فقه التحيز: من التحيز للنموذج الغربي إلى التحيز لنموذج إسلامي بديل

فقه التحيز

من التحيز للنموذج الغربي إلى التحيز لنموذج إسلامي بديل*

د. عبد الوهاب المسيري**

قضية التحيز في المنهج والمصطلح هي إشكالية تواجه أي دارس، ولكنها تواجه المثقف في العالم الثالث بحدة. فهو ينشأ في بيئة حضارية وثقافية لها نماذجها الحضارية والمعرفية المختلفة، ولكنه مع هذا يجد نماذج أخرى تحاول أن تفرض نفسها على مجتمعه وعلى وجدانه وفكره. فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، ومع انتشار الإنسان الغربي التدريجي في العالم من خلال التشكيل الاستعماري الغربي، وقيامه بعولمة نماذجه الحضارية والمعرفية، بدأ أيضًا ما يسمى بالغزو الثقافي، وهو محاولة الإنسان الغربي فرض نماذجه هذه على شعوب العالم. وهذه النماذج التي أثبتت نفعها في العالم الغربي في المجالات الاقتصادية والسياسية، لها أيضًا جوانبها المظلمة والمدمرة في مجالات أخرى، وهذه النماذج ليس لها بالضرورة علاقة قوية بواقع شعوب العالم غير الغربي (أي الغالبية العظمى لشعوب الأرض). وهي لهذا السبب ليست قادرة على التفاعل مع هذا الواقع أو على الإسهام في تفسيره أو تغييره بل ويؤدي تبنيها أحيانًا إلى تدميره.

فإذا كان لكل مجتمع تحيزاته فما حدث أن كثيراً من شعوب العالم بدأت تتخلى عن تحيزاتها النابعة من واقعها التاريخي والإنساني والوجودي، وبدأت تتبنى تحيزات الآخر، بما في ذلك تحيزاته ضدها، وبدأت تنظر لنفسها من وجهة نظره.

وقد طُرحت فكرة التحيز ونوقشت من جانب الكثيرين. ومع ظهور الفكر القومي العربي، بدأ الحديث يتزايد عن الهوية والخصوصية الحضارية وضرورة الحفاظ عليهما، ومع هذا لم يحاول أحد أن يدرس القضية بشكل منهجي وشامل. وقد لاحظت أن العرب المحدثين لم يضعوا أسس أي علوم على الإطلاق، فإذا قالوا في الغرب «علم النفس التنموي» قلنا نحن أيضًا «علم النفس التنموي»، وإذا قالوا «علم النفس الصناعي» رددنا معهم «علم النفس الصناعي»، وإذا قالوا «علم النفس التفكيكي»، سارعنا بالقول «علم النفس التفكيكي»، أي أننا نردد وراءهم ما يقولون، ونتبنى ما يستحدثون من علوم، أما أن نؤسس نحن علومًا جديدة كي تتعامل مع الإشكاليات الخاصة بنا، فهذا ما لم يحدث في تاريخ الحضارة العربية الحديثة.

ولذلك أحسست بضرورة أن نبدأ من نقطة ما، وتساءلت: لماذا لا نضع أسس علم جديد له آلياته ومناهجه ومرجعيته يتعامل مع قضية التحيز هذه، ويفتح باب الاجتهاد بخصوصها؟ فالجميع لديه الإحساس بأن هوية الأمة – سواء كانت قومية أو دينية – مهددة بسبب تبنيها لنماذج ورؤى الآخر، دون إدراك عميق أحيانًا للتضمينات المعرفية لهذه النماذج.

 إشكالية التحيز في المنهج

ثمة إحساس غامر لدى الكثير من العلماء العرب بأن المناهج التي يتم استخدامها في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تماما، بل ويرون أنها تعبر عن مجموعة من القيم التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، وتقرر مسبقًا كثيرًا من النتائج. وهذا ما نطلق عليه اصطلاح «التحيز»، أي وجود مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب معه التخلص منها.

 ويمكن القول إن هذه القيم تأخذ شكل نماذج أو استعارات معرفية كامنة. فنحن إن تحدثنا عن «التقدم» نكون قد تبنينا استعارة تشبِه الحركة التاريخية بالخط المستقيم الذي يؤدي إلى نقطة، وتخلينا عن الأشكال الدائرية. كما أننا نكون قد أخذنا بفكرة التراكم الكمية وأصدرنا حكمًا قيميًا مسبقًا على القديم والجديد، بحيث يصبح الأول سلبياً والثاني إيجابياً، كما أننا نكون قد قبلنا بالتغير والصيرورة في كل المجالات كحقيقة نهائية وربما مطلقة. وإذا أخذنا بفكرة «التنمية» فإننا نكون قد أخذنا باستعارة عضوية أو شبه عضوية تفترض تلاحم كل العناصر في ظاهرة ترابط أعضاء الجسم الواحد، وأن تنمية عنصر ما يتطلب تغيير كل أو معظم العناصر الأخرى. تبني هذه الاستعارات لا يؤدي بالضرورة إلى تبني كل هذه الأفكار وإنما يخلق ترابطاً اختياريًا elective affinity بين الباحث وهذه الأفكار أو تربة خصبة يمكن لهذه الأفكار أن تنمو فيها وتترعرع. لذا، يجد الباحث نفسه متحيزاً لبعض الظواهر والأفكار ويهمل أو يستبعد تماماً بعضها الآخر مما يقع خارج نطاق الاستعارات والنماذج الكامنة. وكثير من هذه الاستعارات المعرفية الكامنة تأتي جاهزة من الغرب ولا تتسم بالبراءة أو الحياد. وهي تسلب الباحث كثيرًا من حريته وتحد من حركته ومجال رؤيته؛ ذلك لأنها كما تقدم ليست متحيزة بصورة ظاهرة وإنما هي متحيزة بشكل كامن ومستتر.

ولعله قد حان الوقت لكي يتم الإفصاح عن هذه الأحاسيس والاجتهادات الفردية بشكل أكثر وضوحًا وتحديدًا، وأن يتم تجميعها على أمل أن نصل إلى تعريف إشكالية التحيز في المنهج، وأن نضع أيدينا على بعض سماته وآلياته، ونصل إلى بعض الحلول المطروحة التي قد تؤدي في النهاية إلى ظهور نموذج معرفي بديل.

تعريف التحيز:

إن كل واقعة وحركة لها بُعد ثقافي وتعبر عن نموذج معرفي وعن رؤية معرفية، والنموذج هو صورة عقلية مجردة ونمط تصوري للحقيقة، ويمكن للنموذج أن يكون اقتصاديًا ماديًا، ومن ثم يستبعد من حساباته العناصر غير الاقتصادية المادية. ويمكن أن يكون نموذجاً حضارياً، بمعنى أن النموذج يصل إلى مجموعة العلاقات التي تشكل حضارة ما ويعكس صورة ذهنية لمنتجاتها الحضارية.

ولكن لكل نموذج بعده المعرفي، الذي يتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي، وهي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، وحلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق ونسبي من منظوره. فهي باختصار مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب عن الأسئلة الكلية.

«التحيز»، كما جاء في المعاجم اللغوية، هو الانضمام والموافقة في الرأي. وهو مصدر الفعل «تحيز». ومع أن هذه الكلمة قد وردت في القرآن الكريم: «أَوْ مُتَحَيْزا إِلَى فِئَةٍ» [سورة الأنفال: ١٦] (وقيل في معناها: منضمًا إليها، أي إلى الفئة. وكما جاء في الوسيط، فقد استخدمت كلمة «التحيز» في معنى الانضمام والموافقة في الرأي، وتبني رؤية ما، مما يعني رفض الآراء الأخرى.

أنواع التحيز:

والتحيز أنواع:

أولاً- هناك التحيز لما يراه الإنسان على أنه الحق، وهذا هو الالتزام. والإنسان المتحيز للحق والحقيقة يمكن أن يتحمس لهما وينفعل بهما. ولكنه من ناحية أخرى على استعداد لأن يختبر ثمرة قناعته، فهو لا يعتقد أن أحكامه (المتحيزة) هي الحكم النهائي المطلق، إذ أن أحكامه أولاً وأخيراً اجتهاد، وهو يدرك ذلك تمامًا.

ثانياً- وهناك التحيز للباطل وهذا يأخذ أشكالاً مختلفة، فهناك التحيز للذات حين يجعل الإنسان نفسه المرجعية الوحيدة المقبولة، ولذا تسقط فكرة الحق المتجاوز ولا يمكن محاكمة الإنسان من أي منظور. ويرتبط بهذا فكرة التحيز للقوة، فإن كان الإنسان منتصراً فإنه يفرض إرادته، أما إذا انهزم فإنه يتحول إلى واقعي (براغماتي) يرضى بأحكام الآخر ويخضع له دون إيمان بأن ما يقوله الآخر هو الحق، فالقوة هي المرجعية الوحيدة (ولذا فهو في حالة تربص دائمة في انتظار تغير موازين القوى لصالحه). ويرتبط بكل هذا التحيز للسلطان، فهو تحيز يعبر عن التخلي الكامل عن ذاتية الإنسان وعن اختياراته الحرة، بحيث يصبح السلطان هو المرجعية، وما يقول الجالس على الكرسي يصبح هو الحق، رغم إدراكنا أنه ليس كذلك. وفي جميع الأحوال مَن يتحيز للباطل ليس على استعداد أن يخضع ذاته وأحكامه لمنظومة قيمية أو مرجعية تقع خارجه، كما أن أحكامه لا تقبل الاستئناف، فهي نهائية مطلقة.

ثالثاً- وهناك تحيز واعٍ واضح، وآخر غير واع كامن. أما التحيز الواعي فهو تحيز من يختار عقيدة بعينها (ايديولوجية) ثم ينظر للعالم من خلالها، ويقوم بعمليات دعاية وتعبئة في إطارها. أما التحيز غير الواعي، فهو أن يستبطن الإنسان منظومة معرفية بكل أولوياتها وأطروحاتها، وينظر للعالم من خلالها دون أن يكون واعياً بذلك. والتحيز الواضح عادة ما يفصح عن نفسه، كما هو الحال في (البروباجندة)، أي الدعاية الصريحة الرخيصة، فمتلقي الدعاية السياسية الفاضحة يدرك مضمونها. أما التحيز الكامن، فإن المتلقي له يتأثر به دون وعي من جانبه. ومع هذا، يمكن أن يتم توصيل التحيز الواعي بطرق خفية، ودون وعي من جانب المتلقي، وهذا يظهر في الإعلانات التجارية حيث يدرك المعلن عن سلعة ما أنه لو ربط سلعته هذه بالدوافع الجنسية لدى الإنسان فإنه سيمكنه أن يزيد مبيعاته رغم عدم وجود أي علاقة حقيقية بين السلعة والدافع الجنسي. وتظهر إعلانات ينظر أصحابها للإنسان باعتباره كائناً ماديًا تحركه غرائزه وحسب (وكأنه كلب بافلوف)، ثم يتحركون في إطار هذا النموذج. ويمكن أن يحدث الشيء نفسه على المستوى السياسي والأخلاقي، فالأفلام الأمريكية تروج لكثير من القيم دون أن يدرك المتلقي أنه يُلقن من خلال الفيلم كثيرًا من القيم التي تتحيز لها هوليوود، مثل المطاردة والعنف، وهي قيم تنبع من رؤية داروينية للواقع، والتي لو نقلت له بشكل مباشر لاشمأز منها، (ولذا فهي تقدم له في أفلام توم وجيري وأفلام الكاو بوي، على سبيل المثال) وكأنها تسلية بريئة لا تجسد قيمة أو نموذجًا معرفيًا وحشيًا.

رابعاً- ويمكن تصنيف التحيز من ناحية حدته، فيمكن أن يكون التحيز حادًا واضحًا، كما هو الحال في الأدب الواقعي الاشتراكي السوفياتي حيث كانت الطبقة العاملة تحقق دائما الانتصار، وكانت البورجوازية دائمًا هابطة منحلة في طريقها إلى الاختفاء لتحل محلها القوى الصاعدة. لكن هناك دائمًا المثقف البورجوازي الواعي بقانون التاريخ الذي كان يدرك أن الطبقة العاملة هي الطبقة الصاعدة، فينفض عن نفسه وعيه الطبقي القديم، ويربط مصيره بمصير الطبقة العاملة، ويصعد معها إلى أعلى ويسير معها في المسار التاريخي الصحيح. وتنتهي الرواية بالتحالف الحتمي الثوري بين العمال والفلاحين والمثقفين. ولكن ليس كل التحيزات بهذا الأسلوب، فيمكن للإنسان أن يتحيز لعقيدة معينة ويدافع عنها ولكنه يدرك أن ثمة مشاكل في عملية التطبيق.

 وتختلف درجة التحيز من ميدان لآخر ومن علم لآخر، ويعتمد ذلك على مدى ارتباط الميدان أو العلم بالهوية الثقافية والحضارية للجماعة. ولهذا نجد أن التحيز يكون أقوى ما يكون عادة في ميادين العقائد الدينية والتقاليد والعلاقات الإنسانية، وما يعبر عنها من فنون وآداب وفكر وثقافة. أما الميادين التي تكون درجة تعرضها للتحيز متوسطة القوة فنجدها في التكنولوجيا والتنمية الصناعية. أما أقل الميادين تعرضًا للتحيز فهي العلوم البحتة مثل الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والتاريخ الطبيعي، ومع هذا فهي تحوي قدرًا من التحيز.

خامساً- وهناك تحيز داخل التحيز، أي حين يتبنى الباحث رؤية معينة محددة من داخل نموذج معرفي متكامل تصبح تحيزاته أكثر اتساعًا. ويظهر التحيز داخل التحيز في عملية التركيز على أفكار بعينها دور غيرها داخل المنظومة موضع البحث. فنحن مثلا، في العالم العربي نركز على نظريات علم الاجتماع الفرنسي أو الانجليزي دون نظريات علم الاجتماع الألماني، مع أن كل هذه النظريات تنتمي إلى تقاليد علم الاجتماع الغربي. أو أن يقوم باحث إسلامي بالتحيز لإحدى أطروحات الفقه الإسلامي دون الأطروحات الأخرى، ودون الاحتكام للقيم الإسلامية (كما يحدث حينما يُحرم أحد الفقهاء شيئًا ما دون التوجه لكلية المنظومة المعرفية ودون معرفة كافية بموضوع البحث ودون أن يناقش آراء الفقهاء المخالفة لآرائه (.

سادساً- وهناك العكس أيضًا، أي أن يتحيز الباحث لعدد من الأفكار تنتمي إلى أنساق معرفية مختلفة متناقضة ولكنه يتبناها كلها دون تمييز أو تفريق بسبب غياب الرؤية المعرفية العميقة. فيمكن لكاتب عربي أن يتبنى آراء عصر الاستنارة الداعية للعقل والباعثة على التفاؤل، ويكتب في الوقت ذاته شعرًا حداثيًا متشائمًا يؤكد لا عقلانية الواقع وعبثيته وعدم جدوى استخدام العقل. ويمكن لكاتب غربي أن يعجب بالرؤية الدينية الإسلامية والهندوكية والكونفوشيوسية باعتبارها كلها رؤى شرقية.

سابعاً- هناك تحيز جزئي وآخر كلي، والتحيز لعنصر واحد أو لشيء ما، كما يحدث حينما يعجب كاتب غربي بكاتب أو طراز شرقي فلا يتبنى الرؤية الكلية لحضارة هذا الكاتب أو ذلك الطراز وإنما يتبنى تلك العناصر التي تروق له والتي يمكنه استيعابها في رؤيته للكون

 ويمكننا القول إن النوع الجزئي من التحيز هو تحيز الشخص الواثق من نفسه ذي الهوية الواضحة الذي يدور في إطار رؤيته ويقف على أرضيتها، وله تحيزاته المحددة، ثم ينظر إلى العالم ويأخذ منه ما يريد. فهو يمسك بالميزان ولا يخاف أن يستورد الأفكار والأشياء من الخارج ولكنه يزن ما يستورده بميزانه، ويعيد صياغته بما يتفق مع معاييره، أي أن هذا الشخص ليس ضد الوافد، وليس ضد الاستفادة من الآخر، وليس ضد الانفتاح عليه، ولكنه ضد أن يضع أحدهم ميزاناً مستوردًا في يده ليزن به الأشياء، وضد أن يتحدث عن نفسه بضمير الغائب، وضد إغلاق باب الاجتهاد بالنسبة للآخر. فهو مجتهد يتحرك في إطار النسق المفتوح أو الفضفاض لا النسق المغلق المصمت، ويستند إلى أرضية الذات العقائدية الفكرية والحضارية ولا يستسلم أبدًا إلى ما سماه أحد العلماء الغربيين «إمبريالية المقولات»، أي أن تستورد من الآخر لا بعض آرائه وإسهاماته وإبداعاته وحسب، وإنما مقولاته التحليلية الأساسية ذاتها ورؤيته للكون، فتزن الأمور بميزان الآخر. والاجتهاد النابع من الذات والذي يستند إليها لا يتنافى مع الرؤية العلمية، فالعلم الطبيعي لا يتعامل مع الكليات أو المطلقات أو الغائيات (الميزان)، وإنما يتعامل مع الجزئيات والإجراءات (الموزون)، ويترك القيمة والصدق والغاية للإنسان يحددها كيفما تملي عليه معتقداته. أما الذين يصرون على الاستسلام تمامًا للآخر، فإنهم يصرون في واقع الأمر على استيراد اختيارات الآخرين ورؤاهم ومقولاتهم التحليلية، وليس هناك في العلم الطبيعي ما يحث على ذلك أو يمنعه.

ثامناً- من أهم التحيزات الجديدة التي ليس لها نظير في الحضارات السابقة ما نسميه تحيز واقعنا المادي ضدنا. فالاستعمار الغربي قد دخل بلادنا وهدم منازلنا التي تعبر عن هويتنا، ثم هدم مدننا القديمة بتخطيطها الذي يعبر عن منظومتنا القيمية، ثم بنى مدنا تعبر عن منظومته القيمية مثل السرعة والكفاءة والتنافس. فالشوارع واسعة حتى يمكن للسيارات الكثيرة أن تسير فيها بسرعة، وهو ما يعني أن السيارة مسألة يفترض وجودها كمعطى حسي ضروري ونهائي، بينما كان من الممكن أن نبني مدناً تفترض أن المشاة أكثر من راكبي السيارات، وأن راكبي الأتوبيسات أهم من راكبي السيارات الخاصة. وقد بنيت المنازل بمواد تفترض أن تكييف الهواء مسألة ضرورية، وتتم بطريقة تسمح بدخول أكبر قسط من الشمس في بلادنا الحارة، وقد نشأ عن ذلك الحاجة لكَم هائل من السلع أصبحت من ضروريات الحياة العصرية. فلو ترك الإنسان سيارته ضاع وقته وضاعت حياته، ولو قرر الاستغناء عن جهاز التكييف تصبب عرقاً وقلت إنتاجيته. وقد بينت إحدى الدراسات أن يوم العمل نفسه الذي استوردناه من الغرب، يصلح لبلادهم أساساً، أما بالنسبة لبلادنا فيوم العمل المناسب يبدأ بعد صلاة الفجر وينتهي عند وقت الظهيرة على أن يستأنف الناس حياتهم الاجتماعية بعد العصر ويناموا بعد صلاة العشاء. ولا بد أن ندرس مدى إمكانية وجدوى تبني يوم العمل المقترح، وكمية الطاقة التي ستوفر أو الراحة النفسية التي سنتمتع بها حينما يتفق الإيقاع الإنساني مع الإيقاع الكوني (يخبرني كثير من أصدقائي الأجانب أنهم عادة يستيقظون مع الفجر ثم يعودون للنوم بعد ذلك). ونحن لا نعرف النتيجة مسبقا، ولكن الموضوع لا بد وأن يبحث إذ يجب ألا نتقبل الواقع المستورد المتحيز ضدنا. وبهذه الطريقة، قد نحرر الذات من التبعية للآخر وقد يتدفق الإبداع.

