء من الصلاة؟ يقول الله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء: 103]، يا سبحان ربي.. الآن انتهى المقاتل من صلاة الجماعة، فيرشده القرآن لاستمرار ذكر الله هل انتهى الأمر هاهنا؟
لا، لم ينته الأمر بعد فقد واصلت الآية الحديث عن انتهاء حالة الخوف، وبدء حالة الاطمئنان، ويتصل الكلام مرةً أخرى لربط النفوس بالله (فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) [النساء: 103]، صارت القضية كلها الله، بالله عليك أعد قراءة الآيتين متواصلتين (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء: 102، 103].
ولما ذكر الله الصلاة في سورة «طه» أشار إلى غاية تغيب عن بال كثير من المصلين فضلاً عمن دونهم، ربما يتحدث الواحد منا عن عظمة الصلاة في الإسلام، وأنها أعظم ركن بعد الشهادتين وأنها الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، ونحو هذا من معاني مركزية الصلاة، ولكن لماذا شرع الله الصلاة وأحبها وعظمها سبحانه؟ إنها بوابة استحضار الله وتذكره يقول الله سبحانه: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) [طه: 14] هكذا بكل وضوح، يقيم المسلمون الصلاة ليتذكرون الله جل وعلا، يكبروه ويسبحوه ويناجوه.
بل وحتى حين ذكر الله الجوارح المعلّمة في الصيد لم يذكر تعليمها مغفلاً هكذا، بل يربطه بالحقيقة العقدية الإيمانية ليستمر القلب موصولاً بعظمة الله، تأمل كيف ينبه المسلم على ذلك (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ) [المائدة:4]، حتى تعليم الجوارح وكلاب أن يستحضر المؤمن أنها تعليم مما علم الله، ما أشد كثافة حضور العلاقة بالله في القرآن.
وأخذ القرآن مرةً يستثير ذكرياتٍ للصحابة كاد الكفار فيها أن يفتكوا بهم، فينبش القرآن هذه الوقائع التاريخية ليرتفع بالقلوب إلى الله الذي نجاهم، يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون) [المائدة: 11]، وقد ذكر أهل التفسير فيها عدة وقائع تندرج في ذلك، وليس المهم تعيين هذه الأحداث التي فشلت فيها مؤامرات الكفار ضد الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة، الأهم والله حين يرى متدبر القرآن كيف يفاجئ القرآن الصحابة بذكر تلك القصص ليحيي علاقة القلب بالله، فينبههم أن الله سبحانه هو الذي كف أيدي الكفار عنكم، وأنه يجب أن تتوكل القلوب عليه سبحانه.
آيات تنبش في أذهان الصحابة ذكريات أحداثٍ وخطوب سلموا فيها، لا تذكرها هذه الآيات إلا لتصعد بالقلوب إلى الخالق المتفضل سبحانه، كأن هذه الآيات تقول: انتبهوا إن سلامتكم في تلك الأحداث ليست أمرًا عابرًا، بل هو فضل من الله ورحمة، فاذكروا هذا ولا تنسوه وليكن منكم على بال ولتعشه القلوب وتلهج بشكر الله الألسنة والجوارح، انظر كيف تكون وظيفة علم السير والمغازي في كتاب الله، وقارنها بنمط تعاملنا معها.
وتذكير القرآن للصحابة بغزواتهم في سورة الأنفال يشبه قول الله في سورة إبراهيم عن موسى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ) [إبراهيم: 5] فقال موسى مستجيبًا في الآية التي تليها: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [إبراهيم: ٦].
ولما ذكر الله تعالى قصة موسى إذ أمر قومه بدخول الأرض المقدسة والتي ذكر بعض أهل التفسير أنها الطور وما حولها، فتخاذل قوم موسى واعتذروا بأن فيها قومًا جبارين لديهم إمكانيات لا نستطيع مقاومتها، وفي هذه اللحظة وقف رجلان من قوم موسى موقف الشجاع مستجيبين لأمر موسى، ونبهوا قومهم أنهم بمجرد الدخول على الجبارين فسينهزمون بإذن الله، هذان الرجلان البطلان لم يذكرهما الله في كتابه وينسب الفضل لهما، بل نبّه تعالى أن موقفهم البطولي إنما له خلفيات أخرى، بالله عليك تتبع نمط القرآن في عرض ذلك، يقول الله حاكيًا خطاب موسى عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِين، يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين، قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين) [المائدة: 20 – 23].