                                         التحيز للنموذج الحضاري الغربي

أولاً: أمثلة

من أهم أشكال التحيز وأكثرها شيوعًا في العالم التحيز للنموذج الحضاري الغربي. ولنضرب بعض الأمثلة:

  • حين وصلت إلى الولايات المتحدة عام ١٩٦٣ ذهبت إلى جامعة بيل لقضاء الفصل الصيفي فيها، ودعيت إلى حضور مسرحية لشكسبير، فذهبت لمشاهدتها دون أن أرتدي جاكتة ولا رباط عنق. فهمس أحد الأساتذة الأمريكيين في أذني بأنني لابد وأن أفعل، وقال: «ألا يستحق شكسبير منك ذلك؟»، وحيث أنني أحب شكسبير وأجله، عدت إلى غرفتي فارتديت جاكتة ورباط العنق وذهبت وشكرني أستاذي على حسن أدبي. وقبل عودتي إلى مصر في عام ١٩٦٩ ارتديت الجاكتة ورباط عنق للذهاب إلى المسرح مع بعض الأصدقاء الأمريكيين فكنت موضع سخريتهم لأن ارتداء الجاكت كان قد أصبح موضة قديمة وعلامة من علامات التخشب والتجمد أدركت ساعتها أن الجاكت ليس شيئًا ماديا يستر به الإنسان جسمه ويدفئ بدنه، وإنما هو علامة على شيء ما، لغة كاملة. ساعتها قررت أن أتحدث لغتي وألا أتحدث لغة الآخرين وإلا أصبحت ببغاء في أسوأ تقدير وقردًا في أحسنه. ساعتها قررت ألا أتبع الموضة أو آخر صيحة وأن أخضع كل شيء للاجتهاد (إلا في أضيق الحدود، حين أذهب إلى دار الأوبرا في القاهرة على سبيل المثال، فأضطر لارتداء الجاكت ورباط العنق: أرتدي علامة التخشب والتجمد أو علامة الاحترام والإجلال حسب المرجعية الزمنية الغربية ولكن بناء على أوامر إدارة الأوبرا المصرية).
  • منذ نعومة أظفاري وأنا أجد أن واحدًا من أكبر مصادر التوتر في حياة ربة البيت المصري البورجوازية هو طقم الصيني، إذ عادة ما تكسر الخادمة أو أحد الضيوف طبقًا أو ينكسر الطبق من تلقاء نفسه. فالطقم عادة مكون من ستة أطباق أو اثني عشر طبقا من الشكل نفسه، وفي الحفلات ترص الأطباق والفناجين بعناية فائقة، ولذا فكسر أحد الأطباق هو كسر للنسق الهندسي، وقد تم تنشئتنا على حب الأنساق الهندسية الكاملة لأمر لا يعرفه إلا الله.

ولذا كثيرًا ما اقترحت أن نغير استراتيجية الفخامة والأبهة عن طريق كسر النسق الهندسي وإشاعة الأنساق غير الهندسية غير الكاملة، فهذا أكثر ملائمة للحياة الإنسانية، والكمال كما نعرف لله وحده. فأولاً يمكن أن نقرر أن عدد الأطباق يمكن أن يكون سبعة أو ثمانية أو تسعة ولا داعي للمتتالية ٦ – ١٢ – ٢٤. وليس هناك ما يدعو لأن تكون الأطباق متماثلة، إذ يمكن أن يكون كل طبق له شكله الفريد. هذا سيجعل كسر الطبق مسألة ليست مأسوية ولا نهائية، إذ أنه لن ينكسر النسق الهندسي الكامل. وعلاوة على هذا، فإن وجود أطباق بأشكال مختلفة يعني التنوع والتعددية، ونحن في عصر التعددية. وسيفتح هذا الباب إمكانية أن يأتي صديق بهدية مكونة من طبق واحد معه فنجانه، ومن ثم سيصبح كل طبق له شخصيته وسيكون محملاً بعبق الذكريات، وقد سُقت هذا الاقتراح وأنا أعلم تمامًا أنه لن يُقبل، ومَن أنا حتى أحاول تغيير ذوق سيدات الطبقة المتوسطة؟!

والآن ماذا يحدث لو ظهر أحد مصممي الأزياء في فرنسا وقرر العودة للطبيعة، فوجد أن ألوان ريش الببغاء هي أحسن الألوان وقرر أنها الموضة. أليس من المتوقع أن يتبع الناس اقتراحاته/ أوامره؟ ولو قرر هذا المصمم أن العودة للطبيعة تتطلب إعادة صياغة الجونيلات بحيث تُزَود بذيول أو ما يشبه الذيول لتأكيد استمرارية الإنسان والحيوان، هل يجرؤ أحد على الوقوف ضد الموضة؟ فلماذا يُرفض اقتراحي النبيل الإنساني، وتقبل كل أوامر مصمم الأزياء!؟

*كذلك أثاث المنزل المصري جاء لنا من الغرب من خلال عملية تاريخية مركبة. وهذا الأثاث ليس مجرد أشياء توضع في المنزل، وإنما تجسد توجها (تحيزًا) حضاريًا واعيًا ومحددًا لدى الأرستقراطية العربية، فتبنت النموذج الغربي في الأثاث ومعمار المنزل، وهو توجه حضاري غير واع لدى الطبقات المتوسطة.

 ومن الطريف ملاحظة كيف أن التحيز غير الواعي يمكن أن يتناقض مع الواقع الوجودي المعاش للشخص، فالمساحة المتاحة لسكن الطبقة المتوسطة المصرية صغيرة ولا تتسع لكل هذا الأثاث، ولذا يتحول الأثاث الغربي دائمًا إلى مصدر تنغيص على الجميع، فهو مكلف للغاية ويحتاج لمساحة كبيرة، فيتم تخزينه أو صفه في المنزل الذي يتحرك سكانه بصعوبة بالغة لأن أحجام الكراسي ضخمة للغاية. ثم تقوم ربة البيت بالدفاع بشراسة بالغة عن الطقم المذهب ضد هجمات الأطفال بل وكل أعضاء الأسرة، لأن غرفة الصالون تظل مغلقة إلا في حالة وصول كبار الزوار، الأمر الذي لا يحدث إلا مرة أو مرتين في العام. وبذا تشكل الغرفة إهداراً كاملاً للموارد. أما غرفة الطعام فمصيرها أحسن قليلاً إذ ينجح أعضاء الأسرة في تحويلها إلى غرفة للمذاكرة، وتتحول المائدة إلى مكتب لأعضاء الأسرة يجلسون كلهم حوله، فكأن النموذج التقليدي يفرض نفسه على النموذج الغربي المستورد.

  • وقد نشأ معظمنا في بيئة ثقافية تقدمية تعلن بلا تحفظ وبثقة بالغة أن مشكلة المشاكل في التعليم المصري هي التركيز على حفظ الدروس عن ظهر قلب، فكل شيء يحفظ (ويتمتم بعضهم بأن الحفظ يعود بجذوره إلى التعليم الديني ومركزية القرآن). وكنت أردد هذا القول بكفاءة عالية إلى أن وصلت إلى جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة عام ١٩٦٣ (في قسم الماجستير)، وفوجئت أنه كان من المطلوب منا أن نحفظ عن ظهر قلب بعض قصائد الشعر الرومانتيكي. وحين سألت عن السبب قيل لي إن الحفظ يعد من أحسن آليات إنشاء المودة والحميمية بين الطالب والنص. ثم عرفت أن النظام التعليمي في اليابان لا يحتقر الحفظ على الإطلاق وإنما يوظفه. ثم تعلمنا أنه في كثير من العلوم الإنسانية لابد وأن يقوم الطالب بحفظ بعض القواعد والعناصر الأساسية عن ظهر قلب. فتسلل الشك إلى قلبي من يقيني التقدمي القديم المطلق، وأحسست أن رفضنا الكامل للحفظ كان هو في واقع الأمر رفضًا لتراثنا دون تحفظ وبحقد شديد، مع أننا لو كنا نتعامل مع تراثنا بشيء من الاحترام لاكتشفنا إمكانية توظيف الحفظ في تطوير ملكة النقد ذاتها.

ثانياً: هيمنة النموذج الحضاري الغربي

كل الأمثلة السابقة، وغيرها كثير، تبين أننا تركنا تراثنا وتبنينا تراث الآخر بكفاءة عالية، وذلك دون فهم لمدلول ما نفعل ودون أن نقوم بعملية نقدية إبداعية لتراثنا ولتراثهم ولحضارتنا ولحضارتهم. لقد تبنينا نموذجهم الحضاري والتهمنا منتجاتهم الحضارية، ووضعناها في بيئتنا التي تتصارع معها، فكنا كالمُنبَتْ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظهرا أبقى. فلماذا حدث ذلك؟

من الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في القرن العشرين أن النموذج الحضاري الغربي أصبح يشغل مكانًا مركزيًا في وجدان معظم المفكرين والشعوب. وليس من المستغرب أن يحقق نموذج حضاري له قدرات تعبوية وتنظيمية مرتفعة – بسبب بساطته وماديته – انتصارات باهرة على المستويين المعنوي والمادي في مراحله الأولى (فتوحات وغزوات – سلع ورخاء وراحة مادية للشعوب الغربية – فنون رائعة – فلسفات عقلانية مادية بسيطة وواضحة ذات مقدرة تفسيرية مباشرة وعالية). وقد ترجمت انتصارات المشروع الحضاري الغربي نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس من جانب الإنسان الغربي، وإلى إيمانه بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصل إليه الإنسان، وأن كل التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان، أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الحديث.

وقد دخل العالم الإسلامي في صراع مرير مع هذا التشكيل الحضاري من البداية، وقامت جيوش الدولة العثمانية بحماية دار الإسلام في الشرق العربي وفي أماكن أخرى من الهجمة الاستعمارية، ولذا التف الاستعمار الغربي حول الدولة العثمانية فاحتل أطراف أفريقيا والهند ووصل إلى العالم الجديد، وظل العالم الإسلامي ذاته بمنأى عن جيوشه. ولكن، مع أزمة الدولة العثمانية، بدأت الجيوش الغربية في غزو المشرق الإسلامي، ويعد تاريخ وصول جيوش نابليون إلى مصر هو بداية المحاولات الغربية الرامية إلى تقطيع أوصال الدولة العثمانية والعالم الإسلامي. وقد تبع هذا الغزو استيلاء الروس على الإمارات التركية على البحر الأسود، والإنجليز على قبرص ثم على مصر، إلى أن تم تقسيم معظم العالم الإسلامي وتقطيع أوصاله.

ونتيجة لبساطة النموذج المعرفي العقلاني الغربي وجاذبيته، ونتيجة لانتصاراته المعرفية والعسكرية في مجالات عديدة ونتيجة لانتصارات الاستعمار الغربي، أصبحت محاولة اللحاق بالغرب هي جوهر جميع المشروعات النهضوية في العالم الثالث، بما في ذلك العالم الإسلامي.

أولاً– ويتضح هذا أكثر ما يتضح في الفكر العلماني الليبرالي، فهو فكر قد حدد «النهضة» ابتداءً بأنها نقل الفكر الغربي والنظريات الغربية بأمانة شديدة، وتقبل النموذج الحضاري الغربي بكل مزاياه وعيوبه، (بحلوه ومره، وبخيره وشره)، وإعادة صياغة المجتمعات العربية الإسلامية وسلوك أفرادها حتى تتفق مع المعايير التي يفترضها هذا النموذج. وقد عبر عن هذه النزعة ما يسمى «جيل النهضة» من الليبراليين أمثال أحمد لطفي السيد وشبلي شميل وسلامة موسى وغيرهم. ومنهم من كان متطرفًا مغترباً تمامًا عن ذاته، فدعا إلى التفاهات المسرحية مثل ارتداء القبعة وكتابة العربية بحروف لاتينية، ومنهم من كان أكثر تعقلاً وابتعادًا عن مثل هذه الأشياء الشكلية الصبيانية، ولكن أعضاء الفريقين المتطرف منهم والمعتدل، الصبياني منهم والناضج، كانوا في نهاية الأمر دعاة تغريب وتحديث على طريقة أوروبا.

ثانياً- والتيار الثاني هو التيار الشيوعي والاشتراكي (اليساري) العربي. فعلى الرغم من أن موقف اليساريين العرب موقف نقدي من الرأسمالية والليبرالية السياسية والاقتصادية الغربية إلا أنهم يصدرون عن تقبل مبدئي للنموذج المعرفي والحضاري الغربي الكامن وراء كل تجليات الفكر الغربي ومؤسسات الحضارة الغربية. ولذا، لا ينصرف النقد اليساري للحضارة الغربية إلا إلى جوانب التنظيم السياسي والاقتصادي ولا يمتد أبدًا إلى النموذج الحضاري أو المعرفي ذاته.

ثالثاً– وقد شهد النموذج الحضاري الغربي شكلاً من أشكال التراجع في العالم العربي منذ الأربعينيات. ويتمثل هذا في ظهور حركات إسلامية مثل «الإخوان المسلمين» وجماعات اشتراكية قومية مثل «مصر الفتاة»، وفي تبلور الفكر القومي العربي وقيام تنظيمات سياسية تحاول ترجمته إلى واقع. وكل هذه الحركات – في جناحيها اليميني واليساري – تفترض بشكل أو بآخر قصور النموذج الحضاري الغربي، ومن هنا الحديث عن الهوية العربية وتأكيد أهمية التراث القومي والديني.

ولكن رغم أهمية هذه المحاولة في أنها تشكل تراجعًا عن النموذج الحضاري الغربي ومراجعة له ومحاولة الاقتراب من التراث، إلا أن الهدف (المعلن أحيانًا وغير المعلن أحيانًا أخرى) هو دائما «اللحاق بالغرب مع الحفاظ على هويتنا بقدر الإمكان، على أن تتطور الهوية لتواكب العصر». ولذا نجد أن هذا التيار إن هو إلا محاولة أخرى لتبني النموذج الغربي الذي يأخذ هذه المرة شكل إعادة صياغة للهوية من الداخل على أسس غربية مع الحفاظ على هيئتها الخارجية العربية. ويعاد اكتشاف التراث من منظور غربي، بل ويعاد صياغته بأثر رجعي، فنكتشف أن المعتزلة عقلانيون، وأن الجرجاني أسلوبي، وأن الفن الإسلامي تجريدي، وأن الاغتراب موجود في تراثنا في شعر الخوارج والصعاليك، وأن أبا العلاء سبق ديكارت في الشك الفلسفي (ولعـل الغزالي هو الذي فعل ذلك)، وأن ابن خلدون اكتشف ٨٠% من قوانين المادية الجدلية، على حد قول أحد الأساتذة العرب الماركسيين، في محاضرة كان يدافع فيها عن التراث العربي. إن ابن خلدون حسب – تصوره – كان ماركسيًا قبل ماركس، ومن هذه الماركسية الكامنة الناقصة (التي تكتمل في ماركس نفسه) يكتسب ابن خلدون شرعيته لا من تفكيره العربي الإسلامي – أي أن أهمية التراث العربي لا تعود لأهميته في حد ذاته، وإنما بمقدار اقترابه أو ابتعاده عن النموذج الحضاري الغربي.

رابعاً- والمدهش أن محاولة اللحاق بالغرب لها أصداؤها العميقة في بعض الاتجاهات الإسلامية السطحية. فبعض المفكرين الإسلاميين يتقبلون النموذج الحضاري الغربي (أو جوانب كثيرة منه) عن وعي وعن غير وعي، بل ويحولون هذا النموذج إلى المثال الذي يحتذى والنقطة المرجعية الصامتة، بحيث يصبح المشروع النهضوي الإسلامي بالنسبة لهم هو أيسر الطرق للحاق بالغرب. بل إن بعضهم يذهب إلى أنه يرى أن المشروع الإسلامي هو خير تطبيق للنموذج الحضاري الغربي الذي يمكن تبنيه بعد إدخال التحسينات الزخرفية، مثل إضافة الصوم والصلاة واستبعاد اختلاط الجنسين وفرض الحجاب على المرأة. ومرة أخرى يعاد اكتشاف الدين فنكتشف أن الدين سبق العلم، وأن القوانين العلمية كلها في القرآن، وأنه لا يوجد أي تعارض بين الدين والعلم، ويتبارى المتبارون في إثبات أن الإسلام سبق العالم في منح المرأة حقوقها وفي نظم الإدارة الحديثة. وكل هذا يعني أن الإسلام يكتشف شرعيته بمقدار اقترابه من النموذج الحضاري الغربي. وبالتدريج، يتم تغريب النموذج الإسلامي بحيث يتفق مع النموذج الحضاري الغربي.

والسمة الأساسية لكل المشروعات الحضارية السابقة – رغم تنوعها واختلافها وتصارعها – أنها جعلت الغرب نقطة مرجعية نهائية ومطلقة، أي أنها استبطنت رؤية الغرب لنفسه ولمشروعه الحضاري، وأصبح الغرب هو هذا التشكيل الحضاري الذي سبقنا والذي علينا اللحاق به (أو الذي سبقناه حسب الرؤية الإسلامية المشار إليها آنفًا وعلينا أيضًا اللحاق به). فثمة نقطة واحدة تحاول كل المجتمعات الوصول إليها، وثمة طريقة واحدة لإدارة المجتمعات ولتحديد تطلعات البشر وأحلامهم وسلوكهم، أي أنه توجد رؤية واحدة عالمية للإنسان والكون. ومن ثم تحول الغرب من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى البقعة التي يخرج منها الفكر العالمي والإنساني الحديث. وقد أضفى هذا شرعية هائلة على عملية اللحاق بأوروبا إذ أصبح العلم الغربي الذي يسعى المثقفون العرب والمسلمون إلى تحصيله علمًا عالمياً حديثًا، وأصبح الرضوخ الفكري للغرب والتبعية الفكرية له تسمى «الانتماء للعصر الحديث» و«التقدمية الموضوعية».

ونتيجة لهذا الوضع تحيز المثقفون العرب للتراث الغربي وأهملوا تراثهم، بل وأهملوا التراث العالمي ذاته. فمن منا يهتم حقًا باليابان والصين؟ ومن منا يدرس السواحيلية لغة معظم سكان أفريقيا الشرقية، واللغة التي تربطها صلة قرابة بالعروبة والإسلام؟ واستنام الجميع لتحصيل ما يسمى «التراث العالمي» دون أي تساؤل بخصوص المفاهيم الإدراكية الكامنة فيه أو بخصوص جذوره التاريخية أو الآليات الاجتماعية التي أدت إلى ظهوره. وأصبحت مهمة الباحث هي تلقي المعلومات التي يقال لها عالمية، والتي هي في واقع الأمر غربية، ثم إعادة إنتاجها على هيئة دراسات وكتب تظل حبيسة المفاهيم الغربية وتساهم في تطوير المعارف والعلوم الغربية، وفي فصل الباحث عن مجتمعه وعن معجمه الحضاري والإسلامي والعربي.

وقد تكون داخل العالم العربي الإسلامي مجموعة من المتعلمين (في مقابل المثقفين) يشغلون وظائف قيادية وغير قيادية، فمنهم الصحفيون والمدرسون والأساتذة الجامعيون والإعلاميون والمترجمون الذين استوعبوا تمامًا النموذج الحضاري الغربي واستبطنوه دون أن يدركوا تضميناته المختلفة. فقد استوعبوه في غالب الأمر باعتباره مجموعة من الأفكار الجميلة النبيلة التي لا تترابط داخل منظومة واحدة. وتحولوا إلى أدوات توصيل جيدة له ولقيمه، أحيانًا عن وعي، ولكن في معظم الأحيان عن غير وعي وبدون فهم عميق. وهذه الفئة من المتعلمين تتسم بأن عندها ملكات فكرية استيعابية ضخمة، وهم عادة مجدون في الاستذكار والتحصيل والحصول على الشهادات، ولكن مقدرتهم النقدية وإدراكهم للمنظومات الكلية أمر محدود للغاية. (وهو أمر متوقع على أية حال، إذ أن الموقف النقدي يتطلب معرفة خاصة بالذات وبالآخر، كما يتطلب ثقة عالية بالنفس وملكات نقدية خاصة، الأمر الذي لا يتوفر لمعظم البشر). وهذه الفئة من المتعلمين هي أخطر القطاعات الثقافية التي تقوم بعملية التغريب، وإعادة صياغة القيم وإشاعة النموذج الحضاري الغربي بكل تحيزاته. فعصر النهضة في الغرب – كما تعلموا في الكتب التي درسوها – هو العصر الذي بعثت فيه الفنون والآداب ووضع الإنسان في مركز الكون (وليس عصر مكيافيللي وهوبز أيضًا وبداية التشكيل الاستعماري الغربي وإبادة الملايين). والثورة الفرنسية هي ثورة الحرية والإخاء والمساواة وإعلان حقوق الإنسان (وليست الثورة العلمانية الأولى التي عَبَد الإنسان فيها العقل المجرد فلجأ للإرهاب ليصوغ الواقع بما يتفق مع هذا العقل والتي قامت دولتها المركزية بتصفية كل الجيوب الدينية والإثنية وبغزو مصر وفلسطين). والتقدم هو الحقيقة الأساسية في تاريخ البشر (وليس له أي ثمن فادح قد يفوق في معدله في بعض الأحيان ما قد تم تحقيقه من أرباح مادية). ونيتشه هو فيلسوف الإنسان الأعظم (وليس فيلسوف اختفاء الإله والإنسان) والبنيوية والتفكيكية هي مدارس في التحليل الأدبي (وليست مناهج تضمر رؤية معادية للإنسان).

وهؤلاء المتعلمون يذهبون للخارج أو يتلقون تعليمهم في الداخل ولكنهم أينما كانوا يستوعبون النموذج الغربي جيدا، ويعودون إلى مكاتبهم فينقلون إلى العربية كل ما يقرأون في الكتب أو (التيكرز) أو الصحف دون نقد أو تمحيص، وقد استولى هؤلاء على الجامعات يدرسون العلوم الغربية تمامًا كما يفعل أهلها، ومن منظورهم وعلى طريقتهم، ويختارون الموضوعات، ويصوغون المناهج والمقررات بعد الاطلاع على الموضوعات والمناهج والمقررات العالمية، أي الغربية.

                                       التحيز للنموذج المعرفي الغربي الحديث

أ- أمثلة:

يجسد النموذج الحضاري عادة نموذجًا معرفيًا متكاملاً يحتوي على منظومة قيمية. ولنحاول شرح هذه القضية من خلال عدة أمثلة:

  • تسير في السوق يومًا وتدوس على قدم شخص عن طريق الخطأ فتقول: «آسف للغاية. وقد تأتي الإجابة من أحدهم على النحو التالي: ولا يهمك – فالسوق مزدحم للغاية اليوم، وكيف يتأتى لك أن ترى قدمي؟». وقد يضيف: شملنا الله جميعا برحمته وعنايته». وقد تأتي الإجابة من آخر على النحو التالي: وفي أي بنك سأصرف آسف هذه؟ (أي: أين سأحصل على معادلها المالي؟). قد تستفز هذه الإجابة الأخيرة أحد الواقفين فيقول: «هذه إجابة وقحة»، وقد لا تستفزه على الإطلاق فيقول: هذه إجابة واقعية.

لكن لنتوقف قليلاً: إن قمنا بتحليل الأقوال السابقة فسنكتشف أنه ثمة إيمان عند من يبدي أسفه بأنه إن عبر الإنسان عن أسفه لفعل ارتكبه فهذا التعبير أمر له قيمته، إذ إنه يعبر عن التضامن بين الإنسان وأخيه الإنسان. والقيمة أمر معنوي كيفي لا يقاس، يتجاوز عالم المادة والبيع والشراء والثمن المحدد، وهي على الرغم من هذا، وربما بسبب هذا، مسألة مهمة للغاية. أما بالنسبة للباحثين عن المعادل المالي، فإن المرجعية الوحيدة هي البنك أو النقود (ما نسميه فلسفيًا عالم المادة، لا بمعنى النقود، وإنما بمعنى ما يُدرك بالحواس وما يقاس). ولذا فالقيمة (هذا الأمر المعنوي الجواني الكيفي) لا وجود لها، إذ لا يوجد سوى الثمن الكمي البراني المادي المحسوس.

  • يدور الحديث التالي في عدة أماكن:

– ماذا تعملين يا سيدتي؟

– أنا مجرد ربة بيت.

– ماذا فعلت اليوم؟

– لم أفعل شيئا على الإطلاق.

هذا الحوار نسمعه آلاف المرات في بلدنا، ويمكننا أن نفك شفرة هذا الحوار على النحو التالي:

  • ماذا تعملين يا سيدتي؟

[معنى العمل هنا هو العمل الذي تقومين به خارج منزلك في الحياة العامة، وهو العمل الذي يمكن حسابه وقياسه، ويمكن أن تتقاضي عنه أجرًا نقديًا وثمنًا محددًا. وأي عمل إنساني آخر في حياتك الخاصة له قيمة إنسانية كبرى (بما في ذلك تربية الأطفال والاعتناء بأسرتك) ولكنه ليس عملاً على الإطلاق، فهو يتم في داخل المنزل ولا تتقاضين عنه أجرًا، فهو لا يقاس، وليس بكم، وينتمي لرقعة الحياة الخاصة لا العامة. ولا تقولي إن عملك في منزلك كأم يحقق ذاتك الإنسانية، فهذا إهانة بقيم إنسانية وبفكرة الطبيعة البشرية. وهذه أمور غير علمية، أي غير مادية كمية. ولا تقولي إن مجتمعك قد يستفيد من وجودك في منزلك أكثر من جودك في مكتب حكومي، فمسار التاريخ العام يدل على أن كل النساء لابد وأن يعملن، ولابد وأن يلهث الجميع في حلبة السوق والمصنع والحياة العامة]

  • [إذا قبلت بتعريفك، وعلي بطبيعة الحال قبوله، فهذا هو الخطاب العلمي المادي السائد]، فأنا [إذن] مجرد ربة بيت [فما أقوم به من عمل ليس بعمل].
  • ماذا فعلت اليوم؟
  • [على الرغم من أنني كنست المنزل، وطبخت الطعام، وودعت ابني الأكبر وهو في طريقه إلى المدرسة، وأطعمت ابنتي الصغيرة، واستقبلت زوجي عند عودته، وأدخلت الطمأنينة على قلوب الجميع… إلخ، على الرغم من كل هذا إلا أنها أشياء كيفية تتم في منزلي ولا أتقاضى عنها أجراً لذا فأنا لم أفعل شيئا على الإطلاق].

في حوار بريء مثل هذا نجد أن كلمة «يعمل» قد عُبئت تمامًا بمضمون أيديولوجي، وفقدت الكلمة براءتها وأصبحت مصطلحًا محددًا لا يمكن فهمه تمامًا إلا في إطار النموذج المعرفي العلماني الغربي، فالعمل الذي تتقاضى عنه أجرًا خارج منزلك في رقعة الحياة العامة هو عمل يقوم به الإنسان الاقتصادي، والإنسان الاقتصادي هو إنسان منتج ومستهلك، جزء من عالم السوق/ المصنع، إنسان يمكن أن تقاس حركاته وسكناته. أما رقعة الحياة الخاصة، فيتحرك فيها الإنسان، وهو إنسان يقوم بنشاطات إنسانية كثيرة، بعضها لا يمكن قياسه، ومن ثم فهو ليس موضوعًا للعلم.

وبالتدريج، نعرف أن هذه الزوجة المسكينة التي لم تفعل شيئًا من منظور مادي فعلت الكثير من منظور أكثر تركيبًا، ولكنها استبطنت الخطاب المعرفي المادي، ولذا فعليها أن تخرج من المنزل فورا حتى «تعمل»، أي حتى تتقاضى أجرًا فتستعيد احترامها لنفسها. قد يفسد الأطفال وقد تنهارُ الأسرة وتضيع خصوصية الحضارة (فالأم هي التي تعلم الأطفال الحضارة والقيم)، ولكن هذه أمور ثانوية. فكما يقول الجميع: «كل الأمور اقتصادية»، وكما قال الرجل في السوق: «في أي بنك سأصرف “آسف” هذه».

  • وانظر إلى ما يقوله موظفو البنك الدولي والخبراء الاقتصاديون العالميون (في الصحف والمجلات): صرح أحد كبار المسؤولين بأنه من الممكن استئجار مساحات شاسعة في أفريقيا لإلقاء العوادم الكيماوية والنووية والنفايات الأخرى من بقايا المجتمعات الغربية نظير مبالغ سخية تدفع للدول الأفريقية لتساعدها في عملية التنمية، أي أن الدول الأفريقية ستتحول إلى مقلب زبالة نظير مكافأة مالية لا بأس بها. وقد أحدثت التصريحات ضجة كبيرة، وأنكر البنك الدولي صدور مثل هذه التصريحات عن أحد كبار موظفيه. ولكن الموظف المسؤول عن التصريح أكد أنه أدلى بالتصريح فعلاً، وأنه يعبر عن فلسفة البنك الأساسية، وبيَن أن المنظور الذي تبناه هو منظور اقتصادي محض (أي مادي محض) يرى العالم باعتباره مادة توظف، وأن القيمة الوحيدة المقبولة هي القيمة المحسوسة المادية.
  • كان لي صديق، موظف كبير في البنك الدولي، أُرسل إلى أحد البلاد الأفريقية لينفذ مشروعًا تنمويًا ضخمًا. وحينما اجتمع مع شباب القرى التي سينفذ فيها المشروع، أشاروا إلى ما سيُبدد: أعشاب طبية وفصائل حيوانية، بعضها غير معروف للعلماء، ولها فوائد لم تكتشف بعد. كما أشاروا إلى التفتت الاجتماعي والأسري الذي سيؤدي إلى هدم الجماعة وكل ما ينتج عن ذلك من سلبيات.. سألته:

–  وماذا فعلت إذن؟ أجاب:

– لا شيء، فقد كان عندي جدول عمل محدد لا يتحمل التأجيل.

ومن الواضح أن صديقي يتحيز للكفاءة الإجرائية وللسرعة ولا يكترث بقيم مثل التوازن مع البيئة ولا يحسب ثمن التقدم.

  • أنتجت شركة شيفروليه سيارة جديدة لذيذة، ولكنها مع الأسف كان بها عيب خطير، فقد كانت تنقلب عند المنحنيات وتؤدي إلى هلاك راكبيها، ولذا قررت الشركة سحبها من السوق، ولكن أحد المستشارين الأذكياء نصح الشركة بأن تترك السيارات الجميلة اللذيذة في السوق إذ أنه قام بعمليات حسابية رشيدة دقيقة فوجد أن من الأوفر للشركة أن تترك السيارات عن أن تسحبها. وقد بيَن المستشار الذكي أن التعويضات التي ستدفع للضحايا أو ذويهم ستكون أقل بكثير من الخسائر الناجمة عن استدعاء كل هذه السيارات وإصلاحها. وقد وافقت الشركة على أن تعدل قرارها وتسلك في ضوء الاستشارة الرشيدة الذكية. وبالفعل قُتل وجُرح وشُوّه الكثيرون فرفعوا قضايا مطالبين بالتعويض، وقامت الشركة بتسوية كل الحالات. وانتصرت الحسابات الذكية الرشيدة الدقيقة على كل القيم، وداست السيارات الجميلة اللذيذة على أبناء آدم وامتلأت خزانات الشركة بالذهب الذي يقطر دمًا.

إن هذه الأمثلة – والكثير غيرها – هي وليدة رؤية لها مقدرة عالية على تحويل الكون بأسره (الإنسان والطبيعة) إلى مادة استعمالية لا حرمة لها ولا قداسة، وهذا هو جوهر الرؤية المادية التي تنكر الإنسان ومطلقيته وقداسته، والتي تؤكد أسبقية المادة على الإنسان وعلى وعيه وعلى كل القيم المعرفية والأخلاقية، والتي تدرك الواقع من خلال مقولات مادية، أي مقولات مستمدة من خصائص المادة مثل الطول والعمق والارتفاع والكثافة والسرعة، وتستبعد ما عدا ذلك من خصائص يزعمون أنها تتنافى مع العقل.

ب- طبيعة النموذج المعرفي المادي:

والنموذج المعرفي الغربي الحديث (وهو نموذج عقلاني نفعي مادي) هو النموذج الكامن وراء الأمثلة التي سقناها، وهو أيضا النموذج الكامن وراء معظم معارفنا وعلومنا وكثير من مواقفنا. وهو نموذج يتبدى في مصطلحات هذه العلوم ومسلماتها ومنطلقاتها ومناهجها وتفاصيلها وإجراءاتها، وإن تبنى أحد هذه المصطلحات أو المناهج دون إدراك كامل لبعدها المعرفي الكامن فإنه سيتبنى مسلمات النموذج ومنطلقاته دون أن يدري. وهذا النموذج المعرفي هو أكثر النماذج المعرفية شيوعًا وسطوة، لأن الاستعمار الغربي قام بهزيمة العالم واقتسامه، وبتدويل نموذجه الحضاري وفرضه على الكثير من المجتمعات، إما من خلال القمع أو الإغواء، أو حتى أحيانًا من خلال خاصية الانتشار، حتى أصبح الكثيرون يظنون أن هذا النموذج نموذج عالمي. ولذا فإن ا التحيزات شيوعًا في بلادنا وفي أرجاء العالم هو التحيز لهذا النموذج المعرفي الغربي.

ويمكننا الآن وصف هذا النموذج، ثم ما ينتج عنه من تحيزات:

أولاً– تبدأ المنظومة المعرفية الغربية المادية بإعلان أن مركز الكون كامن فيه وليس متجاوزًا له، وهذا يعني أن الإله إما غير موجود أساسًا، أو أنه موجود ولا علاقة له بالمنظومات المعرفية والأخلاقية والدلالية والجمالية. فالعالم يوجد داخله ما يكفي لتفسيره، والمنظومات المعرفية والدلالية والأخلاقية والجمالية يتم تأسيسها وتطويرها بالعودة إلى هذا العالم وهذا الزمان وحسب، أي أن ثنائية الخالق والمخلوق تصفى تمامًا.

ثانياً- ظهرت في البداية الرؤية الإنسانية الهيومانية التي جعلت من الإنسان مركزًا للكون، بل وآلهته. وكان أدب عصر النهضة احتفاءً بتلك اللحظة في تاريخ الإنسان، والتي تصور فيها الإنسان أنه سيد الكون وكل المخلوقات، وهي اللحظة التي تُشكل عودة لثنائية الإنسان والطبيعة على أسس مادية وداخل إطار مادي، أو هكذا كان الظن، إذ أنه تكشف أنها ثنائية واهية لأقصى حد من البداية، فالمنظومات المالية لا تقبل بأي ثنائيات ولا تقبل بمركز سوى المادة.

ومنذ البداية كان هناك هدير الماديين الذين يعرفون منطق الأشياء والقانون الطبيعي والبنية الواحدية للنماذج المعرفية المادية. كان هناك منذ البداية هوبز ومكيافيللي، ثم جاء من بعدهم فلاسفة عصر الاستنارة الذين أعلن بعضهم أن الإنسان إن هو إلا آلة. ثم جاء داروين ونيتشه وأنجلز و(جانب من) ماركس وفرويد، وأخيرًا دريدا، فقاموا بتفكيك الإنسان وإعادة تركيبه حتى يتسق مع منطق المادة والأشياء الطبيعية. والمنظومة المادية منظومة تذهب إلى أن العالم نسق كلي طبيعي مادي متماسك وفي حالة حركة دائمة مستمرة، والعالم مكون إما من ذرات تائهة (حسب الرؤية الآلية للكون) أو كيان عضوي مصمت متماسك (حسب الرؤية العضوية) أو خليط منهما. والعالم يتسم بالسببية الصلبة الكاملة، بمعنى أن كل شيء له سبب مادي وأن (أ) ستؤدي حتمًا إلى (ب) – دائمًا وأبدًا – إن تكررت نفس الظروف.

والعالم كل متصل واحد، حلقاته متشابكة متلاحمة ولا توجد فيه ثغرات أو فراغات، يسير نحو الاتزان والحركة المطردة، يخضع لمنطق تطوري. فالكائنات كلها في حالة تطور وتقدم مستمر لا تراجع فيه، ولذا فكل الكائنات قابلة للتحول والتغيير (فكل شيء في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير جوهر واحد: المادة). وفي هذا العالم المادي الذي لا يقبل الثغرات، لا يوجد فارق كبير أو جوهري بين الإنسان والطبيعة، فالإنسان إن كان كيانًا مختلفًا عن الطبيعة فإنه سيشكل ثغرة وانقطاعًا في النظام الطبيعي المادي المستمر المتماسك المطرد الذي لا يقبل عدم الاستمرار. ولذا لابد من سد الثغرة، ولذا يؤكد النظام المادي على أن العناصر المشتركة بين الإنسان والحيوان (وربما الجماد) أكثر أهمية من تلك التي تفرق بينهما – أي أن الظاهرة و(الظواهر) الإنسانية تشكل مُتصلاً واحدًا مع الظواهر الطبيعية يسري عليه القانون نفسه، أو القوانين. والظاهرة الإنسانية ليست فريدة ولا هي بمستعصية على التفسير. قد تختلف الظواهر الإنسانية في درجة تركيبيتها عن الظواهر الطبيعية، ولكنها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير يمكن ردها إلى نفس القوانين المادية التي تحكم الطبيعة، والتي تتجاوز كل الغائيات والأغراض (الدينية أو الإنسانية).

يُرد الإنسان، إذن، إلى النظام الطبيعي المادي ويصبح جزءًا لا يتجزأ منه، ولعل مفهوم الإنسان الطبيعي (المادي) هو التعبير عن هذه الظاهرة، فهو كائن طبيعي موجود في كليته داخل النظام الطبيعي يعيش في الطبيعة وبها ومنها وعليها، ولا وجود له خارجها، جزء لا يتجزأ منها، يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى، وليس له هدف  إنساني مستقل عن غايات الطبيعة (أولاً غايتها المحايدة) وليس له إرادة مستقلة عن القانون الطبيعي، ويمكن تفسيره من خلال القوانين الطبيعية، أي أن ثنائية الإنسان/ الطبيعة التي انطلقت منها الهيومانية الغربية أصبحت ثنائية الإنسان الطبيعي / المادي في مقابل الطبيعة / المادة، وهي ثنائية واهية تمامًا وزائفة، فما الفرق بين الإنسان الطبيعي (المادي) والطبيعة/ المادة؟ ألا يستمد قوانينه منها؟ لذا تصفى ثنائية الإنسان والطبيعة لحساب الطبيعة، حينئذ يصبح الإنسان مادة لا قداسة لها، لا يحوي أي أسرار أو خصوصية، ومن ثم يفقد مركزيته ويصبح إما ذرة تافهة ليس لها وضع خاص أو قيمة خاصة في (الرؤية الآلية المادية) أو يصبح جزءًا من كل ليس له أهمية في حد ذاته في (الرؤية العضوية المادية).

ولنلاحظ هنا أن هذه المنظومة بدأت بسحب الأشياء (الطبيعية) من عالم الإنسان ووضعتها في عالم الأشياء الذي له قوانينه. ثم تم سحب الإنسان نفسه من عالم الإنسان ووُضع في عالم الأشياء حيث تم إخضاعه لقوانينها، أي القانون الطبيعي، أي أن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة والأشياء والحقيقة المادية. وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تمامًا لنفس القانون المادي الصارم، وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان. وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي: ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة (تكتسب وحدتها من كونها جزءًا من النظام الطبيعي)، ولذا فإن ثمة نموذجًا واحدًا للتطور.

وانطلاقًا من كل هذا، تم طرح رؤية معرفية ورؤية أخلاقية، وتم تحديد الأولويات، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي، تتجه دائمًا نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان/ الطبيعة).

  1. فعقل الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة /المادة، قادر على تسجيلها وتلقيها بشكل موضوعي وبكفاءة وحياد، ولكنه غير قادر على تجاوزها أو الاستقلال عنها، فهو جزء لا يتجزأ منها. والعقل لا محدود مثل الطبيعة، ولكنه أيضًا سلبي محايد، وليس له حدود مستقلة (ولنا أن نلاحظ أن صفات العقل هي ذاتها صفات الطبيعة/ المادة وصفات الإنسان الطبيعي المادي).
  2. والعقل قادر على تسجيل الجوانب العامة والمشتركة، فالجوانب العامة هي الجوانب الطبيعية المادية وهي وحدها التي تساعده على التوصل للقانون العام.
  3. الحقائق عقلية وحسية، قابلة لأن تُعرف في جميع جوانبها، والموجود هو ما نحسه ونتعقله وما وراء ذلك فأوهام، والمعرفة معرفة حسية فقط.
  4. ما هو مجهول في الطبيعة (المادية والبشرية) هو أمر مؤقت، إذ أنه سيصبح معلومًا من خلال تراكم المعلومات، ورقعة المجهول ستتراجع. وسيؤدي تزايد رقعة المعلوم والتراكم المعرفي المستمر إلى التحكم الكامل أو شبه الكامل في معرفة الطبيعة البشرية المادية معرفة كاملة أو شبه كاملة بحيث تصبح كل الأمور (إنسانية كانت أم طبيعية) أمورًا نسبية مادية معروفة ومحسوبة ومبرمجة، ويصبح العالم مادة استعمالية لا قداسة لها.
  5. العقل قادر على إعادة صياغة الإنسان وبيئته المادية والاجتماعية بما يتفق مع القوانين الطبيعية العامة التي أدركها الإنسان من خلال دراسته لعالم الطبيعة والأشياء، وهذا ما يسمى عملية الترشيد، أي تنميط الواقع من خلال فرض الواحدية المادية عليه حتى يمكن التحكم الكامل فيه ثم حوسلته، أي تحويله إلى وسيلة ومادة استعمالية يمكن توظيفها بكفاءة عالية وتعظيم فائدتها.

وإذا انتقلنا من المنظومة المعرفية إلى المنظومة الأخلاقية، فإن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم فيه، وهدف العالم هو السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة وتسخير مواردها وتحقيق هيمنة الإنسان الكاملة عليها. ولتحقيق هذا، لا بد من إدخال كل الأشياء (الإنسان والطبيعة) في شبكة السببية الصلبة حتى يتم شرحها وإخضاعها للقوانين الطبيعية. والإنسان هنا ليس كائنًا مستخلفًا أو مكرمًا وإنما كائن مادي.