لعلك لاحظت الأمر، وكيف يلح القرآن على إبراز خلفيات العلاقة بالله، فهذان الرجلان لم يقفا هذا الموقف الصواب إلا لأنهما يخافا من الله، وقد أنعم الله عليهما بمقامات الإيمان والديانة، وحتى وصيتهما لقومهما كانت (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا) والتوكل من أدق مقامات تعلق القلب بالله، بل إن التوكل هو لحظة التعلق بالله فعلاً.
هذه الوقائع والحوارات بين موسى عليه السلام وقومه لا يمكن أن تخرج منها بمبدأ جوهري إلا مركزية التعلق بالله، فموسى يذكرهم بالله لكي يدخلوا الأرض المقدسة، وبطلا المشهد إنما وقفا هذا الموقف لأن الله أنعم عليهما بمقامات الإيمان ونصيحتهما الختامية هي: التوكل على الله، القصة كلها إيمان في إيمان.
ثم يحدثك القرآن عن ظاهرة المصائب والأضرار التي تصيب الإنسان في حياته الشخصية، وبالرغم من أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب، كالأدوية للشفاء من المرض، والتماس الرزق لرفع الفقر، إلا أن القرآن يكثف دائرة الضوء على أمرٍ آخر أهم وهو أن يرتبط الفؤاد بالله وهو يصارع هذه البلاءات، تأمل كيف يصوغ القرآن هذا المعنى، يقول الله: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم) ([الأنعام: 17]، ويقول ربنا في موضع آخر مشابه (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير) ([يونس: 107]، لعلك لمحت معنى آخر، وهو أن الآيتين كليهما لم يتحدثا فقط عن أن كاشف الضر هو الله، بل المدهش أنهما أشارتا كذلك إلى أن من مسّك بهذا الضر هو الله سبحانه أيضًا!
فحين يتعمق المؤمن في أسرار هذه الآيات فيمتلئ قلبه باليقين بأن من مسّه بالفقر أو المرض هو الله، وأن من سيرفع هذا الضر، فيغنيه ويعافيه؛ هو الله أيضًا، فصار مبتدأ الأمر ومنتهاه من الله وإلى الله، فماذا بقي في القلب لغير الله!
الله وحده جل جلاله هو الذي أوقعه، والله وحده جل جلاله هو الذي سيرفعه! هكذا يتبحر المؤمن في حقائق العلم بالله والإيمان به وعمارة النفوس بمهابته سبحانه.
ثم ينتقل القرآن إلى دائرة أوسع من دائرة (الفرد) وهمومه الشخصية، إلى دائرة (المجتمع) وقضايا الشأن العام وما تكابده من أزمات، ماذا يريد الله جلّ وعلا بتقدير هذه الأزمات المجتمعية؟ قطعًا هناك حكمة إلهية في تقدير هذه المصائب المجتمعية، فما هي يا ترى؟ إنها ليست شيئًا آخر غير تلك الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن والتي رأيناها تسري في شرايين الشواهد والنماذج السابقة، بكل وضوح ومباشرة يكشف الله سبحانه عن حكمته في هذه الأزمات المجتمعية فيقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام: 42، 43]، ويحدد ربنا في موضع آخر مشابه ذات الخلفية (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون [الأعراف: 94]، وتضيف آيةٌ أخرى مقامًا إيمانيًا بديعًا مشابهًا للتضرع وهو «الاستكانة لله» يقول الله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون) [المؤمنون: 76].
هذه التغيرات التي تطرأ على الفرد والمجتمع بشكل عام يريد بها الله أن نعود إليه كما يقول الله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) [الأعراف: 168].
هذا هو الدرس الأساسي في ظاهرة المصائب الجالبة للهموم الفردية والمجتمعية، كالفقر والمرض والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، يريد الله جلَّ وعلا أن تكون جسرًا إليه سبحانه، يريد الله بها أن توقظ قلوبنا فتستكين لله، وتتضرع له سبحانه وتتعلق به جل وعلا، قارن هذا بنمط تعاملنا مع هذه الظواهر يستبِن لك بُعدنا عن الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن.