والقوانين الأخلاقية لا وجود لها إذ لا يوجد سوى المنفعة واللذة وتعظيم الإنتاج بهدف تعظيم الاستهلاك حتى تستمر عملية الإنتاج في الدوران ويزداد الاستهلاك، وهكذا في حركة دائرية تشبه العود الأبدي عند نيتشه أو مسرحية في مسرح العبث أو الرؤية الوثنية للتاريخ كدوائر لا معنى لها.

ولا بد أن نضيف بُعدًا أساسيًا لهذه المنظومة الفلسفية المادية كثيرًا ما تهمله الدراسات الغربية وغير الغربية، وهو أن هذه المنظومة على مستوى الممارسة التاريخية أخذت شكل الإمبريالية الغربية. فهذه المنظومة وضعت الإنسان في مركز الكون (نظريا). هذا الإنسان لا تحده حدود ولا تقيده قيود ولا يرتبط بأي قيم أخلاقية، ومن ثم أصبحت القوة هي المعيار الأساسي. وبدلاً من أن يصبح العالم مادة استعمالية لكل الجنس البشري، أصبح العالم ومعظم البشرية مادة استعمالية للجنس الأبيض. وبدلاً من أن يقف الإنسان في مركز الكون وقف الإنسان الأبيض فيه ومارس إحساسًا بهذه المركزية وضرورة الحفاظ عليها وفرضها على الآخرين (وهذا أمر متوقع تماما في غياب المطلقات الأخلاقية). ومن هنا ظهرت الرؤية المعرفية الإمبريالية التي هيمنت على عقل الإنسان الغربي، وعلى رؤيته للعالم، وبعدها ظهر التشكيل الإمبريالي الغربي، حين قرر الإنسان الأبيض بعد عصر نهضته ومركزيته السيطرة على الكون (الإنسان والطبيعة) فجيش الجيوش وقام بإبادة سكان الأمريكيتين ونقل ملايين الأفارقة إلى هاتين القارتين ليتحولوا إلى قوة عضلية، فهلك بعضهم أثناء عملية النقل وتم تحطيم الباقين بعد وصولهم. ثم نشر قواته العسكرية في كل أنحاء العالم، وحطم البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية والمحلية، وحول آسيا وأفريقيا إلى مستعمرات وأسواق لمنتجاته وإلى مصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة والربح. ومن خلال الهيمنة العسكرية المباشرة فرض النظام العالمي القديم، ومن خلال خليط من الهيمنة العسكرية وتجنيد النخب السياسية والثقافية المحلية الحاكمة فرض النظام العالمي الجديد.

ج- تحيزات النموذج المعرفي المادي:

وكل تحيزات النموذج المعرفي الغربي الحديث نابعة من واحديته المادية الناجمة عن تصفية ثنائية الإنسان والخالق، ومن ثم ثنائية الإنسان والطبيعة.

أولاً- وأهم التحيزات هو التحيز للطبيعي المادي على حساب الإنساني وغير المادي. وهو تحيز ضد الطبيعة البشرية لصالح الطبيعة المادية وطبيعة الأشياء. ويظهر هذا في محاولة تفسير ما هو إنساني بما هو طبيعي وغير إنساني، فيخضع الإنسان بشكل مطلق لقوانين الضبط والقياس والتحكم والتفسير التي تستخدم في دراسة الظواهر الطبيعية، وتخضع الظواهر الاجتماعية لممارسات مناهج البحث في العلوم التجريبية نفسها، وهذا ما يسمى بوحدة العلوم في مقابل استقلال العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية.

وفكرة وحدة العلوم هي الترجمة المعرفية والأخلاقية لتصفية ثنائية الإنسان والطبيعة، وهي المنهجية التي يتم عن طريقها فرض الواحدية المادية على الكون، وفرض منطق الأشياء على الإنسان وحوسلة العالم بأسره (أي تحويله إلى وسيلة) واختزاله إلى بُعد طبيعي مادي واحد يسري عليه القانون أو القوانين العامة للمادة. وينجم عن الانتقال من الإنساني إلى الطبيعي تحيز ضد الغائية وإسقاط للأبعاد الأخلاقية والنفسية والإرادية (ولنقل العناصر الإنسانية، لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد في الكون صاحب الإرادة الحرة، الذي يبحث عن الغاية في الكون، والذي يتبع منظومات أخلاقية ينظم بها سلوكه). ثم تظهر الحتميات المختلفة التي تفسر الكون وسلوك الإنسان والبعوضة بشكل علمي حتمي، أما أحلام الإنسان وتطلعاته الأخلاقية وقراراته الحرة فهذه أمور غير علمية (خاصة – كيفية – غائية).

ثانياً- في هذا الإطار، ثمة تحيز للعام على حساب الخاص. والافتراض السائد أنه كلما تم تجريد الظواهر من خصوصياتها وارتفاع المستوى التعميمي، ازددنا علمية ودقة. ويجب أن يستمر تجريد الظواهر من خصوصياتها (الإنسانية والغائية) التي تشكل ثغرة في النظام الطبيعي المتصل، إلى أن نصل إلى مستوى تعميمي يقال له علمي وعالمي تُسد فيه كل الثغرات وتُصفى فيه كل الثنائيات، وهو المستوى الذي يتم فيه الوصول إلى القانون (الطبيعي / المادي) العام، أي القانون الذي يربط الإنساني بالطبيعي، ويخضع الإنساني للطبيعي، ويتحول فيه الإنساني إلى طبيعي / مادي.

وكل هذا يعني أن المنحنى الخاص للظاهرة (خصوصياتها وفرادتها وتعينها) يشكل عائقًا في عملية الدراسة العلمية، ويبطئ من عملية التجريد التي تؤدي إلى الوصول إلى القواعد الطبيعية العامة.

ثالثاً- ثمة تحيز للمحسوس والمحدود وما يقاس والكمي على حساب غير المحسوس واللامحدود وما لا يقاس والكيفي. فالعلم الغربي قد حصر دراسة الظواهر في العالم المحسوس فقط، ولذا تعرضت كل الملامح اللامحدودة والمركبة والكيفية (في ظل النماذج التحليلية المادية) إلى التجاهل، فما لا يمكن قياسه أو ملاحظته خارجيًا، فهو ليس موضوعًا للدراسة العلمية. فالمؤثرات من خارج العالم المحسوس والمعروف لنا لا تقبل بسهولة الملاحظة أو التجربة أو التعبير الكمي أو الإحصائي الذي يتبناه العلم الحديث. وكل ما لا يمكن قياسه وتفتيته كميًا باستخدام أدوات القياس الكمي المحايد، مثل العناصر الغائية والأخلاقية، تعتبر أمورًا ثانوية يمكن استبعادها وإهمالها، فهي لا يمكن أن تقاس بدقة أو حياد.

رابعاً- ثمة تحيز للبسيط والواحدي والمتجانس على حساب المركب والتعددي وغير المتجانس، فيتم التحيز للظواهر البسيطة والتفسيرات البسيطة التي ترُد الظاهرة إلى مبدأ واحد أو متغير واحد أو متغيرين، ويتم تفسير السلوك الإنساني من خلال نماذج بسيطة. ومن هنا ظاهرة الواحدية السببية المرتبطة تمام الارتباط بوحدة العلوم والواحدية المادية. فثمة بحث دائب عن مركز واحد كامن في المادة وعن سبب واحد لتفسير الكون (مطلق علماني كامن في المادة) يشكل الركيزة الأساسية لكل شيء ويُرد إليه كل شيء، فهو مصدر الوحدة والتماسك في الكون، والنقطة أو الغاية التي تتحرك نحوها كل الكائنات بما في ذلك الإنسان. وغالبًا ما يكون هذا المبدأ هو المتغير الاقتصادي (المنفعة المادية عند بنتام – تحقيق الربح وتراكم الثروة عند آدم سميث – وتطور أدوات الإنتاج عند الماركسيين)، ولكنه قد يأخذ أشكالاً أخرى (الجنس عند فرويد – البطولة عند كارليل – الجنس الآري عند النازيين – أرض الميعاد عند الصهاينة).

هذه الواحدية السببية النابعة من الواحدية المادية تنطوي على رفض عميق للآخر المختلف، فوجود الآخر يعني وجود نماذج مختلفة وقوانين مختلفة للبشر (داخل إطار من الإنسانية المشتركة الذي لا يجُب التنوع الإنساني).

خامساً- تحيز للموضوعي على حساب الذاتي، والالتزام بالموضوعية في هذا السياق يعني أن يتجرد الباحث من خصوصيته ومن التزامه الخلقي ومن عواطفه وحواسه وكليته الإنسانية، ويحول عقله إلى صفحة بيضاء وسطح شمعي يسجل الحقائق ويرصد التفاصيل بحياد شديد وسلبية كاملة، وبذلك تتحول الظاهرة موضع الدراسة إلى مجرد شيء. وهذه الموضوعية تمتد لتشمل الظاهرة الإنسانية التي على الباحث أن يراقبها بتجرد كامل وحيادية وبرود شديدين، بحيث يصبح الإنسان موضوعًا لا يختلف عن الموضوع الطبيعي، يوصف ويُرصد من الخارج مع إهمال الجواني والدوافع الداخلية. ومن ثم يمكن للتفسيرات أن تكون تفسيرات شاملة ونهائية. ومع هذا، يجب الإشارة إلى أن الواحدية السببية تعبر عن نفسها من خلال تأرجح شديد بين قطبين متنافرين: موضوعية كاملة في المنهج وحيادية في الإجراءات ورغبة في الوصول إلى القوانين العامة البسيطة الخالية من المطلقات والغائيات التي تفسر الكون تفسيرًا شاملاً، أي أن هناك رغبة في التفسير العقلاني المادي الذي يُدخل كل شيء في شبكة السببية الصلبة والاستمرارية المطلقة التي لا انقطاع فيها. وبطبيعة الحال، تفشل هذه المحاولة، خصوصًا إذا كان موضوع الدراسة هو الإنسان. وهنا يحدث العكس تمامًا، فبدلاً من الموضوعية الكاملة ثمة ذاتية مطلقة وانغلاق على الذات واكتشاف أن هناك انقطاعًا كاملاً بين الظواهر وغيابًا لأي استمرارية، ومن ثم لا يمكن التوصل إلى أي قوانين عامة. فينتقل الإنسان من العقلانية المادية (والتحديث والاستنارة) إلى اللاعقلانية العبثية المادية (وما بعد الحداثة والإظلام). وهذا التأرجح – كما أسلفنا – هو سمة واضحة في الحضارة الغربية الحديثة.

ويلاحظ أن التأرجح يتم بين شكلين من أشكال الواحدية، ففي القطب الأول ارتباط بشيء واحد: الإنسان – العقل – التحكم الكامل. وفي القطب الثاني يوجد العكس: الطبيعة – اللاعقل – السيولة الكاملة.

والتحيز ضد الغائية والخصوصية والفردية والتركيبية والذاتية هو تحيز ضد الصفات الإنسانية للإنسان وتحيز للصفات المادية الطبيعية، أي أنها تعبير عن تصفية ثنائية الإنسان والطبيعة. ويمكن أن نرى تحيزات النموذج المادي الأخرى في هذا الإطار، فالتحيز للحركة (في مقابل السكون)، والتراكم والاستمرارية (في مقابل الانقطاع وعدم الاستمرار)، والخط المستقيم والدائرة الكاملة (في مقابل الخطوط المتعرجة والحلزونية والأشكال الناقصة)، هي كلها تحيزات للطبيعي على حساب الإنساني.

سادساً- ويتبدى هذا التحيز المعادي للإنسان في هيكل المصطلحات، فالمصطلح الأمثل هو المصطلح العام – الدقيق – الوصفي – الكمي الذي ينبذ المجاز. ومن الملحوظ أنه عادة ما تستعار مصطلحات، هي في جوهرها صفات للأشياء الطبيعية لوصف الظاهرة الإنسانية. ويرتبط بكل هذا تحيز للدقيق والرياضي على حساب المبهم، فكل العلوم تحاول أن تكن علومًا دقيقة لتتخلص من الثغرات، ومن هنا تصبح لغة الجبر لغة نموذجية حيث لا توجد ثغرة تفصل بين الدال والمدلول، أو بين الاسم والمسمى، أو بين الإشارة والمشار إليه حيث تصبح (1) هي (1) و (ب) هي (ب)، ومن ثم يلاحظ الاستخدام المتزايد للنماذج الرياضية في معظم العلوم الإنسانية. والنموذج الرياضي هو صورة ذهنية تمثل الواقع تمثيلاً كميًا رياضيًا، ولها قدرة على محاكاة حركته وتفسيرها والتنبؤ بها. وقد تزايد الاعتقاد بأنه يمكن ترجمة أكثر الظواهر تركيبًا وتعقيدا إلى معادلات وأرقام.

وحتى يتسنى للباحث دراسة الملامح الكمية الخارجية للظاهرة، لا بد أن يعتمد أساسًا على أدوات القياس والتفتيت الكمي الخارجي (استمارة – استبيان – مؤشرات إحصائية – نماذج رياضية)، وذلك للإحاطة كميًا بالظاهرة، وهو، في سبيل وصوله إلى هذه النتائج العلمية، يكون حريصًا على تفتيت الكلية العضوية للظاهرة وعلى تشريحها واختزال عناصرها الأولية وجزئياتها بحيث يتحول التمايز الكيفي الداخلي للظاهرة إلى اختلاف كمي خارجي.

سابعاً- والتحيز للدقة البالغة (التي تصل إلى لغة الجبر والرياضة) هو تحيز للنموذج الطبيعي غير الإنساني – كما أسلفنا. ولكن هناك عنصر آخر ينبغي إدراجه، إذ يجب أن ندرك أن التحيز للدقة البالغة في التعريفات والمطالبة بأن تكون جامعة مانعة واضحة هو تحيز للمصطلحات الغربية. فالمشروع المعرفي الغربي الحديث هو المشروع الوحيد في العالم الذي اكتملت معالمه وأطره ومنهجياته وآلياته، وهو مشروع تسانده مجموعة هائلة من المؤسسات البحثية والثقافية والسياسية والعسكرية التي يمكنها توثيق أي شيء وإشاعة أي مفاهيم وحجب أي معلومات أو تهميشها. هذا في مقابل المشاريع المعرفية الأخرى (بما في ذلك المشروع المعرفي الإسلامي) فهي لا تزال غضة في طور التكوين، كما أن ملامحها النظرية العامة لم تكتمل بعد ولم تتبلور رغم وجود الأطر العامة. وهذه هي طبيعة اللحظة الحضارية التي نعيشها فهي لحظة ولادة (وهذا القول يسري أيضًا على الفكر الاحتجاجي داخل الحضارة الغربية ذاتها، فهو فكر يمثله بضعة مفكرين، ولكنه لا يمثل منظومة نظرية متكاملة ولا توجد مؤسسات بحثية ضخمة تتبنى أطروحاته وتدافع عنها وتقوم بتطويرها). ولذا فالإصرار على الدقة البالغة والوضوح الكامل، وعلى أن تكون الأطروحات والتعريفات مكتملة سيؤدي إلى تبني المصطلحات والمفاهيم والنماذج الغربية، قبِل الإنسان أم أبي. ولذا، لابد من القبول بقدر من الإبهام (والإبهام غير الغموض، كما أن التركيب غير التناقض) وبالتعريفات الإجرائية والافتراضات التفسيرية المبدئية إلى أن تترابط كل هذه الأمور وتكتمل المنظومة المعرفية وهيكلها المصطلحي.

ثامناً- التحيز ضد الغائية والخصوصية المادية، والتحيز للاغائية والعمومية والواحدية المادية والاستمرارية واللغة الرياضية، الهدف منه واضح: تيسير التحكم الإمبريالي في الواقع، فما يُطبق عليه الواحدية المادية، أي ما يتم ترشيده، يمكن اختزاله وتبسيطه وتنميطه وإدخاله شبكة السببية البسيطة الصلبة، أما ما لا يمكن اختزاله أو تفسيره فإنه يهمش ويُوضع في خانات مختلفة مثل «غير طبيعي» و«غير مهم» و«فوضوي» و«لا يصلح موضوعًا للبحث».  

د- التقدم (المادي) أو التحيز الأكبر:

من المفاهيم الأساسية التي تلهج بها كل الألسنة مفهوم التقدم. فقد أصبح التقدم هو هدف كل الناس، التحديث يتم من أجل التقدم، والتنمية تتم من أجله، والهدف والبناء والمشاريع والخطط والانقلابات كلها تتم باسم هذا الشيء السحري. ولنسأل طفلاً في إحدى حارات مدينة دمنهور المصرية القديمة، أو في مدينة ميدل تاون الأمريكية، أو عجوزًا في أحد شوارع طنطا أو نيويورك، الجميع سيجمع على أننا لا بد وأن نتقدم، وبدون تقدم سنهلك.

وابتداءً يجب أن ندرك أن التقدم هو الركيزة الأساسية للمنظومة المعرفية (المادية) الغربية الحديثة، وهو الإجابة التي تقدمها على الأسئلة النهائية التي يواجهها الإنسان: من أنا؟ وما الهدف من الوجود في هذا الكون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب المنظور الإسلامي؟ أم معرفة الحقيقة والذات وفعل الخير وتحاشي الشر حسب المنظور الهيوماني الإنساني الغربي؟ أم هو الإنتاج والاستهلاك والبيع والشراء وتحقيق الربح واللذة؟ ومن الواضح أن الحضارة الغربية الحديثة قد قبلت بالتقدم باعتباره الغاية والمرجعية النهائية، ومفهوم التقدم (في المنظومة الغربية) يستند إلى منطلقات محددة ويتسم بسمات واضحة.

أولاً- يستند مفهوم التقدم (شأنه شأن كل المفاهيم الفلسفية والمعرفية الغربية الحديثة) إلى مفهوم الطبيعة / المادة، فالتقدم مثل قوانين الطبيعة عملية حتمية تتم رغم إرادة الأفراد وخارجها ولا يمكن لأحد إيقافها.

ثانياً- والتقدم عملية عالمية خطية ذات اتجاه واحد، تتم حسب قانون (طبيعي) واحد يتبدى في كل زمان ومكان وفي جميع المجتمعات وجميع المجالات حسب متتالية واحدة تقريبًا.

ثالثاً- يفترض مفهوم التقدم وجود تاريخ إنساني واحد (لا إنسانية مشتركة تتبدى في تشكيلات حضارية وتاريخية مختلفة ومتنوعة)، ولذا ما يصلح لتشكيل حضاري وتاريخي ما، يصلح لكل التشكيلات الأخرى (وهذا ما نسميه وحدة الوجود التاريخية).

رابعاً- قد يتم التقدم عبر مراحل تطورية متتالية مختلفة في بعض التفاصيل والأسباب، ولكن المراحل المختلفة تصل في نهاية الأمر إلى نفس الهدف وتحقق نفس الغايات.

خامساً- تعتبر المجتمعات الغربية، خصوصًا غرب أوروبا، هي ذروة هذه العملية التطورية العالمية الطبيعية، ومن ثم فهي النموذج الذي يحتذى.

سادساً- تستند فكرة التقدم إلى تصور أن المعرفة الإنسانية ستظل تتراكم بشكل مطرد. ومع تزايد التراكم ستزداد المعرفة ومن ثم سيزداد تحكم الإنسان في بيئته.

سابعاً- الموارد الطبيعية في الكون غير محدودة، وعقل الإنسان هو الآخر غير محدود، ولهذا فهم عادة ما يتحدثون عن «التقدم اللانهائي» (وغني عن القول إن كثيرًا من المقولات السابقة ثبت قصورها أو خطؤها).

وكما أسلفنا – التقدم هو الإجابة الغربية المادية على السؤال الخاص بالهدف من وجود الإنسان في الكون، فهو قد وُجد لإحراز التقدم. ولكننا لو دققنا النظر سنكتشف ما يلي:

  1. عملية التقدم ليس لها غائية إنسانية محددة أو مضمون أخلاقي محدد، فالتقدم مثل (الطبيعة/ المادة) مجرد حركة أو عملية. وفي الوجود الإنساني المتعين عادة ما يتقدم المرء نحو شيء ما من مكان إلى آخر، ولكن التقدم في المفهوم الغربي (المادي) عملية حركية تعني الانتقال (الترانسفير) دون تحديد الهدف من الحركة.
  2. التقدم بذلك، يصبح بلا مرجعية أو يصبح مرجعية ذاته، ومن ثم يصبح هو الوسيلة والغاية، فنحن نتقدم كي نحرز مزيدًا من التقدم (وهي عملية لا نهائية).
  3. ولكن الحركية ليست محايدة تمامًا ولا بريئة تمامًا، فثمة تحيز كامل للرؤية المادية كامن في مفهوم التقدم الغربي. ومعيار التقدم في نهاية الأمر هو زيادة المنفعة وتعظيم اللذة لأكبر عدد ممكن من البشر. والإنسان هو الإنسان الطبيعي ذو الاحتياجات الطبيعية المادية العامة (ثم أصبح الإنسان الطبيعي الأبيض في المنظومة الإمبريالية). ولذا، نجد أن التقدم (مثل الطبيعة) لا يكترث بالخصوصيات التقليدية (الدينية والإثنية والاخلاقية). ولذا، نجد أن مقاييس التقدم عادة مقاييس مادية عامة مثل عدد الهواتف ونسبة البروتين وعدد السيارات وسرعتها وطول الطرق ومعدل تحرك البشر وتنقلهم (كلما زادت الحركية زاد التقدم)! وعادة ما تركز هذه المقاييس على أشياء تقاس، أما ما لا يقاس فيستبعد كمؤشر.

وفكرة التقدم باعتباره قانونًا عامًا طبيعيًا، والغرب باعتباره قمة التقدم، تؤدي إلى تقبل مسلمة تفوق الغرب وعالميته وإطلاقه، ومسلمة معيارية النموذج الحضاري والمعرفي الغربي بحيث يصبح نموذجًا قياسيًا للبشرية جمعاء، ويصبح نسقًا واحدًا على الجميع الالتزام به واتباعه إن أرادوا سد الفجوة بينهم وبين الغرب للوصول إلى الرقي والسعادة. ويؤدي ذلك إلى إسقاط القيم والمثل والغايات والخبرة الغربية على العالم، وتعميم النظريات والمفاهيم في العلوم المختلفة (خصوصًا العلوم الاجتماعية) دون الأخذ في الاعتبار خصوصيات كل مجتمع واختلاف الحضارات. كما يؤدي إلى إنكار التجارب الإنسانية، وإنكار أهمية الآخر والسعي إلى نفيه خارج إطار العلم والتاريخ، بل وحتى الوجود (لا بمعنى الوجود المادي وإنما من خلال الحضور المتميز المعبر عن الهوية). ويشار للآخر باعتباره العالم غير الغربي، أي العالم بأسره باستثناء غرب أوروبا وأمريكا الشمالية. وبالتدريج، تستبطن كل الشعوب هذه النماذج الغربية وتتبنى معايير النموذج الغربي للحكم على ذاتها.

ويؤدي هذا التبني الأعمى لمنظومات الآخر المعرفية الى نقل التكنولوجيا بشراهة غير عادية دون إدراك لثمن التقدم الحقيقي، ودون فهم لارتباط التكنولوجيا العضوي بقيم وثقافة البيئة المنتجة لها، ودون إدراك أن التكنولوجيا ليست مجرد آلات ومعدات وإنما هي قدرة توليدية إبداعية لتعديل طرق الإنتاج وتحسين وسائل التعامل مع البيئة لإشباع الحاجات الإنسانية، ومن ثم غير قابلة للاستيراد ولا للنقل إلا في هذه الحدود.

ومفهوم الناتج القومي الإجمالي يعبر عادة عن هذا المفهوم للتقدم وعن هذا التحيز للنموذج المعرفي الذي يستبعد الاعتبارات الاجتماعية والبيئية والأخلاقية والنفسية. وكل المفاهيم المرتبطة بمفهوم التقدم مثل «رفع مستوى المعيشة» و«تحسين الدخل القومي».. إلخ مرتبطة بمفهوم التقدم والنموذج المعرفي الغربي.

وقد حان الوقت لحساب ثمن التقدم، وعلينا أن نلاحظ أن عائد التقدم محسوس ومباشر يمكن قياسه، أما ثمنه فهو غير محسوس وغير مباشر ولا يمكن قياسه. كما يجب أن نلاحظ تداخل ثمرة التقدم مع ثمنه، تمامًا مثل تداخل ثمن التقاليد مع ثمرتها، ولذا لابد من تغيير المؤشرات قليلاً وجعلها أكثر اتساعًا، ولنحاول أن نحول الكيف إلى كم أو على الأقل نرى الأثر الكمي للتحولات الكيفية. ولنرصد الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة مثل: المخدرات- الإباحية – السلع التافهة التي لا تضيف إلى معرفة الإنسان ولا تعمق من إحساسه – تآكل الأسرة – طريقة التعامل مع العجائز – الوقت الذي يقضيه الإنسان مع أطفاله وزوجته – تراجع التواصل بين الناس بسبب الكومبيوتر – الأمراض النفسية (الاكتئاب وعدم الاتزان) – تزايد العنف والجريمة في المجتمعات التي يقال لها متقدمة – انتشار الفلسفات العدمية وفلسفات العنف والقوة والصراع (الداروينية الاجتماعية والنيتشوية) – تزايد الإحساس بعدم المقدرة على معرفة الواقع (ما بعد الحداثة) – تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة – تزايد إنفاق الحكومة على التسليح وأدوات الفتك (يقال إنه لأول مرة في التاريخ البشري، ينفق الإنسان على السلاح أكثر مما ينفق على الطعام والملبس) – ظهور إمكانية تدمير الكرة الأرضية إما فجأة (من خلال الأسلحة النووية) أو بالتدريج (من خلال التلوث) – أثر السياحة وحركة التنقل على نسيج المجتمعات وعلى تراثها. فلنرصد كل هذا ولنحسب التكلفة المادية والمعنوية لهذه الظواهر السلبية مع تحويل المعنوي إلى مادي. فضمن تكاليف انهيار الأسرة تشتت الأطفال وعدم وجود رعاية أسرية كافية، وهو ما يجعل العملية التربوية مكلفة للغاية، إذ لا بد أن تتم بقضِها وقضيضها في المدرسة. ولا شك أن هناك علاقة وثيقة بين تزايد القلق بين الأطفال وهذه الظاهرة. كما لوحظ – دون شك – علاقة بين مرض الإيدز والحرية الجنسية (المرتبطة بالانفتاح والتقدم).

وما قولكم لو حوَلْنا السعادة والطمأنينة ومدى تحققهما إلى واحد من أهم المؤشرات على التقدم؟ هنا سيقال لنا أن السعادة شيء نسبي متغير لا يقاس وكذا الطمأنينة، أما التقدم فيمكن قياسه علميًا. فهل هذا يعني أن التقدم شيء والسعادة والطمأنينة شيء آخر؟ إن كان الأمر كذلك، فماذا ينجز التقدم للإنسان إذن؟ التمدد المادي أم التحقق الإنساني؟ في هذه اللحظة يكشف مفهوم التقدم عن وجهه المادي الحقيقي، فبدلاً من مؤشرات من عالم الإنسان (السعادة والطمأنينة) نسقط في عالم السلع والمؤشرات المأخوذة من عالم الأشياء (السرعة – الإنتاجية… إلخ) دون أي اكتراث بمدى تحقيقها السعادة أو البؤس للإنسان.

وحتى على المستوى المادي، هناك مشاكل كثيرة. وأحب أن أطرح هنا مفهومًا جديدًا كامنًا في كثير من الدراسات وهو مفهوم «التخلف الكوني في مقابل التقدم العلمي الصناعي». فمنذ عصر النهضة والإنسان الغربي يتحدث عن التقدم العلمي الصناعي ويبين الثمرات التي يجنيها الإنسان من هذا التقدم. ولكننا نعرف الآن أن هذا التقدم الصناعي يؤثر بشكل سلبي على الكون بأسره وعلى المصادر الطبيعية بطريقة لم تكن واضحة أو ملموسة في البداية، ولكنها أصبحت الآن أمرًا معروفًا للجميع. هذا التأثير السلبي والدمار الذي يلحق بالبيئة والغلاف الجوي هو ما أسميه التخلف الكوني (وكلمة «كوني» تعني أن الرقعة المعنية هي الأرض ككل وليس دولة بعينها، وأن الكائن المعني هو الإنسان كإنسان وليس مواطن بلد بعينه). ولذا، حتى تكون حساباتنا دقيقة لابد وأن نربط معدلات التقدم الصناعي بمعدلات التخلف الكوني، أي بالأضرار التي يلحقها التقدم الصناعي بالكون، خاصة وأن هذا التقدم الصناعي يفيد الغرب وحده، أما التخلف الكوني فيؤثر علينا جميعًا (فهي عملية غزو إمبريالية للكون تتم لحساب الإنسان الغربي). ولذا، لا بد أن تتناول حسابات ثمن التقدم الظواهر البيئية المختلفة التي لم يتم حسابها من قبل، مثل: ثقوب الأوزون – تلوث البحار – النفايات النووية – تلوث الهواء – تزايد سخونة الغلاف الجوي – تزايد ثاني أكسيد الكربون. إن حسابات المكسب والخسارة لابد وأن تأخذ هذا في الاعتبار. وقد فعلنا هذا بالفعل مع المبيدات الحشرية، فبعد أن كان معدل استخدامها أحد مؤشرات التقدم، تم حساب التكاليف الكونية، فقررت منظمة الأغذية والزراعة التابعة لهيئة الأمم أن ضرر المبيدات (الكوني الآجل) أكثر من نفعها الاقتصادي العاجل) ولذا نصحت بالتوقف عن استخدامها، وأصبح استخدام المبيدات الحشرية أحد المؤشرات على التخلف! فحسابات التقدم، لأنها مادية اقتصادية وحسْب وتسقط العناصر الكونية، فهي ليست دقيقة. وثمة إحصائية تذهب إلى أنه لو تم حساب التكاليف الحقيقية لأي مشروع صناعي (أي حساب المكسب المادي النهائي مخصومًا منه الخسارة الكونية والإنسانية)، لظهر أنه مشروع خاسر، وأن المشروع الصناعي الغربي قد حقق ما حقق من نجاح واستمرار لأن الآخرين دفعوا الثمن، وأنه مع نجاح تجربة بعض الدول في اللحاق بالغرب بدأت تظهر الكارثة الكونية التي تتواتر أخبارها في الجرائد يوميًا.

 ولعل ظهور فكر «جماعات الخضر» والنظريات الجديدة للتنمية التي تتحدث عن الـ  Sustainable growth (وهي عبارة تترجم بعبارة «التنمية المطردة» أو «المستدامة» أي التنمية التي لا ترهق المصادر الطبيعية ومن ثم يمكن الاستمرار فيها جيلاً بعد جيل، وهي تنمية مدرِكة لثمن التقدم والتخلف الكوني وتضع في حسابها الأجيال القادمة)، لعل هذا الفكر هو بداية إدراك ثمن التقدم الفادح. ونتيجة هذه العملية الرصدية الاجتهادية النقدية، قد تشحذ الهمم لاكتشاف أشكال صناعية جديدة أقل إجهادًا للإنسان وللبيئة.

ه- بعض التحيزات الأخرى:

  1. النظرية الداروينية (والنيتشوية)

يُفصح التقدم عن وجهه المادي من خلال مجموعة من القيم الحاكمة الكبرى والنهائية لحياة الإنسان العلماني، مثل الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح وللأقوى، والإنسان ذئب لأخيه الإنسان، والهجوم على أخلاق الضعفاء وتمجيد الإنسان الأقوى (السوبرمان)، وهي قيم نابعة من الفلسفات المادية الغربية التي وصلت إلى قمتها في أعمال «داروين» و«نيتشه»، وتعني أن عالم الإنسان هو ذاته عالم الطبيعة المادة، وأن القيم المادية البيولوجية الصراعية تحكم كلاً من عالم الطبيعة والغابة وعالم الإنسان والحضارة، وأن آلية التطور الوحيدة هي الصراع الدائم والشرس حتى الموت، وأن المرجعية الوحيدة لكل من الطبيعة والإنسان هي القوة، فهي تشكل الإطار المعرفي والأخلاقي.

  1. السوق / المصنع

تعبر نفس النظرة المادية (الداروينية النيتشوية) عن نفسها من خلال استعارة أساسية، مترادفة تمامًا مع مفهوم الطبيعة/ المادة، وهي رؤية العالم بأسره باعتباره سوقًا ومصنعًا. وهي رؤية تنبع من الوحدانية المادية نفسها، إذ يصبح كل شيء مادة توظف، فالعالم هو كالآلة التي تتحرك (تمامًا مثل الطبيعة/ المادة) والهدف من الوجود هو التحكم في كل شيء وتوظيفه، فيتم التحكم في الطبيعة المادية التي تصبح موادًا خامًا، والطبيعة البشرية التي تصبح طاقة إنتاجية، وهي عملية تنتج سلعًا، ثم تنتقل السلع إلى السوق حيث يتحول الإنسان إلى قوة شرائية يقوم بشراء السلع واستهلاكها. وحركة السوق والمصنع تفترض إنسانًا نمطيًا يخضع لآلياتها الصارمة، وهي آليات صراعية تربصية تذكر المرء بغابة داروین، رغم رتابتها الصارمة. وهذا ما يحققه الإنسان الاقتصادي الذي ينتج ليستهلك ويستهلك لينتج، لا يخدم إلا مصلحته وهو لا يسعى إلا إليها، ويتصارع مع الآخرين خارج نطاق أي مطلقات أخلاقية أو ثوابت معرفية. إن السوق/ المصنع (مثل الطبيعة/ المادة) كل مستمر متماسك يسير بحركة مطردة، تتجاوز الغائيات الإنسانية وكل الأخلاقيات والمطلقات والثوابت.

  1. الدولة المركزية

 من التحيزات الكبرى النابعة من النموذج المعرفي الغربي التحيز لمفهوم الدولة القومية العلمانية المركزية، وهذا التحيز مرتبط بمفاهيم الترشيد والتقدم والتحكم المعرفي ووحدة العلوم. فمع الإيمان بوحدة العلوم ومقدرة العقل على مراكمة المعلومات وعلى إعادة صياغة الواقع بما يتفق مع القوانين الطبيعية التي يزداد الإنسان بها معرفة بمرور الزمن، ساد الاعتقاد بمقدرة العلم على قيادة المجتمعات وترشيدها. وكانت الدولة هي الآلية الكبرى القادرة على تحقيق ذلك عن طريق وضع الخطط الشاملة لتوحيد الواقع وتنميطه واختزاله وتكميمه (تحويله إلى كم) وعلى القضاء على الجيوب الإثنية واللغوية حتى يمكن التحكم في الواقع وتوظيفه، وعلى تشييد البنية التحتية القادرة على تحقيق كل هذه الأهداف التي تتم في المجالين المادي والبشري. أما في المجال المادي، فيتم توحيد السوق وتشييد شبكة الطرقات وتوحيد المقاييس، أما في المجال البشري فيتم تأسيس بيروقراطيات مركزية متخصصة حديثة توجه الفرد حتى يصبح مواطنًا ينسى ولاءاته القديمة ولا يدين بالولاء إلا للدولة وحسْب، أي أن الدولة بهذا المعنى تصدر هي الأخرى عن مفهوم الطبيعة/ المادة وعن الواحدية المادية نفسها، وهي تعبير آخر عن تصفية ثنائية الإنسان والطبيعة، وعن التحرك الدائم نحو الواحدية الطبيعية المادية التي تؤدي إلى إنهاء حيوية المجتمع وتحويله إلى آلة كبيرة رشيدة محكومة الحركة، تتبع القوانين العامة والمخططات المركزية.

ومما يجدر ملاحظته أن الدولة دائمًا تفضل التعامل مع الوحدات الضخمة بدلاً من الوحدات الصغيرة مثل الأسرة والجماعات العضوية المترابطة (ومن هنا التحيز ضد الأسرة والجماعة، ومن هنا قيام المؤسسات العامة البيروقراطية بالاضطلاع بوظائفها)، وهي تتعامل مع الإنسان فيما يسمى رقعة الحياة العامة. ولذا، فهي تتحيز للخارج والبراني على حساب الداخل والجواني، وللتعاقد على حساب التآلف، وللحياة العامة على حساب الحياة الخاصة. والوحدة التحليلية التي تتعامل معها الدولة هي الفرد (المواطن – الإنسان الطبيعي)، وهو فرد يوجد خارج أي مؤسسات وسيطة (الأسرة – الجماعة – الكنيسة) ولذا فهو لا يكتسب هويته إلا من السوق أو من مؤسسات الدولة العامة (المدرسة – التليفزيون – الإعلانات)، ومن ثم فإن عزلة الفرد عن المؤسسات الوسيطة تجعله يقع في قبضة الدولة ومؤسساتها.

  1. حضارة استهلاكية عالمية

من أخطر إفرازات النموذج المعرفي (المادي) الغربي في المرحلة الأخيرة (مرحلة النظام العالمي والاستهلاكية العالمية) ما أسميه «الحضارة المادية العالمية الجديدة»، وهي حضارة قد تكون أصولها غربية (أو أمريكية) ولكن أشكالها «محايدة» بمعنى أنها عديمة الانتماء واللون والطعم والرائحة، وتهدف إلى الإفصاح عن الإنسان الطبيعي (والطبيعة/ المادة). وهذه الحضارة شبه العالمية لها منتجاتها الحضارية المحددة مثل (الهامبورغر)، وهو مجرد طعام ولكنه طعام نمطي يطبخ بالطريقة نفسها في كل مكان وزمان (فكأنه لا يوجد مجال للإبداع الشخصي). وهو طعام يأكله الإنسان بمفرده وربما وهو يسير (كالإنسان الطبيعي). وهناك بنطلون (البلوجينز)، وهو قطعة من القماش الأزرق يستحسن أن يكون ممزقًا قليلاً، ولهذا البنطلون طابع عملي شديد، فهو يُرتدى في جميع المناسبات. وهناك كذلك (التيشيرت) الذي يكتب عليه إما إعلان (اشرب كوكاكولا) أو إعلان هوية (أنا أحب دمنهور) أم موقف (أنا أحب الشقراوات). وبغض النظر عن مضمون الإعلان، فإنه يفترض أن الإنسان مساحة أو حيز متحرك كائن براني تمامًا، ظاهره مثل باطنه، سطحه وجلده مثل أعماقه وضميره. ويمكن أن نضيف إلى هذا موسيقى (الديسكو) وسلاحف (النينجا ورامبو). ورغم أن معظم هذه الأشياء من أصول أمريكية إلا أنها إما استقلت عنها أو أن الحضارة الأمريكية نفسها قد تقدمت بما فيه الكفاية فأسقطت ما علق بها من خصوصية ودخلت مرحلة الطبيعة /المادة حيث ظهر الإنسان الطبيعي المادي الذي لا قسمات له ولا ملامح ولا لون ولا يميزه إلا الحركة والقوة العضلية والعنف والمقدرة الاستهلاكية (وهي صفات طبيعية مشتركة بين الإنسان والحيوان).

وتعود خطورة هذه الحضارة إلى أنها تتوجه إلى شيء كامن في الإنسان، وهي رغبته الطفولية في فقدان الحدود والهوية والتحرك خارج جميع المنظومات إلا المنظومة الطبيعية المادية، بحيث يخضع الإنسان لقانون الجاذبية الأرضية (بالمعنى الحرفي والمجازي) وينسحب من عالم الجدل والتدافع والاختيارات الأخلاقية، فيأكل (الهامبورغر) ويلبس (التيشيرت) ولا يصدع رأسه بأي تركيب أو اختيار. وهذه الحضارة الاستهلاكية الجديدة ليست معادية للحضارات الشرقية وحسب، وإنما معادية للحضارة الغربية ذاتها، ولأي أشكال حضارية إنسانية تتجاوز سطح المادة وتتعالى على الطبيعة وتفلت من قبضة الصيرورة.

                                            آليات تجاوز التحيز

بعد أن عرفنا أشكال التحيز المختلفة وأكثر أنواع التحيز شيوعًا (التحيز للنموذج الحضاري والمعرفي الغربي الحديث وما يتفرع عنه من تحيزات)، يمكننا الآن أن نحاول تحديد بعض آليات تجاوز التحيز.

أولاً: إدراك حتمية التحيز وضرورة النقد الكلي:

  1. حتمية التحيز

أ- إن إدراك هذه الحقيقة هو ذاته أول خطوة لتجاوزها. بل إننا نذهب إلى أن النظريات التي تنكر وجود التحيز هي ذاتها متحيزة لرؤية محددة، فهي ترى الواقع الطبيعة والإنسان باعتباره كيانًا مادياً بسيطًا قابلاً للتفسير في كليته من خلال قوانين الطبيعة العامة الصارمة التي تسري على كل الكائنات والمخلوقات في كل زمان ومكان. وهي نظريات ترى أن العقل الإنساني هو جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الطبيعية، كيان سلبي غير فعال، ليس له استقلال عن القوانين الطبيعية وعن الواحدية المادية التي تسود العالم، وترى أن علاقة هذا العقل البسيط بالواقع البسيط علاقة بسيطة آلية.