ومن التعابير الشمولية التي استعملها القرآن لتربية هذه الحقيقة الكبرى في النفوس قول الله سبحانه في خواتيم سورة الأنعام: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [الأنعام: 162]، فانظر كيف شملت هذه الآية أصول العبادات، والحياة، والممات؛ وجعلت كل ذلك لله سبحانه، قد يعرف الكثير من الناس اليوم كيف يصلي لله، وكيف يحج لله، لكن القليل من الناس يدرك كيف يحيا حياته لله، وكيف يموت لله؟! وهذه الآية العظيمة تزكي النفوس بهذا المقام العظيم الذي هو لب القرآن.
ويحدثنا مطلع سورة الأنفال عن إرهاصات معركة بدر، ثم تفاعلاتها وتطوراتها بين الاستيلاء على قافلة قريش أو المواجهة العسكرية، حتى يصل السياق إلى النصر العظيم الذي حققه المسلمون في قتالهم لجيش الكفار وسحقهم، أتدري أين العجب في ذلك كله، أن القرآن بعد شرح هذه الأحداث المتلاحقة يعقب تعقيبًا مدهشًا في تربية التعلق بالله ونسبة الفضل له سبحانه، بالله عليك تأمل هذا التعقيب القرآني على غزوة بدر: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) [الأنفال: 17] يا لله العجب.. فالصحابة المجاهدون هم الذين قاتلوا، والنبي هو الذي رمى التراب وقال: «شاهت الوجوه»، ومع ذلك يقول القرآن: لا، لستم أنتم الذين قتلتموهم، ولا أنت يا رسول الله الذي رميت ولكنه الله سبحانه هو الذي قتلهم، وهو الذي رمى، والمعنى أن الله هو الذي أظفركم بهم، لكن من شدة نسبة الفضل إلى الله نسب إليه الفعل ذاته! فانظر كيف تُشرع القلوب إلى السماء وتتخلص من حبال التثاقل إلى الأرض.
وإذا تأمل متدبر القرآن هذه الآية (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) لوجد فيها إثباتًا ونفيًا، فأثبت لرسول الله عليه الصلاة والسلام رميًا، ونفى عنه رميًا آخر، فالمثبت هو الحذف والإلقاء، والمنفي هو الإيصال والتبليغ، كما حرره أبو العباس ابن تيمية.
ويشبه هذا المعنى المذكور في سورة الأنفال آية أخرى في سورة التوبة يقول الله فيها: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة: 14]، فانظر كيف نسب السبب لأيدي الصحابة، ونسب الأثرلله! فصحيح أنكم أنتم الذين تقاتلونهم لكن الله هو الذي يعذبهم بذلك!
لا يتوقف مشهد تعليق القلوب بالله في المجتمع المسلم، بل إن القرآن يوجه قارئه إلى تربية التعلق بالله في نفوس «الأسرى».. إنهم الأسرى الذين هم مجموعة من الكفار المحاربين الذين تعذر عليهم إتمام مهمتهم الخبيثة! ومع ذلك يحثنا كتاب الله على تفقيههم في معاني «أعمال القلوب» يقول الله في سورة الأنفال: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم) [الأنفال: 70]، يجب أن يدرك الأسرى أن الموضوع كله متعلقٌ بما في القلوب.
ولما ذكر الله قصة الثلاثة الذين خلّفوا وهم كعب بن مالك وصاحبيه، وهي مرويةٌ بطولها في صحيح البخاري، شرحت الآيات حالة استغلاق الهم والغم الذي أصاب هؤلاء الثلاثة، ثم وصلت الآية إلى جوهرها وهو «الحالة الإيمانية» التي يحبها الله سبحانه، وثمّنها منهم، وجعلتها الآية ختام المشهد، يقول الله سبحانه: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) [الــتــوبـــة: 118]، أرأيت؟! ما أبدع عرض الآية لهذا المقام الإيماني في سياق تفاعلات الهم والغم، فبعد أن ضاق عليهم الخارج «الأرض بما رحبت» وضاق الداخل «وضاقت عليهم أنفسهم» تصل الآية إلى ذروة الإيمان (وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ).
ليس العجب فقط أنهم تعلقوا بالله.. بل العجب إشارة الآية إلى المبدأ والمنتهى أعني إشارتها إلى أنه لا نجاة من الله إلا إلى الله! فالله هاهنا هو المخوف، والله نفسه هو الملاذ! هذه هي القلوب التي يحبها الله.