ولكن ثمة مفهومًا آخر للإنسان والعقل، وهو أن العقل قاصر ولكنه فعال، ولا ينظر إلى الواقع فيسجله بموضوعية متلقية بلهاء وإنما يواجه الواقع المتنوع المركب فيُبقي ويستبعد ويجرد ويفكك ويركب ويصحح ويضخم ويهمش، ويصوغ نماذج معرفية يدرك العالم من خلالها، ولذا فهو يحقق قدرًا من الاستقلال للإنسان عن القوانين الطبيعية. وهذا يعني إمكانية تفاوت الإدراك عمقًا وتسطيحًا، واختلافه من شخص لآخر إنما هو باختلاف التجربة النفسية والحضارية للمدرك، إذ أن أداة الإدراك ليست أداة سلبية وبسيطة وإنما هي أداة إنسانية مركبة فعالة، وما بين تركيبية العالم وفعالية العقل البشري، يصبح التحيز حتميًا.

إن الإيمان بالتحيز هو رفض لفكرة بساطة الواقع ولآلية الإدراك وسلبيته ولفكرة القانون العام، وهو تأكيد بأن عقل الإنسان مبدع وفعال، وأن دوافعه مركبة، وهو دفاع من مركزية الإنسان ضد الفلسفات المادية التي لا ترضى إلا بوحدة الطبيعة وواحديتها، ولا تقنع إلا بعالم أملس، يشبه الحالة الرحمية قبل أن يولد الإنسان أو ينضج ليصبح بشراً سوياً.

وليس هناك جديد فيما نقول، فعلوم الإنسان على مستوى الممارسة، مهما بلغت من تجرد، تحوي تحيزات أصحابها الفلسفية، وهذه حقيقة معروفة بالنسبة للعلوم الاجتماعية ومقبولة بالنسبة لغالبية العاملين في هذا الحقل (ولكن هناك دائماً المتطرفون من السلوكيين وغيرهم ممن سقطوا تماماً في حمأة المادة وقوانين الحركة). ولكننا نرى أن هذه الحقيقة تسري أيضًا على العلوم الطبيعية، فثمة صياغات فلسفية (عقائدية) كامنة وراء التجارب الطبيعية، ووراء طريقة تصنيف وتفسير نتائجها. هذه العقائد ترتبط تمامًا بالقوانين العلمية رغم عدم وجود رابطة مادية ضرورية بين الواحد والآخر، فإن نظر عالم في حركة النواة ووجد أنها تتحرك خارج أي نمط معروف لديه، فبوسعه أن يقول: «العالم فوضى إذن وخاضع للصدفة». ولكن بوسعه أيضًا أن يقول: «العقل الإنساني محدود رغم فعاليته، فهو غير قادر على الإحاطة بكل شيء في الكون». وقد شاعت المقولة الأولى، بسبب النموذج المادي الإلحادي الكامن وراء العلم الغربي، مع أن المقولة الثانية ذات مقدرة تفسيرية عالية. بل إنها أكثر علمية لأنها تترك باب الاجتهاد مفتوحًا، كما أنها لا تدعي أن الإنسان قد أجرى كل التجارب المطلوبة لرصد حركة النواة في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن أدوات القياس الموجودة الآن لدى الإنسان هي أحسن الأدوات الممكنة، وهذا ما تدعيه المقولة العلمية الغيبية الأولى.

ب- إن إدراك حتمية التحيز يعني أن كل سلوك إنساني (أو مصطلح) يعبر عن نموذج معرفي كامن، وأنه لا يمكن للإنسان فهم تضمينات ما يرى إلا بعد اكتشاف النموذج الكامن، والذي يحوي الأسس الفلسفية والمعرفية التي يستند إليها هذا السلوك (أو المصطلح).

ومن السمات الواضحة للمقولات التحليلية الغربية أنها تظل على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا تصل أبدًا إلى المستوى المعرفي الذي يتعامل مع المسلمات الكامنة في الفكر، والتي تشكل إجابة على الأسئلة النهائية التي تواجه الإنسان في الكون.

وقد تجاهل الخطاب التحليلي الغربي هذا البعد تمامًا، وأصبحت تطرح القضية على شكل: كيف نحقق التنمية؟ كيف نحقق التقدم؟ كيف يمكن تحقيق التوازن في البناء السياسي؟ وهي كلها أسئلة تتضمن نماذج معرفية (عادية مادية) لا تفصح عن وجهها. بينما لو تعمق الخطاب التحليلي ووصل إلى المستوى المعرفي، وبدأنا نسأل عن الهدف، لاتضح النموذج، ولأصبح السؤال: ما هو الهدف من التنمية؟ ما هي صورة الإنسان المثلى التي يحاول أن يصل إليها المجتمع؟ وما هي الغاية من التقدم؟ هل التقدم له فعالية على كلٍ من المستوى المادي ومستوى الطبيعة البشرية أم أن فعاليته تنحصر في المستوى المادي وحسب؟ وسنكتشف أن معظم مشاريع التنمية تنبع من نموذج اقتصادي مادي ساذج يتجاهل تركيبية الإنسان.

واكتشاف النموذج الكامن لا يمكن أن تكون عملية فردية، فهي عملية جماعية متكاملة تتم على عدة مستويات من خلال الرصد والتصنيف والنقد التراكمي، حتى تتحدد الأنماط العامة الجديدة التي يتم مراكمة المعلومات في إطارها والتي تكشف تحيزات النموذج الآخر.

ويرتبط البُعد المعرفي بالبُعد الديني، فالبُعد الديني هو شكل من أشكال البُعد المعرفي، إذ إنه ينصرف إلى بعض الأسئلة النهائية مثل رؤية الإنسان للكون ولنفسه والهدف من وجوده. ولذا لا بد من فحص العلاقات الضمنية والصريحة بين المفاهيم العلمية والعقائد السائدة والمسلمات الكامنة فيها.[1]

  1. النقد الكلي

يجب ألا يقف جهدنا النظري لاكتشاف التحيز عند المستوى الجزئي أو التطبيقي، بل يجب أن ينصرف إلى مجمل البناء النظري الغربي. فالتوقف عند المستوى الجزئي أو التطبيقي، مع بقاء البناء على حاله، قد يؤدي إلى عملية ترقيع وتلفيق تفقدنا هويتنا دون أن نكتسب هوية جديدة. والترقيع هو استعارة لمفهوم من هنا ومفهوم من هناك بحيث تطبق الرؤية الغربية في مجال ولا تطبق في مجال آخر. وتأخذ عملية الترقيع أحيانًا شكل استخدام المفاهيم والمنطلقات الغربية مع تغيير مدلولاتها، ويصاحب هذا أحيانًا محاولة إثبات أن كل مفهوم من هذه المفاهيم له أصل في تراثنا يبرر الأخذ به، وهي عملية تغريب بأثر رجعي، فهذا الأمر يؤدي إلى العودة إلى استخدام النماذج الغربية الكلية وإن تغيرت الأسماء والمصطلحات وحيثيات القبول.

وعمليات الترقيع تصدر في واقع الأمر عن الإيمان بأن الرؤية الغربية هي رؤية طبيعية وعالمية ونهائية، وكل ما هو مطلوب هو زخرفتها وربما إعادة ترتيبها. أما النظرة الشاملة والأعمق، فهي تصدر عن الإيمان بأنه لا يوجد مسار طبيعي وعالمي وحتمي واحد، وأن هناك إمكانية لمسار آخر وتوصل إلى نموذج آخر يستند إلى منطلقات أخرى ويدور في أطر مختلفة.

ثانياً: توضيح نقائص النموذج المعرفي الغربي

 لا يمكن أن نتحرر من قبضة النموذج المهيمن (النموذج الحضاري والمعرفي الغربي) إلا بعد توضيح نقاط ضعفه ومواطن قصوره:

1. نموذج معاد للإنسان:

يجب أن ندرك أن المشروع المعرفي الغربي يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون، وهو ينكر على الإنسان أي خصوصية وينكر أن عقله مبدع وفعال، ومن ثم ينفي مركزيته في الكون («استخلافه في الأرض» إن أردنا استخدام المصطلح الإسلامي). وهو افتراض لا يتناقض فقط مع احترامنا لأنفسنا ككائنات حرة مسؤولة، وإنما يتنافى مع تجربتنا المتعينة، إذ يصعب علينا أن نصدق أنه لا توجد أي فروق جوهرية بين الإنسان واليرقة، وأنهما في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر (كما يقول دعاة الفلسفة المادية) شيء واحد، أو يُردان إلى قانون واحد يُفترض فيه أنه يسري على الكون بأسره، فتسود وحدة العلوم ويسود العام بدلاً من الخاص، والطبيعي بدلاً من الإنساني. وحينما نصل إلى رقعة العام والطبيعي، تسقط كل الحدود الإنسانية المتعينة وتسقط معها كل الهويات. ومع الهوية، يسقط العالم المركب حيث توجد الأنا والآخر، وحيث يوجد الإنسان ككائن أخلاقي مسؤول عن أفعاله، يختار بين الخير والشر. بدلاً من ذلك، يظهر عالم مستوٍ أملس لا حدود له، يُدخل السعادة على العقول المادية الطفولية التي تضيق بالتركيب والحدود وتَعدُد المستويات والهويات، أي تضيق بما يميز الإنسان كإنسان. إن المشروع المعرفي الغربي كافر بالمعنى العميق للكلمة، فهو ليس كافرًا بالإله وحسْب، وإنما هو كافر بالإنسان أيضًا إذ يعلن موت الإله ثم موت الإنسان ككائن متميز عن الطبيعة وينزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى.

2. استحالة المشروع المعرفي والحضاري الغربي:

أ-يجب أن نعرف أن المشروع الغربي لسد كل الثغرات وللتوصل للقانون العام مشروع مستحيل من الناحيتين المعرفية والعلمية. فمن الناحية المعرفية يفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان (الطبيعي والاجتماعي) وبساطة الدال اللغوي وبساطة المدلول الإنساني وبساطة العلاقة بينهما. وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملاً، وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي وسخيف.

ب-يحاول النموذج المعرفي الغربي أن يصل إلى مستويات من التعميم لا تبررها درجة المعرفة عند من قاموا بالتعميم. أما من الناحية العملية، فالمشروع الحضاري الغربي المبني على التنمية والتحكم في المصادر وتعظيم الإنتاج والاستهلاك والتقدم المستمر اللانهائي قد ارتطم بحائط كوني صلب، فإذا كان الإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية يستهلك ما يزيد على ٨٠٪ من مواردها الطبيعية (يبلغ حجم ما استهلكه الأمريكيون في المائة سنة الماضية ما يساوي كل ما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه) فإن هذا يعني أن النمط الغربي في التنمية وتحقيق السعادة (أو اللذة) للأفراد لا يمكن محاكاته. ولنتخيل لو تبنت الصين والهند هذا النمط وبدأت سيارات ثلث الجنس البشري في حرق الوقود وتبديد الأكسجين بالمعدلات الغربية «المتقدمة» «الراقية»، وصاحب هذا التحاق البرازيل بركب التقدم، وتسارعت عملية قطع غابات المطر الاستوائية (التي تشكل مصدر ثلث أكسجين الكرة الأرضية)، فمما لا شك فيه أن هذا النموذج سيؤدي بنا جميعًا إلى الاختناق.

ولعل استحالة هذا المشروع المعرفي تظهر في تكاثر المدارس الفلسفية وطوفان المصطلحات الذي أصيبت به هذه الحضارة، حتى إنها تطالعنا يوميًا بمصطلحات جديدة يقدمها أصحابها على أنها أكثر دقة وعمومية واقترابًا من الحقيقة، ثم تسقط وتموت لتحل محلها مصطلحات جديدة يلهث وراءها مفكرونا متصورين أنها ستقدم لهم إجابة على أسئلتهم وحلاً لمشاكلهم، مع أن هذه المصطلحات ليست في واقع الأمر سوى تعبير عن الداء والمرض الغربي، مرض البحث عن المستحيل.

3. دراسة أزمة الحضارة الغربية

لا بد من دراسة أزمة الحضارة الغربية في جميع أوجهها: فإذا كان الغرب قد حقق مطلقيته ومركزيته من خلال الانتصارات المعرفية والمادية في المراحل الأولى من ظهور النموذج العقلاني والمادي، فقد حان الوقت أن نعيد النظر في هذه الانتصارات والنجاحات ونبين نقط القصور التي ظهرت من خلال التطبيقات المختلفة لنموذجه المعرفي، خصوصًا ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، وأن ندرس أزمات التطبيق (خصوصًا بعد الستينيات، وهي النقطة التي اكتملت فيها معظم ملامح النموذج الحضاري المعرفي الغربي إذ تحققت معظم حلقات المتتالية الغربية الحديثة، ولم تعد مجرد أيديولوجية يتم التبشير بها أو مجموعة من الأفكار يتم الدعوة إليها وإنما أصبحت بناءً حضاريًا ماديًا ظهرت نتائجه الإيجابية المباشرة العاجلة المقصودة، كما تبدت نتائجه السلبية غير المباشرة الآجلة وغير المقصودة). ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أن دعاة التغريب واللحاق بالغرب في عالمنا العربي لا يزالون يدورون في إطار عقلانية القرن الثامن عشر وعلوم القرن التاسع عشر، ويكررون تفاؤل الغرب بخصوص مستقبله في الوقت الذي سقطت فيه عقلانية القرن الثامن عشر وظهر مدى قصورها وتآكلت السببية البسيطة التي تستند إليها علوم القرن التاسع عشر، وتخلى كثير من المفكرين الغربيين عن تفاؤلهم بخصوص حضارتهم التي لم تعد تشعر بالثقة الكاملة بنفسها كما كانت تفعل حتى نهاية القرن التاسع عشر. وهذا أمر طبيعي ومتوقع مع تصاعد أزمات هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين (أي الغربيتين)، وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته، وهي كلها أمور كان لا يتحدث عنها إلا الشعراء في شعرهم والروائيون في رواياتهم والعلماء في دراساتهم العلمية الرصينة التي لا يقرؤها سوى غيرهم من العلماء، ولكنها مع نهاية الستينيات أصبحت أخبارًا يومية تتناقلها الصحف والإذاعات والمجلات.

إن قضية أزمة الحضارة الغربية الحديثة ليست من اختراعنا، فقد تناولها كثير من المفكرين الغربيين مثل شبنجلر وتوينبي وكولن ويلسون. وموضوع الأزمة له أصداء في كل فروع المعرفة ولا بد من دراسة هذا الموضوع في جميع أوجهه. ويتم هذا عن طريق رصد الموضوعات والقضايا والأشكال الأساسية لهذه الأزمة كما عالجتها كافة التخصصات ثم ربطها الواحدة بالأخرى حتى نصل إلى نموذج تحليلي تفسيري للأزمة له مقدرة تحليلية وتفسيرية عالية. إن المطلوب هو الوصول إلى نظرية عامة لأزمة الحضارة الغربية الحديثة وأزمة النمط التحديثي الغربي.

4. نماذجية الانحراف

بعد دراسة النموذج المعرفي الغربي وأزمته، لا بد وأن ندرس تجلياته المختلفة، وسنثير قضية هامة وهي ما يسمى «انحرافات الحضارة الغربية»، أو بعض الظواهر السلبية التي صاحبتها والتي تصنف على أنها مجرد انحراف عن نموذج إنساني تقدمي يعلي من شأن الإنسان. ومن هذه الظواهر التشكيل الامبريالي الغربي والنازية والصهيونية. ولعل من أهم آليات تجاوز التحيز اكتشاف نماذجية هذه الظواهر بمعنى أنها تعبر عن شيء أساسي في الحضارة الغربية (عن نموذجها الكامن) لا مجرد استثناء أو انحراف.

ولعل دراسة نماذجية الامبريالية الغربية من أهم المداخل لاكتشاف حقيقة الحضارة الغربية الحديثة ونموذجها الحضاري المعرفي. ويمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن فصل الرخاء الغربي والرفاهية والتنمية المتصاعدة عن عملية النهب الكبرى واقتسام العالم التي قامت بها الامبريالية الغربية، والتي ليس لها نظير في التاريخ من ناحية اتساع المجال والمنهجية؟ إن مجمل ما حصلت عليه انجلترا من الهند وحدها يفوق بمراحل ما قامت هي بإنتاجه إبان الثورة الصناعية. ولم تستفد انجلترا اقتصاديًا وحسْب من مستعمراتها، بل إنها قامت بتصدير كل مشاكلها الاجتماعية إلى الشرق – من فائض بشري (عمال متعطلون) إلى أعضاء أقليات غير مرغوب فيهم (اليهود إلى فلسطين)، إلى مجرمين يهددون نسيج المجتمع، إلى فاشلين ومغامرين أخفقوا في تحقيق الحراك الاجتماعي. كل هؤلاء تم تصديرهم إلى الشرق مع كم هائل من السلع الكاسدة. إذا أضفنا إلى هذا ما نُهب من عمالة وخبرات وآثار، بل وما أحرق من اكسجين وما تراكم من ثاني اكسيد الكربون في الفضاء، وهو ما أدى إلى تضييق الحدود على التنمية في الوقت الحاضر، إذا فعلنا هذا، هل يمكن عزل التراكم الرأسمالي عن التراكم الامبريالي؟ إن الحديث عن النموذج الحضاري والنموذج المعرفي الغربي بمعزل عن ظاهرة الامبريالية هو تحيز أكبر وخلل تحليلي جوهري لا بد من تجاوزه. ولذا لا بد من استعادة الامبريالية كمقولة تحليلية أساسية في دراسة المجتمع الغربي (هل يمكن مثلاً دراسة الاقتصاد الاسرائيلي و«نجاح» المجتمع الإسرائيلي بمعزل عن عشرات البلايين من الدولارات التي تصب في مجتمع لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين، وهي تصب فيه بسبب صهيونيته، أي قيامه بوظيفة امبريالية عسكرية محددة؟).

أما بخصوص النازية، فهي ولا شك لحظة نادرة في تاريخ الحضارة الغربية (والبشرية)، فلم يحدث قط أن تم إبادة الملايين بهذه المنهجية وهذا الرشد والحياد من قَبل أو من بعد. ومع هذا، يمكن أن تكون اللحظة النادرة هي أيضًا اللحظة النماذجية التي يكشف فيها النموذج الحضاري والمعرفي عن وجهه القبيح، ويمكن فهم النازية إن وضعت في إطار نظريات التفاوت العرقي التي سادت في أوروبا في القرن التاسع عشر والتي شكلت الإطار العقائدي للتشكيل الاستعماري الغربي، وإن وضعت في إطار عمليات الإبادة المنهجية التي قام بها الإنسان الأبيض في الأمريكيتين، وعمليات الاسترقاق في افريقيا. إن فعلنا ذلك، فإن اللحظة النازية في الحضارة الغربية ستفصح عن هويتها الحقيقية وستظهر على أنها ظاهرة متواترة وأن فرادتها تنبع من درجة تبلورها وحسب، فهي لحظة عبر فيها النموذج المعرفي الغربي المادي عن نفسه بدرجة حادة. ونفس الشيء ينطبق على الصهيونية، فهي تعبير عن نفس الرؤية العلمانية الامبريالية التي تحول العالم والبشر إلى مادة استعمالية.

5. الفكر الغربي الاحتجاجي أو المضاد

كما أسلفنا، دخلت الحضارة الغربية مرحلة الأزمة منذ منتصف القرن التاسع عشر وفقدت كثيرًا من ثقتها بنفسها. وقد ظهرت أدبيات تعبر عن هذه الأزمة يمكن أن نسميها الفكر الاحتجاجي أو المضاد. ويعود تاريخ الفكر الاحتجاجي إلى عصر النهضة في الغرب ذاته، أي مع ظهور النموذج النفعي المادي. ولكنه ظل متواريًا بسبب انتصارات الحضارة الغربية المادية والمعنوية المذهلة. ومع دخول هذه الحضارة مرحلة الأزمة، ومع تزايد فقدانها لثقتها بنفسها، بدا هذا الفكر الاحتجاجي يكتسب مزيدًا من المركزية والمصداقية. وقد حاول هذا الفكر وصف الأزمة والتعبير عنها بل وتجاوزها. ولا بد من الاستفادة من هذا الفكر وأدبياته في محاولة استرداد المنظور النقدي تجاه الحضارة الغربية في كل فروع المعرفة: النقد الأدبي واللغة والفلسفة وعلم البيئة والعلوم الطبيعية والتاريخ… الخ، وسنجد أن النموذج الكامن وراء هذا الفكر ينطوي على قدر من الرفض للنماذج العلمية المادية العامة التي تهمل الكيف وما لا يقاس والمطلقات والخصوصية.

ثالثاً: نسبية الغرب

وعملية النقد ليست عملية سلبية الهدف منها هو الفضح والتفكيك (فهذا أمر جدير بالعدميين من دعاة ما بعد الحداثة)، وإنما هي اساساً عملية تهدف إلى الفهم المتعمق الذي يجعل من الممكن فرز محتويات الترسانة المعرفية الغربية وعزل ما هو خاص (غربي) عما يصلح لان يكون عامًا (عالميًا). فما هو عالمي يعبر عن إنسانية مشتركة، وبالتالي لن يكون من الصعب تبنيه وفق شروط نسقنا النظري المستقل النابع من أسئلة واقعنا وقضاياه.

ولكن لا بد وأن يواكب هذا التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن الحضارة الغربية وتوضيح أن كثيرًا من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة.

فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصرًا واحدًا ضمن عناصر أخرى تكوِن عالم الإنسان، وإن كان يعتبر نفسه عالميًا. وهذا لا يمكن أن يتم إلا باستعادة تبيان خصوصيته ومحليته، أي أن الغرب يجب أن يصبح غربيًا مرة أخرى لا عالميًا. وهذا لا يمكن أن يتم إلا باستعادة المنظور العالمي والتاريخي المقارن بحيث يصبح التشكيل الحضاري الغربي تشكيلاً حضاريًا واحدًا له خصوصيته وسماته وتاريخه، تمامًا كما أن لكل التشكيلات الأخرى خصوصياتها وسماتها وتاريخها. والمنظور المقارن لا يعني علاقة التأثير والتأثر الشائعة في الدراسات الجامعية، وإنما يعني محاولة الوصول إلى رؤية عالمية حقة من خلال مقارنة البني الحضارية والتجارب التاريخية المختلفة والنماذج المتعددة التي تعامل الإنسان من خلالها مع العالم، فأبدع أشكالاً حضارية خاصة متنوعة لها قوانينها الداخلية وتنبع إنسانيتها من خصوصيتها لا من خلال اتساقها مع قانون عالمي عام وهمي هو في نهاية الأمر قانون غربي.

ومما سيساعد على هذا الأمر أن الحضارة الغربية قد فقدت مركزيتها المزعومة على المستوى المادي إذ ظهرت مراكز حضارية أخرى ناجحة حتى بالمعايير المقبولة لدى الحضارة الغربية ودعاتها، ويمكن إنجاز هذا الهدف من خلال عدة محاور:

أ. إبراز خصوصية الحضارة الغربية

تدور كتابات ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني حول موضوع أساسي كامن وهو خصوصية الحضارة الغربية، وهو يرى أن الخاصية الأساسية لهذه الحضارة هي اتجاهها نحو الترشيد ومزيد من الترشيد إلى أن يتم ترشيد كل جوانب الحياة. وعملية الترشيد هذه في تصوره هي التي أدت إلى ظهور ما يسميه بالرأسمالية الرشيدة (في مقابل رأسماليات المجتمعات التقليدية) التي طورت نظم الإدارة البيروقراطية الدقيقة الموضوعية. وهو يرى أن عملية الترشيد هذه لن تؤدي إلى إسعاد الإنسان وإنما إلى ظهور ما يسميه بالقفص الحديدي، أي أن يخضع البشر لقواعد عامة رشيدة صماء، إذ أن الترشيد الغربي هو في جوهره عملية فرض للقانون المادي الواحدي على الإنسان والمجتمع وذلك حتى يتم تنميطه والتحكم فيه.

مهما كان الأمر، فإن تركيز فيبر على خصوصية الحضارة الغربية (في مقابل تركيز ماركس أو دوركايم على فكرة القانون العام) أمر في غاية الأهمية ويخدم قضية المشروع المعرفي المستقل.

ب. دراسة الظروف التاريخية والثقافية للظاهرة

حينما تواجهنا ظاهرة غربية (أو أي ظاهرة)، سنحاول معرفة ظروفها التاريخية والاجتماعية، فنحن نعرف أن أي ظاهرة (فكرية أو علمية) لا توجد فجأة وبدون مقدمات، بل إن ثمة مركبًا من الأسباب أدى إليها، وهي جزء من نسيج مجتمعي حضاري ترك فيها تحيزاته وتوجهاته وآلامه وأحزانه ورؤاه وعنصريته. ومن شأن هذه الدراسة تقويم أسس المعرفة الغربية والتأكيد على خصوصيتها ومحدوديتها ونسبيتها.

ولنأخذ عبارة «النمط الآسيوي للإنتاج». لن نفهم هذه العبارة إلا في إطار تزايد إحساس الغربي بمركزيته وعالميته، والذي بدأ منذ عصر النهضة ثم تزايدت حدته إلى أن أصبح عنصريًا صريحًا يقسم العالم إلى الغرب المتحضر ثم بقية العالم البدائي. وقد تواكب هذا مع رغبة العالم الغربي في تقديم تفسيرات علمية شاملة للعالم بأسره لا ثغرات فيها، وهو ما ترجم نفسه إلى محاولة السيطرة على كل المقولات التفسيرية (فيما سمى امبريالية المقولات). ولذا كان لا بد وأن تغطي نظريات الإنسان الغربي كل التاريخ البشري (وإلا لما كانت علمية)، وكان لا بد وأن يصنف آسيا وأفريقيا ويدخلهما في منظومته المعرفية حتى لو لم يعرف شيئًا عنهما.

ج. بعض المصادر اليهودية للفكر الغربي الحديث

تناولنا الأبعاد المعرفية للظواهر الغربية في كثير من الأمثلة التي ضربناها، ويمكن أن نضرب هنا بعض الأمثلة عن الأبعاد الدينية لبعض الأفكار التي قد نظن لأول وهلة أنها بعيدة كل البعد عن أي منظومة دينية، وسنكتفي بالإشارة إلى بعض المصادر اليهودية للفكر الغربي الحديث. ويطرح هذا الفكر نفسه على أنه فكر عالمي، أو على الأقل هكذا يروج له دعاة الحداثة. ولكن من المتفق عليه بين دارسي هذا الفكر أن اليهود الغربيين قد حققوا بروزًا غير عادي داخل الحضارة الغربية الحديثة، ولكن لم تؤكد الدراسات المنشورة ما يمكن أن نسميه المكون اليهودي في الفكر الغربي الحديث. وكلمة «يهودي» هنا لا تعني يهودية التوراة أو حتى التلمود وإنما هي يهودية القبالاه، التي سيطرت تمامًا على اليهود وعلى المؤسسات الدينية اليهودية ابتداءً من القرن السادس عشر. والقبالاه باختصار شديد هي فلسفة حلولية واحدية متطرفة توحد تمامًا بين الخالق والمخلوق حتى تتلاشى الثغرات بينهما، أي أنها نظام حلولي متطرف تؤدي حلوليته المتطرفة إلى وحدة وجود كاملة هي في جوهرها واحدية مادية. ولذا تعد القبالاه تمهيدًا للفكر العلماني الذي يقدس المادة والطبيعة ويؤله الإنسان لا كمخلوق فريد وإنما كجزء من الطبيعة.

ولم تظهر دراسة واحدة باللغة العربية عن القبالاه، ومؤرخو الفكر الغربي الحديث لا يعرفون الكثير عن القبالاه أو لعلهم يجهلونها تمامًا. ومن ثم، ظل المكون اليهودي (القبالي) للفكر الغربي الحديث خفيًا، ولم يتوفر أحد على دراسته بشكل منهجي مستفيض، وهذا ما قد يمكننا إنجازه أو على الأقل وضع الخطوط الأساسية لإنجازه حتى نتعرف على هذا التحيز العميق الكامن. ويمكن أن يتم هذا على عدة محاور:

1. باروخ سبينوزا: يعد سبينوزا في تصور الكثير من مؤرخي الفكر الغربي الحديث فيلسوف العلمانية الأول، ويمكن رؤيته على أنه أول إنسان علماني، فقد ترك اليهودية ولم يعتنق دينًا آخر، وقد دعا إلى طبيعية مادية آلية متطرفة تؤدي إلى تأليه الطبيعة وتطبيع الإله. ومن المهم للغاية توضيح علاقة فكره بالفكر القبالي (والغنوصي)، وتوجد دراسات تشير إلى هذا الموضوع دون التعمق فيه.

2. سيغموند فروید: لا يمكن فهم مدرسة التحليل النفسي برموزها الجنسية الكثيرة إلا بالعودة للقبالاه التي وصفت بأنها «جنست الإله وألهت الجنس»، وهذا وصف لا بأس به لمنظومة فرويد التي حولت الجنس إلى المطلق العلماني الكامن.

وقد ظهرت العديد من الدراسات في هذا الموضوع، بل وتوجد دورية متخصصة Judaism and Psycho-analysis عن علاقة اليهودية بالتحليل النفسي. ومما له دلالته أنه توجد دراسة رائدة باللغة العربية كتبها عالم مصري جليل هو الدكتور صبري جرجس بعنوان «التراث اليهودي والصهيوني في الفكر الفرويدي» (القاهرة، عالم الكتب، ۱۹۷۰).

3. فرانز كافكا: يعد كافكا من أهم الروائيين الغربيين، ويُعد موقفه العبثي العدمي تعبيرًا عن أزمة الإنسان في العصر الحديث (أي أزمة الإنسان الغربي في العصر الحديث). والمكون اليهودي القبالي في فن كافكا وفكره أمر واضح للغاية.

4. المدرسة التفكيكية: تعد المدرسة التفكيكية أهم المدارس الفكرية الغربية في الوقت الحاضر. وقد ارتبطت هذه المدرسة باسم جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي، وهو يهودي من أصل جزائري، ومن أقطاب المدرسة إدمون جابس وهو يهودي من أصل مصري. وفي الولايات المتحدة، نجد أن هارولد بلوم، أحد أهم النقاد التفكيكيين، يهودي أيضًا. وقد تلقى دريدا تعليمًا تلموديًا (والتعليم التلمودي في الوقت الحاضر ينحو منحى قباليا). أما هارولد بلوم، فله كتاب يسمى «القبالاه والنقد». وقد كتب رواية يسميها هو نفسه رواية غنوصية. وقد تعرضت بعض الدراسات النقدية لهذا الجانب من الفكر التفكيكي دون التعمق فيه. ومن المضحك أن كل العرب الذين نقلوا الفكر التفكيكي أو ما بعد الحداثة بأمانة شديدة لم يتعرض أحد منهم لهذا الجانب.

رابعاً: الانفتاح على العالم

لا بد من الانفتاح على ثقافات العالم والاستفادة من التراث الحضاري والثقافي والفكري للحضارة العريقة المختلفة التي تملك زادًا معرفيًا غزيرًا في فهم الإنسان والمجتمع والطبيعة. فما حدث فيما يسمى «النهضة العربية» أن تم الانفتاح على الغرب وحسب، وبالذات على انجلترا وفرنسا (ثم أمريكا) وأحيانًا على ألمانيا، مع جهل شبه عام بتاريخ شرق أوروبا. وقد صاحب هذا تجاهل كامل لما يسمى «الحضارات غير الغربية»، أي معظم حضارات العالم. فنحن لا نعرف إلا أقل القليل عن تطور الاقتصاد الياباني حتى القرن التاسع عشر وعن نماذجه التنموية بعد ذلك. ونفس الشيء ينطبق على العالم الإسلامي، فمعرفتنا بلغات البلاد الإسلامية مثل السواحيلية والإيرانية والتركية، ومعرفتنا بتواريخنا مسألة مقصورة على بضعة أفراد، ومعرفتنا بمشاكلهم وإسهاماتهم نحصل عليها من مصادر غربية، وذلك مع أن تواريخ الشعوب الإسلامية غير العربية بكل ما تحوي من ثراء وتنوع، والتي ينتظمها مع هذا إطار إسلامي واحد، لتنهض دليلاً على إمكانية إنشاء حضارة تعددية حقيقية لا تسقط بالضرورة في العدمية النسبية التي تؤدي لها التعددية الغربية.

والانفتاح على العالم سيؤدي إلى إصلاح التشوه المعرفي الذي لحق بنا بعد سنوات طويلة من الاستعمار الغربي تم فيها ترسيخ فكرة مركزية الغرب، وتمت إعادة صياغة المقررات المدرسية بحيث أصبح تاريخ الثورة الفرنسية هو ما يتعلمه طلابنا، ولا يعرفون شيئًا عن الدولة العثمانية سوى أنها أصابت مصر بالتخلف، وتمت دراسة الفنون الغربية دون الفنون الشرقية أو الإسلامية. ولذا أصبح المثقف العربي المسلم يعرف الكثير عن جان بول سارتر وعن المدارس النقدية المختلفة للغرب، ولا يعرف إلا أقل القليل عن تراثه. وحتى بعد رحيل القوات الأجنبية ظهرت نخب ثقافية محلية تؤمن تمامًا بضرورة اللحاق بالغرب، واستمرت في ترسيخ القيم والمعارف الغربية وتهميش ما خلاف ذلك.

إن إدراكنا للتحيز سيجعلنا نأخذ حذرنا حينما تصلنا معارف من الغرب أو الشرق فلا نستنيم لها ولا نتلقاها بسلبية على أنها معرفة عالمية عامة، بديهية طبيعية مطلقة تعبر عن القانون العام، لا يمكن أن تقوم للعلم قائمة بدونها، وإنما سنخضعها للتقييم النقدي، وسنُعمل فيها العقل لنكشف النماذج المعرفية والرؤى الفلسفية الكامنة فيها، ولنميز بين الغث والسمين، وبين الحق والباطل، وبين ما ينفع الناس وما يبدد البشر، وسنُعمل العقل لأننا نعرف أنه لا يوجد قانون واحد عام جاهز، ولا توجد إجابات نهائية، وأن المعرفة، من ثم، هي ثمرة محاولة إنسانية دائبة للتعرف على بعض جوانب الكون. وهي محاولة ستستمر إلى أن يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات، إذ أنه لن يُقدّر لعقل الإنسان القاصر المحدود أن يعرف كل جوانب الكون.

بل إننا ستحرر من الحقائق التي تدعي أنها صلبة ومطلقة، فمقولة التحيز ستجعلنا ندرك أنه يمكن أن يقوم البعض بِلَيِ عنق الحقائق بوسائل مختلفة لتوظيفها في خدمة وجهة نظر معينة، وأن تراكم المعلومات لا يتم بطريقة محايدة، وإنما من خلال نموذج معلوماتي متحيز، نموذج يقرر ماذا يستحق الرصد والتسجيل، وماذا يجب أن يهمل، وما هو المركز وما هو الهامش.

ولكن إدراكنا للتحيز لن يجعلنا نسقط في العدمية الفلسفية ونعلن انتهاء العلم (والتاريخ)، إذ أننا نؤمن أنه لا بد وأن يواكب كل آليات تجاوز التحيز صياغة نموذج معرفي بديل يستفيد من العلم الغربي وكل العلوم والتجارب التاريخية، وينطلق من تراثنا حتى يمكن توليد معارف وعلوم جديدة نحقق بها إمكانياتنا الإبداعية التي حبانا الله إياها وكرمنا بها كبشر.

النموذج البديل

أولاً: سمات النموذج البديل

1. نابع من التراث

لا بد وأن يكون النموذج البديل نابعًا من تراثنا الذاتي. ويُقصد بالتراث، في هذا السياق، مجمل التاريخ الحضاري الذي يتسع للإنجازات المادية والمعنوية للإنسان في هذه المنطقة، ويشمل ما هو مكتوب وصريح وما هو شفوي وكامن. والنموذج الحضاري الإسلامي نواته الأساسية هي النموذج المعرفي الإسلامي، وأساسه هو القرآن والسنة اللذان يحويان القيم الإسلامية المطلقة والإجابة الإسلامية على الأسئلة النهائية. وقد نبعت حضارتنا من هذه القيم ويمكن محاكمتها من منظورها، والفقه الإسلامي يشكل محاولة الإسلاف لفهم قواعد هذا النموذج المعرفي، تمامًا كما أن كتابات المفكرين هي محاولة لفهم قواعد النموذج الحضاري. والانطلاق من التراث لا يعني النسخ الحرفي لاجتهادات المجتهدين، وإنما يعني استخلاص القواعد الكامنة في إبداعاتهم، سواء أكانت هذه القواعد واعية وصريحة أم كانت غير واعية وكامنة، ثم استخدام هذه القواعد لإعادة قراءة القرآن والسنة ولقراءة التراث الحضاري.

2. محاولة الوصول إلى نظرية شاملة

لا بد وأن نطمح للوصول إلى نظرية شاملة وكبرى (grand theory). والنظرية الكبرى في السياق الغربي (وفي داخل الإطار المادي) هي نظرية تحاول الوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي والحلول الشاملة، وتهدف إلى تمكين الإنسان من التحكم الامبريالي الكامل في الطبيعة من خلال معرفة قوانينها. وقد اكتشف الإنسان الغربي استحالة مشروعه المعرفي فانتقل من الاستنارة والتحديث إلى مرارة الحداثة ومنها إلى عبثية ما بعد الحداثة (الاستنارة المظلمة، على حد قول أحد مؤرخي الفلسفة)، أي أن تطور الفكر الفلسفي الغربي هو تعبير عن تزايد الإحساس بفشل المشروع الحداثي وعن نهاية وهم التحكم الكامل والسقوط في إعلان عبثية الكون ونهاية الإنسان، وهو تعبير عن نمط أساسي كامن، أي التأرجح بين قطبين: من محاولة للحلول النهائية والتفسيرات الشاملة إلى إعلان استحالة أي تعميم نظري وأي يقين معرفي.

ولا يوجد أي سبب لأن نتأرجح بنفس الطريقة: بين النظرية والحلول النهائية من جهة والعبثية والعدمية الكاملة من جهة أخرى، وإنما سنحاول الوصول إلى نظرية شاملة كاملة نعرف مسبقًا أنها لن تصل إلى التفسير النهائي ولا اليقين المطلق، فهي ليست  grand theory، أي نظرية كبرى شاملة نهائية، وإنما (relatively grand theory) أي نظرية كبرى وشاملة نسبيًا أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانيًا. ومثل هذه المحاولة لا يمكن أن تتم في إطار مادي واحدي يصفي ثنائية الإنسان والطبيعة، إذ إنه (داخل هذا الإطار) يظل التفسير النهائي الشامل حلماً يداعب خيال الإنسان ويغويه.

3. ملامح النموذج البديل

أولاً- الانطلاق من الإنسان

سنبدأ بالمقولة الإنسانية: إن الإنسان يقف في مركز الكون والطبيعة، كائن فريد ومركب، ومن أهم علامات تميزه وتفرده عقله الذي لا يسجل الطبيعة بشكل سلبي وحسْب وإنما يعيها بشكل فعال. أي أن عملية الإدراك ليست عملية تسجيل بلهاء وإنما عملية اختيار. ولكل هذا، فإن الإنسان يتمتع بقدر من الاستقلال عن القوانين الطبيعية وبقدر من الحرية، إذ يمكنه النظر والتدبر، ثم الاختيار الأخلاقي الحر المستقل عن قوانين الحركة المادية، وهو قادر على الممارسة التي تستند إلى هذا الاختيار.

والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون، وهو الكائن الذي لا يرضى بسطح الأشياء، وإنما يطور المعاني الداخلية والرموز واللغة الحية. فرغم الإنسانية المشتركة التي تجمع بين أفراد الجنس البشري إلا أن الإنسان لا يخضع لبرنامج بيولوجي وراثي واحد عالمي (مثل بقية الكائنات) فثمة هويات ثقافية مختلفة، وإرادات جمعية مستقلة، وهو الكائن القادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب وعيه الأخلاقي الحر، وهو الكائن القادر على ارتكاب الخطيئة والذنوب وقادر على التوبة والعودة. وهو قادر على البهيمية والملائكية، وعلى النبل والخساسة، فممارساته ليست انعكاسًا بسيطًا أو مركبًا لقوانين الطبيعة /المادة، فهو مختلف كيفيًا وجوهريًا عن الظواهر الطبيعية، بل ويشكل ثغرة معرفية كبرى في النسق الطبيعي المادي، فهو ليس جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة وإنما هو جزء يتجزأ منها، يوجد فيها ويعيش عليها ويتصل بها وينفصل عنها، قد يقترب منها ويشاركها بعض السمات، ولكنه لا يُرد في كليته إليها بأية حال، فهو دائمًا قادر على تجاوزها، وهو لهذا مركز الكون وسيد المخلوقات.

ثانياً- مقولة غير مادية

ولكن من منظور مادي، كل هذا أمر حدث بالصدفة من خلال عملية كيميائية، وهو ما يعني أن قانون الصدفة المادي هو القانون النهائي، ومن ثم فإن ثنائية الإنسان والطبيعة واهية، يمكن تصفيتها، بل يجب تصفيتها حتى تسد الثغرات المعرفية وتسود الوحدة والواحدية المادية. ومن هذه الواحدية المادية نبع العلم الغربي الذي يهتم بنقط التشابه بين الإنسان والطبيعة أكثر من اهتمامه بنقط الاختلاف، فما يجمعهما هو النظام الطبيعي المادي الذي ينطلق منه العلم الغربي، وما يفرق بينهما هو هذه الثغرة المعرفية النابعة من إنسانية الإنسان وتفرده داخل النظام الطبيعي. فهو تفسير غير قادر على استيعاب أي ثنائية أو أي تركيب يتحدى النظام الواحدي المادي البسيط، فالتفسيرات المادية تؤثر البساطة والواحدية على التركيب والتعددية.