ومما يدلك على أن الله يريد من العبد أن يبقى قلبه متضرعًا مستغيثًا في حال الأزمة، وبعد تجاوزها، وأنه ليس من الأدب أن تدعو الله أثناء الأزمة ثم تغفل عن التعلق بالله بعد تحسن الأحوال، يصف الله هذا المشهد بقوله في سورة يونس: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) [يونس: 12] تأمل كيف وصفت الآية الضجر الذي يصيب الإنسان أثناء المصيبة فيدعوا الله في كل أحواله قائما وقاعدًا ومستلقيًا، ثم إذا كشف الله مصيبته غفل ونسي تلك اللحظات التي كان يناجي فيها ربه، عزبت عن باله ذكرى تلك الابتهالات إلى الله حال الكرب.
وهذا المشهد الأليم الذي ذكرته سورة يونس شرحته آيات أخرى لتؤكد أهمية الموضوع، يقول الله تعالى في سورة الزمر: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ) [الزمر: 8]، ويقول الله في سورة فصلت: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيض) [فصلت: 51].
والله إنني أشعر بالخجل وأنا أعلق على هذه الآيات!! ما أكثر ما يلح المرء على ربه إذا عرضت له حاجة، فإذا تحققت حاجته وحصل غرضه طارت به الفرحة فأنسته التبتل بين يدي ربه شكرًا وحمدًا وثناءً، أليس هذا هو المرور كأن لم يدع الله إلى ضر مسه؟! أليس هذا هو نسيان ما كان يدعوا إليه من قبل؟! أليس هذا هو الإعراض والنأي بعد ذلك الدعاء العريض»؟! یا رب عفوك وسترك.
والمراد أنه إذا تأمل متدبر القرآن كيف كرر الله في تصويرات متعددة ذم من يدعوا الله في حال الضر، ويغفل في حال العافية؛ علم أن الله يريد أن يكون القلب معلقًا بالله في كل حال.
سأسألك يا أخي الغالي قارئ هذه السطور سؤالاً تبوح به هذه الكلمات المكتوبة، ولكن اجعل جوابه في صدرك، اجعلها مناجاة الأحبة بيني وبينك، سؤالي هو:
بالله عليك ألم يمر بك لحظة ركبت فيها «الطائرة» مسافرًا إلى سياحة أو تجارة أو غيرها، وكانت الأمور على ما يرام، ثم وأنت في جوف السماء ارتعدت الطائرة لظروف جوية أو رأيت طاقم الطائرة يلهثون كأنما يخفون أمرًا خطرًا، فكيف كانت مشاعرك في تلك الحالة؟ ألم تدعُ الله وجلاً بالسلامة، ألم يركض أمام عينيك سريعًا شريط الخطايا والمعاصي؟ ألم يستحوذ عليك إحساس بأنك إن سلمت ستتوب بعد أن رأيت الموت؟ مرّت بك هذه اللحظة؟
إذن اقرأ كيف يصور الله ذات المشهد لكن على وسيلة مواصلات أخرى مشابهة وتأمل كيف يعاتبنا على ذلك، يقول الله في سورة يونس: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين، فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون) [يونس: 22، 23]، يا لبلاغة القرآن.. والله ما زال هذا المشهد يتكرر منذ أنزل الله هذه الآيات إلى يوم الناس هذا!
وهذا المشهد المذكور في سورة يونس شرحته آية أخرى مشابهة في سورة الإسراء، وكشفت آية الإسراء جهل العقل البشري، وكيف يغفل عن أخطار أخرى حتى لو سلم في رحلته التي نجا فيها، يقول الله مرة أخرى عن وسائل النقل: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا، أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا، أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) [الإسراء: 67 – 69]، تأمل كيف تشير الآية إلى جهل الإنسان حيث يظن أنه إذا وصل البر أمن ولذلك يغفل! والقرآن ينبهه أنه حتى لو نزل على الأرض فقد يكون تحت خطر عقوبة أشد كالخسف بالأرض كما حصل لقارون، أو الرمي بالحصباء كما حصل لقرية سدوم، ثم ينبه القرآن تنبيهًا أعجب وهو أنه يا من نجوت هذه المرة من الخطر ووصلت البر، قد تعود مرةً أخرى إلى وسيلة النقل ذاتها فتهلك هلاكًا أشد حين تقصم الريح مراكبك.