ولكن ليس هناك أي ضرورة لرفض مقولة الإنسان المركبة، خصوصًا وأنها جزء من تجربتنا الوجودية وإدراكنا لذاتنا. ولذا، بدلاً من تصفية الثنائية (بحثًا عن البساطة والواحدية)، قد يكون من الأمانة أن نستدعي ثنائية أخرى ذات مقدرة تفسيرية عالية لا يمكن تصفيتها. وبدلاً من استخدام مقولات مادية تفسيرية وحسْب تفرض الواحدية على الواقع وتسوي الإنسان بالطبيعة، يمكن استخدام مقولات تفسيرية غير مادية، ويمكن استدعاء مدلول متجاوز للنظام الطبيعي ولقوانين المادة نُصنف تحته كل الظواهر التي لا تخضع للقياس، ونفسر به كل ما لا يدخل شبكة السببية الصلبة، وندرك من خلاله كل التجليات التي تظهر في عالمنا الطبيعي دون أن يمكننا تفسيرها في جميع جوانبها، أي نستدعي مقولة غير مادية تكمل (ولا تجُب) المقولات غير المادية. هذه المقولة هي ما يطلق عليه المسلمون “الله”، فهو مركز الكون الموجود خارج المادة، أقرب إلينا من حبل الوريد، يُعنى بدنيانا وبمسار التاريخ، ولكنه ليس كمثله شيء، ووجوده هو تعبير عن وجود كل من الطبيعة وما وراءها، وتعبير عما يقاس. ووجود الإنسان، كإنسان، يستند إلى وجوده تعالى. فكما أسلفنا أصبح الإنسان مركز الكون بسبب تميزه وتفرده ووجوده کثغرة في النظام الطبيعي، ووجود الله هو ضمان ألا تسد هذه الثغرة وألا تُصفى ثنائية الإنسان والطبيعة: إذ تظل هناك مقولة تفسيرية غير مادية تشكل ثنائية كبرى هي ثنائية الخالق والمخلوقات تتفرع عنها كل الثنائيات الأخرى. وإن صُفيت ثنائية الخالق والمخلوق، عدنا مرة أخرى الى الواحدية المادية وإلى اختفاء المقولات التحليلية غير المادية، وهو ما يعني انتهاء انفصال الإنسان عن عالم الطبيعة وإدخاله مرة أخرى في عالم المادة والحتميات الطبيعية التي تسود عالم الأشياء والخروج من عالم الحرية الرحب والاختيارات الأخلاقية المركبة.

ثالثاً- نموذج توليدي (لا تراكمي)

النموذج البديل نموذج توليدي، فنحن نؤمن (كما أسلفنا) لا بإنسانية واحدة يمكن رصدها كما تُرصد الظواهر الأخرى، وإنما بإنسانية مشتركة تستند إلى طاقة إنسانية كامنة في كل البشر، تتولد منها أشكال حضارية متنوعة تفصل الإنسان عن الطبيعة وتميز أمة عن أخرى وفردًا عن آخر. هذا يعني أنه لا يوجد نقطة تاريخية نهائية واحدة ولا قانون (مادي) واحد يسري على الجميع، فالنهائي هو الإنسانية المشتركة والطاقة الإنسانية الكامنة التي تسبق كل الظواهر، وهذه الطاقة لا يمكن رصدها أو حصرها إلى قوانين المادة. أما الظواهر الإنسانية ذاتها التي تُدرس وتُرصد) بأشكالها اللامتناهية فهي تتولد عن هذه الإنسانية المشتركة. ولذا، فإن مفهوم التراكم المعرفي يصبح مفهومًا ضيقًا عتيقاً قد يصلح للتعامل مع بعض جوانب عالم الأشياء ولكنه لا يصلح للتعامل مع البشر، فهو يفترض أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر وكل البشر وكأنهم أمة واحدة. وكأن هناك معرفة واحدة، وهذا ما يتنافى مع العقل ومع التجربة الإنسانية ومع إحساسنا بتركيبيتنا وتنوعنا الإنساني. وهو مفهوم يحكم على المعرفة من منظار مدى قربها أو بعدها عن النقطة النهائية الواحدية التي يتحقق فيها القانون العام وتتطابق الكليات مع الجزئيات. والمفترض أن التراكم المعرفي عبر الزمان سيؤدي إلى الوصول إلى هذه النقطة أو الاقتراب منها)، وهي نقطة نهاية التاريخ والفردوس الأرضي والنظام العالمي الجديد (واختفاء الإنسان كظاهرة متميزة عن عالم الطبيعة والأشياء).

ثانياً- العلم البديل:

يمكن أن نتصور علمًا يؤسَس من خلال إطار مختلف سواء في منطلقاته أو أهدافه، فكما أن جوهر العلم الغربي هو تصفية ثنائية الإنسان والطبيعة وفرض الواحدية المادية، فإن جوهر العلم المقترح هو استعادة هذه الثنائية باسترجاع الإنسان ككائن مركب لا يمكن أن يرد إلى النظام الطبيعي:

1. يقين ليس بكامل واجتهاد مستمر:

هذا العلم يتسم بأن نماذجه فضفاضة، وهو لا يطمح إلى أن يصل إلى قوانين صارمة ولا إجابات موضوعية نهائية وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شيء وتصل بالإنسان إلى نهاية التاريخ، وهو لن يحاول الوصول إلى الموضوعية والحيادية الكاملة، كما أنه لن يسقط في الذاتية الكاملة، فالموضوعية تُعني موضوعًا مرصودًا دون ذات راصدة، وتفترض عقلاً قادرًا على الإحاطة بكل شيء، وواقع بسيط يمكن الإحاطة به، أما الذاتية فهي تعني ذاتًا توجد خارج أي موضوع، فهي متمحورة حول الذات، وتفترض وجود عقل لا طائل من ورائه وواقع لا يمكن الإحاطة بأي من جوانبه، وهما حالتان مستحيلتان (يتأرجح بينهما النموذج الغربي). بدلاً من هذا، سيحل مفهوم الاجتهاد (وهو نقطة وسط بين نقطتين مستحيلتين متطرفتين) الذي يفترض أن عقل الإنسان لا يمكنه أن يحيط بكل شيء، وأن محاولة المعرفة الكاملة المستحيلة محاولة شيطانية مقضي عليها بالفشل، وأن الموضوعية والحيادية الكاملة مستحيلة، وأنه لا يمكن الوصول إلى القانون العام لأن عقل الإنسان محدود وفعال: محدود فلا يحيط بكل شيء، وفعال فلا ينسخ كل شي.

والواقع الإنساني مركب وثري، ولا نهاية لهذا التركيب وهذا الثراء، فهو يتولد عن إمكانية كامنة لا يمكن أن تُرصد بشكل علمي مادي، بل إن كل مخلوقات الله، مهما كانت بساطتها، لا يمكن فهمها بشكل كامل مطلق، وهذا ما نعبر عنه بقولنا إنها تحوي عنصرًا من الغيب، والغيب هنا هو غير المادي الذي لا يقاس، ولا يمكن إدخاله بقضه وقضيضه في شبكة السببية الصلبة والواحدية المادية، فاللاحدود والمجهول موجودان في صميم الظواهر الإنسانية والطبيعية. ولذا، سيطمح العلم إلى التوصل إلى قدر معقول من المعرفة يسمح بتفسير قدر كبير من الواقع دون تفسيره كله. ولذا، بدلاً من «موضوعي» و«ذاتي» سنستخدم مصطلحات مثل: «أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية»، فهي تنبه الإنسان إلى وجود مكون ذاتي في المعرفة ولكنها تؤكد على جدوى المعرفة أيضًا وإمكانية اختبارها. وهي ستحذر الإنسان من التحيزات الكامنة في المعرفة، وأن ما يقوله المرء ليس عالميًا أو نهائيًا، ولكن سيظل هناك معرفة، فعدم الكمال والمطلقية واستحالة الموضوعية لن يؤدي بنا إلى العدمية الكاملة والنسبية المطلقة، وإنما ستظل النسبية ذاتها نسبية بسبب وجود الإله المطلق، فهو المركز المطلق الواحد المفارق للمادة.

2. لا يوجد مجال للتحكم الكامل في الواقع:

هدف هذا العلم ليس التحكم الكامل ولا تسخير كل الكائنات، فهو يعلم أن كل شيء في الكون من إنسان وحيوان وجماد قد ناله نصيب من التكريم لأنه من خلق الإله ونفحة من روحه وصنعة من بديع صنعه. ولذا فجوهر هذا العلم أن أي شيء في الطبيعة له قيمة في حد ذاته، وأن العالم وكل ما فيه له غرض «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَنَكَ» [سورة آل عمران: ۱۹۱]. والإنسان ليس موجودًا في الكون وحده، فالكائنات الأخرى لها مكانها، فالإنسان لم يُمنح هذه الأرض ليهزمها ويوظفها ويسخرها لنفعه وحده دون حدود، وإنما استخلف فيها ممن هو أعظم منه ليعمرها ويستفيد منها داخل حدود، لا يبددها دون إدراك لمعنى النعمة.

لكل ما تقدم، فإن العلم البديل لن يحاول التحكم الامبريالي في العالم كما فعل الإنسان الغربي، ذلك الذي ظن أن عقله لا محدود، وأنه يمكنه أن يصل إلى المعرفة النهائية الكاملة، وأنه وحده في الكون ليهزمه ويسخره، وإنما سيحاول الاستفادة منه والاتزان معه وإعماره والمحافظة عليه.

3. لا اختزال ولا تصفية للثنائيات:

هذا العلم لن يختزل الواقع إلى عناصره الأولية المادية ولن يصفي الثنائيات الموجودة في الواقع، فهي صدى للثنائية الكبرى (ثنائية الخالق والمخلوق وثنائية الإنسان والطبيعة). وهو لن يركز على الكلي دون الجزئي أو على الجزئي دون الكلي، ولن يركز على الخاص دون العام أو على العام دون الخاص، ولا على الاستمرار دون الانقطاع أو الانقطاع دون الاستمرار، فالعالم ليس ذرات متناثرة لا يربطها رابط، وهو ليس كلًا عضويًا مصمتًا، وإنما هو كل متماسك مكون من كليات متماسكة مكونة بدورها من أجزاء متماسكة، لكل شخصيتها ولكنها لا تفهم إلا بالعودة إلى الكليات. ولكن الكليات ليست صلبة، ومركزها ومصدر تماسكها يوجد خارجها، ولذا فهي تظل كليات فضفاضة تحوي داخلها ثغرات. وهذا يعني أن الأجزاء هامة في أهمية الكل، وأن الانقطاع هام في أهمية الاستمرار، وأن الخاص هام في أهمية العام. ومن ثم فإن هذا العلم سيحاول أن يصل إلى خصوصية الظاهرة وتنوعها ومنحاها الخاص وشخصيتها دون أن يهمل عموميتها، كما سيحاول أن يربط الواحد بالآخر دون أن يرد الجزء إلى الكل أو الخاص إلى العام، ودون أن يحاول فرض الاستمرارية على الانقطاعات، بل سيحاول أن يصل إلى النقط المفصلية التي تصل بين ظاهرة وأخرى وتفصل بينهما، إن ثنائية الكل والجزء والعام والخاص والمستمر والمنقطع هي صدى لثنائية الإنسان والطبيعة التي هي صدى بدورها لثنائية الخالق والمخلوق، ومن ثم فهي ثنائيات غير قابلة للتصفية أو الاختزال. وعلى ذلك فالإنسان ووحداته الاجتماعية لا يمكن تصفيتها لصالح الدولة، والتاريخ لا يمكن إسقاطه أو تجاهله لصالح الحاضر، والإنساني لا يمكن تجاهله لصالح الطبيعي، وكيفية الجمع بين هذه الثنائيات في إدارة الحياة الإنسانية هو جوهر الأطروحة الإيمانية والإسلامية التي تسعى محاور العلوم الاجتماعية والتعليم والاتصال إلى بلورتها.

4. رفض الواحدية السببية:

لن يسقط هذا العلم في الواحدية المادية أو الواحدية السببية أو أي من الواحديات الحتمية:

  • فوحدة العلم مستحيلة، إذ لا بد أن يوجد علم للظواهر الطبيعية، إلا أن الفصل المطلق بينها غير وارد، فالطب الاجتماعي وعمارة الفقراء وإحياء القدرة الذاتية للتنمية، كلها دلائل على أهمية ارتباط المعنوي بالمادي في صياغة الرؤية الحضارية.
  • لا يمكن اختزال الواقع إلى عناصره الأولية المادية، فالواقع – كما أسلفنا – يحوي عناصر من اللامحدود والمحدود.
  • لا يمكن الركون إلى الواحدية السببية، أي محاولة تفسير الظواهر بالعودة إلى عنصر واحد أساسي، وباستخدام المعطيات المادية كمقياس وحيد لفهم كل الظواهر. وبدل الواحدية السببية، يظهر مبدأ التعددية السببية، أي سيحل مبدأ تعددية المؤثرات محل مبدأ أحادية المؤثرات في فهمنا وتفسيرنا وتنظيرنا حول الطبيعة والإنسان. وتعددية المؤثرات تنبع من الإيمان بتعقد الظواهر الطبيعية والإنسانية واستحالة ردها إلى عنصر مادي واحد. ومن ثم، يجب النظر إلى الظاهرة في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بُعد واحد، ثم يتم بعد ذلك تحديد أكثر الأبعاد فعالية وتأثيرًا دون التقيد بأي مسلمات تقول إن أحد الأبعاد أكثر فعالية وتأثيرًا من الأبعاد الأخرى.

5. الهيكل المصطلحي:

  • سينبع من كل هذا هيكل مصطلحي جديد، فثنائية الإنسان والطبيعة تعني ضرورة فصل مصطلحات العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، خصوصًا الاستعارات العضوية التي تفترض أن العالم كل عضوي متماسك، الجزء فيه يذوب في الكل والخاص في العام، ويفترض مركزية الطبيعة / المادة.
  • هدف البناء المصطلحي هو التركيب أساسًا وليس الدقة بالضرورة، والتركيب لا يعني عدم الدقة، وإنما يعني محاولة الإحاطة بأكبر عدد ممكن من مكونات ظاهرة لا يمكن ردها لقوانين المادة.
  • لن يرفض المصطلح الجديد استخدام المجاز كوسيلة تعبيرية تحليلية مشروعة. فالمجاز ليس بمجرد زخرفة وإنما هو لغة مركبة طورها الإنسان ليدرك بها حالات إنسانية لا يمكن للغة النثرية العادية أن توصلها. وهو أمر على كل حال قائم بالفعل، فنحن حين نتحدث عن الإنسان الاقتصادي أو رجل أوروبا المريض فإننا نستخدم استعارات تتسم بقدر من التركيب من وجهة نظر صاحبها وبمقدرتها التفسيرية للواقع.
  • من أهم الأشياء في البناء المصطلحي الجديد البحث عما أسميه المقولة الوسط. والمقولة الوسط تنبع من الإيمان بأن الواقع الذي يتعامل معه الإنسان واقع مركب يشبه قوس قزح تتداخل فيه الألوان برغم استقلالها، لا توجد له بداية حادة ولا نهاية حادة ولا حتى وسط مطلق (على الرغم من أنه يمكن افتراض وجودهما من الناحية التحليلية)، ومع هذا يوجد نقطة تركز للظاهرة يمكن أن يجتهد الإنسان في اكتشافها.
  • تحديد المستوى التعميمي للمصطلح ليتناسب مع الظاهرة، أما محاولة الوصول إلى أعلى مستويات التعميم دائمًا فهي تنتهي في عالم الجبر والهندسة والرياضة والأشياء.
  • سيتحدد مدى نفع المصطلح بمدى تفسيريته لا بمدى دقته أو التزامه بمعايير مجردة معينة.
  • يترتب على التغيرات السابقة فتح الباب لإدخال وحدات جديدة في التحليل تنبع من الرؤية الإسلامية والإيمانية مثل اعتبار الأسرة وحدة سياسية لا تقل أهمية عن الدولة كوحدة تحليلية سائدة في العالم الغربي، وهو ما يعطي آفاقًا واسعة للتحليل تبرز على سبيل المثال الدلالات الحضارية للانتفاضة الفلسطينية التي وظفت الأسرة لأغراض سياسية واقتصادية عند غياب الدولة الشرعية وهيمنة دولة استيطانية صهيونية.

خاتمة

وبعد – يجب ألا يظن أحد أننا نقلل من القيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي، فهي إبداعات مهمة ومعروفة لدى الجميع، واحتمال إهمالها أو التغاضي عنها أو عدم إعطائها حقها هو احتمال غير وارد على الإطلاق. فعدد المثقفين العرب الذين يعرفون تاريخ العالم الغربي وإسهاماته كبير للغاية، أما عدد من يعرف تاريخ الصين وإسهاماتها فقد لا يتجاوز عدد الأصابع ولا يتعدى المتخصصين.

 ونحن لا ندعي أن الغرب مسؤول عما حدث لنا فالسؤال عن المسؤول يعني أيضًا من هو الملوم؟ وهو سؤال غير مهم بالمرة، ولعله من الأجدى أن ندرس كيف حدث ما حدث، ولماذا حدث؟ وكيف يمكن الإصلاح؟ وبدلاً من الحديث عن الامبريالية وحسب، يجب أيضًا أن نتحدث عن «القابلية للإمبريالية» (على حد قول مالك بن نبي) (وإن اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) [سورة الرعد (١١)] وعلى كلٍ، لم تكن الحضارة الغربية وحيدة في ادعائها المركزية لنفسها، فهذا اتجاه كامن في النفس البشرية.

وبعد الجهد التفكيكي النقدي والإبداعي، أي بعد اكتشاف النموذج المعرفي الغربي وتفكيكه وتوضيح هويته، وبعد إعادة تركيبه، وبعد زيادة المقدرة التوليدية للنموذج المعرفي الإسلامي، وبعد تحول الغرب من مركز مطلق إلى مجرد تشكيل حضاري ضمن تشكيلات أخرى كثيرة، سننظر إلى الغرب بدون قلق، إذ ليس علينا قبوله بخيره وشره (كما يفعل بعض دعاة التغريب أو رفضه بقضه وقصيضه (كما يفعل بعض الجامدين من السلفيين)، وإنما يمكننا دراسته كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات وسيمكننا الانفتاح الحقيقي عليه بطريقة نقدية إبداعية، تمامًا مثل انفتاحنا على الحضارات الأخرى، نأخذ ثمرات العلم الإنساني، بما في ذلك العلم الغربي، فنفصل العنصر أو الآلية التي تم نقلها عن المنظومة التي تنتمي إليها ثم نستوعبها في منظومتنا بعد أن نكيفها مع قيمنا ورؤيتنا للكون.

وفقه التحيز (رغم توجهه الإسلامي الواضح) هو فقه لكل أبناء هذه الأمة بأديانهم واتجاهاتهم، أي لكل من يدافع عن هويتنا الحضارية ويرى أنها تستحق الحفاظ عليها. فالإسلام بالنسبة للمسلمين عقيدة يؤمنون بها، وهو بالنسبة لكل من ينتمي لهذه المنطقة النواة الأساسية للحضارة التي ينتمون إليها. ونحن إن لم نتنبه لخطورة الغزوة الحضارية التي تقوضنا من الداخل والخارج وتقضي على هويتنا وعلى اشكالنا الحضارية ومنظوماتنا المعرفية والقيمية والجمالية، فربما قد يتحقق لنا الاستمرار لا ككيان متماسك له هوية محددة وإنما كقشرة خارجية لا مضمون لها. وفقه التحيز هو أحد جوانب إسهامنا في هذه المعركة. والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  بحث مستخرج من كتاب:
عبد الوهاب المسيري “محرر” (1998). إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد. المقدمة؛ فقه التحيز. ط. 3. فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 119 ص.

**  أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية البنات جامعة عين شمس.

[1]  انظر: نسبية الغرب وضرورة الانفتاح على العالم.

عن عبد الوهاب المسيري

شاهد أيضاً

التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون: رؤية منهجية

أ. الحسان شهيد

إن التكامل المعرفي كما كان في العصور الأولى لتأسيس المعرفة الإسلامية، والذي تجسد خصوصا في العقل الموسوعي الشامل لشتى المعارف؛ أي الفقيه المجتهد المبنية ثقة إنتاجه الاجتهادي على شرط الإلمام بعلوم متنوعة، منها ما يتعلق بالوحي ومنها ما يرتبط بالمكلف ونفسيته، ومنها ما يتعلق بالواقع المعيش ومتغيراته الإنسانية

ما بعد العلمانية: صيرورة سؤال الدين في الغرب

أ. طارق جلال

تمكنت الكنيسة من احتلال المجال العام في الغرب لقرون، نتيجة سلطتها المعرفية ومكانتها الروحية، ثم أخذت تتمدد في المساحات السياسية والاقتصادية، إلى أن بشّر عصر التنوير في أوروبا بنهاية الدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.