وتشير آية أخرى إلى تفاوت الناس بعد زوال لحظة الخطر على وسيلة النقل: (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور) [لقمان: 32]، هذه الصورة التي يكررها القرآن عن السفر بالسفن واليخوت انقلها بحذافيرها إلى وسيلة نقل مشابهة كالطائرة أو القطارات أو السيارات وتأمل كيف يكون الإنسان فيها قلقًا، وخصوصًا إذا مر بظروف غير طبيعية، كرياح تثير الاضطراب، ثم إذا نزل على الأرض نسي استكانته وتضرعه وعزيمته على الاستقامة، تذكر هذه الصورة التي نمر بها وأعد قراءة آية يونس وآية الإسراء السابقتين تنكشف لك من معاني الإيمان والتعلق بالله ما لم يخطر ببالك، والمقصود أن ينظر متدبر القرآن كيف يريد الله قلوبًا تستديم التعلق به في حال الخطر والسلامة.
إنه الحبل الناظم والحقيقة الكبرى في القرآن، وهو استمرار حركة القلب بالإيمان بالله والتعلق به سبحانه.
ربما لو جلست مجلسًا وسألت من فيه ما هو تعريف: الصحبة الصالحة؟
لربما طافت بك التعريفات في صفات دنيوية، وخصوصًا بعد غلبة المنظور الغربي لمفهوم «تطوير الذات» فصارت تسري في مفاصل هذه الكتب المعايير المادية في النظرة للحياة والنجاح.. لكن متدبر القرآن يجد في سورة الكهف تعريفًا مدهشًا للصحبة الصالحة، يقول الله – تبارك وتعالى ـ لـنـبـيـه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) [الكهف: 28]، سألتك بالذي خلقك هل تجد اليوم في خطاباتنا الفكرية والنهضوية من يعرف الشخصية المتميزة بهذا التعريف؟!
انظر كيف تحدد سورة الكهف «خاصية» الشخص المتميز، إنه الذي: «يَدْعُوا رَبَّهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ»، واخجلاه من زمانٍ صرنا نستحي فيه من حقائق القرآن!
ولما كلف الله موسى بالرسالة، طلب موسى من الله أن يجعل له وزيرًا يعينه على مهمة الرسالة وهو أخوه هارون، لكن ما هو المقصود الأبعد من هذا التعاون والتعاضد بين الأخوين؟ شاهد كيف يشرح موسى وظيفة الاستعانة بأخيه هارون في سورة طه: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [طه: 29 – 34]، أظنك لاحظت هذا الحضور العجيب لـ«ذكر الله» في بنية الرسالة، موسى يقول لربه اجعل معي هارون كي نسبحك ونذكرك كثيرا! من أجل التسبيح والذكر!
هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا، بل إن الله تعالى يرسل موسى وهارون إلى فرعون ويوصيهما مرةً أخرى بلهج اللسان بذكر الله، فيقول الله في نفس السورة، سورة طه، بعد الموضع السابق بآيات معدودة: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي) [طه: 42]، موسى يريد الله توزير أخيه ليتعاونا على تسبيح الله وذكره، وربهما يرسلهما ويقول: )وَلاَ تَنِيَا(؛ أي: لا تفترا ولا تضعفا ولا تكسلا عن ذكري، لاحظ المهمة الجسيمة التي سيتحملانها وهي مواجهة أعتى نظام مستبد في التاريخ بما يستفز كبرياءه، ومع ذلك يقول الله لهما: )وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي (.
ثم يتحدث القرآن في سورة الحج عن طريقة تلقي المؤمن لآيات الوحي، وأنه ليس المطلوب فقط تنفيذ أحكام القرآن، بل لا بد أن يقوم في القلب معنى آخر يظهر به «ذل العبودية» لله، وهو طأطأة القلب ورقته فور تلقيه القرآن يقول الله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [الحج: 54]، وقد ذكر بعض أهل التفسير أن معنی الإخبات هاهنا «أي: ترق للقرآن قلوبهم».
ثم ينتقل بنا المسار إلى سورة «المؤمنون»، وفيها مشهد بديع لعمارة النفوس بالله، ذلك أن كثيرًا من الناس يتصور أن المؤمن يجب أن يخاف من الله حال «المعصية»، أما حال «الطاعة» فتذهل كثيرٌ من العقول عن مقام الوجل لله، لكن ميزان القرآن يختلف، يختلف جذريًا، إنه يريد شعب الإيمان متلهفة في كافة الأحوال، مشدودةً إلى خالقها، تأمل كيف يصوّر القرآن المؤمن وهو في لحظة العمل الصالح: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون) [المؤمنون: 60]، يمد يده بالصدقة وقلبه يرتجف من الله! بالله هل رأيت إقبالاً على الله وذهولاً عما سواه أشد من ذلك؟! فإذا كان هذا هو المطلوب القرآني من حال «الطاعة» فكيف يكون حال «الخطيئة»؟!
وفي سورة النور لما ذكر الله الأنشطة التجارية لم يتحدث عن أهميتها، أو فنونها، بل التحذير من أن تشغل القلب عن الانكباب على الله (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37] فإذا كان هذا حالهم أثناء التجارة المنهكة فكيف يكون أثناء الفراغ؟!
ومن المعاني القرآنية التي نبهت إلى تعلق القلب بالله وانصرافه عما سواه مفهوم «إقامة الوجه للدين» «وإسلام الوجه الله».. وهي تعابير لها دلالاتها القلبية العميقة.
تأمل هذه الطائفة من الآيات: يقول الله: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) [يونس: 105]، وقال الله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) [الروم: 30]، ويقول سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) [الروم: 43]، ويقول أيضًا: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان: 22]، وقد قرأت لعددٍ من أهل العلم عن أكثر أمرٍ ردده القرآن بعد التوحيد ما هو؟ ورأيتهم ذكروا أمورًا لكني اختبرتها فوجدتها غير دقيقة، وأما الذي رأيته شخصيًا فلا أعرف مطلوبًا عمليًا ردده القرآن بعد التوحيد مثل موضوع «ذكر الله» سواءً كلام القرآن عن «جنس الذكر» كحديث القرآن عن الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، والذكر قائمًا وقاعدًا ومضجعًا، وذكر الله آناء الليل والنهار، وتحريم أمورٍ لأنها تصد عن ذكر الله، والتحذير من قسوة القلوب من ذكر الله، وخشوع القلب لذكر الله، ونحو هذه المعاني التي تتحدث عن جنس الذكر، أو كلام القرآن عن «آحاد الذكر» مثل التسبيح الكائنات، والتحميد والتهليل والتكبير ونحوها، كتسبيح واستفتاح السور بالحمد ونحوها. هذا هو أكثر مطلوب عملي رأيته في كتاب الله، أما المطلوب الخبري بعد التوحيد فربما كان «المعاد» والله أعلم.
هذه الظاهرة في القرآن – أعني ظاهرة كثرة الحديث عن ذكر الله – لا أظنه سيخالف فيها من تأملها بإذن الله، ويستطيع متدبر للقرآن ملاحظتها بسهولة، وإنما الشأن في تفسير هذا الموضوع، أو على الأقل محاولة إدراك العلاقة بين «ذكر الله» و«القلب البشري».. فما العلاقة بين الذكر والقلب يا ترى؟ هناك آيتان عظيمتان في كتاب الله أشارتا إلى سر هذه العلاقة، يقول الله في سورة الأنفال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال: 2]، ويقول الله في سورة الحج: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحج: 34، 35]، لا أظنه فاتك هذا السر الذي نبهت إليه الآيتان انظر كيف يربط القرآن بين الذكر وحركة القلب (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).. بالله عليك ألا تدهشك هذه العلاقة؟
ومن أساليب القرآن العجيبة في وصل النفوس بخالقها أن القرآن لا يكتفي بذكر التعلق بالله، بل ينوع أسماءه سبحانه في الموضع الواحد لتتعدد موارد التعلق!
انظر كيف يتقلب الفؤاد في مدارج العبودية وهو يسمع (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس، مَلِكِ النَّاس، إِلَهِ النَّاس)[الناس: 1 – 3]، يأمرنا الله أن نلجأ ونستعيذ به بموجب ربوبية الله للناس )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(، فإذا تشبع القلب بذلك، انفتح عليه مشهد ملك الله العظيم للناس (مَلِكِ النَّاس)، فيزداد تمسك القلب واستعاذته بمقتضى ملكية الله، ثم يكشف للقلب موردًا آخر وهو ألوهية الله للناس (إِلَهِ النَّاس)، فلا تزال حبال الاستعاذة تشد قلب متدبر القرآن إلى السماء بمقتضيات وموارد و موجبات تتكشف له من معاني الأسماء الإلهية العظيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إبراهيم بن عمر السكران (2016). الطريق إلى القرآن. ط. 2. الرياض: دار الحضارة للنشر والتوزيع. ص ص. 79- 119.
مقال رائع ثري وشجي .. بارك الله في كاتبه وفي صفحتكم الكريمة